الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124158 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

و من هنا يعلم عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطابه فيجب أن يفخّم و لا يساوى بينه و بين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمّد و يا ابن عبدالله، بل: يا رسول الله.

و كذا ما قيل: إنّ المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرّض لدعائه عليهم بإسخاطه فإنّ الله تعالى لا يردّ دعاءه هذا، و ذلك لأنّ ذيل الآية لا يساعد على شي‏ء من الوجهين.

و قوله:( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) التسلّل: الخروج من البين برفق و احتيال من سلّ السيف من غمده، و اللواذ: الملاوذة و هو أن يلوذ الإنسان و يلتجئ إلى غيره فيستتر به، و المعنى: أنّ الله يعلم منكم الّذين يخرجون من بين الناس و الحال أنّهم يلوذون بغيرهم و يستترون به فينصرفون فلا يهتمّون بدعاء الرسول و لا يعتنون به.

و قوله:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ظاهر سياق الآية بما تقدّم من المعنى أنّ ضمير( عَنْ أَمْرِهِ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته من أن تصيبهم فتنة و هي البليّة أو يصيبهم عذاب أليم.

و قيل: ضمير( عَنْ أَمْرِهِ ) راجع إلى الله سبحانه، و الآية و إن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ) إلخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، و هو أمر، و أوّل الوجهين أوجه.

قوله تعالى: ( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ) فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها.

فقوله:( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) بيان لعموم الملك و أنّ كلّ شي‏ء مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيّات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، و الناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله و ما يحتاج إليه فالّذي يشرّعه لهم من

١٨١

الدين ممّا يحتاجون إليه في حياتهم كما أنّ ما يرزقهم من المعيشة ممّا يحتاجون إليه في بقائهم.

فقوله:( قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتّبة على الحجّة أي ملكه لكم و لكلّ شي‏ء يستلزم علمه بحالكم و بما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرّعه لكم و يفرضه عليكم.

و قوله:( وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) معطوف على قوله:( ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أي و يعلم يوماً يرجعون إليه و هو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا و الله بكلّ شي‏ء عليم.

و في هذا الذيل حثّ على الطاعة و الانقياد لما شرّعه و فرضه من الأحكام و العمل به من جهة أنّه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أنّ في الصدر حثّاً على القبول من جهة أنّ الله إنّما شرّعها لعلمه بحاجتهم إليها و أنّها الّتي ترفع بها حاجتهم.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ) الآية أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و أبو داود و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، و إنّي لآمر جاريتي هذه - لجارية قصيرة قائمة على رأسه - أن تستأذن عليّ.

و في تفسير القمّيّ: في الآية قال: إنّ الله تبارك و تعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات على أحد لا أب و لا اُخت و لا اُمّ و لا خادم إلّا بإذن، و الأوقات بعد طلوع الفجر و نصف النهار و بعد العشاء الآخرة. ثمّ أطلق بعد هذه الثلاثة الأوقات فقال:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ ) يعني بعد هذه الثلاثة الأوقات:( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) .

١٨٢

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قال: هي خاصّة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذنّ في هذه الثلاث ساعات؟ قال: لا و لكن يدخلن و يخرجن( وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ) قال: من أنفسكم، قال عليكم(١) استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات.

أقول: و روي فيه روايات اُخرى غيرها في كون المراد بالّذين ملكت أيمانكم الذكور دون الإناث عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم و إماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عبّاس و قيل: أراد العبيد خاصّة عن ابن عمر: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و بهذه الأخبار و بظهور الآية يضعّف‏ ما رواه الحاكم عن عليّعليه‌السلام في الآية قال: النساء فإنّ الرجال يستأذنون.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنّما هي في كتاب الله العشاء و إنّما يعتم بحلاب الإبل.

أقول: و روي مثله عن عبدالرحمن بن عوف و لفظه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله:( وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ) و إنّما العتمة عتمة الإبل.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عن أبي عبدالله (عيه السلام): أنّه قرأ( أن يضعن من ثيابهنّ) قال: الجلباب و الخمار إذا كانت المرأة مسنّة.

أقول: و في معناه أخبار اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى و لا مريض و لا

____________________

(١) عليهم ظ.

١٨٣

أعرج لأنّ الأعمى لا يبصر طيّب الطعام، و المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، و الأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلتهم.

و فيه، أخرج الثعلبيّ عن ابن عبّاس قال: خرج الحارث غازياً مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خلّف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه و كان مجهوداً فنزلت.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أنّ عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهليّة حتّى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل و هو جائع حتّى يجد من يؤاكله و يشاربه فأنزل الله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) .

أقول: و في معنى هذه الروايات روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ) قال: هؤلاء الّذين سمّى الله عزّوجلّ في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه فأمّا ما خلا ذلك من الطعام فلا.

و فيه، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل: أنت و مالك لأبيك، ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : و ما اُحب له أن يأخذ من مال ابنه إلّا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ له منه إنّ الله لا يحبّ الفساد.

و فيه، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب قال: يأكل منه فأمّا الاُمّ فلا تأكل منه إلّا قرضاً على نفسها.

و فيه، بإسناده عن جميل بن درّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: للمرأة أن تأكل و أن تصدّق و للصديق أن يأكل من منزل أخيه و يتصدّق.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) قال: الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله

١٨٤

فيأكل بغير إذنه.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) ، و قيل معناه من بيوت أولادكم و يدلّ عليه‏ قولهعليه‌السلام أنت و مالك لأبيك‏ وقولهعليه‌السلام : إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه و إنّ ولده من كسبه.

أقول: و في هذه المعاني روايات كثيرة اُخرى.

و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ ) الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.

أقول: و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ - إلى قوله -حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) فإنّها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر من الاُمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرّقون بغير إذنه فنهاهم الله عزّوجلّ عن ذلك.

و فيه في قوله تعالى:( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) قال: نزلت في حنظلة بن أبي عيّاش و ذلك أنّه تزوّج في الليلة الّتي كان في صبيحتها حرب اُحد فاستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقيم عند أهله فأنزل الله عزّوجلّ هذه الآية:( فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) فأقام عند أهله ثمّ أصبح و هو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضّة بين السماء و الأرض فكان يسمّى غسيل الملائكة.

و فيه في قوله تعالى:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) قال: لا تدعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدعو بعضكم بعضاً، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) ، يقول: لا تقولوا: يا محمّد و لا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبيّ الله و يا رسول الله:

أقول: و روي مثله عن ابن عبّاس‏، و قد تقدّم أنّ ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملائمة.

١٨٥

( سورة الفرقان مكّيّة و هي سبع و سبعون آية)

( سورة الفرقان الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( ١ ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( ٢ ) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ( ٣ )

( بيان)

غرض السورة بيان أنّ دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوة حقّة عن رسالة من جانب الله تعالى و كتاب نازل من عنده و فيها عناية بالغة بدفع ما أورده الكفّار على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً من جانب الله و كون كتابه نازلاً من عنده و رجوع إليه كرّة بعد كرّة.

و قد استتبع ذلك شيئاً من الاحتجاج على التوحيد و نفي الشريك و ذكر بعض أوصاف يوم القيامة و ذكر نبذة من نعوت المؤمنين الجميلة، و الكلام فيها جار على سياق الإنذار و التخويف دون التبشير.

و السورة مكّيّة على ما يشهد به سياق عامّة آياتها نعم ربّما استثني منها ثلاث آيات و هي قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ - إلى قوله -غَفُوراً رَحِيماً ) .

و لعلّ الوجه فيه اشتمالها على تشريع حرمة الزنا لكنّك قد عرفت فيما أوردناه من أخبار آية الخمر من سورة المائدة أنّ الزنا و الخمر كانا معروفين

١٨٦

بالتحريم في الإسلام من أوّل ظهور الدعوة الإسلاميّة.

و من العجيب قول بعضهم: إنّ السورة مدنيّة كلّها إلّا ثلاث آيات من أوّلها( تَبارَكَ الَّذِي - إلى قوله -نُشُوراً ) .

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) البركة بفتحتين ثبوت الخير في الشي‏ء كثبوت الماء في البركة بالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض و استقرّ عليها، و منه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير و في صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، و هو كالمختصّ به تعالى لم يطلق على غيره إلّا على سبيل الندرة.

و الفرقان هو الفرق سمّي به القرآن لنزول آياته متفرّقة أو لتمييزه الحقّ من الباطل و يؤيّد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه تعالى على التوراة أيضاً مع نزولها دفعة، قال الراغب في المفردات: و الفرقان أبلغ من الفرق لأنّه يستعمل في الفرق بين الحقّ و الباطل، و تقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، و هو اسم لا مصدر فيما قيل، و الفرق يستعمل فيه و في غيره. انتهى.

و العالمون جمع عالم و معناه الخلق قال في الصحاح: العالم الخلق و الجمع العوالم، و العالمون أصناف الخلق انتهى. و اللفظة و إن كانت شاملة لجميع الخلق من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و الجنّ و الملك لكنّ سياق الآية - و قد جعل فيها الإنذار غاية لتنزيل القرآن - يدلّ على كون المراد بها المكلّفين من الخلق و هم الثقلان: الإنس و الجنّ فيما نعلم.

و بذلك يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم أنّ الآية تدلّ على عموم رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجميع ما سوى الله فإنّ فيه غفلة عن وجه التعبير عن الرسالة بالإنذار و نظير الآية قوله تعالى:( وَ اصْطَفاكِ عَلى‏ نِساءِ الْعالَمِينَ ) آل عمران: ٤٢ و قوله:( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) الجاثية: ١٦.

و النذير بمعنى المنذر على ما قيل، و الإنذار قريب المعنى من التخويف.

فقوله تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ ) أي ثبت و تحقّق خير

١٨٧

كثير فيمن نزل الفرقان على عبده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ثبوت الخير الكثير العائد إلى الخلق فيه تعالى كناية عن فيضانه منه على خلقه حيث نزّل على عبده كتاباً فارقاً بين الحقّ و الباطل منقذاً للعالمين من الضلال سائقاً لهم إلى الهدى.

و الجمع في الآية بين نزول القرآن من عنده تعالى و كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً منه نذيراً للعالمين مع تسمية القرآن فرقاناً بين الحقّ و الباطل و توصيف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكونه عبداً له نذيراً للعالمين المشعر بكونه مملوكاً مأموراً لا يملك من نفسه شيئاً كلّ ذلك تمهيد لما سيحكي - عن المشركين من طعنهم في القرآن بأنّه افتراء على الله اختلقه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أعانه على ذلك قوم آخرون، و من طعنهم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و سائر ما تفوّهوا به - و ما يدفع به مطاعنهم.

فالمحصّل أنّه كتاب يفرّق بحجّته الباهرة بين الحقّ و الباطل فلا يكون إلّا حقّاً إذ الباطل لا يفرق بين الحقّ و الباطل و إنّما يشبه الباطل بالحقّ ليلبس على الناس، و أنّ الّذي جاء به عبد مطيع لله ينذر به العالمين و يدعوهم إلى الحقّ فلا يكون إلّا على الحقّ و لو كان مبطلاً لم يدع إلى الحقّ بل حاد عنه و انحرف على أنّ الله سبحانه يشهد في كلامه المعجز بصدق رسالته و أنّ الّذي جاء به من الكتاب منزل من عنده.

و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إنّ المراد بالفرقان مطلق الكتب السماويّة المنزلة على الأنبياء و بعبده عامّة الأنبياءعليهم‌السلام ، و لا يخفى بعده من ظاهر اللفظ.

و قوله تعالى:( لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) اللّام للتعليل و تدلّ على أنّ غاية تنزيل الفرقان على عبده أن يكون منذراً لجميع العالمين من الإنس و الجنّ، و الجمع المحلّى باللام يفيد الاستغراق، و لا يخلو الإتيان بصيغة الجمع المحلّى باللّام من إشارة إلى أنّ للجميع إلهاً واحداً لا كما يذهب إليه الوثنيّون حيث يتّخذ كلّ قوم إلهاً غير ما يتّخذه الآخرون.

١٨٨

و الاكتفاء بذكر الإنذار دون التبشير لأنّ الكلام في السورة مسوق سوق الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية. الملك بكسر الميم و فتحها قيام شي‏ء بشي‏ء بحيث يتصرّف فيه كيف شاء سواء كان قيام رقبته به كقيام رقبة المال بمالكه بحيث كان له أنواع التصرّف فيه أو قيامه به باستيلائه عليه بالتصرّف بالأمر و النهي و أنواع الحكم كاستيلاء الملك على الناس من رعيّته و ما في أيديهم، و يطلق على القسم الثاني الملك بضمّ الميم.

فالملك بكسر الميم أعمّ من الملك بضمّها كما قال الراغب الملك - بفتح الميم و كسر اللّام - هو المتصرّف بالأمر و النهي في الجمهور، و ذلك يختصّ بسياسة الناطقين، و لهذا يقال: ملك الناس و لا يقال: ملك الأشياء - إلى أن قال - فالملك بالضّمّ - ضبط الشي‏ء المتصرّف فيه بالحكم، و الملك - بالكسر - كالجنس للملك فكلّ ملك - بالضمّ - ملك - بالكسر - و ليس كلّ ملك - بالكسر - ملكاً - بالضمّ - انتهى.

و ربّما يخصّ الملك بالكسر بما يتعلّق بالرقبة، و الملك بالضمّ بغيره.

فقوله تعالى:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و اللّام للاختصاص - يفيد أنّ السماوات و الأرض مملوكة له غير مستقلّة بنفسها في جهة من جهاتها و لا مستغنية عن التصرّف فيها بالحكم و أنّ الحكم فيها و إدارة رحاها يختصّ به تعالى فهو المليك المتصرّف بالحكم فيها على الإطلاق.

و بذلك يظهر ترتّب قوله:( وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) على ما تقدّمه فإنّ الملك على الإطلاق لا يدع حاجة إلى اتّخاذ الولد إذ اتّخاذ الولد لأحد أمرين إمّا لكون الشخص لا يقوى على إدارة رحى جميع اُموره و لا يملك تدبيرها جميعاً فيتّخذ الولد ليستعين به على بعض حوائجه و الله سبحانه يملك كلّ شي‏ء و يقوى على ما أراد، و إمّا لكون الشخص محدود البقاء لا يملك ما يملك إلّا في أمد محدود فيتّخذ الولد ليخلفه فيقوم على اُموره بعده و الله سبحانه يملك كلّ شي‏ء سرمداً و لا يعتريه فناء

١٨٩

و زوال فلا حاجة له إلى اتّخاذ الولد البتّة و فيه ردّ على المشركين و النصارى.

و كذا قوله تعالى بعده:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) فإنّ الحاجة إلى الشريك إنّما هي فيما إذا لم يستوعب الملك الاُمور كلّها و ملكه تعالى عامّ لجميع الأشياء محيط بجميع جهاتها لا يشذّ منه شاذّ، و فيه ردّ على المشركين.

و قوله تعالى:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) بيان لرجوع تدبير عامّة الاُمور إليه تعالى وحده بالخلق و التقدير فهو ربّ العالمين لا ربّ سواه.

بيان ذلك أنّ الخلقة لما كانت بتوسيط الأسباب المتقدّمة على الشي‏ء و المقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الأشياء بعضها ببعض فيتقدّر وجود كلّ شي‏ء و آثار وجوده حسب ما تقدّره العلل و العوامل المتقدّمة عليه و المقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل و العوامل المتقدّمة و المقارنة و إذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبّر للأمر غيره فلا ربّ يملك الأشياء و يدبّر أمرها غيره.

فكونه تعالى له ملك السماوات و الأرض حاكما متصرّفاً فيها على الإطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، و قيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرّعاً على الخلقة، و قيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك و التدبير فهو الربّ عزّ شأنه.

و ملكه تعالى للسماوات و الأرض و إن استلزم استناد الخلق و التقدير إليه لكن لما كان الوثنيّون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أنّ ملكه للجميع و ربوبيّته للكلّ لا ينافي ملك آلهتهم و ربوبيّتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكلّ من الآلهة مليك في صقع اُلوهيّته ربّ لمربوبيّته و الله سبحانه ملك الملوك و ربّ الأرباب و إله الآلهة.

فلذلك لم يكف قوله:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) لإثبات اختصاص الربوبيّة به تعالى قبالهم بل احتيج إلى الإتيان بقوله:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) .

١٩٠

فكأنّ قائلاً يقول: هب أنّ ملكه للسماوات و الأرض يغنيه عن اتّخاذ الولد و الشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الأشياء لكن لم لا يجوز أن يتّخذ بعض خلقه شريكاً لنفسه بتفويض بعض اُمور العالم إليه مع كونه مالكاً له و لما فوّضه إليه و هذا هو الّذي كانت تراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحجّ: لبيك لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه و ما ملك.

فاُجيب عنه بأنّ الخلق له سبحانه و التقدير يلازمه و إذا اجتمعا لزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كلّ شي‏ء فليس مع ملكه ملك و لا مع ربوبيّته ربوبيّة.

فقد تحصّل أنّ قوله:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ‏ ) مسوق لتوحيد الربوبيّة و نفي الولد و الشريك من طريق إثبات الملك المطلق، و أنّ قوله:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) تقرير و بيان لمعنى عموم الملك و أنّه ملك متقوّم بالخلق و التقدير موجب لتصدّيه تعالى لكلّ حكم و تدبير من غير أن يفوّض شيئاً من الأمر إلى أحد من الخلق.

و في الآية و الّتي قبلها لهم أقوال اُخر أغمضنا عن إيرادها لخلوّها عن الجدوى.

قوله تعالى: ( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إلخ، لما نعت نفسه بأنّه خالق كلّ شي‏ء و مقدّره و أنّ له ملك السماوات و الأرض و هكذا كان يجب أن يكون الإله المعبود، أشار إلى ضلالة المشركين حيث عبدوا أصناماً ليست بخالقة شيئاً بل هي مخلوقة مصنوعة لهم و لا مالكة شيئاً لأنفسهم و لا لغيرهم.

و ضمير( وَ اتَّخَذُوا ) للمشركين على ما يفيده السياق و إن لم يسبق لهم ذكر و مثل هذا التعبير يفيد التحقير و الاستهانة.

و قوله:( مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) يريد به أصنامهم الّتي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، و توصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله:( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إشارة إلى أن ليس لها من الاُلوهيّة إلّا اسم سمّوها به من غير أن تتحقّق من حقيقتها بشي‏ء كما قال تعالى:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

١٩١

و وضع النكرة في قوله:( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ) في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه و هو خالق كلّ شي‏ء و تعلّقوا بأصنام لا يخلقون و لا شيئاً من الأشياء بل هم أردأ حالاً من ذلك حيث إنّهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لأوهامهم، و نظير الكلام جار في قوله:( ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) و قوله:( مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) .

و قوله:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ) نفي للملك عنهم و هو ضروريّ في الإله إذ كان عبّادهم إنّما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضرّ و يجلبوا إليهم النفع و إذ كانوا لا يملكون ضرّاً و لا نفعاً حتّى لأنفسهم لم تكن عبادتهم إلّا خبلاً و ضلالاً.

و بذلك يظهر أنّ في وقوع( لِأَنْفُسِهِمْ ) في السياق زيادة تقريع و الكلام في معنى الترقّي أي لا يملكون لأنفسهم ضرّاً حتّى يدفعوه و لا نفعاً حتّى يجلبوه فكيف لغيرهم؟ و قد قدّم الضرّ على النفع لكون دفع الضرر أهمّ من جلب النفع.

و قوله:( وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) أي لا يملكون موتاً حتّى يدفعوه عن عبّادهم أو عمّن شاؤا و لا حياة حتّى يسلبوها عمّن شاؤا أو يفيضوها على من شاؤا و لا نشوراً حتّى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، و ملك هذه الاُمور من لوازم الاُلوهيّة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن سنان عمّن ذكره قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن القرآن و الفرقان هما شيئان أو شي‏ء واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب و الفرقان المحكم الواجب العمل به‏

و في الاختصاص، للمفيد:، في حديث عبدالله بن سلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:

١٩٢

فأخبرني هل أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: نعم، قال: و أي كتاب هو، قال: الفرقان، قال: و لم سمّاه ربّك فرقاناً؟ قال: لأنّه متفرّق الآيات و السور أنزل في غير الألواح و غيره من الصحف و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الأوراق. قال: صدقت يا محمّد.

أقول: كلّ من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدّمين.

١٩٣

( سورة الفرقان الآيات ٤ - ٢٠)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ  فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( ٤ ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٥ ) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٦ ) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ  لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ( ٧ ) أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا  وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( ٨ ) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ( ٩ ) تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ( ١٠ ) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ  وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ( ١١ ) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( ١٢ ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( ١٣ ) لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( ١٤ ) قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ  كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( ١٥ ) لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ  كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا ( ١٦ ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( ١٧ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( ١٨ )

١٩٤

فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا  وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( ١٩ ) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ  وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ  وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( ٢٠ )

( بيان)

تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تجيب عنه.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) إلخ في التعبير بمثل قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) من غير أن يقال: و قالوا، مع تقدّم ذكر الكفّار في قوله:( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) تلويح إلى أنّ القائلين بهذا القول هم كفّار العرب دون مطلق المشركين.

و المشار إليه بقولهم:( إِنْ هَذا ) القرآن الكريم، و إنّما اكتفوا بالإشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشي‏ء من أوصافه إزراء به و حطا لقدره.

و الإفك هو الكلام المصروف عن وجهه، و مرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذباً اختلقه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نسبه إلى الله سبحانه.

و السياق لا يخلو من إيماء إلى أنّ المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب و قد ورد في بعض الآثار أنّ القوم الآخرين هم عداس مولى حويطب بن عبد العزى و يسار مولى العلاء بن الحضرمي و جبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرؤن التوراة أسلموا و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل.

١٩٥

و قوله:( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً ) قال في مجمع البيان: إن جاء و أتى ربّما كانا بمعنى فعل فيتعدّيان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلماً و كذباً، و قيل إن ظلماً منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد جاؤا بظلم، و قيل: حال و التقدير فقد جاؤا ظالمين و هو سخيف.

و فيه، أيضاً: و متى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم؟ قلنا: لما تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى ههنا بالتنبيه على ذلك انتهى و الظاهر أنّ الجواب عن قولهم:( إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ) إلخ، و قولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ) إلخ، جميعاً هو قوله تعالى:( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ) إلخ، على ما سنبيّن و الجملة أعني قوله:( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً ) ردّ مطلق لقولهم و هو في معنى المنع مع السند و سنده الآيات المشتملة على التحدّي.

و بالجملة معنى الآية: و قال الّذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلّا كلاماً مصروفاً عن وجهه حيث إنّه كلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد نسبه إلى الله افترى به على الله و أعانه على هذا الكلام قوم آخرون و هم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الّذين كفروا بقولهم هذا ظلماً و كذباً.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) الأساطير جمع اُسطورة بمعنى الخبر المكتوب و يغلب استعماله في الأخبار الخرافيّة و الاكتتاب هو الكتابة و نسبته إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كونه أميا لا يكتب إنّما هي بنوع من التجوّز ككونه مكتوباً باستدعاء منه كما يقول الأمير كتبت إلى فلان كذا و كذا و إنّما كتبه كاتبه بأمره، و الدليل على ذلك قوله بعد:( فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للإملاء، و قيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.

١٩٦

و الإملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه و يعيه أو إلى الكاتب ليكتبه و المراد به في الآية هو المعنى الأوّل على ما يعطيه سياق( اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ ) إذ ظاهره تحقّق الاكتتاب دفعة و الإملاء تدريجاً على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرأ عليه وقتاً بعد وقت و هو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه و حفظه.

و البكرة و الأصيل الغداة و العشي، و هو كناية عن الوقت بعد الوقت، و قيل المراد أوّل النهار قبل خروج الناس من منازلهم و آخر النهار بعد دخولهم في منازلهم و هو كناية عن أنّها تملى عليه خفية.

و الآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنّهم يوضحون قولهم: إنّه إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون بأنّهم كتبوا له أساطير الأوّلين ثمّ يملونها عليه وقتاً بعد وقت بقراءة شي‏ء بعد شي‏ء عليه، و هو يقرؤها على الناس و ينسبها إلى الله سبحانه.

فالآية بتمامها من كلام الّذين كفروا و ربّما قيل: إنّ قوله( اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى‏ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، و هو استفهام إنكاريّ لقولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) و السياق لا يساعد عليه.

قوله تعالى: ( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّ قولهم و تكذيبهم فيما رموا به القرآن أنّه إفك مفترى و أنّه أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه وقتاً بعد وقت.

و توصيفه تعالى بأنّه يعلم السرّ أي خفيات الاُمور و بواطنها في السماوات و الأرض للإيذان بأنّ هذا الكتاب الّذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، و فيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم الّتي منها رميهم القرآن بأنّه إفك مفترى و أنّه من الأساطير و هو ممّا يعلمه تعالى.

و قوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم و تأخير عقوبتهم على جناياتهم و تكذيبهم للحقّ و جرأتهم على الله سبحانه.

١٩٧

و المعنى: قل إنّ القرآن ليس إفكا مفترى و لا من الأساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسراراً خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم و لا تحيط بها أحلامكم، و رميكم إيّاه بالإفك و الأساطير و تكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقّون بها العقوبة غير أنّ الله سبحانه أمهلكم و أخر عقوبة جنايتكم لأنّه متّصف بالمغفرة و الرحمة و ذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية.

و فيه أنّ السياق لا يساعد عليه فإنّ محصّل معنى الآية على ما فسّروه يرجع إلى ردّ دعوى الكفّار كون القرآن إفكا مفترى و من الأساطير بدعوى أنّه منزل من عندالله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لردّ الدعوى بدعوى اُخرى مثلها أو هي أخفى منها.

على أنّ التعليل بقوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) إنّما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الإمهال و التأخير و إنّما المناسب للإمهال و التأخير من الأسماء هو مثل الحليم و العليم و الحكيم دون الغفور الرحيم.

و الأوفق لمقام المخاصمة و الدفاع بإبانة الحقّ و التعليل بالمغفرة و الرحمة أن يكون قوله:( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تعليلاً لإنزال الكتاب و قد ذكر قبل ذلك أنّه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيراً و هذه هي النبوّة، و يكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السرّ في السماوات و الأرض للإيماء إلى أنّ في سرّهم ما يستدعي شمول المغفرة و الرحمة الإلهيتين لحالهم و هو طلبهم بفطرتهم و جبلتهم للسعادة و العاقبة الحسنى الّتي ليست حقيقتها إلّا السعادة الإنسانيّة بشمول المغفرة و الرحمة و إن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتّع بالحياة الدنيا و زينتها الداثرة فيكون حجّة برهانيّة على حقّيّة الدعوة النبويّة المشتملة عليها القرآن، و بطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأوّلين.

١٩٨

و تقرير الحجّة أنّ الله سبحانه يعلم السرّ في السماوات و الأرض و هو يعلم أنّ في سرّكم المستقرّ في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبّاً للسعادة و طلباً و انتزاعاً للعاقبة الحسنى و حقيقتها فوز الدنيا و الآخرة، و كان سبحانه غفوراً رحيماً و مقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سرّكم و بلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله الّتي تضمّن لكم السعادة.

و هذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله و لا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمّن ما تسألونه بفطرتكم و تستدعونه في سرّكم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة و الرحمة و إن تولّيتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله و لو لم يكن نازلاً من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة و لم يدع إلى محض الحقّ و لاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم و نفعكم و هو الّذي يجلب إليكم المغفرة و الرحمة، و تارة إلى ما هو شرّ لكم و ضارّ و هو الّذي يثير عليكم السخط الإلهيّ و يستوجب لكم العقوبة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ) إلخ.

و تعبيرهم عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم:( لِهذَا الرَّسُولِ ) مع تكذيبهم برسالته مبنيّ على التهكّم و الاستهزاء.

١٩٩

و قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) استفهام للتعجيب و الوجه فيه أنّ الوثنيّين يرون أنّ البشر لا يسوغ له الاتّصال بالغيب و هو متعلّق الوجود بالمادّة منغمر في ظلماتها، و متلوث بقذاراتها، و لذا يتوسّلون في التوجّه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله و يقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقرّبون عند الله المتّصلون بالغيب المتعيّنون للرسالة لو كانت هناك رسالة، و ليس للبشر شي‏ء من ذلك.

و من هنا يظهر معنى قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) و أنّ المراد أنّ الرسالة لا تجامع أكل الطعام و المشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنّها اتّصال غيبي لا يجامع التعلّقات المادّيّة، و ليست إلّا من شؤن الملائكة و لذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى:( لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) المؤمنون: ٢٤ أو ما في معناه.

و من هنا يظهر أيضاً أنّ قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدّعي للرسالة رسولاً و هو يأكل الطعام و يمشي في الأسواق و الرسول لا يكون إلّا ملكاً منزّها عن هذه الخصال المادّيّة فإن، تنزّلنا و سلّمنا رسالته و هو بشر فلينزّل إليه ملك يكون معه نذيراً ليتّصل الإنذار و تبليغ الرسالة بالغيب بتوسّط الملك.

و كذا قولهم:( أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ ) تنزل عمّا قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك و استقل بالرسالة و هو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتّى يصرف منه في وجوه حوائجه المادّيّة و لا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، و نزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453