الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128470 / تحميل: 6556
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة المؤمنون مكّيّة و هي مائة و ثماني عشرة آية)

( سورة المؤمنون الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( ١ ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( ٢ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( ٣ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( ٤ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( ٥ ) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( ٦ ) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( ٧ ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( ٨ ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٩ ) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( ١٠ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ١١ )

( بيان‏)

في السورة دعوة إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر و تمييز المؤمنين من الكفّار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبوديّة و ما لاُولئك من رذائل الأخلاق و سفاسف الأعمال، و تعقيب ذلك بالتبشير و الإنذار، و قد تضمّن الإنذار ذكر عذاب الآخرة و ما غشي الاُمم المكذّبين للدعوة الحقّة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذاً من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريمعليهم‌السلام .

و السورة مكّيّة، و سياق آياتها يشهد بذلك.

قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون -

٢

الشقّ، و قيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشقّ، و الفلاح الظفر و إدراك بغية و ذلك ضربان: دنيويّ و اُخرويّ، فالدنيويّ الظفر بالسعادات الّتي تطيب بها الحياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العزّ، و الاُخرويّ أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عزّ بلا ذلّ، و علم بلا جهل، و لذلك قيل: لا عيش إلّا عيش الآخرة. انتهى ملخّصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحاً بعناية أنّ فيه شقّاً للمانع و كشفا عن وجه المطلوب.

و الإيمان هو الإذعان و التصديق بشي‏ء بالالتزام بلوازمه، فالإيمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيّته و رسله و اليوم الآخر و بما جاءت به رسله مع الاتّباع في الجملة، و لذا نجد القرآن كلّما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفّع الإيمان بالعمل الصالح كقوله:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) النحل: ٩٧ و قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) الرعد: ٢٩، إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة جدّاً.

و ليس مجرّد الاعتقاد بشي‏ء إيماناً به حتّى مع عدم الالتزام بلوازمه و آثاره فإنّ الإيمان علم بالشي‏ء مع السكون و الاطمئنان إليه و لا ينفكّ السكون إلى الشي‏ء من الالتزام بلوازمه لكنّ العلم ربّما ينفك من السكون و الالتزام ككثير من المعتادين بالأعمال الشنيعة أو المضرّة فإنّهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنّهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد و قد قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤.

و الإيمان و إن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانيّة يصرف عنه لكنّه لا يتخلّف عن لوازمه بالجملة.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) الخشوع تأثّر خاصّ من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجّه إليه و الظاهر أنّه من صفات القلب ثمّ ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على ما روي - فيمن يعبث بلحيته في الصلاة: أمّا إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه‏، و قوله تعالى:( وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ) طه: ١٠٨.

٣

و الخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني الّتي فسّر بها الخشوع في الآية، كقول بعضهم: هو الخوف و سكون الجوارح، و قول آخرين: غضّ البصر و خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يميناً و شمالاً، أو إعظام المقام و جمع الاهتمام، أو التذلّل إلى غير ذلك.

و هذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الإيمان حيّاً فعّالاً يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتّب عليه الغرض المطلوب منه و هو الفلاح فإنّ الصلاة توجّه ممّن ليس له إلّا الفقر و الذلّة إلى ساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزّة و البهاء و لازمه أن يتأثّر الإنسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلّة و الهوان و ينتزع قلبه عن كلّ ما يلهوه و يشغله عمّا يهمّه و يواجهه، فلو كان إيمانه إيماناً صادقاً جعل همّه حين التوجّه إلى ربّه همّاً واحداً و شغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غني لا يقدّر بقدر؟ و الذليل إذا واجه عزّة مطلقة لا يشوبها ذلّة و هوان؟

و هذا معنى‏ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث حارثة بن النعمان المرويّ في الكافي، و غيره: إنّ لكلّ حقّ حقيقة و لكلّ صواب نوراً. الحديث.

( كلام في معنى تأثير الإيمان‏)

الدين - كما تقدّم مراراً - السنّة الاجتماعيّة الّتي يسير بها الإنسان في حياته الدنيويّة الاجتماعيّة، و السنن الاجتماعيّة متعلّقة بالعمل مبنيّاً على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه، و من هنا ما نرى أنّ السنن الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر.

فمن يثبت للكون ربّاً يبتدئ منه و سيعود إليه و للإنسان حياة باقية لا تبطل بموت و لا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية و التنعّم في الدار الآخرة الخالدة.

و من يثبت له إلهاً أو آلهة تدبّر الأمر بالرضا و السخط من غير معاد إليه يعيش

٤

عيشة نظمها على أساس التقرّب من الآلهة و إرضائها للفوز بأمتعة الحياة و الظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.

و من لا يهتمّ بأمر الربوبيّة و لا يرى للإنسان حياة خالدة كالمادّيّين و من يحذو حذوهم يبني سنّة الحياة و القوانين الموضوعة الجارية في مجتمعة على أساس التمتّع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.

فالدين سنّة عمليّة مبنيّة على الاعتقاد في أمر الكون و الإنسان بما أنّه جزء من أجزائه، و ليس هذا الاعتقاد هو العلم النظريّ المتعلّق بالكون و الإنسان فإنّ العلم النظريّ لا يستتبع بنفسه عملاً و إن توقّف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر و إن شئت فقل: الحكم بوجوب اتّباع المعلوم النظريّ و الالتزام به و هو العلم العمليّ كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى و يراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا و الآخرة معاً.

و معلوم أنّ الدعوة الدينيّة متعلّقة بالدين الّذي هو السنّة العمليّة المبنيّة على الاعتقاد، فالإيمان الّذي يتعلّق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحقّ في الله سبحانه و رسله و اليوم الآخر و ما جاءت به رسله و هو علم عمليّ.

و العلوم العمليّة تشتدّ و تضعف حسب قوّة الدواعي و ضعفها فإنّا لسنا نعمل عملاً قطّ إلّا طمعاً في خير أو نفع أو خوفاً من شرّ أو ضرر، و ربّما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثمّ صرفنا عنه داع آخر أقوى منه و آثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنّه مضرّ له مناف لصحّته، فبالحقيقة يقيّد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الّذي مع الداعي الممنوع كأنّه يقول مثلاً: إنّ التغذّي لرفع الجوع ليس يجب مطلقاً بل إنّما يجب إذا لم يكن مضرّاً بالبدن مضادّاً لصحّته.

و من هنا يظهر أنّ الإيمان بالله إنّما يؤثّر أثره من الأعمال الصالحة و الصفات الجميلة النفسانيّة كالخشية و الخشوع و الإخلاص و نحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة و التسويلات الشيطانيّة، و بعبارة اُخرى إذا لم يكن إيماناً مقيّداً بحال دون

٥

حال كما قال تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ ) الحجّ: ٦١.

فالمؤمن إنّما يكون مؤمناً على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاقّ ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته و الإعراض عن اللغو و نحوه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه و يختلف باختلاف الاُمور الّتي تعود عليها الفائدة فربّ فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر و هو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.

فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة الّتي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضاً إلى الآخرة كالأكل و الشرب بداعي شهوة التغذّي اللّذين يتفرّع عليهما التقوي على طاعة الله و عبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة و لا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو و بنظر أدقّ هو ما عدا الواجبات و المستحبّات من الأفعال.

و لم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقاً فإنّ الإنسان في معرض العثرة و مزلّة الخطيئة و قد عفا عن السيّئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١.

بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه و الإعراض يقتضي أمراً بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفاً وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به و اعتنائه بشأنه، و لازمه ترفّع النفس عن الأعمال الخسيسة و اعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف و الكرامة و تعلّقها بعظائم الاُمور و جلائل المقاصد.

و من حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ فيه تعلّقاً بساحة العظمة و الكبرياء و منبع العزّة و المجد و البهاء و المتّصف به لا يهتمّ إلّا بحياة سعيدة أبديّة خالدة فلا يشتغل إلّا بما يستعظمه الحقّ و لا يستعظم ما يهتمّ به سفلة الناس و جهلتهم،( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) ،( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) .

و من هنا يظهر أنّ وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علوّ همّتهم و كرامة نفوسهم.

٦

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق الماليّ دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها و لعلّ المراد بالزكاة المعنى المصدريّ و هو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من الم فإنّ السورة مكّيّة و تشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنّما كان بالمدينة ثمّ صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعيّن المخرج من المال.

و بهذا يستصحّ تعلّق( لِلزَّكاةِ ) بقوله:( فاعِلُونَ ) و المعنى: الّذين هم فاعلون للإنفاق الماليّ و أمّا لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصحّ تعلّقه به إذ المال المخرج ليس فعلاً متعلّقاً بفاعل، و لذا قدّر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده و الّذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، و لذا أيضاً فسّر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فراراً من تعلّق( لِلزَّكاةِ ) بقوله:( فاعِلُونَ ) .

و في التعبير بقوله:( لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) دون أن يقول: للزكاة مؤدّون أو ما يؤدّي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إنّي شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إنّي فاعل.

و من حقّ الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق الماليّ فإنّ الإنسان لا ينال كمال سعادته إلّا في مجتمع سعيد ينال فيه كلّ ذي حقّ حقّه و لا سعادة لمجتمع إلّا مع تقارب الطبقات في التمتّع من مزايا الحياة و أمتعة العيش، و الإنفاق الماليّ على الفقراء و المساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج و هو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال و النساء، و حفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطاً أو بإتيان البهائم و غير ذلك.

و قوله:( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) استثناء من حفظ الفروج، و الأزواج الحلائل من النساء، و ما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنّهم غير ملومين في مسّ الأزواج الحلائل و الجواري المملوكة.

٧

و قوله:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) تفريع على ما تقدّم من الاستثناء و المستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقاً إلّا عن طائفتين من النساء هما الأزواج و ما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مسّ غير الطائفتين فاُولئك هم المتجاوزون عن الحدّ الّذي حدّه الله تعالى لهم.

و قد تقدّم كلام ما فيما يستعقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) إسراء: ٣٢ في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ) الأمانة مصدر في الأصل و ربّما اُريد به ما ائتمن عليه من مال و نحوه، و هو المراد في الآية، و لعلّ جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، و ربّما قيل بعموم الأمانات لكلّ تكليف إلهيّ اؤتمن عليه الإنسان و ما اؤتمن عليه من أعضائه و جوارحه و قواه أن يستعملها فيما فيه رضي الله و ما ائتمنه عليه الناس من الأموال و غيرها، و لا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ و إن كان صحيحاً من جهة تحليل المعنى و تعميمه.

و العهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر و اليمين، و يمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجّه إلى المؤمن فإنّ الله سبحانه سمّى إيمان المؤمن به عهداً و ميثاقاً منه على ما توجّه إليه من تكاليفه تعالى بقوله:( أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) البقرة: ١٠٠، و قوله:( وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) الأحزاب: ١٥، و لعلّ إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأنّ جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.

و الرعاية الحفظ، و قد قيل: إنّ أصل الرعي حفظ الحيوان إمّا بغذائه الحافظ لحياته أو بذبّ العدوّ عنه ثمّ استعمل في الحفظ مطلقاً. انتهى. و لعلّ العكس أقرب إلى الاعتبار.

و بالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان و العهد من أن ينقض، و من حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ في إيمانه معنى السكون و الاستقرار و الاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده و قطع على ذلك

٨

استقرّ عليه و لم يتزلزل بخيانة أو نقض.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) جمع الصلاة و تعليق المحافظة عليه دليل على أنّ المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شي‏ء من الصلوات المفروضة و يراقبونها دائماً و من حقّ إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.

و لذلك جمعت الصلاة ههنا و اُفردت في قوله:( فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) لأنّ الخشوع في جنس الصلاة على حدّ سواء فلا موجب لجمعها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) الفردوس أعلى الجنان، و قد تقدّم معناها و شي‏ء من وصفها في ذيل قوله تعالى:( كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ) الكهف: ١٠٧.

و قوله:( الَّذِينَ يَرِثُونَ ) إلخ، بيان لقوله:( الْوارِثُونَ ) و وراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنّهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، و قد ورد في الروايات أنّ لكلّ إنسان منزلاً في الجنّة و منزلاً في النار فإذا مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله، و ستوافيك إن شاء الله في بحث روائيّ.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ و قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) قال: غضّك بصرك في صلاتك و إقبالك عليها.

أقول: و قد تقدّم أنّه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، و نظيره ما رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن عليّعليه‌السلام : أن لا تلتفت في صلاتك.

و في الكافي، بإسناده عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء

٩

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما في معناه و لفظه: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً و القلب ليس بخاشع‏.

و في المجمع في الآية روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: أمّا إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

و فيه، روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

أقول: و رواهما في الدرّ المنثور، عن جمع من أصحاب الكتب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و في معنى الخشوع روايات اُخر كثيرة.

و في إرشاد المفيد، في كلام لأمير المؤمنينعليه‌السلام : كلّ قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.

و في المجمع في قوله:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله و في رواية اُخرى أنّه الغناء و الملاهي.

أقول: ما في روايتي المجمع، من قبيل ذكر بعض المصاديق و ما في رواية الإرشاد، من التعميم بالتحليل‏

و في الخصال، عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : تحلّ الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث و نكاح بلا ميراث و نكاح بملك يمين‏.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوّج إلّا عفيفة إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك.

أقول: و فيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة.

و الروايتان كما ترى تعدّان المتعة نكاحاً و ازدواجاً و الأمر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و على ذلك مبني فقههم.

و الأمر على ذلك في عرف القرآن و في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذلك أنّه ليس وراء

١٠

ملك اليمين إلّا نوعان: نكاح على الزوجيّة و زنا و قد حرّم الله الزنا و أكّد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكّيّة و المدنيّة كسورتي الفرقان و الإسراء و هما مكّيّتان و سورتي النور و الممتحنة و هما مدنيّتان.

ثمّ سمّاه سفاحاً و حرّمه في سورتي النساء و المائدة ثمّ سمّاه فحشاء و منع عنه و ذمّه في سور الأعراف و العنكبوت و يوسف و هي مكّيّة و في سور النحل و البقرة و النور و هي أو الأخيرتان مدنيّتان.

ثمّ سمّاه فاحشة و نهى عنها في سور الأعراف و الأنعام و الإسراء و النمل و العنكبوت و الشورى و النجم و هي مكّيّة و في سور النساء و النور و الأحزاب و الطلاق و هي مدنيّة.

و نهى عنه أيضاً بالتكنية في آية المؤمنون:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) و نظيره في سورة المعارج و كان من المعروف في أوّل البعثة من أمر الإسلام أنّه يحرّم الخمر و الزنا(١) .

فلو لم يكن التمتّع ازدواجاً و المتمتّع بها زوجاً مشمولة لقوله:( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ ) لكان زنا و من المعلوم بالضرورة أنّ التمتّع كان معمولاً به في مكّة قبل الهجرة في الجملة و كذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة و لازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لضرورة اقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) النساء: ٢٤ و لازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون( إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ - إلى قوله -العادُونَ ) ، ناسخة لإباحة التمتّع السابقة ثمّ يكون تحليل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخاً لجميع الآيات المكّيّة الناهية عن الزنا و بعض المدنيّات ممّا نزلت قبل التحليل، و خاصّة على قول من يقول: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلّله ثمّ حرّمه مرّة(٢) بعد مرّة فإنّ لازمه نسخ

____________________

(١) على ما رواه ابن هشام في السيرة و قد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ ) الآية من سورة المائدة ج ٦ ص ١٤٦ من الكتاب.

(٢) و قد أوردنا الروايات الدالّة على ذلك في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) الآية النساء: ٢٤ ج ٤ ص ٣٠٨.

١١

الآيات الناهية عن الزنا ثمّ إحكامها ثمّ نسخها ثمّ إحكامها مرّات و لم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلاً عن النسخ بعد النسخ و هل هذا إلّا لعب بكلام الله تجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

على أنّ الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها و ما فيه من التعليل آب عن النسخ و كيف يعقل أن يسمّي الله سبحانه فعلاً من الأفعال فاحشة فحشاء و سبيل سوء و يخبر أنّ من يفعله يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا ثمّ يجيز ارتكابه ثمّ يمنع ثمّ يجيز.

على أنّ أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له(١) .

على أنّ عدّة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من معاريف الصحابة و هم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الأحكام فكيف استجازوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفحشاء؟ و كيف لم يستخبثوه؟ و كيف رضوا بالعار و الشنار و قد تمتّع زبير من‏ أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير و أخاه عروة بن زبير و ورثاه بعد قتله و هم جميعاً من الصحابة.

على أنّ الروايات الدالّة على نهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المتعة متهافتة، و ما تسلّموا عليه من قول عمر بن الخطّاب حينما نهى أيّام خلافته عن المتعة و ما ورد عنه حول القصّة يكذّب هذه الروايات و يدفع حديث النسخ. و قد مرّ شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) النساء: ٢٤.

و من لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح اقتران جملة( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) إلخ بقوله قبله متّصلاً به( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) .

فقد تبيّن بما ذكرنا أنّ المتعة في الشرع و في عرف القرآن نكاح و زوجيّة لا زنا و سفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنّة كما عليه معظم أهل السنّة

____________________

(١) و قد بين ذلك في علم الاُصول بما لا مزيد عليه.

١٢

أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد و الإرث و الإحصان و النفقة و الفراش و العدّة و غير ذلك. و نكاح موقّت مبنيّ على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم اختصاص المرأة بالرجل و لحقوق الأولاد و العدّة.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أنّ المتعة ليست بزوجيّة و لو كانت زوجيّة لجرت فيها أحكامها من العدد و الميراث و النفقة و الإحصان و غير ذلك و ذلك أنّ الزوجيّة تتقسّم إلى دائمة لها أحكامها و موقّتة مبنيّة على التسهيل يجري فيها بعض تلك الأحكام كما تقدّم.

و الإشكال بأنّ تشريع الازدواج إنّما هو للتناسل بدوام الزوجيّة و الغرض من المتعة مجرّد دفع الشهوة بصبّ الماء و سفحه فهي سفاح و ليست بنكاح.

فيه أنّ التوسّل إلى النسل حكمة لا علّة يدور مدارها التشريع و إلّا لم يجز نكاح العاقر و اليائسة و الصبيّ و الصبيّة.

على أنّ المتعة لا تنافي الاستيلاد و من الشاهد على ذلك عبدالله و عروة ابنا زبير اُولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.

و كذا الإشكال بأنّ المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجل كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار و غيره.

فيه أنّ هذا يرد أوّل ما يرد على الشارع فإنّ من الضروريّ أنّ المتعة كانت دائرة في صدر الإسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا.

و ثانياً أنّ جميع ما يقصد بالمتعة من لذّة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل و المرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلّا أن يكابر مكابر.

و للكلام تتمّة ستوافيك في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه عن ابن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني و بينكم كتاب الله و

١٣

قرأت( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) فمن ابتغى وراء ما زوّجه الله أو ملّكه فقد عدا.

أقول: و روي نظيره عن القاسم بن محمّد، و قد تبيّن بما قدّمنا أنّ المتمتّع بها زوج و أنّ الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية.

و في تفسير القمّيّ:( فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) قال: من جاوز ذلك.

و فيه:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال: على أوقاتها و حدودها.

و في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال هي الفريضة قلت:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قال: هي النافلة.

و في المجمع، روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة و منزل في النار فإن مات و دخل النار ورث أهل الجنّة منزله.

أقول: و روى مثله القمّيّ في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في حديث مفصّل و تقدّم نظيره في قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ) مريم: ٣٩ في الجزء السابق من الكتاب.

( بحث حقوقي اجتماعي)

لا ريب أنّ الّذي يدعو الإنسان و يبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعيّة أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشريّ تنبّهه لحوائج الحياة و توسّله بوضعها و العمل بها إلى رفعها.

و كلّما كانت الحاجة أبسط و إلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسّل إلى رفعها أوجب و الإهمال في دفعها أدهى و أضرّ فما الحاجة إلى أصل التغذّي و الحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعّم بألوان الطعام و أنواع الفواكه و هكذا.

و من الحوائج الأوّليّة الإنسانيّة حاجة كلّ من صنفيه: الذكور و الإناث

١٤

إلى الآخرين بالنكاح و المباشرة، و لا ريب أنّ المطلوب بالنظر إلى الصنع و الإيجاد بذلك بقاء النسل و قد جهّز الإنسان بغريزة شهوة النكاح للتوسّل به إلى ذلك.

و لذلك نجد المجتمعات الإنسانيّة الّتي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنّة بسنّة الازدواج و تكوين البيت، و على ذلك كانت منذ أقدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلّا الازدواج.

و لا يدفع هذا الّذي ذكرنا أنّ المدنيّة الحديثة وضعت سنّة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإنّ هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعيّ لم يبعث حتّى الآن شيئاً من المجتمعات المستنّة بها على شيوع هذه الشركة الحيويّة بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهنّ و ليس إلّا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الإنسانيّة.

و بالجملة الازدواج سنّة طبيعيّة لم تزل و لا تزال دائرة في المجتمعات البشريّة و لا يزاحم هذه السنّة الطبيعيّة في مسيرها إلّا عمل الزنا الّذي هو أقوى مانع من تكوّن البيوت و تحمّل كلفة الازدواج و حمل أثقاله بانصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت و انقطاع النسل.

و لذا كانت المجتمعات الدينيّة أو الطبيعة الساذجة تستشنعها و تعدّها فاحشة منكرة و تتوسّل إلى المنع عنه بأيّ وسيلة ممكنة، و المجتمعات المتمدّنة الحديثة و إن لم تسدّ سبيله بالجملة و لم تمنع عنه ذلك المنع لكنّها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادّته العميقة لتكوّن البيوت و ازدياد النفوس و بقاء النسل، و تحتال إلى تقليله بلطائف الحيل و تروّج سنّة الازدواج و تدعو إلى تكثير الأولاد بجعل الجوائز و ترفيع الدرجات و غير ذلك من المشوّقات.

غير أنّه على الرغم من كون سنّة الازدواج الدائم سنّة قانونيّة متّبعة في جميع المجتمعات الإنسانيّة في العالم و تحريض الدول عليها و احتيالها لتضعيف أمر الزنا و صرف الناس لا سيّما الشبّان و الفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها و كبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنيّة أو سرّيّة على اختلاف السنن

١٥

الجارية فيها.

و هذا أوضح حجّة على أنّ سنّة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيويّة للنوع، و أنّ الإنسانيّة بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، و أنّ من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسّع في أمر الازدواج.

و لذلك شفّع شارع الإسلام سنّة الازدواج الدائم بسنّة الازدواج الموقّت تسهيلاً للأمر و شرط فيه شروطاً ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه و اختلال الأنساب و المواريث و انهدام البيوت و انقطاع النسل و عدم لحوق الأولاد و هي اختصاص المرأة بالرجل و العدّة إذا افترقا و لحوق الأولاد ثمّ لها ما اشترطت على زوجها و ليس فيه على الرجل شي‏ء من كلفة الازدواج الدائم و مشقّته.

و لعمر الحقّ إنّها لمن مفاخر الإسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق و تعدّد الزوجات و كثير من قوانينه و لكن ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لئن أزني أحبّ إلي من أن أتمتّع أو اُمتّع.

١٦

( سورة المؤمنون الآيات ١٢ - ٢٢)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ( ١٢ ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( ١٣ ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ  فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( ١٤ ) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ( ١٥ ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( ١٦ ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( ١٧ ) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ  وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ( ١٨ ) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ١٩ ) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ( ٢٠ ) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً  نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( ٢١ ) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ( ٢٢ )

( بيان)

لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الأوصاف الجميلة عقّبه بشرح خلقهم و خلق ما أنعم عليهم من النعم مقروناً بتدبير أمرهم تدبيراً مخلوطاً بالخلق لينكشف به أنّه هو ربّ للإنسان و لكلّ شي‏ء الواجب أن يعبد وحده لا شريك له.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال في المجمع:

١٧

السلالة اسم لما يسلّ من الشي‏ء كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. و ظاهر السياق أنّ المراد بالإنسان هو النوع فيشمل آدم و من دونه و يكون المراد بالخلق الخلق الابتدائيّ الّذي خلق به آدم من الطين ثمّ جعل النسل من النطفة، و تكون الآية و ما بعدها في معنى قوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) الم السجدة: ٨.

و يؤيّده قوله بعد:( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ) إذ لو كان المراد بالإنسان ابن آدم فحسب و كان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثمّ خلقناه نطفة كما قيل:( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) إلخ.

و بذلك يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم، و كذا القول بأنّ المراد به آدمعليه‌السلام غير سديد.

و أصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئاً من اللباس فالمعنى و لقد قدّرنا الإنسان أوّلاً من سلالة من أجزاء الأرض المخلوطة بالماء.

قوله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) النطفة القليل من الماء و ربّما يطلق على مطلق الماء و القرار مصدر اُريد به المقرّ مبالغة و المراد به الرحم الّتي تستقرّ فيها النطفة، و المكين المتمكّن وصفت به الرحم لتمكّنها في حفظ النطفة من الضيعة و الفساد أو لكون النطفة مستقرّة متمكّنة فيها.

و المعنى ثمّ جعلنا الإنسان نطفة في مستقرّ متمكّن هي الرحم كما خلقناه أوّلاً من سلالة من طين أي بدّلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك.

قوله تعالى: ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً - إلى قوله -فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) تقدّم بيان مفردات الآية في الآية ٥ من سورة الحجّ في الجزء السابق من الكتاب و في قوله:( فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) استعارة بالكناية لطيفة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) الإنشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشي‏ء و تربيته كما أنّ النش‏ء و النشأة إحداثه و تربيته كما يقال للشابّ

١٨

الحديث السنّ ناشئ.

و قد غير السياق من الخلق إلى الإنشاء فقال:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) دون أن يقال: ثمّ خلقناه إلخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمّنه و لا يقارنه ما تقدّمه من مادّة فإنّ العلقة مثلاً و إن خالفت النطفة في أوصافها و خواصّها من لون و طعم و غير ذلك إلّا أنّ في النطفة مكان كلّ من هذه الأوصاف و الخواصّ ما يجانسه و إن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة و هما جميعاً لون بخلاف ما أنشأه الله أخيراً و هو الإنسان الّذي له حياة و علم و قدرة فإنّ ما له من جوهر الذات و هو الّذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة و العلقة و المضغة و العظام المكسوّة لحما شي‏ء، و لا سبق فيها شي‏ء يناظر ما له من الخواصّ و الأوصاف كالحياة و القدرة و العلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم.

و الضمير في( أَنْشَأْناهُ ) - على ما يعطيه السياق - للإنسان المخلوق عظاماً مكسوّة باللحم فهو الّذي اُنشئ و اُحدث خلقاً آخر أي بدّل و هو مادّة ميتة جاهلة عاجزة موجوداً ذا حياة و علم و قدرة، فقد كان مادّة لها صفاتها و خواصّها ثمّ برز و هو يغاير سابقته في الذات و الصفات و الخواصّ، فهو تلك المادّة السابقة فإنّها الّتي صارت إنساناً، و ليس بها إذ لا يشاركها في ذات و لا صفات، و إنّما له نوع اتّحاد معها و تعلّق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم.

و هذا هو الّذي يستفاد من مثل قوله:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١، فالمتوفّى و المأخوذ عند الموت هو الإنسان، و المتلاشي الضالّ في الأرض هو البدن و ليس به.

و قد اختلف العطف في مفردات الآية بالفاء و ثمّ، و قد قيل في وجهه أنّ ما عطف بثمّ له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله:( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ) ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) ،( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) ، و ما لم يكن بتلك البينونة و البعد عطف بالفاء كقوله:( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ) .

١٩

قوله تعالى: ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: و برك البعير ألقى ركبه و اعتبر منه معنى اللزوم. قال: و سمّي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - و البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشي‏ء قال تعالى:( لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) و سمّي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة و المبارك ما فيه ذلك الخير.

قال: و لما كان الخير الإلهيّ يصدر من حيث لا يحسّ و على وجه لا يحصى و لا يحصر قيل لكلّ ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك و فيه بركة. انتهى.

فالتبارك منه تعالى اختصاص بالخير الكثير الّذي يجود به و يفيضه على خلقه و قد تقدّم أنّ الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كلّه في تقديره و هو إيجاد الأشياء و تركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها و تناسب ما وراءها و من ذلك ينتشر الخير الكثير.

و وصفه تعالى بأحسن الخالقين يدلّ على عدم اختصاص الخلق به و هو كذلك لما تقدّم أنّ معناه التقدير و قياس الشي‏ء من الشي‏ء لا يختصّ به تعالى، و في كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله:( وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) المائدة: ١١٠ و قوله:( وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) العنكبوت: ١٧.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ) بيان لتمام التدبير الإلهيّ و أنّ الموت من المراحل الّتي من الواجب أن يقطعها الإنسان في مسير التقدير، و أنّه حقّ كما تقدّم في قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ ) و هذا تمام التدبير و هو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الإنسان إذا حلّ بها لزمها و لا يزال قاطنا بها.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) ، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله:( فَوْقَكُمْ ) السماوات السبع و قد سمّاها طرائق - جمع طريقة - و هي السبيل المطروقة لأنّها ممرّ الأمر النازل من عنده تعالى إلى

٢٠

الأرض، قال تعالى:( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: ١٢، و قال:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: ٥، و السبل الّتي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠، و قال:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) مريم: ٦٤.

و بذلك يتّضح اتّصال ذيل الآية( وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) بصدرها أي لستم بمنقطعين عنّا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرّقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.

و بذلك كلّه يظهر ما في قول بعضهم: إنّ الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنّها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.

على أنّ اتّصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بيّن.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏ ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) المراد بالسماء جهة العلو فإنّ ما علاك و أظلّك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.

و في قوله:( بِقَدَرٍ ) دلالة على أنّ الّذي نزل إنّما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التامّ الإلهيّ الّذي يقدّره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدّر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضاً إلى قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١.

و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكنّاه في الأرض و هو الذخائر المدّخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجّر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنّا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الّذي أسكنّاه في الأرض نوعاً من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.

٢١

قوله تعالى: ( فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ ) إلى آخر الآية، إنشاء الجنّات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) معطوف على( جَنَّاتٍ ) أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون الّتي تكثر في طور سيناء، و قوله:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله:( وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ بالكسر فالسكون الإدام الّذي يؤتدم به، و إنّما خصّ شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ) إلخ، العبرة الدلالة يستدلّ بها على أنّه تعالى مدبّر لأمر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، و المراد بسقيه تعالى ممّا في بطونها أنّه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.

قوله تعالى: ( عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏ ) ضمير( عَلَيْها ) للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البرّ و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله:( وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) إسراء: ٧٠، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: إذا تمّت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) يعني نفخ الروح فيه.

و في الكافي، بإسناده عن ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أباالحسن الرضاعليه‌السلام يقول: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله

٢٢

ملكين خلّاقين فيقولان: يا ربّ ما نخلق ذكراً أو اُنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ شقيّ أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ ما أجله و ما رزقه و كلّ شي‏ء من حاله؟ و عدّد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه.

فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكاً فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحوّل الاُنثى ذكراً أو الذكر اُنثى؟ فقال: إنّ الله يفعل ما يشاء.

أقول: و الرواية مرويّة عن أبي جعفرعليه‌السلام بطرق اُخرى و ألفاظ متقاربة.

و في تفسير القمّيّ قوله عزّوجلّ:( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مثل أميرالمؤمنينعليه‌السلام فالطور الجبل و سيناء الشجرة.

و في المجمع:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادّهنوا.

٢٣

( سورة المؤمنون الآيات ٢٣ - ٥٤)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٢٣ ) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ( ٢٤ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٢٥ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٢٦ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ  فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ  وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا  إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ( ٢٧ ) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( ٢٩ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ( ٣٠ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٣١ ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٣٢ ) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( ٣٣ ) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ( ٣٤ ) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا

٢٤

وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ( ٣٥ ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( ٣٦ ) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( ٣٧ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( ٣٨ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٣٩ ) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( ٤٠ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً  فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ ( ٤٢ ) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( ٤٣ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ  كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ  فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ( ٤٤ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٤٥ ) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ( ٤٦ ) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( ٤٧ ) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( ٤٨ ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ٤٩ ) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( ٥٠ ) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٥١ ) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( ٥٢ ) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( ٥٣ ) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٥٤ )

٢٥

( بيان‏)

بعد ما عدّ نعمه العظام على الناس عقّبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد عبادته من طريق الرسالة و قصّ إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريمعليهما‌السلام ، و لم يصرّح من أسمائهم إلّا باسم نوح و هو أوّل الناهضين لدعوة التوحيد و اسم موسى و عيسىعليهما‌السلام و هما في آخرهم، و أبهم أسماء الباقين غير أنّه صرح باتّصال الدعوة و تواتر الرسل، و أنّ الناس لم يستجيبوا إلّا بالكفر بآيات الله و الكفران لنعمه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ ) قد تقدّم في قصص نوحعليه‌السلام من سورة هود أنّه أوّل اُولي العزم من الرسل أصحاب الكتب و الشرائع المبعوثين إلى عامّة البشر و الناهضين للتوحيد و نفي الشرك، فالمراد بقومه اُمّته و أهل عصره عامّة.

و قوله:( اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) دعوة إلى عبادة الله و رفض عبادة الآلهة من دونه فإنّ الوثنيّين إنّما يعبدون غيره من الملائكة و الجنّ و القدّيسين بدعوى اُلوهيّتهم أي كونهم معبودين من دونه.

قال بعض المفسّرين: إنّ معنى( اعْبُدُوا اللهَ ) اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود:( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و ترك التقييد به للإيذان بأنّها هي العبادة فقط و أمّا العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شي‏ء رأسا. انتهى.

و فيه غفلة أو ذهول عن أنّ الوثنيّين لا يعبدون الله سبحانه أصلاً بناء على أنّ العبادة توجّه من العابد إلى المعبود، و الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به توجّه متوجّه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرّب إلى خاصّة خلقه من الملائكة و غيره ليشفعوا عنده و يقرّبوا منه، و العبادة بإزاء التدبير و أمر التدبير مفوّض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون و الأرباب من دونه.

و من هنا يظهر أنّه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلّا عبادته وحده لأنّهم

٢٦

لا يرتابون في أنّه تعالى ربّ الأرباب موجد الكلّ و لو صحّت عبادته لم تجز إلّا عبادته وحده و لم تصحّ عبادة غيره لكنّهم لا يرون صحّتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدّم.

فقولهعليه‌السلام لقومه الوثنيّين:( اعْبُدُوا اللهَ ) في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ، و قوله:( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لأنّه لا ربّ غيره يدبّر أمركم حتّى تعبدوه رجاء لرحمته أو خوفاً من سخطه، و قوله بالتفريع على ذلك:( أَ فَلا تَتَّقُونَ ) أي إذا لم يكن لكم ربّ يدبّر اُموركم دونه أ فلا تتّقون عذابه حيث لا تعبدونه و تكفرون به؟

قوله تعالى: ( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ - إلى قوله -حَتَّى حِينٍ ) ملأ القوم أشرافهم، و وصفهم بقوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) وصف توضيحيّ لا احترازيّ إذ لم يؤمن به من ملإ قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله:( وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) هود: ٢٧.

و السياق يدلّ على أنّ الملأ كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامّة الناس لصرف وجوههم عنه و إغرائهم عليه و تحريضهم على إيذائه و إسكاته، و ما حكاه تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفّقوها و احتجّوا بها على بطلان دعوته.

الأوّل قولهم:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) و محصّله أنّه بشر مثلكم فلو كان صادقاً فيما يدّعيه من الوحي الإلهيّ و الاتّصال بالغيب كان نظير ما يدّعيه متحقّقاً فيكم إذ لا تنقصون منه في شي‏ء من البشريّة و لوازمها، و لم يتحقّق فهو كاذب و كيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثمّ لا يناله إلّا واحد منهم فقط ثمّ يدّعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ فلم يبق إلّا أنّه يريد بهذه الدعوة أن يتفضّل عليكم و يترأس فيكم و يؤيّده أنّه يدعوكم إلى اتّباعه و طاعته و هذه الحجّة تنحلّ في الحقيقة إلى حجّتين مختلقتين.

٢٧

و الثاني قولهم:( وَ لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) و محصّله أنّ الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبيّة لاختار لذلك الملائكة الّذين هم المقرّبون عنده و الشفعاء الروابط بيننا و بينه فأرسلهم إلينا لا بشراً ممّن لا نسبة بينه و بينه. على أنّ في نزولهم و اعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده و عدم جواز اتّخاذهم أرباباً و آلهة معبودين آية بيّنة على صحّة الدعوة و صدقها.

و التعبير عن إرسال الملائكة بإنزالهم إنّما هو لكون إرسالهم يتحقّق بالإنزال و التعبير بلفظ الجمع دون الإفراد لعلّه لكون المراد بهم الآلهة المتّخذة منهم و هم كثيرون.

و الثالث قولهم:( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) و محصّله أنّه لو كانت دعوته حقّة لاتّفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانيّة، و آباؤنا كانوا أفضل منّا و أعقل و لم يتّفق لهم و في أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلّا بدعة و اُحدوثة كاذبة.

و الرابع قولهم:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) الجنّة إمّا مصدر أي به جنون أو مفرد الجنّ أي حلّ به من الجنّ من يتكلّم على لسانه لأنّه يدّعي ما لا يقبله العقل السليم و يقول ما لا يقوله إلّا مصاب في عقله فترّبصوا و انتظروا به إلى حين مّا لعلّه يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه.

و هذه حجج مختلقة ألقاها ملأ قومه إلى عامّتهم أو ذكر كلّا منها بعضهم و هي و إن كانت حججاً جدليّة مدخولة لكنّهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه و يغرونهم عليه و يمدّون في ضلالهم.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) سؤال منه للنصر و الباء في قوله:( بِما كَذَّبُونِ ) للبدليّة و المعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة و عليه فالمعنى انصرني بالّذي كذّبوني فيه و هو العذاب فإنّهم قالوا:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) هود: ٣٢، و يؤيّده قول نوح:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) نوح: ٢٦، و فصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال.

٢٨

قوله تعالى: ( فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) إلى آخر الآية. متفرّع على سؤال النصر، و معنى صنع الفلك بأعينه صنعه بمرأى منه و هو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى و محافظته، و معنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبيّ حالاً بعد حال.

و قوله:( فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ ) المراد بالأمر - كما قيل - حكمه الفصل بينه و بين قومه و قضاؤه فيهم بالغرق، و السياق يشهد على كون فوران التنّور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم و هو أعني فوران الماء من التنّور و هو محلّ النار من عجيب الأمر في نفسه.

و قوله:( فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) القراءة الدائرة( مِنْ كُلٍّ ) بالتنوين و القطع عن الإضافة، و التقدير من كلّ نوع من الحيوان، و السلوك فيها الإدخال في الفلك و الظاهر أنّ( مِنْ ) لابتداء الغاية و المعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر و اُنثى من كلّ نوع من الحيوان.

و قوله:( وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) معطوف على قوله:( زَوْجَيْنِ ) و ما قيل: إنّ عطف( أَهْلَكَ ) على( زَوْجَيْنِ ) يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: و اسلك فيها من كلّ نوع أهلك فالأولى تقدير( فَاسْلُكْ ) ثانياً قبل( أَهْلَكَ ) و عطفه على( فَاسْلُكْ ) يدفعه أنّ( مِنْ كُلٍّ ) في موضع الحال من( زَوْجَيْنِ ) فهو متأخّر عنه رتبة كما قدّمنا تقديره فلا يعود ثانياً على المعطوف.

و المراد بالأهل خاصّته، و الظاهر أنّهم أهل بيته و المؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الأهل و لم يذكر ههنا إلّا الأهل فقط.

و المراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوحعليه‌السلام و هي و ابنه الّذي أبى ركوب السفينة و غرق حينما آوى إلى جبل في الحقيقة، و سبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق.

و قوله:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالّذين ظلموا

٢٩

و تعليل النهي بقوله:( إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) فكأنّه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلاً أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولاً لا يدفعه دافع.

قوله تعالى: ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ ) إلى آخر الآيتين علّمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين و هذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتماً، و أن يسأله أن ينجيه من الطوفان و ينزله على الأرض إنزالاً مباركاً ذا خير كثير ثابت فإنّه خير المنزلين.

و في أمرهعليه‌السلام أن يحمده و يصفه بالجميل دليل على أنّه من عباده المخلصين فإنّه تعالى منزّه عمّا يصفه غيرهم كما قال:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠.

و قد اكتفى سبحانه في القصّة بإخباره عن حكمه بغرقهم و أنّهم مغرقون حتماً و لم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنّهم آل بهم الأمر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، و إعظاماً للقدرة و تهويلاً للسخطة و تحقيراً لهم و استهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصّة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصّة الآتية:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) من وجوه.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) خطاب في آخر القصّة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بيان أنّ هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاءً أي امتحاناً و اختباراً إلهيّاً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) إلى آخر الآية الثانية. القرن أهل عصر واحد، و قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) تفسير لإرسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا ) حم السجدة: ٣٠.

قوله تعالى: ( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) هؤلاء أشرافهم المتوغّلون في الدنيا المخلدون إلى الأرض يغرون بقولهم هذا عامّتهم على رسولهم.

٣٠

و قد وصفهم الله بصفات ثلاث و هي: الكفر بالله بعبادة غيره، و التكذيب بلقاء الآخرة - أي بلقاء الحياة الآخرة بقرينة مقابلتها لقوله:( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) - و لكفرهم بالمبدإ و المعاد انقطعوا عمّا وراء الدنيا فانكبّوا عليها ثمّ لما اُترفوا في الحياة الدنيا و تمكّنوا من زخارفها و زيناتها الملذّة اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتّبعوا الهوى و نسوا كلّ حقّ و حقيقة، و لذلك تفوّهوا تارة بنفي التوحيد و الرسالة و تارة بإنكار المعاد و تارة ردّ الدعوة بإضرارها دنياهم و حرّيّتهم في اتّباع هواهم.

فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) يريدون به تكذيبه في دعوته و دعواه الرسالة على ما مرّ من تقرير حجّتهم في قصّة نوح السابقة.

و في استدلالهم على بشريّته و مساواته سائر الناس بأكله و شربه مثل الناس و ذلك من خاصّة مطلق الحيوان دليل على أنّهم ما كانوا يرون للإنسان إلّا كمال الحيوان و لا فضيلة إلّا في الأكل و الشرب و لا سعادة إلّا في التمكّن من التوسّع و الاسترسال من اللذائذ الحيوانيّة كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ) الأعراف: ١٧٩، و قال:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) سورة محمّد: ١٢.

و تارة قالوا:( وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) و هو في معنى قولهم في القصّة السابقة:( يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) يريدون به أنّ في اتّباعه و إطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشراً مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم و بطلان سعادتكم في الحياة إذ لا حياة إلّا الحياة الدنيا و لا سعادة فيها إلّا الحرّيّة في التمتّع من لذائذها، و في طاعة من لا فضل له عليكم رقّيّتكم و زوال حرّيّتكم و هو الخسران.

و تارة قالوا:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) أي مبعوثون من قبوركم للحساب و الجزاء( هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) و هيهات كلمة استبعاد و في تكراره مبالغة في الاستبعاد( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا )

٣١

أي يموت قوم منّا في الدنيا و يحيا آخرون فيها لا نزال كذلك( وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) للحياة في دار اُخرى وراء الدنيا.

و يمكن أن يحمل قولهم:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) على التناسخ و هو خروج الروح بالموت من بدن و تعلّقها ببدن آخر إنسانيّ أو غير إنسانيّ فإنّ التناسخ مذهب شائع عند الوثنيّين و ربّما عبّروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنّه لا يلائم سياق الآيات كثير ملائمة.

و تارة قالوا:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته و قد أنكروا التوحيد و المعاد قبل ذلك.

و مرادهم بقولهم:( نَحْنُ ) أنفسهم و عامّتهم أشركوا أنفسهم عامّتهم لئلّا يتّهمهم العامّة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، و يمكن أن يكون المراد به أنفسهم خاصّة دون العامّة و إنّما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه.

و قد نشأت هذه الأقاويل من اجتماع الصفات الّتي وصفهم الله بها في أوّل الآيات و هي إنكار التوحيد و النبوّة و المعاد و الإتراف في الحياة الدنيا.

و اعلم أنّ في قوله في صدر الآيات:( وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ ) قدم قوله:( مِنْ قَوْمِهِ ) على( الَّذِينَ كَفَرُوا ) بخلاف ما في القصّة السابقة من قوله:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه لو وقع بعد( الَّذِينَ كَفَرُوا ) اختلّ به ترتيب الجمل المتوالية( كَفَرُوا ) ( وَ كَذَّبُوا ) ( وَ أَتْرَفْناهُمْ ) و لو وقع بعد الجميع طال الفصل.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) تقدّم تفسيره في القصّة السابقة.

قوله تعالى: ( قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ) استجابة لدعوة الرسول و صيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، و قوله:( عَمَّا قَلِيلٍ ) عن بمعنى بعد و( مَّا ) لتأكيد القلّة و ضمير الجمع للقوم، و الكلام مؤكّد بلام القسم و نون التأكيد، و المعنى: اُقسم لتأخذنّهم الندامة بعد قليل من الزمان بمشاهدة

٣٢

حلول العذاب.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، الباء في( بِالْحَقِّ ) للمصاحبة و هو متعلّق بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ ) أي أخذتهم الصيحة أخذاً مصاحباً للحقّ، أو للسببيّة، و الحقّ وصف اُقيم مقام موصوفه المحذوف و التقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الأمر الحقّ أو القضاء الحقّ كما قال:( فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٧٨.

و الغثاء بضمّ الغين و ربّما شدّدت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات و الورق و العيدان البالية، و قوله:( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) إبعاد و لعن لهم أو دعاء عليهم.

و المعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماويّة و هي العذاب فأهلكناهم و جعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعداً.

و لم يصرّح باسم هؤلاء القوم الّذين أنشأهم بعد قوم نوح ثمّ أهلكهم و لا باسم رسولهم، و ليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالحعليه‌السلام فقد ذكر الله سبحانه في قصّتهم في مواضع من كلامه أنّهم كانوا بعد قوم نوح و قد اُهلكوا بالصيحة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ) تقدّم توضيح مضمون الآيتين كراراً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ) ، إلى آخر الآية يقال: جاؤا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضاً، و منه التواتر و هو تتابع الشي‏ء وتراً و فرادى، و عن الأصمعيّ: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضاً و بين الخبرين هنيهة انتهى.

و الكلام من تتمّة قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً ) و( ثُمَّ ) للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، و القصّة إجمال منتزع من قصص الرسل و اُممهم بين اُمّة نوح و الاُمّة الناشئة بعدها و بين اُمّة موسى.

يقول تعالى: ثمّ أنشأنا بعد تلك الاُمّة الهالكة بالصيحة بعد اُمّة نوح قروناً و اُمماً آخرين و أرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلّما جاء اُمّة رسولها

٣٣

المبعوث منها إليها كذّبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الاُمم بعضاً أي بالعذاب و جعلناهم أحاديث أي صيّرناهم قصصاً و أخباراً بعد ما كانوا أعياناً ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون.

و الآيات تدلّ على أنّه كان من سنّة الله إنشاء قرن بعد قرن و هدايتهم إلى الحقّ بإرسال رسول بعد رسول و هي سنّة الابتلاء و الامتحان، و من سنّة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثمّ من سنّة الله ثانياً - و هي سنّة المجازاة - تعذيب المكذّبين و إتباع بعضهم بعضاً.

و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) أبلغ كلمة تفصح عن القهر الإلهيّ الّذي يغشى أعداء الحقّ و المكذّبين لدعوته حيث يمحو العين و يعفو الأثر و لا يبقى إلّا الخبر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى‏ وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ ) الآيات هي العصا و اليد البيضاء و سائر الآيات الّتي أراها موسى فرعون و قومه، و السلطان المبين الحجّة الواضحة، و تفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد.

قوله تعالى: ( إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ ) قيل: إنّما ذكر ملأ فرعون و اكتفى بهم عن ذكر قومه لأنّهم الأشراف المتبوعون و سائر القوم أتباع يتبعونهم.

و المراد بكونهم عالين أنّهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل و استعبدوهم فالعلوّ في الأرض كناية عن التطاول على أهلها و قهرهم على الطاعة.

قوله تعالى: ( فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، و بكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضّلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) ثمّ ختم تعالى القصّة بذكر هلاكهم

٣٤

فقال:( فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) ثمّ قال:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) و المراد بهم بنو إسرائيل لأنّ التوراة إنّما نزلت بعد هلاك فرعون و ملئه.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) تقدّم أنّ الآية هي ولادة عيسىعليه‌السلام الخارقة للعادة و إذ كانت أمراً قائماً به و باُمّه معاً عدّاً جميعاً آية واحدة.

و الإيواء من الاُويّ و أصله الرجوع ثمّ استعمل في رجوع الإنسان إلى مسكنه و مقرّه، و آواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له و الربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، و المعين الماء الجاري.

و المعنى: و جعلنا عيسى بن مريم و اُمّه مريم آية دالّة على ربوبيّتنا و أسكنّاهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار و ماء جار.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) خطاب لعامّة الرسل بأكل الطيّبات و كانّ المراد بالأكل منها الارتزاق بها بالتصرّف فيها سواء كان بأكل أو غيره و هو استعمال شائع.

و السياق يشهد بأنّ في قوله:( كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) امتناناً منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً ) أمر بمقابلة المنّة بصالح العمل و هو شكر للنعمة و في تعليله بقوله:( إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) تحذير لهم من مخالفة أمره و بعث إلى ملازمة التقوى.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) تقدّم تفسير نظيره الآية في سورة الأنبياء.

قوله تعالى: ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) في المجمع، أنّ التقطّع و التقطيع بمعنى واحد، و الزبر بضمّتين جمع زبور و هو الكتاب، و الكلام متفرّع على ما تقدّمه، و المعنى أنّ الله أرسل إليهم رسله تترا و الجميع اُمّة واحدة لهم ربّ واحد دعاهم إلى تقواه لكنّهم لم يأتمروا بأمره و

٣٥

قطّعوا أمرهم بينهم قطعاً و جعلوه كتباً اختصّ بكلّ كتاب حزب و كلّ حزب بما لديهم فرحون.

و في قراءة ابن عامر( زُبُراً ) بفتح الباء و هو جمع زبرة و هي الفرقة، و المعنى و تفرّقوا في أمرهم جماعات و أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون، و هي أرجح.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) قال في المفردات: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرّها و جعل مثلاً للجهالة الّتي يغمر صاحبها، انتهى. و في الآية تهديد بالعذاب، و قد تقدّمت إشارة إلى أنّ من سنّته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، و في تنكير( حِينٍ ) إشارة إلى إتيان العذاب الموعود بغتة.

( بحث روائي)

في نهج البلاغة: يا أيّها الناس إنّ الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جلّ من قائل:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ) الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.

و فيه في قوله تعالى:( إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قال: الربوة الحيرة و ذات قرار و معين الكوفة.

و في المجمع:( وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قيل: حيرة الكوفة و سوادها، و القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات: عن أبي جعفر و أبي عبد اللهعليهما‌السلام .‏

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الربوة هي دمشق الشام‏، و روي أيضاً عن ابن عساكر و غيره عن مرّة البهزيّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّها الرملة، و الروايات جميعاً لا تخلو من الضعف.

و في المجمع:( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً و أنّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:( يا

٣٦

أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) و قال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن أحمد و مسلم و الترمذيّ و غيرهم عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أُمَّةً واحِدَةً ) قال على مذهب واحد.

و فيه في قوله:( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) قال: كلّ من اختار لنفسه ديناً فهو فرح به.

٣٧

( سورة المؤمنون الآيات ٥٥ - ٧٧)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( ٥٥ ) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ  بَل لَّا يَشْعُرُونَ ( ٥٦ ) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( ٥٧ ) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ٥٨ ) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( ٦٠ ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( ٦١ ) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ  وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٦٢ ) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ( ٦٣ ) حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ( ٦٤ ) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ  إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ( ٦٥ ) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ( ٦٦ ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ( ٦٧ ) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٦٨ ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( ٦٩ ) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ  بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( ٧٠ ) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ  بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ( ٧١ ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ  وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ٧٢ ) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ

٣٨

مُّسْتَقِيمٍ ( ٧٣ ) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ( ٧٤ ) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٥ ) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( ٧٦ ) حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( ٧٧ )

( بيان‏)

الآيات متّصلة بقوله السابق:( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) فإنّه لما عقّب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين و تحزّبهم أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون أوعدهم بعذاب مؤجّل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاؤا فسيغشاهم العذاب و لا محالة.

فنبّههم في هذه الآيات أنّ توهّمهم أنّ ما مدّهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفّق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة و ما يترتّب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.

فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجّة تامّة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبّر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنوناً مختلّ القول أو سؤاله منهم خرجاً بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحقّ حتّى يأتيهم عذاب لا مردّ له.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏ ) ( نُمِدُّهُمْ ) بضمّ النون من الإمداد و المدّ و الإمداد بمعنى واحد و هو تتميم نقص الشي‏ء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل

٣٩

الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه، فقوله( نُمِدُّهُمْ ) من الإمداد المستعمل في المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنّهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.

و المعنى: أ يظنّ هؤلاء أنّ ما نعطيهم في مدّة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبّنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟

لا، بل لا يشعرون أي إنّ الأمر على خلاف ما يظنّون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو أنّ ذلك إملاء منّا و استدراج و إنّما نمدّهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) إلى آخر الآيات الخمس، يبيّن تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدّم أنّ الّذي يظنّ هؤلاء الكفّار أنّ المال و البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شي‏ء بل استدراج و إملاء و إنّما الخيرات الّتي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم الآخر الصالحين في أعمالهم.

فأفصح تعالى عن وصفهم فقال:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) ، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الآية تصفهم بأنّهم اتّخذوا الله سبحانه ربّاً يملكهم و يدبّر أمرهم، و لازم ذلك أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبّونه و هو نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الّذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته و عبادته، و قد ظهر بما مرّ من المعنى أنّ الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق ليس تكراراً مستدركاً.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453