الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119362
تحميل: 5562


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119362 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و كذا قولهم:( أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) تنزّل عمّا قبله في الاقتراح، و المعنى: و إن لم يلق إليه كنز فليكن له جنّة يأكل منها و لا يحتجّ إلى كسب المعاش و هذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً ) المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر كما قيل فهو من وضع الظاهر موضع المضمر و وصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم و الاجتراء على الله و رسوله.

و قولهم:( إِنْ تَتَّبِعُونَ ) إلخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييراً لهم و إغواء عن طريق الحقّ، و مرادهم بالرجل المسحور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدون أنّه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيّل إليه أنّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة و الكتاب.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) الأمثال الأشباه و ربّما قيل: إنّ المثل هنا بمعنى الوصف على حدّ قوله تعالى:( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) سورة محمّد: ١٥، و المحصّل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالاً لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحقّ كقولهم إنّه يأكل الطعام و يمشي في الأسواق فلا يصلح للرسالة لأنّ الرسول يجب أن يكون شخصاً غيبيّاً لا تعلّق له بالمادّة و لا أقل من عدم احتياجه إلى الأسباب العادية في تحصيل المعاش، و كقولهم: إنّه رجل مسحور.

و قوله:( فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) أي تفرّع على هذه الأمثال الّتي ضربوها لك أنّهم ضلّوا ضلالاً لا يستطيعون معه أن يردّوا سبيل الحقّ و لا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربّما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانياً، و ربّما استدبرها فصار كلّما أمعن في مسيره زاد منها بعداً، و من سمّى كتاب الله بالأساطير و وصف رسوله بالمسحور و لم يزل يزيد تعنتاً و لجاجاً و استهزاء بالحقّ كيف يرجى اهتداؤه و حاله هذه؟.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) الإشارة في قوله:( مِنْ ذلِكَ ) إلى ما اقترحوه من قولهم:( أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز و الجنّة.

٢٠١

و القصور جمع قصر و هو البيت المشيد العالي، و تنكير( قُصُوراً ) للدلالة على التعظيم و التفخيم.

و الآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنّة غير أن فيها التفاتاً من التكلّم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربّي جعل لي كذا و كذا بل عدل إلى قوله:( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ ) إلخ.

و فيه تلويح إلى أنّهم لا يستحقّون جواباً و لا يصلحون لأنّ يخاطبوا لأنّهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يذكر لهم إلّا أنّه بشر مثلهم يوحى إليه، و لم يدع أن له قدرة غيبيّة و سلطنة إلهيّة على كلّ ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الإسراء:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) إسراء: ٩٣.

فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم و عن الجواب عمّا اقترحوه، و إنّما ذكر لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ربّه الّذي اتّخذه رسولاً و أنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيراً قادر على أعظم ممّا يقترحونه فإن شاء جعل له خيراً من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار، و يجعل له قصوراً لا يبلغ وصفها واصف و ذلك خير من أن يكون له جنّة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه.

و بهذا المقدار يتحصّل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز و الجنّة، و أمّا نزول الملك إليه ليشاركه في الإنذار و يعيّنه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، و قد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) الأنعام: ٩، و قوله:( قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ) إسراء: ٩٥، و قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) الحجر: ٨، و قد تقدّم تقرير حجّة كلّ من الآيات في ضمن تفسيرها.

و من هنا يظهر أنّ المراد بجعل الجنّات و القصور لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة و ردّ قولهم فإنّ المحصّل من السياق أنّهم يقترحون عليك كيت و كيت و هم يريدون تعجيزك و تبكيتك و إن ربّك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار إلخ و هي لا محالة في الدنيا و إلّا لم ينقطع به الخصام.

٢٠٢

و بذلك يتبيّن فساد ما نقل عن بعضهم أنّ المراد جنّات الآخرة و قصورها و أفسد منه قول آخرين إنّ المراد جعل جنّات تجري من تحتها الأنهار في الدنيا و جعل القصور في الآخرة، و ربّما استونس لذلك بأنّ التعبير في الجنّات بقوله:( إِنْ شاءَ جَعَلَ ) و هو صيغة ماض مفيدة للتحقّق مناسبة للدنيا و في القصور بقوله:( يَجْعَلْ ) و هو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أنّ الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، و الاختلاف في التعبير تفنّن فيه و تجديد لصورة الكلام و الله العالم.

قوله تعالى: ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) ، إضراب عن طعنهم فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اعتراضهم عليه بأكل الطعام و المشي في الأسواق بما يتضمّن معنى التكذيب أي ما كذبوك و ردّوا نبوتك لأنّك تأكل الطعام و تمشي في الأسواق فإنّما هو كلام منهم صوري بل السبب الأصليّ في إنكارهم نبوّتك و طعنهم فيك أنّهم كذبوا بالساعة و أنكروا المعاد، و من المعلوم أن لا وقع للنبوّة مع إنكار الساعة و لا معنى للدين و الشريعة لو لا المحاسبة و المجازاة.

فالإشارة إلى السبب الأصلي بعد ذكر الاعتراض و الاقتراح و الجواب ههنا نظير ما وقع في سورة الإسراء بعد ذكر الاقتراحات ثمّ الجواب من ذكر السبب الأصليّ في قوله:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏) إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولًا ) .

و ذكر جمع من المفسّرين أنّ قوله:( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضاً آخر منها متعلّقاً بالتوحيد و الكتاب و الرسالة في قوله:( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ ) إلخ، و قوله:( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ ) إلخ.

ثمّ تشعبوا في نكتة الإضراب، فذكر بعضهم أنّ الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، و قال بعضهم: إن إنكاره أعظم، و قال بعضهم: إنّه أعجب إلى غير ذلك.

٢٠٣

و الحقّ أنّ السياق لا يساعد عليه فإنّ السياق المتعرّض لطعنهم في الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الجواب عنه لم يتمّ بعد بشهادة قوله بعد:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) إلخ، و ما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول و المجيبة عنه، و هو ظاهر.

و قوله تعالى:( وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) وضع الموصول و الصلة مكان الضمير الراجع للدلالة على أنّ الجزاء بالسعير ثابت في حقّ كلّ من كذب بالساعة هم و غيرهم فيه سواء، و على أنّ سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة.

و وضع الساعة ثانياً موضع ضميرها ليكون أنص و أصرح فهو المناسب لمقام التهديد، و السعير النار المشتعلة الملتهبة.

قوله تعالى: ( إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً ) في المفردات.

الغيظ أشدّ غضب - إلى أن قال - و التغيظ هو إظهار الغيظ، و قد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال:( سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً ) انتهى، و فيه أيضاً: الزفير تردّد النفس حتّى تنتفخ الضلوع منه، انتهى.

و الآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنّها تشتدّ إذا ظهروا لها كالأسد يزأر إذا رأى فريسته.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ) ( مَكاناً ) منصوب بتقدير في، و الثبور الويل و الهلاك.

و التقرين التصفيد بالأغلال و السلاسل و قيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين و هو بعيد من اللفظ. و المعنى و إذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار و هم مصفدون بالأغلال دعوا هنالك ثبوراً لا يوصف و هو قولهم: وا ثبوراه.

قوله تعالى: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ) الاستغاثة بالويل و الثبور نوع احتيال للتخلّص من الشدّة و إذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل و لا يجدي فيه سبب البتّة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلاً و لذا قال تعالى:( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ) إلخ، فهو كناية عن أنّ الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم. فهو في معنى قوله تعالى:( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) الطور: ١٦، و قوله حكاية عنهم:( سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) إبراهيم: ٢١.

٢٠٤

و قيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبّد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة. و هو بعيد.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ - إلى قوله -مَسْؤُلًا ) الإشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم أيّهما أرجح السعير أم جنّة الخلد؟ و السؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقّف في جوابه عاقل و هو دائر في المناظرة و المخاصمة يردّد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة و الآخر بديهي البطلان فيكلف أن يختار أحدهما: فإن اختار الحقّ فقد اعترف بما كان ينكره، و إن اختار الباطل افتضح.

و قوله:( أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) إضافة الجنّة إلى الخلد و هو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أنّ قوله بعد:( خالِدِينَ ) للدلالة على أن أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم.

و قوله:( وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) تقديره وعدها المتّقون لأن وعد يتعدّى لمفعولين و المتّقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل.

و قوله:( كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً ) أي جزاء لتقواهم و منقلباً ينقلبون إليه بما هم متّقون كما قال تعالى:( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ - إلى أن قال -وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) الحجر: ٤٨ و هو من الأقضية الّتي قضاها يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له، و يتعيّن به جزاء المتّقين و مصيرهم كما تقدّم في تفسير سورة الحجر.

و قوله:( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ ) أي إنّهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كلّ ما تتعلّق به مشيّتهم، و لا تتعلّق مشيّتهم إلّا بما يحبّونه و يشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم:( وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ) سبأ: ٥٤، و لا يحبّون و لا يشتهون إلّا ما من شأنه أن يتعلّق به الحبّ واقعاً و هو الّذي يحبّه الله لهم و هو ما يستحقّونه من الخير و السعادة ممّا يستكملون به و لا يستضرّون به لا هم و لا غيرهم فافهم ذلك.

٢٠٥

و بهذا البيان يظهر أن لهم إطلاق المشيّة يعطون ما شاؤا و أرادوا غير أنّهم لا يشاؤن إلّا ما فيه رضا ربّهم، و يندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشيّة كهذه الآية أن لازم إطلاق المشيّة أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي و القبائح و الشنائع و اللغو، و أن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنّة، و أن يريدوا نجاة بعض المخلّدين في النار، و أن يريدوا مقامات الأنبياء و المخلصين من الأولياء ممّن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.

كيف؟ و قد قال تعالى:( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) الفجر: ٢٧ - ٣٠ فهم راضون بما رضي به الله و مرضيّون لا يريدون إلّا ما يرتضيه فلا يريدون معصية و لا قبيحاً و لا شنيعاً و لا لغواً و لا كذاباً، و لا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنّة، و لا يريدون ارتفاع العذاب ممّن يريد ربّهم عذابه، و لا يشاؤن و لا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لأنّ الّذي خصّهم بها هو ربّهم و قد رضوا بما فعل و أحبّوا ما أحبّه.

و قوله تعالى:( كانَ عَلى‏ رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا ) أي كان هذا الوعد الّذي وعده المتّقون وعدا على ربّك يجب عليه أن يفي به، و إنّما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أوّل يوم، و أخبر عن ذلك بمثل قوله:( وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ - إلى أن قال -هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) ص: ٥٣.

و وجه اتّصاف هذا الوعد بكونه مسئولاً أنّ المتّقين سألوا ربّهم ذلك بلسان حالهم و استعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم:( رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ) الخ المؤمن: ٨ أو جميع هذه الأسئلة. و ذكر الطبرسي (ره) في الآية أنّ قوله:( كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً ) حال من ضمير الجنّة المقدّر في( وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) و أنّ قوله:( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) حال من( الْمُتَّقُونَ ) و هو أقرب إلى الذهن من قول غيره إنّ الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدّر.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية ضمائر الجمع الأربعة عائدة إلى الكفّار، و المراد بما يعبدون الملائكة و المعبودون من البشر و الأصنام إن كان( ما ) أعمّ من غير اُولي العقل، و إلّا فالأصنام فقط.

٢٠٦

و المشار إليهم المعنيّون بقوله:( عِبادِي هؤُلاءِ ) الكفّار و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) إلخ، جواب المعبودين عن قوله:( أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ ) إلخ و قد بدؤا بالتسبيح على ما هو من أدب العبوديّة في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.

و قوله:( ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) أي ما صحّ و ما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتّخذ من دونك من أولياء و هم الّذين عبدونا و اتّخذونا أولياء من دونك، و قوله:( وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) البور جمع بائر و هو الهالك و قيل: الفاسد.

لما نفى المعبودون المسؤلون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الإضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفّار أنفسهم مع بيان السبب الّذي أضلّهم و هو أنّهم كانوا قوماً هالكين أو فاسدين و قد متعتهم و آباءهم من أمتعة الحياة الدنيا و نعمها حتّى طال عليهم التمتيع امتحاناً و ابتلاء فتمتعوا منها و اشتغلوا بها حتّى نسوا الذكر الّذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك.

فكونهم قوماً هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا و انهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع و انصراف هممهم إلى الاشتغال بالأسباب و هو السبب لنسيانهم الذكر و العدول عن التوحيد إلى الشرك.

فتبيّن بذلك أنّ قوله:( وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) من تمام الجواب و أمّا من جعل الجملة اعتراضاً تذييليّاً مقرّراً لمضمون ما قبله و استفاد منه أنّ السبب الأصليّ في ضلالهم أنّهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، و ليس ذلك إلّا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضلّ لهم حقيقة، و إنّما نسب إلى أنفسهم أدباً.

ففيه أوّلاً: أنّه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لإيراد الاستدراك بقوله:( وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) لكونه فضلاً لا حاجة إليه.

٢٠٧

و ثانياً: أنّ نسبة البوار و الشقاء إلى ذوات الأشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم و التربية، و الحسّ و التجربة يؤيّدان ذلك و هو يناقض القول بالاختيار و الجبر معاً، أمّا مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أمّا مناقضة القول بالجبر فلأنّ الجبري يقصر العلّيّة في الواجب تعالى و ينفيه عن غيره و يناقضه نسبة الاقتضاء الضروريّ إلى ذوات الأشياء و ماهياتها.

و ثالثاً: أنّ فيه خلطاً في معنى القضاء من حيث متعلّقه فكون القضاء حتماً لا يوجب خروج الفعل الّذي تعلّق به من الاختيار إلى الإجبار فإنّ القضاء إنّما تعلّق بالفعل بحدوده و هو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنّه صادر عن اختياره فتعلّقه يوجب تأكّد كونه اختياريّاً لا أنّه يزيل عنه وصف الاختيار.

و رابعاً: أنّ قولهم: إنّ المضلّ بالحقيقة هو الله و إنّما نسبوا الضلال إلى الكفّار أنفسهم تأدّباً و بمثله صرحوا في نسبة المعاصي و الأعمال القبيحة الشنيعة و الفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنّها في عين أنّها من أفعاله تعالى إنّما تنسب إلى غيره تأدّباً كلام متهافت فإنّ الأدب كما تقدّم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب هو الهيئة الحسنة الّتي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، و بعبارة اُخرى ظرافة الفعل، و إذ كان الحقّ الصريح في الفعل غير الجميل أنّه فعل الله سبحانه و لا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حقّ و كذباً و فرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حقّ صريح و إحياء باطل؟ و أي ظرافة و لطف في الكذب و الفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله؟

و الله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب و الفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، و إذ كان جميلاً لا يفعل إلّا الجميل فما معنى التأدّب بنفي بعض أفعاله عنه؟.

قوله تعالى: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً ) إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، و أمّا كلام المعبودين فقد تمّ في قوله:( وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) .

و المعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقّهم إنّهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء و ينصرونهم، و إذ كذبوكم و نفوا عن أنفسهم الاُلوهيّة

٢٠٨

و الولاية فلا تستطيعون أنتم أيّها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، و لا تستطيعون نصراً لأنفسكم بسببهم.

و الترديد بين الصرف و النصر كأنّه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم و هو الصرف. و عدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب و هو النصر.

و قرأ غير عاصم من طريق حفص( يستطيعون) بالياء المثنّاة من تحت و هي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، و المعنى: فقد كذّبكم المعبودون بما تقولون إنّهم آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم و يتفرّع على ذلك أنّهم لا يستطيعون لكم صرفاً و لا نصراً.

و قوله:( وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) المراد بالظلم مطلق الظلم و المعصية و إن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الّذي هو الشرك، فقوله:( وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) إلخ، من قبيل وضع القانون العامّ موضع الحكم الخاصّ، و لو كان المراد به الحكم الخاصّ بهم لكان من حقّ الكلام أن يقال: و نذيقكم بما ظلمتم عذاباً كثيراً لأنّهم كلّهم ظالمون ظلم الشرك.

و النكتة فيه الإشارة إلى أنّ الحكم الإلهيّ نافذ جار لا مانع منه و لا معقّب له كأنّه قيل: و إن كذّبكم المعبودون و ما استطاعوا صرفاً و لا نصراً فالحكم العامّ الإلهيّ( مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) على نفوذه و جريانه لا مانع منه و لا معقّب له فأنتم ذائقون العذاب البتّة.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) إلى آخر الآية. أجاب تعالى عن قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) إلخ، أوّلاً بقوله:( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ ) إلخ، مع ما يلحقه من قوله:( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) إلخ، و هذا جواب ثان محصّله أنّ هذا الرسول ليس بأوّل رسول اُرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جمّاً غفيراً من المرسلين و قد كانوا على العادة البشريّة الجارية بين الناس يأكلون الطعام و يمشون في الأسواق و لم يخلق لهم جنّة يأكلون منها و لا اُلقي

٢٠٩

إليهم كنز و لا اُنزل معهم ملك، و هذا الرسول إنّما هو كأحدهم و لم يأت بأمر بدع حتّى يتوقّع منه ما لا يتوقّع من غيره.

فالآية في معنى قوله:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) الأحقاف: ٩، و قريبة المعنى من قوله:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ ) الكهف: ١١٠.

فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة و توجيهه إلى عامّة الرسل فلهم أن يعترضوا على عامّة الرسل كما وجّهه سابقوهم و قد حكى الله عنهم ذلك قال:( فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ) التغابن: ٦، و قال:( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) إبراهيم: ١٠، و قال:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) المؤمنون: ٣٣.

قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإنّ قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ ) إلخ، يعطي الخصوصيّة بلا إشكال و أمّا تعميم الاعتراض لو عمّم فيدفعه قوله تعالى:( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) إلخ، و قوله قبل ذلك:( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ) إلخ، على ما تقدّم من التقرير.

و من عجيب القول ما عن بعض المفسّرين أنّ الآية تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنّه قيل: إنّ الرسل من قبلك كانوا على الحال الّتي أنت عليها فلك فيهم اُسوة حسنة، و أمّا كونه جواباً عن تعنّتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد اُجيب عنه بقوله:( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ) هذا و هو خطأ.

و قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ ) متمّم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواصّ البشريّة من غير أن تتميّز حياتهم أو دعوتهم بخواصّ سماويّة تورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الإلهيّة كإنزال ملك عليهم أو إلقاء كنز إليهم أو خلق جنّة لهم فكأنّه قيل: و السبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنّا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميّز بهم أهل

٢١٠

الريب من أهل الإيمان و المتّبعون للأهواء الّذين لا يصبرون على مرّ الحقّ من طلّاب الحقّ الصابرين في طاعة الله و سلوك سبيله.

و بما مرّ يتبيّن أوّلاً: أنّ المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه و هي الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند المصائب.

و ثانياً: أنّ قوله:( وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) من وضع الحكم العامّ موضع الخاصّ، و المطلوب الإشارة إلى جعل الرسل - و حالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس.

و قوله تعالى:( وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) أي عالماً بالصواب في الاُمور فيضع كلّ أمر في الموضع المناسب له و يجري بذلك أتمّ النظام فهدف النظام الإنسانيّ كمال كلّ فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعدّ له و يستحقّه و لازمه بسط نظام الامتحان بينهم و لازمه ارتفاع التمايز بين الرسل و غيرهم.

و في الجملة التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة، و النكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق:( تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ ) إلخ.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عبّاس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أباسفيان بن حرب و النضر بن الحارث و أبا البختريّ و الأسود بن المطّلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أباجهل بن هشام و عبدالله بن اُميّة و اُميّة بن خلف و العاصي بن وائل و نبيه بن الحجّاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد فكلّموه و خاصموه حتّى تعذروا منه، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلّموك.

قال: فجاءهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا له: يا محمّد إنّا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، و إن كنت تطلب الشرف فنحن نسوّدك، و إن كنت تطلب ملكاً ملّكناك.

٢١١

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بي ممّا تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، و لا الشرف فيكم، و لا الملك عليكم و لكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، و أنزل عليّ كتاباً، و أمرني أن أكون لكم بشيراً و نذيراً فبلّغتكم رسالة ربّي و نصحت لكم فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني و بينكم.

قالوا: يا محمّد فإن كنت غير قابل منّا شيئاً عرضناه عليك فسل لنفسك و سل ربّك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول و يراجعنا عنك و سله أن يجعل لك جناناً و قصوراً من ذهب و فضّة يغنيك عمّا تبتغي فإنّك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه حتّى نعرف فضلك و منزلتك من ربّك إن كنت رسولاً كما تزعم.

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالّذي يسأل ربّه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكنّ الله بعثني بشيراً و نذيراً.

فأنزل الله في قولهم ذلك( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ - إلى قوله -وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، و لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعداً من بين عيني جهنّم. قالوا: يا رسول الله و هل لجهنّم من عين؟ قال: أ ما سمعتم الله يقول:( إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) فهل تراهم إلّا بعينين؟

أقول: و رواه أيضاً عن رجل من الصحابة، و في حجّة الخبر خفاء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي اُسيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله:( وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ ) قال: و الّذي نفسي بيده إنّهم ليستكرهون في النّار كما يستكره الوتد في الحائط.

٢١٢

( سورة الفرقان الآيات ٢١ - ٣١)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا  لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ( ٢١ ) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ( ٢٢ ) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ( ٢٣ ) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ( ٢٤ ) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ( ٢٥ ) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ  وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ( ٢٦ ) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ( ٢٧ ) يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ( ٢٨ ) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي  وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ( ٢٩ ) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ( ٣٠ ) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ  وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ( ٣١ )

( بيان)

تحكي الآيات اعتراضاً آخر من المشركين على رسالة الرسول يردّون به عليه محصّله أنّه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلّمه وحياً لكان الرسول و سائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدّعيه من الرسالة حقّاً لكنّا أو كان البعض منّا يرى ما يدّعي رؤيته و يجد من نفسه ما يجده.

و هذا الاعتراض ممّا سبقهم إليه اُمم الأنبياء الماضين كما حكاه الله:( قالُوا

٢١٣

إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) إبراهيم: ١٠، و قد مرّ تقريبه مراراً.

و هذا مع ما تقدّم من اعتراضهم بقولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ) إلخ، بمنزلة حجّة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين و محصّل تقريره أنّ الرسالة الّتي يدّعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماويّة و اتّصالاً غيبيّاً لا حظّ فيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو يجعل له جنّة يأكل منها، و إن كانت خاصّة من شأن البشر بما هو بشر أن ينالها يتّصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا؟ فلو لا اُنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا.

و قد أجاب الله سبحانه عن الشقّ الأوّل بما تقدّم تقريره، و عن الثاني بأنّهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيويّة، و الجواب في معنى قوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) الحجر: ٨ و سيجي‏ء تقريره، و في الآيات إشارة إلى ما بعد الموت و يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) قال في مجمع البيان: الرجاء ترقّب الخير الّذي يقوى في النفس وقوعه و مثله الطمع و الأمل، و اللقاء المصير إلى الشي‏ء من غير حائل، و العتوّ الخروج إلى أفحش الظلم. انتهى.

المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمّي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقى في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الإلهيّة كما قال تعالى:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .

فالمراد بعدم رجائهم اللقاء إنكارهم للمعاد و تكذيبهم بالساعة و لم يعبّر عنه بتكذيب الساعة و نحوه كما عبّر في الآيات السابقة لمكان ذكرهم مشاهدة الملائكة و رؤية الربّ تعالى و تقدّس ففيه إشارة إلى أنّهم إنّما قالوا ما قالوا و طلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الربّ ليأسهم من اللقاء و زعمهم استحالة ذلك فقد ألزموا بما هو مستحيل على زعمهم.

فقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) اعتراض منهم على رسالة

٢١٤

الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر:( لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الحجر: ٧، و تقرير الحجّة كما تقدّمت الإشارة إليه أنّه لو كانت الرسالة - و هي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - ممّا يتيسّر للبشر نيله و نحن بشر أمثال هذا المدعيّ للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة و لا نرى ربّنا؟ فهلّا اُنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا.

و يؤيّد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة و رؤية الربّ من غير أن يقولوا: لو لا اُنزل علينا الملائكة فيصدّقوك أو نرى ربّنا فيصدّقك. على أنّهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيراً و فيه تصديقه.

و في التعبير عنه تعالى بلفظ ربّنا نوع تهكّم منهم فإنّ المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربّاً لهم بل كان عندهم أنّ أربابهم ما كانوا يعبدونهم و الله سبحانه ربّ الأرباب فكأنّهم قالوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك ترى أنّ الله ربّك و قد حنّ إليك فخصّك بالمشافهة و التكليم، و أنّه ربّنا، فليحنّ إلينا و ليشافهنا بالرؤية كما فعل بك.

على أنّهم إنّما عدلوا عن عبادة أرباب الأصنام و هم الملائكة و روحانيّات الكواكب و نحوهم إلى عبادة الأصنام و التماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة و التقرّب بالقرابين.

و قوله تعالى:( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) أي اُقسم لقد طلبوا الكبر لأنفسهم بغير حقّ و طغوا طغياناً عظيماً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) في المفردات: الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى:( وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ) ( وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أنّ الكفّار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنّاً أنّ ذلك ينفعهم. انتهى.

و عن الخليل كان الرجل يرى الرجل الّذي يخاف منه القتل في الجاهليّة

٢١٥

في الأشهر الحرم فيقول: حجراً محجوراً أي حرام عليك التعرّض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشرّ و عن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه و بينهما ترة.

فقوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) ( يَوْمَ ) - على ما قيل - ظرف لقوله:( لا بُشْرى) و قوله:( يَوْمَئِذٍ ) تأكيد له، و المراد بقوله:( لا بُشْرى‏ ) نفي للجنس، و المراد بالمجرمين كلّ متّصف بالإجرام غير أنّ مورد الكلام إجرام الشرك و المجرمون هم الّذين لا يرجون اللقاء، و قد تقدّم ذكرهم و المعنى: يوم يرى هؤلاء الّذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين و هم منهم.

و قوله:( وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة و هم قاصدوهم بالعذاب: حجراً محجوراً أي لنكن في معاذ منكم، و قيل: ضمير الجمع للملائكة، و المعنى: و يقول الملائكة للمشركين حراماً محرّماً عليكم سماع البشرى، أو حراماً محرّماً عليكم أن تدخلوا الجنّة أو حراماً محرّماً عليكم أن تتعوّذوا من العذاب إلى شي‏ء فلا معاذ لكم هذا، و المعنى: الأوّل أقرب إلى السياق.

و الآية في موضع الجواب عن قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ) و قد أعرضت عن جواب قولهم:( أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) فإنّ الرؤية الّتي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصريّة الّتي تستلزم التجسّم و المادّيّة تعالى عن ذلك، و أمّا الرؤية بعين اليقين و هي الرؤية القلبيّة فلم يكونوا ممّن يفقه ذلك و على تقديره ما كانوا يقصدونه.

و أمّا توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة و رؤيتهم فقد اُخذ أصل الرؤية مفروغاً منه مسلّماً أنّ هناك يوماً يرون فيه الملائكة غير أنّه وضع الإخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الإخبار عن أصل رؤيتهم للإشارة إلى أنّ طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجري على نفعهم فإنّهم لا يرون الملائكة إلّا يوم يشافهون عذاب النار و ذلك بعد تبدّل النشأة الدنيويّة من النشأة الاُخرى كما أشار إليه في موضع آخر

٢١٦

بقوله:( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) الحجر: ٨، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب و هم يحسبون أنّهم يعجزون الله و رسوله بالحجّة.

و أمّا ما هو هذا اليوم الّذي اُشير إليه بقوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) فقد ذكر المفسّرون أنّه يوم القيامة لكنّ الّذي يعطيه السياق مع ما ينضمّ إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت و ما بعده كقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ) الآية الأنعام: ٩٣، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) النساء: ٩٧ إلى غير ذلك من الآيات.

أنّ المراد به الموت و هو المسمّى في عرف القرآن برزخاً فإنّ في الآيات دلالة قاطعة على أنّهم يرون الملائكة و يشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، و المتعيّن - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أوّل يوم يراهم بما يسوؤه و هو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة و قوله لهم: حجراً محجوراً، و قد رآهم قبل ذلك و عذّب بأيديهم أمداً بعيداً و هو ظاهر.

فالظاهر أنّ الآية و الآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، و إحباط أعمالهم فيه، و حال أهل الجنّة الّتي فيه.

قوله تعالى: ( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) قال الراغب في المفردات: العمل كلّ فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخصّ من الفعل لأنّ الفعل قد ينسب إلى الحيوانات الّتي يقع منها فعل بغير قصد و قد ينسب إلى الجمادات، و العمل قلّما ينسب إلى ذلك، و لم يستعمل العمل في الحيوانات إلّا في قولهم: البقر العوامل. انتهى.

و قال: الهباء دقاق التراب و ما انبثّ في الهواء فلا يبدو إلّا في أثناء ضوء الشمس في الكوّة. انتهى. و النثر التفريق.

٢١٧

و المعنى: و أقبلنا إلى كلّ عمل عملوه - و العمل هو الّذي يعيش به الإنسان بعد الموت - ففرّقناه تفريقاً لا ينتفعون به كالهباء المنثور، و الكلام مبنيّ على التمثيل مثّل به استيلاء القهر الإلهيّ على جميع أعمالهم الّتي عملوها لسعادة الحياة و إبطالها بحيث لا يؤثّر في سعادة حياتهم المؤبّدة شيئاً بتشبيهه بسلطان غلب عدوّه فحلّ داره بعد ما ظهر عليه فخرّب الدار و هدم الآثار و أحرق المتاع و الأثاث فأفنى منه كلّ عين و أثر.

و لا منافاة بين ما تدلّ عليه الآية من حبط الأعمال يومئذ و بين ما تدلّ عليه آيات اُخر أنّ أعمالهم اُحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم و إجرامهم فإنّ معنى الإحباط بعد الموت ظهور الحبط لهم بعد ما كان خفيّاً في الدنيا عليهم و قد تقدّم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع.

قوله تعالى: ( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا ) المراد بأصحاب الجنّة المتّقون فقد تقدّم قوله قبل آيات:( قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) ، و المستقرّ و المقيل اسماً مكان من الاستقرار و معناه ظاهر و من القيلولة و هي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - و الجنّة لا نوم فيه.

و كلمتا( خَيْرٌ ) و( أَحْسَنُ ) منسلخان عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الروم: ٢٧، و قوله:( ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ ) الجمعة: ١١ كذا قيل، و ليس يبعد أن يقال: إنّ( أفعل) أو ما هو في معناه كخير بناء على ما رجّحنا أنّه صفة مشبهة تدلّ على التفضيل بمادّته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل و العناية في ذلك أنّهم لما اختاروا الشرك و الاجرام و استحسنوا ذلك و لازمه النار في الآخرة فقد أثبتوا لها خيريّة و حسناً فقوبلوا بأنّ الجنّة و ما فيها خير و أحسن حتّى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار و أن يختاروا الإيمان على الكفر على أيّ حال، و قيل: إنّ التفضيل مبنيّ على التهكّم.

٢١٨

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الظاهر أنّ الظرف منصوب بفعل مقدّر، و المعنى و اذكر يوم كذا و كذا فإنّهم يرون الملائكة فيه أيضاً و هذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد:( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ) ، و قيل في متعلّق الظرف وجوه اُخر لا فائدة في نقلها.

و( تَشَقَّقُ ) أصله تتشقّق من باب التفعّل من الشقّ بمعنى الخرم و التشقّق التفتّح، و الغمام السحاب سمّي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغمّ بمعنى الستر.

و الباء في قوله:( تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ) إمّا للملابسة و المعنى تتفتّح السماء متلبّسة بالغمام أي متغيّمة، و إمّا بمعنى عن و المعنى تتفتّح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشقّقه.

و كيف كان فظاهر الآية أنّ السماء تنشقّ يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها و نزّل منها الملائكة الّذين هم سكّانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) الحاقّة: ١٧.

و ليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمّة الجهل و بروز عالم السماء و هو من الغيب و بروز سكّانها و هم الملائكة و نزولهم إلى العالم الأرضيّ موطن الإنسان.

و قيل: المراد أنّ السماء يشقّها الغمام و هو الّذي يذكره في قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) البقرة: ٢١٠، و قد مرّ كلام في تفسير الآية.

و التعبير عن الواقعة بالتشقّق دون التفتّح و ما يماثله للتهويل، و كذا التنوين في قوله:( تَنْزِيلًا ) للدلالة على التفخيم.

قوله تعالى: ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) أي الملك المطلق يومئذ حقّ ثابت للرحمن و ذلك لبطلان الأسباب و زوال ما بينها و بين مسبّباتها من الروابط المتنوّعة، و قد تقدّم غير مرّة أنّ المراد بذلك في يوم

٢١٩

القيامة هو ظهور أنّ الملك و الحكم لله و الأمر إليه وحده، و أن لا استقلال في شي‏ء من الأسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة و رجوع كلّ شي‏ء إليه تعالى.

و قوله:( وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الأسباب و إخلادهم إلى الحياة الأرضيّة البائدة الداثرة و انقطاعهم عن السبب الحقيقيّ الّذي هو مالك الملك بالحقيقة و عن حياتهم الباقية المؤبّدة فيصبحون اليوم و لا ملاذ لهم و لا معاذ.

فعلى هذا يكون الملك مبتدأ و الحقّ خبره عرّف لإفادة الحصر، و يومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدإ، و فائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإنّ حقيقة الملك لله سبحانه دائماً، و إنّما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوريّ عن الأشياء فيه و ثبوته لها في غيره.

و قال بعضهم: الملك بمعنى المالكيّة و يومئذ متعلّق به و الحقّ خبر الملك، و قيل: يومئذ متعلّق بمحذوف هو صفة للحقّ، و قيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، و قيل: يومئذ هو الخبر للملك و الحقّ صفة للمبتدإ، و هذه أقوال رديّة لا جدوى لها.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ) قال الراغب في المفردات: العضّ أزم بالأسنان، قال تعالى:( عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ ) و( وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ) و ذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك. انتهى. و لذلك يتمنّى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم:( يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ) .

و الظاهر أنّ المراد بالظالم جنسه و هو كلّ من لم يهتد بهدى الرسول، و كذا المراد بالرسول جنسه و إن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الاُمّة و الرسول على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المعنى: و اذكر يوم يندم الظالم ندماً شديداً قائلاً من فرط ندمه يا ليتني

٢٢٠