الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129271 / تحميل: 6600
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

اتّخذت مع الرسول سبيلاً مّا إلى الهدى أيّ سبيل كانت.

قوله تعالى: ( يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا ) تتمّة تمنّي الظالم النادم على ظلمه، و فلان كناية عن العلم المذكّر و فلانة عن العلم المؤنّث قال الراغب: فلان و فلانة كنايتان عن الإنسان و الفلان و الفلانة - باللّام - كنايتان عن الحيوانات. انتهى.

و المعنى: يا ويلتي - يا هلاكي - ليتني لم أتّخذ فلاناً - و هو من اتّخذه صديقاً يشاوره و يسمع منه و يقلّده - خليلاً.

و ذكر بعضهم: أنّ فلاناً في الآية كناية عن الشيطان، و كأنّه نظراً إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للإنسان غير أنّ السياق لا يساعد عليه.

و من لطيف التعبير قوله في الآية السابقة:( يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ ) إلخ و في هذه الآية:( يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ ) إلخ فإنّ في ذلك تدرّجاً لطيفاً في النداء و الاستغاثة فحذف المنادي في الآية السابقة يلوّح إلى أنّه يريد أيّ منج ينجيه ممّا هو فيه من الشقاء و ذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدلّ على أنّه بان له أن لا يخلّصه من العذاب شي‏ء قطّ إلّا الهلاك و الفناء، و لذلك نادى الويل.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا ) تعليل للتمنّي السابق و المراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماويّة و ينطبق بحسب المورد على القرآن.

و قوله:( وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا ) من كلامه تعالى و يمكن أن يكون تتمّة لكلام الظالم ذكره تأسّفاً و تحسّراً.

و الخذلان بضمّ الخاء ترك من يظنّ به أن ينصر نصرته، و خذلانه أنّه يعد الإنسان أن ينصره على كلّ مكروه إن تمسّك بالأسباب و نسي ربّه فلمّا تقطّعت الأسباب بظهور القهر الإلهيّ يوم الموت جزئيّاً و يوم القيامة كلّيّاً خذله و سلّمه إلى الشقاء، قال تعالى:( كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ ) الحشر: ١٦ و قال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة:( ما أَنَا

٢٢١

بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) إبراهيم: ٢٢.

و في هذه الآيات الثلاث إشعار بل دلالة على أنّ السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الأهواء و أولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) المراد بالرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقرينة ذكر القرآن، و عبّر عنه بالرسول تسجيلاً لرسالته و إرغاماً لاُولئك القادحين في رسالته و كتابه و الهجر بالفتح فالسكون الترك.

و ظاهر السياق أنّ قوله:( وَ قالَ الرَّسُولُ ) إلخ معطوف على( يَعَضُّ الظَّالِمُ ) و القول ممّا يقوله الرسول يوم القيامة لربّه على طريق البثّ و الشكوى و على هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقّق الوقوع و المراد بالقوم عامّة العرب بل عامّة الاُمّة باعتبار كفرتهم و عصاتهم.

و أمّا كونه استئنافاً أو عطفاً على قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ) و كون ما وقع بينهما اعتراضاً فبعيد من السياق و عليه فلفظة قال على ظاهر معناها و المراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه.

و نظيره في الضعف قول بعضهم: إنّ المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان. و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً ) أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوّاً لك كذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً منهم أي هذه من سنّتنا الجارية في الأنبياء و اُممهم فلا يسوأنّك ما تلقى من عداوتهم و لا يشقّنّ عليك ذلك، ففيه تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و معنى: جعل العدوّ من المجرمين أنّ الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحقّ و أبغضوا الداعي إليه و هو النبيّ فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً ) معناه - على ما يعطيه السياق -

٢٢٢

لا يهولنّك أمر عنادهم و عداوتهم و لا تخافنّهم على اهتداء الناس و نفوذ دينك فيهم و بينهم فحسبك ربّك كفى به هادياً يهدي من استحقّ من الناس الهداية و استعدّ له و إن كفر هؤلاء و عتوا فليس اهتداء الناس منوطاً باهتدائهم و كفى به نصيراً ينصرك و ينصر دينك الّذي بعثك به و إن هجره هؤلاء و لم ينصروك و لا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم.

فظهر أنّ صدر الآية مسوق لتسلّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذيله للاستغناء عن المجرمين من قومه، و في قوله:( وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ ) حيث اُخذ بصفة الربوبيّة: مضافة إلى ضمير الخطاب و لم يقل: و كفى بالله تأييد له.

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن كتاب الجنّة و النار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه و دبره و قيل:( أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) و ذلك قوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) فيقولون حراماً عليكم الجنّة محرّماً.(١)

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثمّ يذهب فلا يبقى منه شي‏ء فجعل الله أعمالهم كذلك.

و فيه، أخرج سمويه في فوائده عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتّى إذا جي‏ء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثمّ قذفهم في النار.

قال سالم: بأبي و اُمّي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلّون

____________________

(١) محرّمة ظ.

٢٢٣

و يصومون و يأخذون سنّة من الليل و لكن كانوا إذا عرض عليهم شي‏ء من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم‏

و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) قال: أما و الله لقد كانت أعمالهم أشدّ بياضاً من القباطي و لكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.

أقول: و هذا المعنى مرويّ فيه و في غيره عنه و عن أبيهعليهما‌السلام بغير واحد من الطرق.

و في الكافي، أيضاً بإسناده عن عبد الأعلى و بإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في حديث وضع المؤمن في قبره. ثمّ يفسحان يعني الملكين في قبره مدّ بصره ثمّ يفتحان له باباً إلى الجنّة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم فإنّ الله يقول:( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، و تشير بقوله: و يقال له: نم إلخ إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبّه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم من طريق الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاماً فدعا إليه أهل مكّة كلّهم و كان يكثر مجالسة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يعجبه حديثه و غلب عليه الشقاء.

فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ثمّ دعا رسول اللهعليه‌السلام إلى طعامه فقال: ما أنا بالّذي آكل من طعامك حتّى تشهد أن لا إله إلّا الله و أنّي رسول الله فقال: أطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالّذي أفعل حتّى تقول، فشهد بذلك و طعم من طعامه.

فبلغ ذلك اُبيّ بن خلف فأتاه فقال أ صبوت يا عقبة؟. - و كان خليله - فقال: لا و الله ما صبوت و لكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالّذي

٢٢٤

أرضى عنك حتّى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ألقاك خارجاً من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف فاُسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً و لم يقتل من الاُسارى يومئذ غيره.

أقول: و قد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى:( يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ) ، أنّ السبيل هو عليعليه‌السلام و هو من بطن القرآن أو من قبيل الجري و ليس من التفسير في شي‏ء.

٢٢٥

( سورة الفرقان الآيات ٣٢ - ٤٠)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ( ٣٢ ) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ( ٣٣ ) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ( ٣٤ ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ( ٣٥ ) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ( ٣٦ ) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً  وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٣٧ ) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا ( ٣٨ ) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ  وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ( ٣٩ ) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ  أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا  بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ( ٤٠ )

( بيان)

نقل لطعن آخر ممّا طعنوا به في القرآن و هو أنّه لم ينزل جملة واحدة و الجواب عنه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) المراد بهم مشركوا العرب الرادّون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكيّ بقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ) إلخ.

٢٢٦

و قوله:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) قد تقدّم أنّ الإنزال و التنزيل إنّما يفترقان في أنّ الإنزال يفيد الدفعة و التنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أنّ التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لإدّائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرّق القرآن جملة واحدة و التفريق ينافي الجمليّة بل المعنى هلّا اُنزل القرآن عليه دفعة غير مفرّق كما اُنزل التوراة و الإنجيل و الزبور.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ نزول التوراة مثلاً كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح و القرآن إنّما كان ينزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتلقّي من عند الله بتوسّط الروح الأمين كما يتلقّى السامع الكلام من المتكلّم، و الدفعة في إيتاء كتاب مكتوب و تلقّيه تستلزم المعيّة بين أوّله و آخره لكنّه إذا كان بقراءة و سماع لم يناف التدريج بين أجزائه و أبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارئ و يتلقّاه السامع آخذاً من أوّله إلى آخره شيئاً فشيئاً.

و هؤلاء إنّما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفيّة نزول الوحي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تلقّي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أنّ الّذي يتلوه ملك الوحي على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة بعد سورة و آية بعد آية و يتلقّاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرّة واحدة و ليتلقّه هو مرّة واحدة و لو دامت القراءة و التلقّي مدّة من الزمان، و هذا المعنى أوفق بالتنزيل الدالّ على التدريج.

و أمّا كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتاباً مكتوباً دفعة كما نزلت التوراة و كذا الإنجيل و الزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك. على أنّهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماويّة حتّى يسلّموا نزولها دفعة.

و كيف كان فقولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنّه ليس بكتاب سماويّ نازل من

٢٢٧

عندالله سبحانه إذ لو كان كتاباً سماويّاً متضمّناً لدين سماويّ يريده الله من الناس و قد بعث رسولاً يبلّغه الناس لكان الدين المضمّن فيه المراد من الناس ديناً تامّة أجزاؤه معلومة اُصوله و فروعه مجموعة فرائضه و سننه و كان الكتاب المشتمل عليه منظّمة أجزاؤه، مركّبة بعضه على بعض.

و ليس كذلك بل هو أقوال متفرّقة يأتي بها في وقائع مختلفة و حوادث متشتّتة ربّما وقع واقع فأتى عند ذلك بشي‏ء من الكلام مرتبط به يسمّى جملها المنضودة آيات إلهيّة ينسبها إلى الله و يدّعي أنّها قرآن منزّل إليه من عندالله سبحانه و ليس إلّا أنّه يتعمّل حيناً بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولاً يفتريه على الله، و ليس إلّا رجلاً صابئاً ضلّ عن السبيل. هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض و الجواب.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ) الثبات ضدّ الزوال، و الإثبات و التثبيت بمعنى واحد و الفرق بينهما بالدفعة و التدريج، و الفؤاد القلب و المراد به كما مرّ غير مرّة الأمر المدرك من الإنسان و هو نفسه، و الترتيل - كما قالوا - الترسيل و الإتيان بالشي‏ء عقيب الشي‏ء، و التفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أنّ الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول.

و ظاهر السياق أنّ قوله:( كَذلِكَ ) متعلّق بفعل مقدّر يعلّله قوله:( لِنُثَبِّتَ ) و يعطف عليه قوله:( وَ رَتَّلْناهُ ) و التقدير نزّلناه أي القرآن كذلك أي نجوماً متفرّقة لا جملة واحدة لنثبّت به فؤادك، و قول بعضهم: إنّ( كَذلِكَ ) من تمام قول الّذين كفروا سخيف جدّاً.

فقوله:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ) بيان تامّ لسبب تنزيل القرآن نجوماً متفرّقة و بيان ذلك أنّ تعليم علم من العلوم و خاصّة ما كان منها مرتبطاً بالعمل بإلقاء المعلّم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلّم حتّى تتمّ فصوله و أبوابه إنّما يفيد حصولاً ما لصور مسائله عند المتعلّم و كونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس

٢٢٨

الحاجة إليها، و أمّا استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها و تترتّب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة و الإشراف على العمل و حضور وقته.

ففرق بيّن بين أن يلقي الطبيب المعلّم مثلاً مسألة طبّيّة إلى متعلّم الطبّ إلقاء فحسب و بين أن يلقيها إليه و عنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء و هو يعالجه فيطابق بين ما يقول و ما يفعل.

و من هنا يظهر أنّ إلقاء أيّ نظرة علميّة عند مسيس الحاجة و حضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه و تربيته أثبت في النفس و أوقع في القلب و أشدّ استقراراً و أكمل رسوخاً في الذهن و خاصّة في المعارف الّتي تهدي إليها الفطرة فإنّ الفطرة إنّما تستعدّ للقبول و تتهيّؤ للإذعان إذا أحسّت بالحاجة.

ثمّ إنّ المعارف الّتي تتضمّنها الدعوة الإسلاميّة الناطق بها القرآن إنّما هي شرائع و أحكام عمليّة و قوانين فرديّة و اجتماعيّة تسعد الحياة الإنسانيّة مبنيّة على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلّيّة الإلهيّة الّتي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أنّ التوحيد ينتهي بالتركيب إليها ثمّ إلى الأخلاق و الأحكام العمليّة.

فأحسن التعليم و أكمل التربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزّعة على الحوادث الواقعة المتضمّنة لمساس أنواع الحاجات مبيّنة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحقّ و الخلق الفاضل و الحكم العمليّ المشروع مع ما يتعلّق بها من أسباب الاعتبار و الاتّعاظ بين قصص الماضين و عاقبة أمر المسرفين و عتوّ الطاغين و المستكبرين.

و هذه سبيل البيانات القرآنيّة المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) إسراء: ١٠٦ و هذا هو المراد بقوله تعالى:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ) و الله أعلم.

نعم يبقى عليه شي‏ء و هو أنّ تفرّق أجزاء التعليم و إلقاءها إلى المتعلّم على

٢٢٩

التمهّل و التؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللّاحق و سقوط الهمّة و العزيمة عن ضبط المطالب ففي اتّصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمدادا للذهن و تهيئة للفهم على التفقّه و الضبط لا يحصل بدونه البتّة.

و قد أجاب تعالى عنه بقوله:( وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) فمعناه على ما يعطيه السياق أنّ هذه التعليمات على نزولها نجوماً متفرّقة عقّبنا بعضها ببعض و نزّلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط و لا تنقطع آثار الأبعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور و آيات نازلة بعضها إثر بعض مترتّبة مرتّلة.

على أنّ هناك أمراً آخر و هو أنّ القرآن كتاب بيان و احتجاج يحتجّ على المؤالف و المخالف فيما اُشكل عليهم أو استشكلوه على الحقّ و الحقيقة بالتشكيك و الاعتراض، و يبيّن لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف و الحكم الواقعة في الملل و الأديان السابقة و ما فسّرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيّون في الله تعالى و الملائكة و الجنّ و قدّيسي البشر و ما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء و ما بثّوه من معارف المبدإ و المعاد، إلى ما بيّنه القرآن في ذلك.

و هذا النوع من الاحتجاج و البيان لا يستوفي حقّه إلّا بالتنزيل التدريجيّ على حسب ما كان يبدو من شبههم و يرد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسائلهم تدريجاً، و يورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئاً بعد شي‏ء و حيناً بعد حين.

و إلى هذا يشير قوله تعالى:( وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ) - و المثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحقّ أو أساؤا تفسيره إلّا جئناك بما هو الحقّ فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإنّ ما أتوا به إمّا باطل محض فالحقّ يدفعه أو حقّ محرّف عن موضعه فالتفسير الأحسن يردّه إلى مستواه و يقوّمه.

فتبيّن بما تقدّم أنّ قوله:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ - إلى قوله -وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ) جواب عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) بوجهين:

٢٣٠

أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجيّ.

و ثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس و هو بيان الحقّ فيما يوردون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المثل و الوصف الباطل، و التفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحقّ المغيّر عن وجهه المحرّف عن موضعه.

و يلحق بهذا الجواب قوله تلواً:( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ إِلى‏ جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) فهو كالمتمّم للجواب على ما سيجي‏ء بيانه.

و تبيّن أيضاً أنّ الآيات الثلاث مسوقة جميعاً لغرض واحد و هو الجواب عمّا أوردوه من القدح في القرآن هذا، و المفسّرون فرّقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ) جواباً عن قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) ، و قوله:( وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) خبراً عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير ارتباط بما تقدّمه.

و جعلوا قوله:( وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ) إلخ، كالبيان لقوله:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ) و إيضاحاً لكيفيّة تثبيت فؤادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و جعله بعضهم ناظراً إلى خصوص المثل الّذي ضربوه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّ الله بيّن الحقّ فيه و جاء بأحسن التفسير و قيل غير ذلك، و جعلوا قوله:( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ) الآية أجنبيّاً عن غرض الآيتين السابقتين بالكلّيّة.

و التأمّل فيما قدّمناه في توجيه مضمون الآيتين الاُوليين و ما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، و يظهر أنّ الآيات الثلاث جميعاً ذات غرض واحد و هو الجواب عمّا أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجيّ.

و ذكروا أيضاً أنّ الجواب عن قدحهم و اقتراحهم بقوله:( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ) جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد و أنّ هناك فوائد اُخرى غير ما ذكره الله تعالى، و قد أوردوا فوائد اُخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية:

٢٣١

منها: أنّ الكتب السماويّة السابقة على القرآن إنّما اُنزلت جملة واحدة لأنّها اُنزلت على أنبياء يكتبون و يقرؤن فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة و القرآن إنّما نزّل على نبيّ اُمّيّ لا يكتب و لا يقرأ و لذلك نزّل متفرّقاً.

و منها أنّ الكتب المتقدّمة لم يكن شاهد صحّتها و دليل كونها من عندالله تعالى إعجازها، و أمّا القرآن فبيّنة صحّته و آية كونه من عندالله تعالى نظمه المعجز الباقي على مرّ الدهور المتحقّق في كلّ جزء من أجزائه المقدّر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدّي.

و لا ريب أنّ مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، و من ضرورة تجدّدها تجدّد ما يطابقها.

و منها: أنّ في القرآن ناسخاً و منسوخاً و لا يتيسّر الجمع بينهما لمكان المضادّة و المنافاة، و فيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها و فيه ما هو إنكار لبعض ما كان، و فيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، و فيه ما فيه إخبار عمّا سيأتي في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالإخبار عن فتح مكّة و دخول المسجد الحرام، و الإخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرّقاً.

و هذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة:

أمّا الوجه الأوّل فكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمّيّاً لا يقرأ و لا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، و قد كان معه من يكتبه و يحفظه. على أنّ الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان و يحفظ الذكر النازل عليه كما قال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) الأعلى: ٦، و قال:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩، و قال:( إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة: ٤٢، و قدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجاً سواء.

و أمّا الوجه الثاني: فكما أنّ الكلام المفرّق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه اُموراً إن اشتمل عليها الكلام كان بليغاً و إلّا فلا، كذلك الكلام الجمليّ و إن كان

٢٣٢

كتاباً يقارنه بحسب فصوله و أجزائه أحوال لها اقتضاءات إن طابقها كان بليغاً و إلّا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة.

و أمّا الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالاً للحكم السابق و إنّما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين و المنسوخ و الناسخ بالإشارة إلى أنّ الحكم الأوّل محدود موقّت إن اقتضت المصلحة ذلك.

و من الممكن أيضاً أن يقدّم بيان المسائل الّتي سيسألون عنها حتّى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال و لو سألوا عن شي‏ء منها اُرجعوا إلى سابق البيان، و كذا من الممكن أن يقدّم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشي‏ء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر.

على أنّ تفريق النزول لبعض هذه الحكم و المصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.

فالحقّ أنّ البيان الواقع في الآية بيان تامّ جامع لا حاجة معه إلى شي‏ء من هذه الوجوه البتّة.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ إِلى‏ جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) اتّصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أنّ هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكروه واصفين له بسوء المكانة و ضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكى من قولهم في القرآن صوناً لمقام النبوّة أن يذكر بسوء، و إنّما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الردّ عليهم بطريق التكنية.

فقوله:( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ إِلى‏ جَهَنَّمَ ) كناية عن الّذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما وصفوا، و الكناية أبلغ من التصريح.

فالمراد أنّ هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شرّ مكاناً و أضلّ سبيلاً لا أنت فالكلام مبنيّ على قصر القلب، و لفظتا( شَرٌّ ) و( أَضَلُّ ) منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكّم و نحوه.

٢٣٣

و قد كنّى عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنّم و هو وصف من أضلّه الله من المتعنّتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى:( وَ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ) الخ إسراء: ٩٨.

ففي هذه التكنية مضافاً إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشرّ المكان و أليم العذاب و أيضاً هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضلّ من أن يسير الإنسان على وجهه و هو لا يشعر بما في قدّامه، و هذا الضلال الّذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنّم ممثّل للضلال الّذي كان لهم في الدنيا فكأنّه قيل: إنّ هؤلاء هم الضالّون فإنّهم محشورون على وجوههم، و لا يبتلي بذلك إلّا من كان ضالّاً في الدنيا.

و قد اختلفت كلماتهم في وجه اتّصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، و ذكر في مجمع البيان، أنّهم قالوا لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين: إنّهم شرّ خلق الله فقال الله تعالى:( أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) و ذكر بعضهم أنّها متّصلة بقوله قبل آيات:( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا ) و قد عرفت ما يلوح من السياق.

و قد اختلفوا أيضاً في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: و هو على ظاهره و هو الانتقال مكبوباً، و قيل: هو السحب.

و قيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوساً و هو خلاف المشي على الاستقامة و فيه أنّ الأولى حينئذ التعبير بالحشر على الرؤس لا على الوجوه، و قد قال تعالى في موضع آخر و هو كتوصيف ما يجري بعد هذا الحشر:( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ ) القمر: ٤٨.

و قيل: المراد به فرط الذلّة و الهوان و الخزي مجازاً. و فيه أنّ المجاز إنّما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة.

٢٣٤

و قيل: هو من قول العرب: مرّ فلان على وجهه إذا لم يُدر أين ذهب؟ و فيه أنّ مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه و لا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله:( إِلى‏ جَهَنَّمَ ) .

و قيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيليّة، و المراد أنّهم يحشرون و قلوبهم متعلّقة بالسفليّات من الدنيا و زخارفها متوجّهة وجوههم إليها. و اُورد عليه أنّهم هناك في شغل شاغل عن التوجّه إلى الدنيا و تعلّق القلوب بها، و لعلّ المراد به بقاء آثار ذلك فيهم و عليهم.

و فيه أنّ مقتضى آيات تجسّم الأعمال كون العذاب ممثّلاً للتعلّق بالدنيا و التوجّه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلّا ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ) استشهاد على رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفّار به و بكتابه برسالة موسى و إيتائه الكتاب و إشراك هارون في أمره للتخلّص إلى ذكر تعذيب آل فرعون و إهلاكهم، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً ) قال في مجمع البيان: التدمير الإهلاك لأمر عجيب، و منه التنكيل يقال: دمّر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه. انتهى.

و المراد بالآيات آيات الآفاق و الأنفس الدالّة على التوحيد الّتي كذّبوا بها، و ذكر أبو السعود في تفسيره أنّ الآيات هي المعجزات التسع المفصّلات الظاهرة على يدي موسىعليه‌السلام و لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخّر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخّر عن ذهابهما المتأخّر عن الأمر به بل إنّما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بياناً لعلّة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلّها فكذّبوها تكذيباً مستمرّاً فدمّرناهم. انتهى. و هو حسن لو تعيّن حمل الآيات على آيات موسىعليه‌السلام .

و وجه اتّصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٣٥

و رسالته بتنظير الأمر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب و أرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذّبوه فدمّرهم تدميراً.

و لهذه النكتة قدّم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم و تدميرهم مع أنّ التوراة إنّما نزلت بعد غرق فرعون و جنوده فلم يكن الغرض من القصّة إلّا الإشارة إلى إيتاء الكتاب و الرسالة لموسى و تدمير القوم بالتكذيب.

و قيل: الآيتان متّصلتان بقوله تعالى قبل:( وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً ) و هو بعيد.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً ) الظاهر أنّ قوله:( قَوْمَ نُوحٍ ) منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه قوله:( أَغْرَقْناهُمْ ) .

و المراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحاً فإنّ تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب للجميع لاتّفاقهم على كلمة الحقّ. على أنّ هؤلاء الاُمم كانوا أقواماً وثنيّين و هم ينكرون النبوّة و يكذّبون الرسالة من رأس.

و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ) أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً ) قال في مجمع البيان: الرّس البئر الّتي لم تطو ذكروا أنّهم كانوا قوماً بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولاً فكذّبوا به فأهلكهم الله، و قيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه و في روايات الشيعة ما يؤيّد ذلك.

و قوله:( وَ عاداً ) إلخ معطوف على( قَوْمَ نُوحٍ ) و التقدير: و دمّرنا أو و أهلكنا عاداً و ثمود و أصحاب الرسّ إلخ.

و قوله:( وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً ) القرن أهل عصر واحد و ربّما يطلق على نفس العصر و الإشارة بذلك إلى من مرّ ذكرهم من الأقوام أوّلهم قوم نوح و آخرهم أصحاب الرسّ أو قوم فرعون، و المعنى و دمّرنا أو و أهلكنا عاداً و هم قوم هود، و

٢٣٦

ثمود و هم قوم صالح، و أصحاب الرسّ، و قروناً كثيراً متخلّلين بين هؤلاء الّذين ذكرناهم و هم قوم نوح فمن بعدهم.

قوله تعالى: ( وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً ) كلّا منصوب بفعل يدلّ عليه قوله:( ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ) فإنّ ضرب الأمثال في معنى التذكير و الموعظة و الإنذار، و التتبير التفتيت، و معنى الآية.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً ) هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجّيل و قد مرّ تفصيل قصصهم في السور السابقة.

و قوله:( أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ) استفهام توبيخيّ فإنّ القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام.

و قوله:( بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً ) أي لا يخافون معاداً أو كانوا آيسين من المعاد، و هذا كقوله تعالى فيما تقدّم:( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) و المراد به أنّ المنشأ الأصيل لتكذيبهم بالكتاب و الرسالة و عدم اتّعاظهم بهذه المواعظ الشافية و عدم اعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنّهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة و لا تقع في قلوبهم حكمة و لا موعظة.

( بحث روائي)

في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهرويّ عن الرضا عن أميرالمؤمنينعليهما‌السلام : حديث طويل يذكر فيه قصّة أصحاب الرسّ، ملخّصه أنّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه‏درخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشن آب و كان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرسّ يسمّين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، اُرديبهشت خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، و منها اشتقّ العجم أسماء شهورهم.

٢٣٧

و قد غرسوا في كلّ قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهراً من العين الّتي عند الصنوبرة، و حرّموا شرب مائها على أنفسهم و أنعامهم و من شرب منه قتلوه و يقولون: إنّه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها.

و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة يوماً في كلّ قرية عيداً يخرجون فيه إلى الصنوبرة الّتي خارج القرية يقرّبون إليها القرابين و يذبحون الذبائح ثمّ يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها و سطوعه في السماء و يبكون و يتضرّعون و الشيطان يكلّمهم من الشجرة.

و هذا دأبهم في القرى حتّى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى الّتي كان يسكنها ملكهم و اسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعاً و عيّدوا اثني عشر يوماً، و جاؤا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين و العبادات للشجرة و كلّمهم إبليس و هو يعدّهم و يمنّيهم أكثر ممّا كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر.

و لما طال منهم الكفر بالله و عبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولاً من بني إسرائيل من ولد يهوداً فدعاهم إلى عبادة الله و ترك الشرك برهة فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلمّا رأوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إنّ هذا الرجل سحر آلهتنا، و قال آخرون: إنّ آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه و شأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا.

فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً و ألقوه فيها و شدّوا رأسها فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتّى مات فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.

و في نهج البلاغة، قالعليه‌السلام : أين أصحاب مدائن الرسّ الّذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبّارين.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن أبي حمزة و هشام و حفص عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه دخل عليه نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السحق فقال: حدّها حدّ الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عزّوجلّ في القرآن، فقال: بلى، فقالت: و أين هو؟ قال: هنّ الرسّ.

٢٣٨

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي و البيهقيّ و ابن عساكر عن جعفر بن محمّد بن عليّ: أنّ امرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرّماً في كتاب الله؟ قال: نعم هنّ اللّواتي كنّ على عهد تبّع، و هنّ صواحب الرسّ، و كلّ نهر و بئر رسّ.

قال: يقطع لهنّ جلباب من نار، و درع من نار، و نطاق من نار، و تاج من نار، و خفّان من نار، و من فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علّموا هذا نساءكم.

أقول: و روى القمّيّ عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما في معناه.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً ) يعني( كسّرنا تكسيراً) قال: هي لفظة بالنبطيّة.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و أمّا القرية الّتي اُمطرت مطر السوء فهي سدوم قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجّيل يعني من طين.

٢٣٩

( سورة الفرقان الآيات ٤١ - ٦٢)

وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ( ٤١ ) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا  وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ( ٤٢ ) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ( ٤٣ ) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ  إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ  بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ( ٤٤ ) أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ( ٤٥ ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ( ٤٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( ٤٧ ) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ  وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ( ٤٨ ) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ( ٤٩ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ( ٥٠ ) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا ( ٥١ ) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( ٥٢ ) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ( ٥٣ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا  وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ( ٥٤ ) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ  وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيرًا ( ٥٥ ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٥٦ )

٢٤٠

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٧ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ  وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ  الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا  ( ٦٠ ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ )

( بيان)

تذكر الآيات بعض صفات اُولئك الكفّار القادحين في الكتاب و الرسالة و المنكرين للتوحيد و المعاد ممّا يناسب سنخ اعتراضاتهم و اقتراحاتهم كاستهزائهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اتّباعهم الهوى و عبادتهم لما لا ينفعهم و لا يضرّهم و استكبارهم عن السجود لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) ضمير الجمع للّذين كفروا السابق ذكرهم، و الهزؤ الاستهزاء و السخريّة فالمصدر بمعنى المفعول، و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا لا يتّخذونك إلّا مهزوّا به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.

قوله تعالى: ( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ) إلخ( إِنْ )

٢٤١

مخفّفة من الثقيلة، و الإضلال كأنّه مضمّن معنى الصرف و لذا عدّي بعن، و جواب لو لا محذوف يدلّ عليه ما تقدّمه، و المعنى أنّه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلّاً لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.

و قوله:( وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) توعّد و تهديد منه تعالى لهم و تنبيه أنّهم على غفلة ممّا سيستقبلهم من معاينة العذاب و اليقين بالضلال و الغيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، و المراد باتّخاذ الهوى إلهاً طاعته و اتّباعه من دون الله و قد أكثر الله سبحانه في كلامه ذمّ اتّباع الهوى و عدّ طاعة الشي‏ء عبادة له في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) استفهام إنكاريّ أي لست أنت وكيلاً عليه قائماً على نفسه و باُموره حتّى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك و قد أضلّه الله و قطع عنه أسباب الهداية و في معناه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) القصص: ٥٦، و قوله:( وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فاطر: ٢٢، و الآية كالإجمال للتفصيل الّذي في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: ٢٣.

و يظهر ممّا تقدّم من المعنى أنّ قوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) على نظمه الطبيعي أي إنّ( اتَّخَذَ ) فعل متعدّ إلى مفعولين و( إِلهَهُ ) مفعوله الأوّل و( هَواهُ ) مفعول ثان له فهذا هو الّذي يلائم السياق و ذلك أنّ الكلام حول شرك المشركين و عدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، و إعراضهم عن طاعة الحقّ الّتي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الّذي يزيّن لهم الشرك، و هؤلاء يسلّمون أنّ لهم إلهاً مطاعاً و قد أصابوا في ذلك، لكنّهم يرون أنّ هذا المطاع هو الهوى فيتّخذونه مطاعاً بدلاً من أن

٢٤٢

يتّخذوا الحقّ مطاعاً فقد وضعوا الهوى موضع الحقّ لا أنّهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.

و من هنا يظهر ما في قول عدّة من المفسّرين أنّ( هَواهُ ) مفعول أوّل لقوله( اتَّخَذَ ) و( إِلهَهُ ) مفعول ثان مقدّم، و إنّما قدّم للاعتناء به من حيث إنّه الّذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ ) إلخ، كما قاله بعضهم، أو إنّما قدم للحصر على ما قاله آخرون، و لهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها و فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أم منقطعة، و الحسبان بمعنى الظنّ و ضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. و الترديد بين السمع و العقل من جهة أنّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إمّا أن يستقلّ بالتعقّل فيعقل الحقّ فيتّبعه أو يرجع إلى قول من يعقله و ينصحه فيتّبعه إن لم يستقلّ بالتعقّل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله:( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

و المعنى: بل أ تظنّ أنّ أكثرهم لهم استعداد استماع الحقّ ليتّبعه أو استعداد عقل الحقّ ليتّبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ) بيان للجملة السابقة فإنّه في معنى: أنّ أكثرهم لا يسمعون و لا يعقلون فتنبّه أنّهم ليسوا إلّا كالأنعام و البهائم في أنّها لا تعقل و لا تسمع إلّا اللفظ دون المعنى.

و قوله:( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أي من الأنعام و ذلك أنّ الأنعام لا تقتحم على ما يضرّها و هؤلاء يرجّحون ما يضرّهم على ما ينفعهم، و أيضاً الأنعام إن ضلّت عن سبيل الحقّ فإنّها لم تجهّز في خلقتها بما يهديها إليه و هؤلاء مجهّزون و قد ضلّوا.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الأنعام لا علم لها بربّها. و فيه أنّ الآية

٢٤٣

لا تنفي عنها و لا عن الكفّار أصل العلم بالله و إنّما تنفي عن الكفّار اتّباع الحقّ الّذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتّباع الهوى، و تشبّههم في ذلك بالأنعام الّتي لم تجهّز بهذا النوع من الإدراك.

و أمّا ما أجاب به بعضهم أنّ الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) هاتان الآيتان و ما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمّنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أنّ الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد و إنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممّن شاء الله و أمّا غيرهم ممّن اتّخذ إلهه هواه فصار لا يسمع و لا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.

فهي تبيّن أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه و بيّنات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه و هو على صراط مستقيم، و ذلك كمدّ الظلّ و جعل الشمس دليلاً عليه تنسخه، و كجعل الليل لباساً و النوم سباتاً و النهار نشوراً، و كجعل الرياح بشراً و إنزال المطر و إحياء الأرض الميتة و إرواء الأنعام و الأناسيّ به.

ثمّ ما مثل المؤمن و الكافر في اهتداء هذا و ضلال ذاك - و هم جميعاً عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلّا كمثل الماءين العذب الفرات و الملح الاُجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخاً و حجراً محجوراً، و كالماء خلق الله سبحانه منه بشراً ثمّ جعله نسباً و صهراً فاختلف بذلك المواليد و كان ربّك قديراً.

هذا ما يهدي إليه التدبّر في مضامين الآيات و خصوصيّات نظمها و به يظهر وجه اتّصالها بما تقدّمها، و أمّا ما ذكروه من أنّ الآيات مسوقة لبيان بعض أدلّة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها و ضلالهم فالسياق لا يساعد عليه و سنزيد ذلك إيضاحاً.

فقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ) تنظير

٢٤٤

- كما تقدّمت الإشارة إليه - لشمول الجهل و الضلال للناس و رفعه تعالى ذلك بالرسالة و الدعوة الحقّة كما يشاء و لازم ذلك أن يكون المراد بمدّ الظلّ ما يعرض الظلّ الحادث بعد الزوال من التمدّد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الاُفق حتّى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد و هو الليل، و هو في جميع أحواله متحرّك و لو شاء الله لجعله ساكناً.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) و الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أنّ هناك ظلّاً و بانبساطه شيئاً فشيئاً على تمدّد الظلّ شيئاً فشيئاً و لولاها لم يتنبّه لوجود الظلّ فإنّ السبب العامّ لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحوّل الأحوال المختلفة عليه من فقدان و وجدان فإذا فقد شيئاً كان يجده تنبّه لوجوده و إذا وجد ما كان يفقده تنبّه لعدمه، و أمّا الأمر الثابت الّذي لا تتحوّل عليه الحال فليس إلى تصوّره بالتنبّه سبيل.

و قوله:( ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) أي أزلنا الظلّ بإشراق الشمس و ارتفاعها شيئاً فشيئاً حتّى ينسخ بالكلّيّة، و في التعبير عن الإزالة و النسخ بالقبض، و كونه إليه، و توصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهيّة و أنّها لا يشقّ عليها فعل، و أنّ فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام و البطلان بل بالرجوع إليه تعالى.

و ما تقدّم من تفسير مدّ الظلّ بتمديد الفي‏ء بعد زوال الشمس و إن كان معنى لم يذكره المفسّرون لكنّ السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره ممّا ذكره المفسّرون كقول بعضهم: إنّ المراد بالظلّ الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و قول بعض: ما بين غروب الشمس و طلوعها، و قول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، و قول بعض - و هو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء و جعلها كالقبّة ثمّ دحا الأرض من تحتها فألقت ظلّها عليها.

و في الآية أعني قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) إلخ، التفات من سياق التكلّم بالغير

٢٤٥

في الآيات السابقة إلى الغيبة، و النكتة فيه أنّ المراد بالآية و ما يتلوها من الآيات بيان أنّ أمر الهداية إلى الله سبحانه و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر شي‏ء و هو تعالى لا يريد هدايتهم و أنّ الرسالة و الدعوة الحقّة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال و نسخها ما تنسخ منه من شعب السنّة العامّة الإلهيّة في بسط الرحمة على خلقه نظير اطلاع الشمس على الأرض و نسخ الظلّ الممدود فيها بها، و من المعلوم أنّ الخطاب المتضمّن لهذه الحقيقة ممّا ينبغي أن يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خاصّة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، و أمّا الكفّار المتّخذون إلههم هواهم و هم لا يسمعون و لا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

و في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا ) رجوع إلى السياق السابق، و في ذلك مع ذلك من إظهار العظمة و الدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.

و الكلام في قوله الآتي:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ ) إلخ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ) كالكلام في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) ، و الكلام في قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلخ، و قوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ) ، و قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا ) ، كالكلام في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ ) .

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) كون الليل لباساً إنّما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.

و قوله:( وَ النَّوْمَ سُباتاً ) أي قطعاً للعمل، و قوله:( وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) أي جعل فيه الانتشار و طلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.

و حال ستره تعالى الناس بلباس الليل و قطعهم به عن العمل و الحركة ثمّ نشرهم للعمل و السعي بإظهار النهار و بسط النور كحال مدّ الظلّ ثمّ جعل الشمس عليه دليلاً و قبض الظلّ بها إليه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ

٢٤٦

السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) البشر بالضمّ فالسكون مخفّف بشر بضمّتين جمع بشور بمعنى مبشّر أي هو الّذي أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته و هي المطر.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) أي من جهة العلو و هي جوّ الأرض ماء طهوراً أي بالغاً في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهّر لغيره يزيل الأوساخ و يذهب بالأرجاس و الأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.

قوله تعالى: ( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً ) ، البلدة معروفة قيل: و اُريد بها المكان كما في قوله:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨، و لذا اتّصف بالميت و هو مذكّر و المكان الميت ما لا نبات فيه و إحياؤه إنباته، و الأناسيّ جمع إنسان، و معنى الآية ظاهر.

و حال شمول الموت للأرض و الحاجة إلى الشرب و الريّ للأنعام و الأناسيّ ثمّ إنزاله تعالى من السماء ماء طهوراً ليحيي به بلدة ميتاً و يسقيه أنعاماً و أناسيّ كثيراً من خلقه كحال مدّ الظلّ ثمّ الدلالة عليه بالشمس و نسخه بها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) ظاهر اتّصال الآية بما قبلها أنّ ضمير( صَرَّفْناهُ ) للماء و تصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة و عن غيرهم إليهم اُخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا و لا ينقطع عن قوم دائماً فيهلكوا بل يدور بينهم حتّى ينال كلّ نصيبه بحسب المصلحة، و قيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.

و قوله:( لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) تعليل للتصريف أي و اُقسم لقد صرّفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكّروا فيشكروا فأبى و امتنع أكثر الناس إلّا كفران النعمة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ) أي لو أردنا أن نبعث في كلّ قرية نذيراً ينذرهم و رسولاً يبلّغهم رسالاتنا لبعثنا و لكن بعثناك إلى القرى كلّها نذيراً و رسولاً لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسّرت الآية و لا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، و هذا المعنى لما وجّهنا به اتّصال الآيات أنسب.

٢٤٧

أو أنّ المراد أنّا قادرون على أن نبعث في كلّ قرية رسولاً و إنّما اخترناك لمصلحة في اختيارك.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً ) متفرّع على معنى الآية السابقة، و ضمير( بِهِ ) للقرآن بشهادة سياق الآيات، و المجاهدة و الجهاد بذل الجهد و الطاقة في مدافعة العدوّ و إذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم و بيان حقائقه لهم و إتمام حججه عليهم.

فمحصّل مضمون الآية أنّه إذا كان مثل الرسالة الإلهيّة في رفع حجاب الجهل و الغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحقّ لهم و إتمام الحجّة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظلّ الممدود و نسخه بأمر الله، و مثل النهار بالنسبة إلى الليل و سبته، و مثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة و الأنعام و الأناسيّ الظامئة، و قد بعثناك لتكون نذيراً لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأنّ طاعتهم تبطل هذا الناموس العامّ المضروب للهداية. و ابذل مبلغ جهدك و وسعك في تبليغ رسالتك و إتمام حجّتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقّة و جاهدهم به مجاهدة كبيرة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) المرج الخلط و منه أمر مريج أي مختلط، و العذب من الماء ما طاب طعمه، و الفرات منه ما كثر عذوبته، و الملح هو الماء المتغيّر طعمه. و الاُجاج شديد الملوحة، و البرزخ هو الحدّ الحاجز بين شيئين، و حجراً محجوراً أي حراماً محرّماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَهُما ) إلخ قرينة على أنّ المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.

و الكلام معطوف على ما عطف عليه قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) إلخ، و فيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين و هما مع ذلك غير متمازجين كما تقدّمت

٢٤٨

الإشارة إليه في أوّل الآيات التسع.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) الصهر على ما نقل عن الخليل الختن و أهل بيت المرأة فالنسب هو التحرّم من جهة الرجل و الصهر هو التحرّم من جهة المرأة - كما قيل - و يؤيّده المقابلة بين النسب و الصهر.

و قد قيل: إنّ كلّا من النسب و الصهر بتقدير مضاف و التقدير فجعله ذا نسب و صهر، و الضمير للبشر، و المراد بالماء النطفة، و ربّما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الّذي خلق الله منه الأشياء الحيّة كما قال:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) الأنبياء: ٣٠.

و المعنى: و هو الّذي خلق من النطفة - و هي ماء واحد - بشراً فقسّمه قسمين ذا نسب و ذا صهر يعني الرجل و المرأة و هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أنّ لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة و التفرّق في عين الاتّحاد و هكذا يحفظ اختلاف النفوس و الآراء بالإيمان و الكفر مع اتّحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الّذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقّة.

و قوله:( وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدّم في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) معطوف على قوله:( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) . و الظهير بمعنى المظاهر على ما قيل و المظاهرة المعاونة.

و المعنى: و يعبدون - هؤلاء الكفّار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة و لا يضرّهم بإيصال الشرّ على تقدير ترك العبادة و كان الكافر معاوناً للشيطان على ربّه.

و كون هؤلاء المعبودين و هم الأصنام ظاهراً لا ينفعون و لا يضرّون لا ينافي كون عبادتهم مضرّة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شي‏ء

٢٤٩

نفي الضرر عن عبادتهم المضرّة المؤدّية للإنسان إلى شقاء لازم و عذاب دائم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) أي لم نجعل لك في رسالتك إلّا التبشير و الإنذار و ليس لك وراء ذلك من الأمر شي‏ء فلا عليك إن كانوا معاندين لربّهم مظاهرين لعدوّه عليه فليسوا بمعجزين لله و ما يمكرون إلّا بأنفسهم، هذا هو الّذي يعطيه السياق.

و عليه فقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) هذا الفصل من الكلام نظير قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) في الفصل السابق.

و منه يظهر أنّ أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال و المراد ما أرسلناك إلّا مبشّراً للمؤمنين و نذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد.

قوله تعالى: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) ضمير( عَلَيْهِ ) للقرآن بما أنّ تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) المزّمّل: ١٩، الدهر: ٢٩، و قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ص: ٨٧.

و قوله:( إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) استثناء منقطع في معنى المتّصل فإنّه في معنى إلّا أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً من شاء ذلك على حدّ قوله تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، أي إلّا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.

ففيه وضع الفاعل و هو من اتّخذ السبيل موضع فعله و هو اتّخاذ السبيل شكراً له ففي الكلام عدّ اتّخاذهم سبيلاً إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجراً لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر ماليّ أو جاهيّ منهم، و أنّه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة و اتّباعهم للحقّ شيئاً آخر من مال أو جاه أو أيّ أجر مفروض فليطيبوا نفساً و لا يتّهموه في نصيحته.

و قد علّق اتّخاذ السبيل على مشيّتهم للدلالة على حرّيّتهم الكاملة عن قبله

٢٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إكراه و لا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربّه وراء التبشير و الإنذار و ليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.

فقوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ ) إلخ بعد ما سجّل لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له إلّا الرسالة بالتبشير و الإنذار يأمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا أن يستجيبوا له و يتّخذوا إلى ربّهم سبيلاً من غير غرض زائد من الأجر أيّاً مّا كان، و أنّ لهم الخيرة في أمرهم من غير أيّ إجبار و إكراه فهم و الدعوة إن شاؤا فليؤمنوا و إن شاؤا فليكفروا.

هذا ما يرجع إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر و لا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، و أمّا ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه و ليتوكّل عليه كما أشار إليه في الآية التالية:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

و ذكر جمهور المفسّرين أنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة و الإنفاق في سبيل الله فليفعل، و هو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة و لا من جهة السياق.

و قال بعضهم: إنّه متّصل و الكلام بحذف مضاف و التقدير إلّا فعل من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً بالإيمان و الطاعة حسبما أدعو إليهما. و فيه أخذ استجابتهم له أجراً لنفسه و قطعاً لشائبة الطمع بالكلّيّة و تطييباً لأنفسهم، و يرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدّمناه و يمتاز منه بتقدير مضاف و التقدير خلاف الأصل.

و قال آخرون: إنّه متّصل بتقدير مضاف و التقدير لا أسألكم عليه من أجر إلّا أجر من شاء إلخ أي إلّا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإنّ الدالّ على الخير كفاعله. و فيه أنّ مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلّا من اتّخذ إلى ربّه سبيلاً فلا حاجة إلى تعليق الاتّخاذ بالمشيّة و الأجر إنّما يترتّب على العمل دون مشيّته.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) لما سجّل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له من أمرهم شي‏ء إلّا

٢٥١

الرسالة و أمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا الاستجابة لها و أنّهم على خيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا و إن شاؤا كفروا تمّم ذلك بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتّخذه تعالى وكيلاً في أمرهم فهو تعالى عليهم و على كلّ شي‏ء وكيل و بذنوب عباده خبير.

فقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) أي اتّخذه وكيلاً في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء و يفعل بهم ما يريد فإنّه الوكيل عليهم و على كلّ شي‏ء و قد عدل عن تعليق التوكّل بالله إلى تعليقه بالحيّ الّذي لا يموت ليفيد التعليل فإنّ الحيّ الّذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعيّن لأن يكون وكيلاً.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي نزّهه عن العجز و الجهل و كلّ ما لا يليق بساحة قدسه مقارناً ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم و استدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك و لا عن جهل بذنوبهم و إن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته و باستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه و بحمده.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) مسوق للدلالة على توحيده في فعله و صفته فهو الوكيل المتصرّف في اُمور عباده وحده و هو خبير بذنوبهم و حاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.

و من هنا يظهر أنّ الآية التالية:( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) متمّمة لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) إلخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه و تصرّفه كما يشتمل قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ ) إلخ على علمه و خبرته و بالحياة و الملك و العلم معاً يتمّ معنى الوكالة و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ظاهر السياق أنّ الموصول صفة لقوله في الآية السابقة:( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) و بهذه الآية يتمّ البيان في قوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) فإنّ الوكالة كما تتوقّف على حياة الوكيل تتوقّف على العلم، و قد ذكره في قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) و تتوقّف على السلطنة على

٢٥٢

الحكم و التصرّف و هو الّذي تتضمّنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات و الأرض و الاستواء على العرش.

و قد تقدّم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، و أمّا قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) فالّذي يعطيه السياق و يهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبراً لمبتدإ محذوف و التقدير هو الرحمن، و قوله:( فَسْئَلْ ) متفرّعاً عليه و الفاء للتفريع، و الباء في قوله:( بِهِ ) للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. و قوله:( خَبِيراً ) حال من الضمير.

و المعنى: هو الرحمن - الّذي استوى على عرش الملك و الّذي برحمته و إفاضته يقوم الخلق و الأمر و منه يبتدئ كلّ شي‏ء و إليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنّه خبير.

فقوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) كناية عن أنّ الّذي أخبر به حقيقة الأمر الّتي لا معدل عنها و هذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني اُجبك إنّ كذا و كذا و من هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.

و لهم في قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) أقوال اُخرى كثيرة: فقيل: إن( الرَّحْمنُ ) مرفوع على القطع للمدح، و قيل: مبتدأ خبره قوله:( فَسْئَلْ بِهِ ) و قيل: خبر مبتدؤه( الَّذِي ) في صدر الآية، و قيل: بدل من الضمير المستكنّ في( اسْتَوى) .

و قيل في( فَسْئَلْ بِهِ) إنّه خبر للرحمن كما تقدّم و الفاء فصيحة، و قيل: جملة مستقلّة متفرّعة على ما قبلها و الفاء للتفريع ثمّ الباء في( بِهِ ) للصلة أو بمعنى عن و الضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدّم من الخلق و الاستواء.

و قيل( خَبِيراً ) حال عن الضمير و هو راجع إليه تعالى، و المعنى فاسأل الله حال كونه خبيراً، و قيل: مفعول فاسأل و الباء بمعنى عن و المعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق و الاستواء خبيراً، و المراد بالخبير هو الله سبحانه، و قيل جبرئيل و قيل: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة و وقف على صفاته

٢٥٣

و أفعاله تعالى و كيفيّة الخلق و الإيجاد، و قيل: كلّ من كان له وقوف على هذه الحقائق.

و هذه الوجوه المتشتّتة جلّها أو كلّها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة و لا موجب للتكلّم عليها و الغور فيها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول و دعوته الحقّة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه و نفورهم منه و للآية اتّصال خاصّ بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها و قد وصف في الآية السابقة بما وصف و لعلّ اللّام فيه للعهد.

فقوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) الضمير للكفّار، و القائل هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله بعد:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) و لم يذكر اسمه ليتوجّه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.

و قوله:( قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ ) سؤال منهم عن هويّته و مائيّته مبالغة منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله و لو لا ذلك لقالوا: و من الرحمن، و هذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى ربّ العالمين:( وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ ) الشعراء: ٢٣، و قول إبراهيم لقومه:( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) الأنبياء: ٥٢، و مراد السائل في مثل هذا السؤال أنّه لا معرفة له من المسؤل عنه بشي‏ء أزيد من اسمه كقول هود لقومه:( أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) الأعراف: ٧١.

و قوله حكاية عنهم:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، و التعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكّم و استهزاء.

و قوله:( وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) معطوف على جواب إذا و المعنى: و إذا قيل لهم اسجدوا استكبروا و زادهم ذلك نفوراً ففاعل( زادَهُمْ ) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.

و قول بعضهم: إنّ الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنّه

٢٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة مّا لا يؤثّر في دلالة اللفظ ما لم يتعرّض له لفظاً. و لا تعرّض في الآية لهذه القصّة أصلاً.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) الظاهر أنّ المراد بالبروج منازل الشمس و القمر من السماء أو الكواكب الّتي عليها كما تقدّم في قوله:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و إنّما خصّت بالذكر في الآية للإشارة إلى الحفظ و الرجم المذكورين.

و المراد بالسراج الشمس بدليل قوله:( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: ١٦.

و قد قرّروا الآية أنّها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي و الأرضيّ على وحدة المدبّر فيجب التوجّه بالعبادات إليه و صرف الوجه عن غيره.

و التدبّر في اتّصال الآيتين بما قبلهما و سياق الآيات لا يساعد عليه لأنّ مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا اُمروا بالسجود له و استهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه و بين الاحتجاج على توحيد الربوبيّة حتّى يعقّب به، و إنّما المناسب لهذا المعنى إظهار العزّة و الغنى و أنّهم غير معجزين لله بفعالهم هذا و لا خارجين عن ملكه و سلطانه.

و الّذي يعطيه التدبّر أنّ قوله:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) إلخ، مسوق سوق التعزّز و الاستغناء، و أنّهم غير معجزين باستكبارهم على الله و استهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه و الصعود إلى سماء جواره و المعارف الإلهيّة مضيئة مع ذلك لأهله و عباده بما نوّرها الله سبحانه بنور هدايته و هو نور الرسالة.

و على هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج

٢٥٥

المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة و جعل الشمس المضيئة و القمر المنير فيها لإضاءة العالم المحسوس، و أشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإنسانيّ بنور الهداية من الرسالة ليتبصّر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات و دفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيّأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.

هذا ما يعطيه السياق و على هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات و الّتي قبلها كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الخلفة هي الشي‏ء يسدّ مسدّ شي‏ء آخر و بالعكس و كأنّه بناء نوع اُريد به معنى الوصف فكون الليل و النهار خلفة أنّ كلّا منهما يخلف الآخر، و تقييد الخلفة بقوله:( لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) للدلالة على نيابة كلّ منهما عن الآخر في التذكّر و الشكر.

و المقابلة بين التذكّر و الشكر يعطي أنّ المراد بالتذكّر الرجوع إلى ما يعرفه الإنسان بفطرته من الحجج الدالّة على توحيد ربّه و ما يليق به تعالى من الصفات و الأسماء و غايته الإيمان بالله، و بالشكور القول أو الفعل الّذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، و ينطبق على عبادته و ما يلحق بها من صالح العمل.

و على هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل و النهار بحيث يخلف كلّ صاحبه فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاُخرى منه، و من لم يوفّق لعبادة أو لأيّ عمل صالح في شي‏ء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة:( وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) ففيه إشارة إلى أنّ الله سبحانه و إن دفع اُولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنّه لم يمنع عباده عن التقرّب إليه و

٢٥٦

الاستضاءة بنوره فجعل نهاراً ذا شمس طالعة و ليلاً ذا قمر منير و هما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

و فسّر بعضهم التذكّر بصلاة الفريضة و الشكور بالنافلة و الآية تقبل الانطباق على ذلك و إن لم يتعيّن حملها عليه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أخرج الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تحت ظلّ السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عندالله من هوى متّبع.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فقال: الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ ) الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسباً و صهراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) يعني أبا الحكم الّذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا جهل بن هشام.

أقول: و الروايتان بالجري و التطبيق أشبه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تبارك و تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فالبروج الكواكب و البروج الّتي للربيع و الصيف الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة، و

٢٥٧

بروج الخريف و الشتاء: الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و هي اثنا عشر برجاً.

و في الفقيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك و تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار و ما فاته بالنهار بالليل.

٢٥٨

( سورة الفرقان الآيات ٦٣ - ٧٧)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ٦٤ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ  إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ٦٧ ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ  وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا ( ٧١ ) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ٧٢ ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ٧٤ ) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ٧٥ ) خَالِدِينَ فِيهَا  حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٧٦ ) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ  فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ( ٧٧ )

٢٥٩

( بيان)

تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفّار السيّئة و يجمعها أنّهم يدعون ربّهم و يصدّقون رسوله و الكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفّار لذلك و إعراضهم عنه إلى اتّباع الهوى، و لذلك تختتم الآيات بقوله:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه و إهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين و سمّاهم عباداً و أضافهم إلى نفسه متسمّياً باسم الرحمن الّذي كان يحيد عنه الكفّار و ينفرون.

و قد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم:

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) و الهون على ما ذكره الراغب التذلّل، و الأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس و معاشرتهم فهم في أنفسهم متذلّلون لربّهم و متواضعون للناس لما أنّهم عباد الله غير مستكبرين على الله و لا مستعلين على غيرهم بغير حقّ، و أمّا التذلّل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزّة الوهميّة فحاشاهم و إن كان الهون بمعنى الرفق و اللين فالمراد أنّهم يمشون من غير تكبّر و تبختر.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه قوله:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم ممّا يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلّق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول و قالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللّغو و الإثم، قال تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453