الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128707 / تحميل: 6570
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

( بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) على ما تقدّم، فتكون الآية في مقام التعليل للإضراب في ذيل الآية السابقة.

و قد ختمت الآية بقوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) و فيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ) ورود الآية في سياق الآيات السابقة و انضمامها إلى سابقتها يعطي أنّها في مقام التعليل - كالكبرى الكلّيّة - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله و رسوله بالسمع و الطاعة بقيد الإيمان كأنّه قيل: إنّما أفلح من أجاب إلى حكم الله و رسوله و هو مؤمن لأنّه مطيع لله و لرسوله و هو مؤمن حقّاً في باطنه خشية الله و في ظاهره تقواه و من يطع الله و رسوله فيما قضي عليه و يخش الله و يتّقه فاُولئك هم الفائزون، و الفوز هو الفلاح.

و تشمل الآية الداعي إلى حكم الله و رسوله من المتنازعين كما يشمل المدعوّ منهما إذا أجاب بالسمع و الطاعة ففيها زيادةً على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي و المدعوّ جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) إلى آخر الآية الجهد الطاقة، و التقدير في قوله:( أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ‏ ) أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم و المراد أقسموا بأغلظ أيمانهم.

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( لَيَخْرُجُنَ) الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدّة من الآيات كقوله:( وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا ) التوبة: ٤٧.

و قوله:( قُلْ لا تُقْسِمُوا ) نهي عن الإقسام، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج و الجملة في مقام التعليل للنهي عن الإقسام و لذا جي‏ء بالفصل، و قوله:( إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ‏ ) من تمام التعليل.

و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد

١٦١

ليخرجنّ قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - و هو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلّظ - و إن تكونوا تقسمون لأجل أن ترضوا الله و رسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغرّه إغلاظكم في الإيمان.

و قيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم و أموالهم لو حكم الرسول بذلك، و قوله:( طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ ) مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير: طاعة معروفة للنبيّ خير من إقسامكم، و معنى الآية: و أقسموا بالله بأغلظ الأيمان لئن أمرتهم و حكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ منها قل لهم: لا تقسموا لأنّ طاعة حسنة منكم للنبيّ خير من إقسامكم بالله و الله خبير بما تعملون.

و فيه أنّ هذا المعنى و إن كان يؤكّد اتّصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى السابق لكنّه لا يلائم التصريح السابق بردّهم الدعوة إلى الله و رسوله ليحكم بينهم لأنّهم إذ كانوا تولّوا و أعرضوا عن حكم الله و رسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم و أموالهم ليخرجنّ و هو ظاهر، اللّهمّ إلّا أن يكون المقسمون فريقاً آخر منهم غير الرادّين للدعوة المعرضين عن الحكم، و حينئذ كان حمل( لَيَخْرُجُنَ) على هذا المعنى لا دليل يدلّ عليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين، و أمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربّهم و يأمرهم به في أمر دينهم و دنياهم، و تصدير الكلام بقوله:( قُلْ ) إشارة إلى أنّ الطاعة جميعا لله، و قد أكّده بقوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) دون أن يقول: و أطيعوني لأنّ طاعة الرسول بما هو طاعة الرسول طاعة المرسل، و بذلك تتمّ الحجّة.

و لذلك عقّب الكلام:

أوّلاً بقوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) أي فإن تتولّوا و تعرضوا عن طاعة الرسول لم يضرّ ذلك الرسول فإنّما عليه ما حمّل من التكليف و لا يمسّكم منه شي‏ء و عليكم ما حمّلتم من التكليف و لا يمسّه منه شي‏ء فإنّ

١٦٢

الطاعة جميعاً لله سبحانه.

و ثانياً بقوله:( وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ) أي و إن كان لكلّ منكم و منه ما حمّل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لأنّ ما يجي‏ء به إليكم و ما يأمركم به من الله و بأمره و الطاعة لله و فيه الهداية.

و ثالثاً بقوله:( وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) و هو بمنزلة التعليل لما تقدّمه أي إنّ ما حمّله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلّغ و إذ كان رسولاً لم يحتمل إلّا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله و في طاعة من أرسله و هو الله سبحانه اهتداؤكم.

قوله تعالى: ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلى آخر الآية.

ظاهر وقوع الآية موقعها أنّها نزلت في ذيل الآيات السابقة من السورة و هي مدنيّة و لم تنزل بمكّة قبل الهجرة على ما يؤيّد سياقها و خاصّة ذيلها.

فالآية - على هذا - وعد جميل للّذين آمنوا و عملوا الصالحات أنّ الله تعالى سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً يخصّ بهم فيستخلفهم في الأرض و يمكّن لهم دينهم و يبدلهم من بعد خوفهم أمنا لا يخافون كيد منافق و لا صدّ كافر يعبدونه لا يشركون به شيئاً.

فقوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) من فيه تبعيضيّة لا بيانيّة و الخطاب لعامّة المسلمين و فيهم المنافق و المؤمن و في المؤمنين منهم من يعمل الصالحات و من لا يعمل الصالحات و الوعد خاصّ بالّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات محضاً.

و قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهيّة كما ورد في آدم و داود و سليمانعليهم‌السلام قال تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠ و قال:( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) ص: ٢٦ و قال:( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) النمل: ١٦ فالمراد

١٦٣

بالّذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه و أوليائه و لا يخلو من بعد كما سيأتي.

و إن كان المراد به إيراث الأرض و تسليط قوم عليها بعد قوم كما قال:( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨ و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥ فالمراد بالّذين من قبلهم المؤمنون من اُمم الأنبياء الماضين الّذين أهلك الله الكافرين و الفاسقين منهم و نجّى الخلّص من مؤمنيهم كقوم نوح و هود و صالح و شعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ ) إبراهيم ١٤ فهؤلاء الّذين أخلصوا لله فنجّاهم فعقدوا مجتمعاً صالحاً و عاشوا فيه حتّى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد بالّذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون و جنوده فأورثهم أرض مصر و الشام و مكّنهم فيها كما قال تعالى فيهم:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) القصص: ٦.

ففيه أنّ المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون و جنوده لم يصف من الكفر و النفاق و الفسق و لم يخلص للّذين آمنوا و عملوا الصالحات و لا حيناً على ما ينصّ عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة و لا وجه لتشبيه استخلاف الّذين آمنوا و عملوا الصالحات باستخلافهم و فيهم الكافر و المنافق و الطالح و الصالح.

و لو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الّذين من قبلهم - و هم بنوإسرائيل - كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيليّ للتشبيه به و في زمن نزول الآية و قبل ذلك اُمم أشدّ قوّة و أكثر جمعاً منهم كالروم و الفرس و كلدة و غيرهم و قد قال تعالى في عاد الاُولى و ثمود:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) الأعراف: ٦٩ و قال:( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ) الأعراف: ٧٤ و قد خاطب بذلك الكفّار من هذه الاُمّة فقال:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ

١٦٤

الْأَرْضِ ) الأنعام: ١٦٥ و قال:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فاطر: ٣٩.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثمّ يؤدّى حقّ هذا المجتمع الصالح بما يعقّبه من قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ) إلى آخر الوعد؟

قلت: نعم و لكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبّه به و أن يكون المراد بالّذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدّم.

و قوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ ) تمكين الشي‏ء إقراره في مكان و هو كناية عن ثبات الشي‏ء من غير زوال و اضطراب و تزلزل بحيث يؤثّر أثره من غير مانع و لا حاجز فتمكّن الدين هو كونه معمولاً به في المجتمع من غير كفر به و استهانة بأمره و مأخوذاً باُصول معارفه من غير اختلاف و تخاصم و قد حكم الله سبحانه في مواضع من كلامه أنّ الاختلاف في الدين من بغي المختلفين كقوله:( وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) البقرة: ٢١٣.

و المراد بدينهم الّذي ارتضى لهم دين الإسلام و أضاف الدين إليهم تشريفاً لهم و لكونه من مقتضى فطرتهم.

و قوله:( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) هو كقوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ ) عطف على قوله:( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) و أصل المعنى و ليبدّلنّ خوفهم أمناً فنسبة التبديل إليهم إمّا على المجاز العقليّ أو على حذف مضاف يدلّ عليه قوله:( مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ ) و التقدير و ليبدّلنّ خوفهم أو كون( أَمْناً ) بمعنى آمين.

و المراد بالخوف على أيّ حال ما كان يقاسيه المؤمنون في صدر الإسلام من الكفّار و المنافقين.

و قوله:( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) الأوفق بالسياق أن يكون حالاً من ضمير( وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ ) أي و ليبدّلنّ خوفهم أمناً في حال يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.

و الالتفات في الكلام من الغيبة إلى التكلّم و تأكيد( يَعْبُدُونَنِي ) بقوله:

١٦٥

( لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) و وقوع النكرة - شيئاً - في سياق النفي الدالّ على نفي الشرك على الإطلاق كلّ ذلك يقضي بأنّ المراد عبادتهم لله عبادة خالصة لا يداخلها شرك جليّ أو خفيّ و بالجملة يبدّل الله مجتمعهم مجتمعاً آمناً لا يعبد فيه إلّا الله و لا يتّخذ فيه ربّ غيره.

و قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ظاهر السياق كون( ذلِكَ ) إشارة إلى الموعود و الأنسب على ذلك كون( كَفَرَ ) من الكفران مقابل الشكر و المعنى و من كفر و لم يشكر الله بعد تحقّق هذا الوعد بالكفر أو النفاق أو سائر المعاصي الموبقة فاُولئك هم الفاسقون الكاملون في الفسق و هو الخروج عن زيّ العبوديّة.

و قد اشتدّ الخلاف بين المفسّرين في الآية.

فقيل إنّها واردة في أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد أنجز الله وعده لهم باستخلافهم في الأرض و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً بما أعزّ الإسلام بعد رحلة النبيّ في أيّام الخلفاء الراشدين و المراد باستخلافهم استخلاف الخلفاء الأربعة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الثلاثة الُول منهم و نسبة الاستخلاف إلى جميعهم مع اختصاصه ببعضهم و هم الأربعة أو الثلاثة من قبيل نسبة أمر البعض إلى الكلّ كقولهم: قتل بنو فلان و إنّما قتل بعضهم.

و قيل: هي عامّة لاُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد باستخلافهم و تمكين دينهم و تبديل خوفهم أمناً إيراثهم الأرض كما أورثها الله الاُمم الّذين كانوا قبلهم أو استخلاف الخلفاء بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على اختلاف التقرير - و تمكين الإسلام و انهزام أعداء الدين و قد أنجز الله وعده بما نصر الإسلام و المسلمين بعد الرحلة ففتحوا الأمصار و سخّروا الأقطار.

و على القولين الآية من ملاحم القرآن حيث أخبر بأمر قبل أوان تحقّقه و لم يكن‏ مرجوّا ذلك يومئذ.

و قيل: إنّها في المهديّ الموعودعليه‌السلام الّذي تواترت الأخبار على أنّه سيظهر

١٦٦

فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً و إنّ المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

و الّذي يعطيه سياق الآية الكريمة على ما تقدّم من البحث بالتحرّز عن المسامحات الّتي ربّما يرتكبها المفسّرون في تفسير الآيات هو أنّ الوعد لبعض الاُمّة لا لجميعها و لا لأشخاص خاصّة منهم و هم الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات فالآية نصّ في ذلك و لا قرينة من لفظ أو عقل يدلّ على كونهم هم الصحابة أو النبيّ و أئمّة أهل البيت عليهم الصلاة و السلام و لا على أنّ المراد بالّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات جميع الاُمّة و إنّما صرف الوعد إلى طائفة خاصّة منهم تشريفاً لهم أو لمزيد العناية بهم فهذا كلّه تحكّم من غير وجه.

و المراد باستخلافهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم عقد مجتمع مؤمن صالح منهم يرثون الأرض كما ورثها الّذين من قبلهم من الاُمم الماضين اُولي القوّة و الشوكة و هذا الاستخلاف قائم بمجتمعهم الصالح من دون أن يختصّ به أشخاص منهم كما كان كذلك في الّذين من قبلهم و أمّا إرادة الخلافة الإلهيّة بمعنى الولاية على المجتمع كما كان لداود و سليمان و يوسفعليهم‌السلام و هي السلطنة الإلهيّة فمن المستبعد أن يعبّر عن أنبيائه الكرام بلفظ( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) و قد وقعت هذه اللفظة أو ما بمعناها في أكثر من خمسين موضعاً من كلامه تعالى و لم يقصد و لا في واحد منها الأنبياء الماضون مع كثرة ورود ذكرهم في القرآن نعم ذكرهم الله بلفظ( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) أو( رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي ) أو نحوهما بالإضافة إلى الضمير الراجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المراد بتمكين دينهم الّذي ارتضى لهم كما مرّ ثبات الدين على ساقه بحيث لا يزلزله اختلافهم في اُصوله و لا مساهلتهم في إجراء أحكامه و العمل بفروعه و خلوص المجتمع من وصمة النفاق فيه.

و المراد من تبديل خوفهم أمناً انبساط الأمن و السلام على مجتمعهم بحيث لا يخافون عدوّاً في داخل مجتمعهم أو خارجه متجاهراً أو مستخفياً على دينهم

١٦٧

أو دنياهم.

و قول بعضهم: إنّ المراد الخوف من العدوّ الخارج من مجتمعهم كما كان المسلمون يخافون الكفّار و المشركين القاصدين إطفاء نور الله و إبطال الدعوة.

تحكّم مدفوع بإطلاق اللفظ من غير قرينة معيّنة للمدّعي على أنّ الآية في مقام الامتنان و أيّ امتنان على قوم لا عدوّ يقصدهم من خارج و قد أحاط بمجتمعهم الفساد و عمّته البليّة لا أمن لهم في نفس و لا عرض و لا مال الحرّيّة فيه للقدرة الحاكمة و السبق فيه للفئة الباغية.

و المراد بكونهم يعبدون الله لا يشركون به شيئاً ما يعطيه حقيقة معنى اللفظ و هو عموم إخلاص العبادة و انهدام بنيان كلّ كرامة إلّا كرامة التقوى.

و المتحصّل من ذلك كلّه أنّ الله سبحانه يعد الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات أن سيجعل لهم مجتمعاً صالحاً خالصاً من وصمة الكفر و النفاق و الفسق يرث الأرض لا يحكم في عقائد أفراده عامّة و لا أعمالهم إلّا الدين الحقّ يعيشون آمنين من غير خوف من عدوّ داخل أو خارج، أحراراً من كيد الكائدين و ظلم الظالمين و تحكّم المتحكّمين.

و هذا المجتمع الطيّب الطاهر على ما له من صفات الفضيلة و القداسة لم يتحقّق و لم ينعقد منذ بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا، و إن انطبق فلينطبق على زمن ظهور المهديّعليه‌السلام على ما ورد من صفته في الأخبار المتواترة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام لكن على أن يكون الخطاب للمجتمع الصالح لا لهعليه‌السلام وحده.

فإن قلت: ما معنى الوعد حينئذ للّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات و ليس المهديّعليه‌السلام أحد المخاطبين حين النزول و لا واحد من أهل زمان ظهوره بينهم؟

قلت: فيه خلط بين الخطابات الفرديّة و الاجتماعيّة أعني الخطاب المتوجّه إلى أشخاص القوم بما هم أشخاص بأعيانهم و الخطاب المتوجّه إليهم بما هم قوم على نعت كذا فالأوّل لا يتعدّى إلى غير أشخاصهم و لا ما تضمّنه من وعد أو وعيد أو غير ذلك يسري إلى غيرهم و الثاني يتعدّى إلى كلّ من اتّصف بما ذكر فيه من الوصف

١٦٨

و يسري إليه ما تضمّنه من الحكم، و خطاب الآية من القبيل الثاني على ما تقدّم.

و من هذا القبيل أغلب الخطابات القرآنيّة المتوجّهة إلى المؤمنين و الكفّار، و منه الخطابات الذامّة لأهل الكتاب و خاصّة اليهود بما فعله أسلافهم و للمشركين بما صنعه آباؤهم.

و من هذا القبيل خاصّة ما ذكر من الوعد في قوله تعالى:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) الإسراء: ٧ فإنّ الموعودين لم يعيشوا إلى زمن إنجاز هذا الوعد، و نظيره الوعد المذكور في قول ذي القرنين على ما حكاه الله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) الكهف: ٩٨، و كذا وعده تعالى الناس بقيام الساعة و انطواء بساط الحياة الدنيا بنفخ الصور كما قال:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: ١٨٧، فوعد الصالحين من المؤمنين بعنوان أنّهم مؤمنون صالحون بوعد لا يدركه أشخاص زمان النزول بأعيانهم و لما يوجد أشخاص المجتمع الّذي يدرك إنجاز الوعد ممّا لا ضير فيه البتّة.

فالحقّ أنّ الآية إن اُعطيت حقّ معناها لم تنطبق إلّا على المجتمع الموعود الّذي سينعقد بظهور المهديّعليه‌السلام و إن سومح في تفسير مفرداتها و جملها و كان المراد باستخلاف الّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات استخلاف الاُمّة بنوع من التغليب و نحوه، و بتمكين دينهم الّذي ارتضاه لهم كونهم معروفين في الدنيا بالاُمّة المسلمة و عدّهم الإسلام ديناً لهم و إن تفرّقوا فيه ثلاثاً و سبعين فرقة يكفّر بعضهم بعضاً و يستبيح بعضهم دماء بعض و أعراضهم و أموالهم، و بتبديل خوفهم أمناً يعبدون الله و لا يشركون به شيئاً عزّة الاُمّة و شوكتها في الدنيا و انبساطها على معظم المعمورة و ظواهر ما يأتون به من صلاة و صوم و حجّ و إن ارتحل الأمن من بينهم أنفسهم و ودّعهم الحقّ و الحقيقة، فالوجه أنّ الموعود بهذا الوعد الاُمّة، و المراد باستخلافهم ما رزقهم الله من العزّة و الشوكة بعد الهجرة إلى ما بعد الرحلة و لا موجب لقصر ذلك في زمن الخلفاء الراشدين بل يجري فيما بعد ذلك إلى زمن انحطاط الخلافة الإسلاميّة.

١٦٩

و أمّا تطبيق الآية على خلافة الخلفاء الراشدين أو الثلاثة الاُول أو خصوص عليّعليه‌السلام فلا سبيل إليه البتّة.

قوله تعالى: ( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) مناسبة مضمون الآية لما سيقت لبيانه الآيات السابقة تعطي أنّها من تمامها.

فقوله:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ) أمر في الحقيقة بطاعته تعالى فيما شرعه لعباده، و تخصيص الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما ركنين في التكاليف الراجعة إلى الله تعالى و إلى الخلق، و قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إنفاذ لولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء و الحكومة.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) تعليل للأمر بما في المأمور به من المصلحة، و المعنى - على ما يعطيه السياق -: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإنّ في هاتين الطاعتين رجاء أن تشملكم الرحمة الإلهيّة فينجز لكم وعده أو يعجّل لكم إنجازه فإنّ ارتفاع النفاق من بين المسلمين و عموم الصلاح و الاتّفاق على كلمة الحقّ مفتاح انعقاد مجتمع صالح يدرّ عليهم بكلّ خير.

قوله تعالى: ( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) من تمام الآيات السابقة، و فيها تأكيد ما مرّ من وعد الاستخلاف في الأرض و تمكين الدين و تبديل الخوف أمناً.

يخاطب تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الوعد - بخطاب مؤكّد - أن لا يظنّ أنّ الكفّار معجزون لله في الأرض فيمنعونه بما عندهم من القوّة و الشوكة من أن ينجز وعده، و هذا في الحقيقة بشرى خاصّة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أكرم به اُمّته و أنّ أعداءه سينهزمون و يغلبون و لذلك خصّه بالخطاب على طريق الالتفات.

و لكون النهي المذكور في معنى أنّ الكفّار سينتهون عن معارضة الدين و أهله عطف عليه قوله:( وَ مَأْواهُمُ النَّارُ ) إلخ، كأنّه قيل: هم مقهورون في الدنيا و مسكنهم النار في الآخرة و بئس المصير.

١٧٠

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ ) الآيات قيل: نزلت الآيات في رجل من المنافقين كان بينه و بين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهوديّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.

و حكى البلخيّ أنّه كانت بين عليّ و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ فخرجت فيها أحجار و أراد ردّها بالعيب فلم يأخذها فقال: بيني و بينك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه يحكم له فلا تحاكمه إليه فنزلت الآيات، و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام أو قريب منه.

أقول: و في تفسير روح المعاني، عن الضحّاك أنّ النزاع كان بين عليّ و المغيرة بن وائل و ذكر قريباً من القصّة.

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: وروي عن أبي جعفر: أنّ المعنيّ بالآية أميرالمؤمنينعليهما‌السلام .

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ) الآية أخرج ابن جرير و ابن قانع و الطبراني عن علقمة بن وائل الحضرميّ عن سلمة بن يزيد الجهنيّ قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت إن كان علينا اُمراء من بعدك يأخذونا بالحقّ الّذي علينا و يمنعونا الحقّ الّذي جعله الله لنا نقاتلهم و نبغضهم؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم.

أقول: و في معناه بعض روايات اُخر مرويّة فيه لكن ينبغي أن لا يرتاب في أنّ الإسلام بما فيه من روح إحياء الحقّ و إماتة الباطل يأبى عن إجازة ولاية الظلمة المتظاهرين بالظلم و إباحة السكوت و تحمّل الضيم و الاضطهاد قبال الطغاة و الفجرة لمن يجد إلى إصلاح الأمر سبيلاً و قد اتّضح بالأبحاث الاجتماعيّة اليوم أنّ استبداد الولاة برأيهم و اتّباعهم لأهوائهم في تحكّماتهم أعظم خطراً و أخبث أثراً من إثارة الفتن و إقامة الحروب في سبيل إلجائهم إلى الحقّ و العدل.

١٧١

و في المجمع في قوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية: و اختلف في الآية و المرويّ عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّها في المهديّ من آل محمّد.

قال: و روى العيّاشيّ بإسناده عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّه قرأ الآية و قال: هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا و هو مهديّ هذه الاُمّة، و هو الّذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملاُ الأرض عدلاً و قسطاً كما ملئت ظلماً و جوراً - و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و بذلك وردت الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد تقدّم بيان انطباق الآية على ذلك.

و قال في المجمع، بعد نقل الرواية: فعلى هذا يكون المراد بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات النبيّ و أهل بيته عليهم الصلاة و السلام انتهى. و قد عرفت أنّ المراد به عامّ و الرواية لا تدلّ على أزيد من ذلك حيث قالعليه‌السلام : هم و الله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يدي رجل منّا الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء في قوله:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ) الآية قال: فينا نزلت و نحن في خوف شديد.

أقول: ظاهره أنّ المراد بالّذين آمنوا الصحابة و قد عرفت أنّ الآية لا دلالة فيها عليه بوجه بل الدلالة على خلافه.

و فيه، أخرج ابن المنذر و الطبرانيّ في الأوسط و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل و الضياء في المختارة عن اُبيّ بن كعب قال: لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه المدينة و آوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلّا في السلاح و لا يصبحون إلّا فيه فقالوا: أ ترون أنّا نعيش حتّى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا الله فنزلت:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية.

أقول: هو لا يدلّ على أزيد من سبب النزول و أمّا أنّ المراد بالّذين آمنوا

١٧٢

من هم؟ و أنّ الله متى أنجز أو ينجز هذا الوعد؟ فلا تعرّض له به.

و نظيرته روايته الاُخرى: لما نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) الآية قال: بشّر هذه الاُمّة بالسناء و الرفعة و الدين و النصر و التمكين في الأرض فمن عمل منكم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب.

فإنّ تبشير الاُمّة بالاستخلاف لا يستلزم كون المراد بالّذين آمنوا في الآية جميع الاُمّة أو خصوص الصحابة أو نفراً معدوداً منهم.

و في نهج البلاغة في كلام له لعمر لما استشاره لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمّعوا للحرب قالعليه‌السلام : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا بقلّة، و هو دين الله الّذي أظهره، و جنده الّذي أعزّه و أيّده حتّى بلغ ما بلغ و طلع حيث طلع، و نحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه: وعد الله الّذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض و ليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم و ليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمناً.

و الله تعالى منجز وعده و ناصر جنده، و مكان القيّم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرّق و ربّ متفرّق لم يجتمع، و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً و استدر الرحى بالعرب، و أصلهم دونك نار الحرب فإنّك إن شخصت من هذه الأرض تنقّضت عليك العرب من أطرافها و أقطارها حتّى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك، و كان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك و طمعهم فيك.

فأمّا ما ذكرت من عددهم فإنّا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة و إنّما كنّا نقاتل بالنصر و المعونة.

أقول: و قد استدلّ به في روح المعاني، على ما ارتضاه من كون المراد بالاستخلاف في الآية ظهور الإسلام و ارتفاع قدره في زمن الخلفاء الراشدين و هو بمعزل عن

١٧٣

ذلك بل دليل على خلافه، فإنّ ظاهر كلامه أنّ الوعد الإلهيّ لم يتمّ أمر إنجازه بعد و أنّهم يومئذ في طريقه حيث يقول: و الله منجز وعده، و أنّ الدين لم يمكّن بعد و لا الخوف بدّل أمناً و كيف لا؟ و هم بين خوفين خوف من تنقّض العرب من داخل و خوف من مهاجمة الأعداء من خارج.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالساً مع حذيفة و ابن مسعود فقال حذيفة ذهب النفاق إنّما كان النفاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما هو اليوم الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثمّ قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآية.

أقول: ليت شعري أين ذهب منافقو عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ و شواهد الكتاب العزيز و التاريخ تدلّ على أنّهم ما كانوا بأقلّ من ثلث أهل المدينة و معظمهم بها أصدقوا الإسلام يوم رحلتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم تغيّرت آراؤهم في تربّصهم الدوائر و تقليبهم الاُمور؟

١٧٤

( سورة النور الآيات ٥٨ - ٦٤)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ  مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ  ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ  طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ  وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ  وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ  لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا  فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٦١ ) إِنَّمَا

١٧٥

الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ  فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا  قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا  فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ )

( بيان)

بقيّة الأحكام المذكورة في السورة و تختتم السورة بآخر الآيات و فيها إشارة إلى أنّ الله سبحانه إنّما يشرّع ما يشرّع بعلمه و سيظهر و سينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها و هو كناية عن كونهم على حال ربّما لا يحبّون أن يراهم عليها الأجنبيّ. و الظهيرة وقت الظهر، و العورة السوأة سمّيت بها لما يلحق الإنسان من انكشافها من العار و كأنّ المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.

فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، تعقيب لقوله سابقاً:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا ) إلخ، القاضي بتوقّف دخول البيت على الإذن و هو كالاستثناء من عمومه في العبيد و الأطفال بأنّه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرّات في اليوم.

و قوله:( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) أي مروهم أن يستأذنوكم للدخول، و ظاهر الّذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإماء و إن كان اللفظ لا يأبى

١٧٦

عن العموم بعناية التغليب، و به وردت الرواية كما سيجي‏ء.

و قوله:( وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) يعني المميّزين من الأطفال قبل البلوغ، و الدليل على تقيّدهم بالتمييز قوله بعد:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) .

و قوله:( ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) أي كلّ يوم بدليل تفصيله بقوله:( مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ - أي وقت الظهر -وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) ، و قد أشار إلى وجه الحكم بقوله:( ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ) أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطّلع عليكم فيها غيركم.

و قوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ) أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان و لا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، و قد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله:( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلّما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.

ثمّ قال:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) أي أحكام دينه الّتي هي آيات دالّة عليه( وَ اللهُ عَلِيمٌ ) يعلم أحوالكم و ما تستدعيه من الحكم( حَكِيمٌ ) يراعي مصالحكم في أحكامه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا ) إلخ، بيان أنّ حكم الاستيذان ثلاث مرّات في الأطفال مغيّى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم و هم البالغون من الرجال و النساء الأحرار( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة و هي المرأة الّتي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله:( اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) وصف توضيحيّ، و قيل: هي الّتي يئست من الحيض، و الوصف احترازيّ.

و في المجمع: التبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، و أصله

١٧٧

الظهور و منه البرج البناء العالي لظهوره.

و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، و المعنى: و الكبائر المسنّة من النساء فلا بأس عليهنّ أن لا يحتجبن حال كونهنّ غير متبرّجات بزينة.

و قوله:( وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ) كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهنّ من وضع الثياب، و قوله:( وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهنّ عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ - إلى قوله -أَوْ صَدِيقِكُمْ ) ظاهر الآية أنّ فيها جعل حقّ للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو الّتي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف و إفساد.

فقوله:( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ - إلى قوله -وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) في عطف( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) على ما تقدّمه دلالة على أنّ عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً و إلّا فلا فرق بين الأعمى و الأعرج و المريض و غيرهم في ذلك.

و قوله:( مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) إلخ، في عدّ( بُيُوتِكُمْ ) مع بيوت الأقرباء و غيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبنيّ على كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم و بيوت أقربائهم و ما ملكوا مفاتحه و بيوت أصدقائهم.

على أنّ( بُيُوتِكُمْ ) يشمل بيت الابن و الزوج كما وردت به الرواية، و قوله:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) المفاتح جمع مفتح و هو المخزن، و المعنى: أو البيت الّذي ملكتم أي تسلّطتم على مخازنه الّتي فيها الرزق كما يكون الرجل قيّماً على بيت أو وكيلاً أو سلّم إليه مفتاحه.

و قوله:( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) معطوف على ما تقدّمه بتقدير بيت على ما يعلم من

١٧٨

سياقه، و التقدير أو بيت صديقكم.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) الأشتات جمع شتّ و هو مصدر بمعنى التفرّق استعمل بمعنى المتفرّق مبالغة ثمّ جمع أو صفة بمعنى المتفرّق كالحقّ، و المعنى لا إثم عليكم أن تأكلوا مجتمعين و بعضكم مع بعض أو متفرّقين، و الآية عامّة و إن كان نزولها لسبب خاصّ كما روي.

و للمفسّرين في هذا الفصل من الآية و في الفصل الّذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها و الغور في البحث عنها أولى، و ما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الّذي يعطيه سياقهما.

قوله تعالى: ( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) إلخ، لما تقدّم ذكر البيوت فرع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً ) .

فقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) المراد فسلّموا على من كان فيها من أهلها و قد بدّل من قوله:( عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) للدلالة على أنّ بعضهم من بعض فإنّ الجميع إنسان و قد خلقهم الله من ذكر و اُنثى على أنّهم مؤمنون و الإيمان يجمعهم و يوحّدهم أقوى من الرحم و أيّ شي‏ء آخر.

و ليس ببعيد أن يكون المراد بقوله:( فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) أن يسلّم الداخل على أهل البيت و يردّوا السلام عليه.

و قوله:( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) أي حال كون السلام تحيّة من عند الله شرّعها الله و أنزل حكمها ليحيّي بها المسلمون و هو مبارك ذو خير كثير باق و طيّب يلائم النفس فإنّ حقيقة هذه التحيّة بسط الأمن و السلامة على المسلّم عليه و هو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.

ثمّ ختم سبحانه الآية بقوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ) و قد مرّ تفسيره( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ

١٧٩

عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) ذكر قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) بياناً للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتّصافهم بحقيقة المعنى أي إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله بحقيقة الإيمان و أيقنوا بتوحّده تعالى و اطمأنّت نفوسهم و تعلّقت قلوبهم برسوله.

و لذلك عقّبه بقوله:( وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى‏ أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) و الأمر الجامع هو الّذي يجمع الناس للتدبّر في أطرافه و التشاور و العزم عليه كالحرب و نحوها.

و المعنى: و إذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الاُمور العامّة لم يذهبوا و لم ينصرفوا من عند الرسول حتّى يستأذنوه للذهاب.

و لذلك أيضاً عقّبه بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) و هو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة و عدم الانفكاك.

و قوله:( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء و لا يأذن لمن لم يشأ.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أمر له بالاستغفار لهم تطييباً لنفوسهم و رحمة بهم.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الاُمور كدعوتهم إلى الإيمان و العمل الصالح، و دعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، و دعوتهم إلى الصلاة جامعة، و أمرهم بشي‏ء في أمر دنياهم أو اُخراهم فكلّ ذلك دعاء و دعوة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و يشهد بهذا المعنى قوله ذيلاً:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) و ما يتلوه من تهديد مخالفي أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى. و هو أنسب لسياق الآية السابقة فإنّها تمدح الّذين يلبّون دعوته و يحضرون عنده و لا يفارقونه حتّى يستأذنوه و هذه تذمّ و تهدّد الّذين يدعوهم فيتسلّلون عنه لواذا غير مهتمّين بدعائه و لا معتنين.

١٨٠

و من هنا يعلم عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطابه فيجب أن يفخّم و لا يساوى بينه و بين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمّد و يا ابن عبدالله، بل: يا رسول الله.

و كذا ما قيل: إنّ المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرّض لدعائه عليهم بإسخاطه فإنّ الله تعالى لا يردّ دعاءه هذا، و ذلك لأنّ ذيل الآية لا يساعد على شي‏ء من الوجهين.

و قوله:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) التسلّل: الخروج من البين برفق و احتيال من سلّ السيف من غمده، و اللواذ: الملاوذة و هو أن يلوذ الإنسان و يلتجئ إلى غيره فيستتر به، و المعنى: أنّ الله يعلم منكم الّذين يخرجون من بين الناس و الحال أنّهم يلوذون بغيرهم و يستترون به فينصرفون فلا يهتمّون بدعاء الرسول و لا يعتنون به.

و قوله:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ظاهر سياق الآية بما تقدّم من المعنى أنّ ضمير( عَنْ أَمْرِهِ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته من أن تصيبهم فتنة و هي البليّة أو يصيبهم عذاب أليم.

و قيل: ضمير( عَنْ أَمْرِهِ ) راجع إلى الله سبحانه، و الآية و إن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ) إلخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، و هو أمر، و أوّل الوجهين أوجه.

قوله تعالى: ( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ) فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها.

فقوله:( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) بيان لعموم الملك و أنّ كلّ شي‏ء مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيّات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، و الناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله و ما يحتاج إليه فالّذي يشرّعه لهم من

١٨١

الدين ممّا يحتاجون إليه في حياتهم كما أنّ ما يرزقهم من المعيشة ممّا يحتاجون إليه في بقائهم.

فقوله:( قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتّبة على الحجّة أي ملكه لكم و لكلّ شي‏ء يستلزم علمه بحالكم و بما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرّعه لكم و يفرضه عليكم.

و قوله:( وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) معطوف على قوله:( ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أي و يعلم يوماً يرجعون إليه و هو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا و الله بكلّ شي‏ء عليم.

و في هذا الذيل حثّ على الطاعة و الانقياد لما شرّعه و فرضه من الأحكام و العمل به من جهة أنّه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أنّ في الصدر حثّاً على القبول من جهة أنّ الله إنّما شرّعها لعلمه بحاجتهم إليها و أنّها الّتي ترفع بها حاجتهم.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ) الآية أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و أبو داود و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، و إنّي لآمر جاريتي هذه - لجارية قصيرة قائمة على رأسه - أن تستأذن عليّ.

و في تفسير القمّيّ: في الآية قال: إنّ الله تبارك و تعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات على أحد لا أب و لا اُخت و لا اُمّ و لا خادم إلّا بإذن، و الأوقات بعد طلوع الفجر و نصف النهار و بعد العشاء الآخرة. ثمّ أطلق بعد هذه الثلاثة الأوقات فقال:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ) يعني بعد هذه الثلاثة الأوقات:( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) .

١٨٢

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قال: هي خاصّة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذنّ في هذه الثلاث ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن( وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) قال: من أنفسكم، قال عليكم(١) استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات.

أقول: و روي فيه روايات اُخرى غيرها في كون المراد بالّذين ملكت أيمانكم الذكور دون الإناث عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عبّاس و قيل: أراد العبيد خاصّة عن ابن عمر: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و بهذه الأخبار و بظهور الآية يضعّف‏ ما رواه الحاكم عن عليّعليه‌السلام في الآية قال: النساء فإنّ الرجال يستأذنون.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنّما هي في كتاب الله العشاء و إنّما يعتم بحلاب الإبل.

أقول: و روي مثله عن عبدالرحمن بن عوف و لفظه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله:( وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) و إنّما العتمة عتمة الإبل.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن أبي عبدالله (عيه السلام): أنّه قرأ( أن يضعن من ثيابهنّ) قال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنّة.

أقول: و في معناه أخبار اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى و لا مريض و لا

____________________

(١) عليهم ظ.

١٨٣

أعرج لأنّ الأعمى لا يبصر طيّب الطعام، و المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، و الأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.

و فيه، أخرج الثعلبيّ عن ابن عبّاس قال: خرج الحارث غازياً مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خلّف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه و كان مجهوداً فنزلت.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أنّ عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهليّة حتّى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل و هو جائع حتّى يجد من يؤاكله و يشاربه فأنزل الله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) .

أقول: و في معنى هذه الروايات روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ) قال: هؤلاء الّذين سمّى الله عزّوجلّ في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه فأمّا ما خلا ذلك من الطعام فلا.

و فيه، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : و ما اُحب له أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ له منه إنّ الله لا يحبّ الفساد.

و فيه، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب قال: يأكل منه فأمّا الاُمّ فلا تأكل منه إلّا قرضاً على نفسها.

و فيه، بإسناده عن جميل بن درّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: للمرأة أن تأكل و أن تصدّق و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدّق.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) قال: الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله

١٨٤

فيأكل بغير إذنه.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ، و قيل معناه من بيوت أولادكم و يدلّ عليه‏ قولهعليه‌السلام أنت و مالك لأبيك‏ وقولهعليه‌السلام : إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إنّ ولده من كسبه.

أقول: و في هذه المعاني روايات كثيرة اُخرى.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.

أقول: و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ - إلى قوله -حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) فإنّها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر من الاُمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرّقون بغير إذنه فنهاهم الله عزّوجلّ عن ذلك.

و فيه في قوله تعالى:( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) قال: نزلت في حنظلة بن أبي عيّاش و ذلك أنّه تزوّج في الليلة الّتي كان في صبيحتها حرب اُحد فاستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقيم عند أهله فأنزل الله عزّوجلّ هذه الآية:( فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) فأقام عند أهله ثمّ أصبح و هو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضّة بين السماء و الأرض فكان يسمّى غسيل الملائكة.

و فيه في قوله تعالى:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) قال: لا تدعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدعو بعضكم بعضاً، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) ، يقول: لا تقولوا: يا محمّد و لا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبيّ الله و يا رسول الله:

أقول: و روي مثله عن ابن عبّاس‏، و قد تقدّم أنّ ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.

١٨٥

( سورة الفرقان مكّيّة و هي سبع و سبعون آية)

( سورة الفرقان الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( ١ ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( ٢ ) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ( ٣ )

( بيان)

غرض السورة بيان أنّ دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوة حقّة عن رسالة من جانب الله تعالى و كتاب نازل من عنده و فيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفّار على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً من جانب الله و كون كتابه نازلاً من عنده و رجوع إليه كرّة بعد كرّة.

و قد استتبع ذلك شيئاً من الاحتجاج على التوحيد و نفي الشريك و ذكر بعض أوصاف يوم القيامة و ذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، و الكلام فيها جار على سياق الإنذار و التخويف دون التبشير.

و السورة مكّيّة على ما يشهد به سياق عامّة آياتها نعم ربّما استثني منها ثلاث آيات و هي قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ - إلى قوله -غَفُوراً رَحِيماً ) .

و لعلّ الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنّك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أنّ الزنا و الخمر كانا معروفين

١٨٦

بالتحريم في الإسلام من أوّل ظهور الدعوة الإسلاميّة.

و من العجيب قول بعضهم: إنّ السورة مدنيّة كلّها إلّا ثلاث آيات من أوّلها( تَبارَكَ الَّذِي - إلى قوله -نُشُوراً ) .

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشي‏ء كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض و استقرّ عليها، و منه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير و في صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، و هو كالمختصّ به تعالى لم يطلق على غيره إلّا على سبيل الندرة.

و الفرقان هو الفرق سمّي به القرآن لنزول آياته متفرّقة أو لتمييزه الحقّ من الباطل و يؤيّد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضاً مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات: و الفرقان أبلغ من الفرق لأنّه يستعمل في الفرق بين الحقّ و الباطل، و تقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل فيه و في غيره. انتهى.

و العالمون جمع عالم و معناه الخلق قال في الصحاح: العالم الخلق و الجمع العوالم، و العالمون أصناف الخلق انتهى. و اللفظة و إن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و الجنّ و الملك لكنّ سياق الآية - و قد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدلّ على كون المراد بها المكلّفين من الخلق و هم الثقلان: الإنس و الجنّ فيما نعلم.

و بذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أنّ الآية تدلّ على عموم رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجميع ما سوى الله فإنّ فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار و نظير الآية قوله تعالى:( وَ اصْطَفاكِ عَلى‏ نِساءِ الْعالَمِينَ ) آل عمران: ٤٢ و قوله:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦.

و النذير بمعنى المنذر على ما قيل، و الإنذار قريب المعنى من التخويف.

فقوله تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ ) أي ثبت و تحقّق خير

١٨٧

كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزّل على عبده كتاباً فارقاً بين الحقّ و الباطل منقذاً للعالمين من الضلال سائقاً لهم إلى الهدى.

و الجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى و كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً منه نذيراً للعالمين مع تسمية القرآن فرقاناً بين الحقّ و الباطل و توصيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه عبداً له نذيراً للعالمين المشعر بكونه مملوكاً مأموراً لا يملك من نفسه شيئاً كلّ ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنّه افتراء على الله اختلقه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أعانه على ذلك قوم آخرون، و من طعنهم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و سائر ما تفوّهوا به - و ما يدفع به مطاعنهم.

فالمحصّل أنّه كتاب يفرّق بحجّته الباهرة بين الحقّ و الباطل فلا يكون إلّا حقّاً إذ الباطل لا يفرق بين الحقّ و الباطل و إنّما يشبه الباطل بالحقّ ليلبس على الناس، و أنّ الّذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين و يدعوهم إلى الحقّ فلا يكون إلّا على الحقّ و لو كان مبطلاً لم يدع إلى الحقّ بل حاد عنه و انحرف على أنّ الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته و أنّ الّذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.

و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إنّ المراد بالفرقان مطلق الكتب السماويّة المنزلة على الأنبياء و بعبده عامّة الأنبياءعليهم‌السلام ، و لا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.

و قوله تعالى:( لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) اللّام للتعليل و تدلّ على أنّ غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذراً لجميع العالمين من الإنس و الجنّ، و الجمع المحلّى باللام يفيد الاستغراق، و لا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلّى باللّام من إشارة إلى أنّ للجميع إلهاً واحداً لا كما يذهب إليه الوثنيّون حيث يتّخذ كلّ قوم إلهاً غير ما يتّخذه الآخرون.

١٨٨

و الاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأنّ الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية. الملك بكسر الميم و فتحها قيام شي‏ء بشي‏ء بحيث يتصرّف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرّف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرّف بالأمر و النهي و أنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيّته و ما في أيديهم، و يطلق على القسم الثاني الملك بضمّ الميم.

فالملك بكسر الميم أعمّ من الملك بضمّها كما قال الراغب الملك - بفتح الميم و كسر اللّام - هو المتصرّف بالأمر و النهي في الجمهور، و ذلك يختصّ بسياسة الناطقين، و لهذا يقال: ملك الناس و لا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك بالضّمّ - ضبط الشي‏ء المتصرّف فيه بالحكم، و الملك - بالكسر - كالجنس للملك فكلّ ملك - بالضمّ - ملك - بالكسر - و ليس كلّ ملك - بالكسر - ملكاً - بالضمّ - انتهى.

و ربّما يخصّ الملك بالكسر بما يتعلّق بالرقبة، و الملك بالضمّ بغيره.

فقوله تعالى:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و اللّام للاختصاص - يفيد أنّ السماوات و الأرض مملوكة له غير مستقلّة بنفسها في جهة من جهاتها و لا مستغنية عن التصرّف فيها بالحكم و أنّ الحكم فيها و إدارة رحاها يختصّ به تعالى فهو المليك المتصرّف بالحكم فيها على الإطلاق.

و بذلك يظهر ترتّب قوله:( وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) على ما تقدّمه فإنّ الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتّخاذ الولد إذ اتّخاذ الولد لأحد أمرين إمّا لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع اُموره و لا يملك تدبيرها جميعاً فيتّخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه و الله سبحانه يملك كلّ شي‏ء و يقوى على ما أراد، و إمّا لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلّا في أمد محدود فيتّخذ الولد ليخلفه فيقوم على اُموره بعده و الله سبحانه يملك كلّ شي‏ء سرمداً و لا يعتريه فناء

١٨٩

و زوال فلا حاجة له إلى اتّخاذ الولد البتّة و فيه ردّ على المشركين و النصارى.

و كذا قوله تعالى بعده:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) فإنّ الحاجة إلى الشريك إنّما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الاُمور كلّها و ملكه تعالى عامّ لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذّ منه شاذّ، و فيه ردّ على المشركين.

و قوله تعالى:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) بيان لرجوع تدبير عامّة الاُمور إليه تعالى وحده بالخلق و التقدير فهو ربّ العالمين لا ربّ سواه.

بيان ذلك أنّ الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدّمة على الشي‏ء و المقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدّر وجود كلّ شي‏ء و آثار وجوده حسب ما تقدّره العلل و العوامل المتقدّمة عليه و المقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل و العوامل المتقدّمة و المقارنة و إذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبّر للأمر غيره فلا ربّ يملك الأشياء و يدبّر أمرها غيره.

فكونه تعالى له ملك السماوات و الأرض حاكما متصرّفاً فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، و قيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرّعاً على الخلقة، و قيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك و التدبير فهو الربّ عزّ شأنه.

و ملكه تعالى للسماوات و الأرض و إن استلزم استناد الخلق و التقدير إليه لكن لما كان الوثنيّون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أنّ ملكه للجميع و ربوبيّته للكلّ لا ينافي ملك آلهتهم و ربوبيّتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكلّ من الآلهة مليك في صقع اُلوهيّته ربّ لمربوبيّته و الله سبحانه ملك الملوك و ربّ الأرباب و إله الآلهة.

فلذلك لم يكف قوله:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) لإثبات اختصاص الربوبيّة به تعالى قبالهم بل احتيج إلى الإتيان بقوله:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) .

١٩٠

فكأنّ قائلاً يقول: هب أنّ ملكه للسماوات و الأرض يغنيه عن اتّخاذ الولد و الشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتّخذ بعض خلقه شريكاً لنفسه بتفويض بعض اُمور العالم إليه مع كونه مالكاً له و لما فوّضه إليه و هذا هو الّذي كانت تراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحجّ: لبيك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه و ما ملك.

فاُجيب عنه بأنّ الخلق له سبحانه و التقدير يلازمه و إذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كلّ شي‏ء فليس مع ملكه ملك و لا مع ربوبيّته ربوبيّة.

فقد تحصّل أنّ قوله:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏ ) مسوق لتوحيد الربوبيّة و نفي الولد و الشريك من طريق إثبات الملك المطلق، و أنّ قوله:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) تقرير و بيان لمعنى عموم الملك و أنّه ملك متقوّم بالخلق و التقدير موجب لتصدّيه تعالى لكلّ حكم و تدبير من غير أن يفوّض شيئاً من الأمر إلى أحد من الخلق.

و في الآية و الّتي قبلها لهم أقوال اُخر أغمضنا عن إيرادها لخلوّها عن الجدوى.

قوله تعالى: ( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إلخ، لما نعت نفسه بأنّه خالق كلّ شي‏ء و مقدّره و أنّ له ملك السماوات و الأرض و هكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناماً ليست بخالقة شيئاً بل هي مخلوقة مصنوعة لهم و لا مالكة شيئاً لأنفسهم و لا لغيرهم.

و ضمير( وَ اتَّخَذُوا ) للمشركين على ما يفيده السياق و إن لم يسبق لهم ذكر و مثل هذا التعبير يفيد التحقير و الاستهانة.

و قوله:( مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) يريد به أصنامهم الّتي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، و توصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله:( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إشارة إلى أن ليس لها من الاُلوهيّة إلّا اسم سمّوها به من غير أن تتحقّق من حقيقتها بشي‏ء كما قال تعالى:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

١٩١

و وضع النكرة في قوله:( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ) في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه و هو خالق كلّ شي‏ء و تعلّقوا بأصنام لا يخلقون و لا شيئاً من الأشياء بل هم أردأ حالاً من ذلك حيث إنّهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، و نظير الكلام جار في قوله:( ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) و قوله:( مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) .

و قوله:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) نفي للملك عنهم و هو ضروريّ في الإله إذ كان عبّادهم إنّما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضرّ و يجلبوا إليهم النفع و إذ كانوا لا يملكون ضرّاً و لا نفعاً حتّى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلّا خبلاً و ضلالاً.

و بذلك يظهر أنّ في وقوع( لِأَنْفُسِهِمْ ) في السياق زيادة تقريع و الكلام في معنى الترقّي أي لا يملكون لأنفسهم ضرّاً حتّى يدفعوه و لا نفعاً حتّى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ و قد قدّم الضرّ على النفع لكون دفع الضرر أهمّ من جلب النفع.

و قوله:( وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) أي لا يملكون موتاً حتّى يدفعوه عن عبّادهم أو عمّن شاؤا و لا حياة حتّى يسلبوها عمّن شاؤا أو يفيضوها على من شاؤا و لا نشوراً حتّى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، و ملك هذه الاُمور من لوازم الاُلوهيّة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن سنان عمّن ذكره قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن القرآن و الفرقان هما شيئان أو شي‏ء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به‏

و في الاختصاص، للمفيد:، في حديث عبدالله بن سلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

١٩٢

فأخبرني هل أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: نعم، قال: و أي كتاب هو، قال: الفرقان، قال: و لم سمّاه ربّك فرقاناً؟ قال: لأنّه متفرّق الآيات و السور أنزل في غير الألواح و غيره من الصحف و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق. قال: صدقت يا محمّد.

أقول: كلّ من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدّمين.

١٩٣

( سورة الفرقان الآيات ٤ - ٢٠)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ  فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( ٤ ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٦ ) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ  لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( ٧ ) أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا  وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( ٨ ) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ( ٩ ) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ( ١٠ ) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ  وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ( ١١ ) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( ١٢ ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( ١٣ ) لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( ١٤ ) قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ  كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( ١٥ ) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ  كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا ( ١٦ ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( ١٧ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( ١٨ )

١٩٤

فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا  وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( ١٩ ) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ  وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ  وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( ٢٠ )

( بيان)

تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجيب عنه.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) إلخ في التعبير بمثل قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من غير أن يقال: و قالوا، مع تقدّم ذكر الكفّار في قوله:( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) تلويح إلى أنّ القائلين بهذا القول هم كفّار العرب دون مطلق المشركين.

و المشار إليه بقولهم:( إِنْ هَذا ) القرآن الكريم، و إنّما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشي‏ء من أوصافه إزراء به و حطا لقدره.

و الإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، و مرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذباً اختلقه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نسبه إلى الله سبحانه.

و السياق لا يخلو من إيماء إلى أنّ المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب و قد ورد في بعض الآثار أنّ القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى و يسار مولى العلاء بن الحضرمي و جبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرؤن التوراة أسلموا و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل.

١٩٥

و قوله:( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً ) قال في مجمع البيان: إن جاء و أتى ربّما كانا بمعنى فعل فيتعدّيان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلماً و كذباً، و قيل إن ظلماً منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد جاؤا بظلم، و قيل: حال و التقدير فقد جاؤا ظالمين و هو سخيف.

و فيه، أيضاً: و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى ههنا بالتنبيه على ذلك انتهى و الظاهر أنّ الجواب عن قولهم:( إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ) إلخ، و قولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ) إلخ، جميعاً هو قوله تعالى:( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ) إلخ، على ما سنبيّن و الجملة أعني قوله:( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً ) ردّ مطلق لقولهم و هو في معنى المنع مع السند و سنده الآيات المشتملة على التحدّي.

و بالجملة معنى الآية: و قال الّذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلّا كلاماً مصروفاً عن وجهه حيث إنّه كلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد نسبه إلى الله افترى به على الله و أعانه على هذا الكلام قوم آخرون و هم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الّذين كفروا بقولهم هذا ظلماً و كذباً.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) الأساطير جمع اُسطورة بمعنى الخبر المكتوب و يغلب استعماله في الأخبار الخرافيّة و الاكتتاب هو الكتابة و نسبته إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كونه أميا لا يكتب إنّما هي بنوع من التجوّز ككونه مكتوباً باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا و كذا و إنّما كتبه كاتبه بأمره، و الدليل على ذلك قوله بعد:( فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، و قيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.

١٩٦

و الإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه و يعيه أو إلى الكاتب ليكتبه و المراد به في الآية هو المعنى الأوّل على ما يعطيه سياق( اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ ) إذ ظاهره تحقّق الاكتتاب دفعة و الإملاء تدريجاً على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتاً بعد وقت و هو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه و حفظه.

و البكرة و الأصيل الغداة و العشي، و هو كناية عن الوقت بعد الوقت، و قيل المراد أوّل النهار قبل خروج الناس من منازلهم و آخر النهار بعد دخولهم في منازلهم و هو كناية عن أنّها تملى عليه خفية.

و الآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنّهم يوضحون قولهم: إنّه إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون بأنّهم كتبوا له أساطير الأوّلين ثمّ يملونها عليه وقتاً بعد وقت بقراءة شي‏ء بعد شي‏ء عليه، و هو يقرؤها على الناس و ينسبها إلى الله سبحانه.

فالآية بتمامها من كلام الّذين كفروا و ربّما قيل: إنّ قوله( اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، و هو استفهام إنكاريّ لقولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) و السياق لا يساعد عليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّ قولهم و تكذيبهم فيما رموا به القرآن أنّه إفك مفترى و أنّه أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه وقتاً بعد وقت.

و توصيفه تعالى بأنّه يعلم السرّ أي خفيات الاُمور و بواطنها في السماوات و الأرض للإيذان بأنّ هذا الكتاب الّذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، و فيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم الّتي منها رميهم القرآن بأنّه إفك مفترى و أنّه من الأساطير و هو ممّا يعلمه تعالى.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم و تأخير عقوبتهم على جناياتهم و تكذيبهم للحقّ و جرأتهم على الله سبحانه.

١٩٧

و المعنى: قل إنّ القرآن ليس إفكا مفترى و لا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسراراً خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم و لا تحيط بها أحلامكم، و رميكم إيّاه بالإفك و الأساطير و تكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقّون بها العقوبة غير أنّ الله سبحانه أمهلكم و أخر عقوبة جنايتكم لأنّه متّصف بالمغفرة و الرحمة و ذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.

و فيه أنّ السياق لا يساعد عليه فإنّ محصّل معنى الآية على ما فسّروه يرجع إلى ردّ دعوى الكفّار كون القرآن إفكا مفترى و من الأساطير بدعوى أنّه منزل من عندالله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لردّ الدعوى بدعوى اُخرى مثلها أو هي أخفى منها.

على أنّ التعليل بقوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) إنّما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال و التأخير و إنّما المناسب للإمهال و التأخير من الأسماء هو مثل الحليم و العليم و الحكيم دون الغفور الرحيم.

و الأوفق لمقام المخاصمة و الدفاع بإبانة الحقّ و التعليل بالمغفرة و الرحمة أن يكون قوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تعليلاً لإنزال الكتاب و قد ذكر قبل ذلك أنّه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيراً و هذه هي النبوّة، و يكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السرّ في السماوات و الأرض للإيماء إلى أنّ في سرّهم ما يستدعي شمول المغفرة و الرحمة الإلهيتين لحالهم و هو طلبهم بفطرتهم و جبلتهم للسعادة و العاقبة الحسنى الّتي ليست حقيقتها إلّا السعادة الإنسانيّة بشمول المغفرة و الرحمة و إن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتّع بالحياة الدنيا و زينتها الداثرة فيكون حجّة برهانيّة على حقّيّة الدعوة النبويّة المشتملة عليها القرآن، و بطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأوّلين.

١٩٨

و تقرير الحجّة أنّ الله سبحانه يعلم السرّ في السماوات و الأرض و هو يعلم أنّ في سرّكم المستقرّ في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبّاً للسعادة و طلباً و انتزاعاً للعاقبة الحسنى و حقيقتها فوز الدنيا و الآخرة، و كان سبحانه غفوراً رحيماً و مقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سرّكم و بلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله الّتي تضمّن لكم السعادة.

و هذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله و لا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمّن ما تسألونه بفطرتكم و تستدعونه في سرّكم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة و الرحمة و إن تولّيتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله و لو لم يكن نازلاً من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة و لم يدع إلى محض الحقّ و لاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم و نفعكم و هو الّذي يجلب إليكم المغفرة و الرحمة، و تارة إلى ما هو شرّ لكم و ضارّ و هو الّذي يثير عليكم السخط الإلهيّ و يستوجب لكم العقوبة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ) إلخ.

و تعبيرهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم:( لِهذَا الرَّسُولِ ) مع تكذيبهم برسالته مبنيّ على التهكّم و الاستهزاء.

١٩٩

و قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) استفهام للتعجيب و الوجه فيه أنّ الوثنيّين يرون أنّ البشر لا يسوغ له الاتّصال بالغيب و هو متعلّق الوجود بالمادّة منغمر في ظلماتها، و متلوث بقذاراتها، و لذا يتوسّلون في التوجّه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله و يقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقرّبون عند الله المتّصلون بالغيب المتعيّنون للرسالة لو كانت هناك رسالة، و ليس للبشر شي‏ء من ذلك.

و من هنا يظهر معنى قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) و أنّ المراد أنّ الرسالة لا تجامع أكل الطعام و المشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنّها اتّصال غيبي لا يجامع التعلّقات المادّيّة، و ليست إلّا من شؤن الملائكة و لذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى:( لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) المؤمنون: ٢٤ أو ما في معناه.

و من هنا يظهر أيضاً أنّ قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدّعي للرسالة رسولاً و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و الرسول لا يكون إلّا ملكاً منزّها عن هذه الخصال المادّيّة فإن، تنزّلنا و سلّمنا رسالته و هو بشر فلينزّل إليه ملك يكون معه نذيراً ليتّصل الإنذار و تبليغ الرسالة بالغيب بتوسّط الملك.

و كذا قولهم:( أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ ) تنزل عمّا قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك و استقل بالرسالة و هو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتّى يصرف منه في وجوه حوائجه المادّيّة و لا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، و نزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453