الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124108 / تحميل: 6109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٧ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ  وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ  الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا  ( ٦٠ ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ )

( بيان)

تذكر الآيات بعض صفات اُولئك الكفّار القادحين في الكتاب و الرسالة و المنكرين للتوحيد و المعاد ممّا يناسب سنخ اعتراضاتهم و اقتراحاتهم كاستهزائهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اتّباعهم الهوى و عبادتهم لما لا ينفعهم و لا يضرّهم و استكبارهم عن السجود لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) ضمير الجمع للّذين كفروا السابق ذكرهم، و الهزؤ الاستهزاء و السخريّة فالمصدر بمعنى المفعول، و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا لا يتّخذونك إلّا مهزوّا به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.

قوله تعالى: ( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ) إلخ( إِنْ )

٢٤١

مخفّفة من الثقيلة، و الإضلال كأنّه مضمّن معنى الصرف و لذا عدّي بعن، و جواب لو لا محذوف يدلّ عليه ما تقدّمه، و المعنى أنّه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلّاً لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.

و قوله:( وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) توعّد و تهديد منه تعالى لهم و تنبيه أنّهم على غفلة ممّا سيستقبلهم من معاينة العذاب و اليقين بالضلال و الغيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، و المراد باتّخاذ الهوى إلهاً طاعته و اتّباعه من دون الله و قد أكثر الله سبحانه في كلامه ذمّ اتّباع الهوى و عدّ طاعة الشي‏ء عبادة له في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) استفهام إنكاريّ أي لست أنت وكيلاً عليه قائماً على نفسه و باُموره حتّى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك و قد أضلّه الله و قطع عنه أسباب الهداية و في معناه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) القصص: ٥٦، و قوله:( وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فاطر: ٢٢، و الآية كالإجمال للتفصيل الّذي في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: ٢٣.

و يظهر ممّا تقدّم من المعنى أنّ قوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) على نظمه الطبيعي أي إنّ( اتَّخَذَ ) فعل متعدّ إلى مفعولين و( إِلهَهُ ) مفعوله الأوّل و( هَواهُ ) مفعول ثان له فهذا هو الّذي يلائم السياق و ذلك أنّ الكلام حول شرك المشركين و عدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، و إعراضهم عن طاعة الحقّ الّتي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الّذي يزيّن لهم الشرك، و هؤلاء يسلّمون أنّ لهم إلهاً مطاعاً و قد أصابوا في ذلك، لكنّهم يرون أنّ هذا المطاع هو الهوى فيتّخذونه مطاعاً بدلاً من أن

٢٤٢

يتّخذوا الحقّ مطاعاً فقد وضعوا الهوى موضع الحقّ لا أنّهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.

و من هنا يظهر ما في قول عدّة من المفسّرين أنّ( هَواهُ ) مفعول أوّل لقوله( اتَّخَذَ ) و( إِلهَهُ ) مفعول ثان مقدّم، و إنّما قدّم للاعتناء به من حيث إنّه الّذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ ) إلخ، كما قاله بعضهم، أو إنّما قدم للحصر على ما قاله آخرون، و لهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها و فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أم منقطعة، و الحسبان بمعنى الظنّ و ضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. و الترديد بين السمع و العقل من جهة أنّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إمّا أن يستقلّ بالتعقّل فيعقل الحقّ فيتّبعه أو يرجع إلى قول من يعقله و ينصحه فيتّبعه إن لم يستقلّ بالتعقّل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله:( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

و المعنى: بل أ تظنّ أنّ أكثرهم لهم استعداد استماع الحقّ ليتّبعه أو استعداد عقل الحقّ ليتّبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ) بيان للجملة السابقة فإنّه في معنى: أنّ أكثرهم لا يسمعون و لا يعقلون فتنبّه أنّهم ليسوا إلّا كالأنعام و البهائم في أنّها لا تعقل و لا تسمع إلّا اللفظ دون المعنى.

و قوله:( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أي من الأنعام و ذلك أنّ الأنعام لا تقتحم على ما يضرّها و هؤلاء يرجّحون ما يضرّهم على ما ينفعهم، و أيضاً الأنعام إن ضلّت عن سبيل الحقّ فإنّها لم تجهّز في خلقتها بما يهديها إليه و هؤلاء مجهّزون و قد ضلّوا.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الأنعام لا علم لها بربّها. و فيه أنّ الآية

٢٤٣

لا تنفي عنها و لا عن الكفّار أصل العلم بالله و إنّما تنفي عن الكفّار اتّباع الحقّ الّذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتّباع الهوى، و تشبّههم في ذلك بالأنعام الّتي لم تجهّز بهذا النوع من الإدراك.

و أمّا ما أجاب به بعضهم أنّ الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) هاتان الآيتان و ما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمّنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أنّ الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد و إنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممّن شاء الله و أمّا غيرهم ممّن اتّخذ إلهه هواه فصار لا يسمع و لا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.

فهي تبيّن أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه و بيّنات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه و هو على صراط مستقيم، و ذلك كمدّ الظلّ و جعل الشمس دليلاً عليه تنسخه، و كجعل الليل لباساً و النوم سباتاً و النهار نشوراً، و كجعل الرياح بشراً و إنزال المطر و إحياء الأرض الميتة و إرواء الأنعام و الأناسيّ به.

ثمّ ما مثل المؤمن و الكافر في اهتداء هذا و ضلال ذاك - و هم جميعاً عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلّا كمثل الماءين العذب الفرات و الملح الاُجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخاً و حجراً محجوراً، و كالماء خلق الله سبحانه منه بشراً ثمّ جعله نسباً و صهراً فاختلف بذلك المواليد و كان ربّك قديراً.

هذا ما يهدي إليه التدبّر في مضامين الآيات و خصوصيّات نظمها و به يظهر وجه اتّصالها بما تقدّمها، و أمّا ما ذكروه من أنّ الآيات مسوقة لبيان بعض أدلّة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها و ضلالهم فالسياق لا يساعد عليه و سنزيد ذلك إيضاحاً.

فقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ) تنظير

٢٤٤

- كما تقدّمت الإشارة إليه - لشمول الجهل و الضلال للناس و رفعه تعالى ذلك بالرسالة و الدعوة الحقّة كما يشاء و لازم ذلك أن يكون المراد بمدّ الظلّ ما يعرض الظلّ الحادث بعد الزوال من التمدّد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الاُفق حتّى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد و هو الليل، و هو في جميع أحواله متحرّك و لو شاء الله لجعله ساكناً.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) و الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أنّ هناك ظلّاً و بانبساطه شيئاً فشيئاً على تمدّد الظلّ شيئاً فشيئاً و لولاها لم يتنبّه لوجود الظلّ فإنّ السبب العامّ لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحوّل الأحوال المختلفة عليه من فقدان و وجدان فإذا فقد شيئاً كان يجده تنبّه لوجوده و إذا وجد ما كان يفقده تنبّه لعدمه، و أمّا الأمر الثابت الّذي لا تتحوّل عليه الحال فليس إلى تصوّره بالتنبّه سبيل.

و قوله:( ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) أي أزلنا الظلّ بإشراق الشمس و ارتفاعها شيئاً فشيئاً حتّى ينسخ بالكلّيّة، و في التعبير عن الإزالة و النسخ بالقبض، و كونه إليه، و توصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهيّة و أنّها لا يشقّ عليها فعل، و أنّ فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام و البطلان بل بالرجوع إليه تعالى.

و ما تقدّم من تفسير مدّ الظلّ بتمديد الفي‏ء بعد زوال الشمس و إن كان معنى لم يذكره المفسّرون لكنّ السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره ممّا ذكره المفسّرون كقول بعضهم: إنّ المراد بالظلّ الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و قول بعض: ما بين غروب الشمس و طلوعها، و قول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، و قول بعض - و هو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء و جعلها كالقبّة ثمّ دحا الأرض من تحتها فألقت ظلّها عليها.

و في الآية أعني قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) إلخ، التفات من سياق التكلّم بالغير

٢٤٥

في الآيات السابقة إلى الغيبة، و النكتة فيه أنّ المراد بالآية و ما يتلوها من الآيات بيان أنّ أمر الهداية إلى الله سبحانه و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر شي‏ء و هو تعالى لا يريد هدايتهم و أنّ الرسالة و الدعوة الحقّة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال و نسخها ما تنسخ منه من شعب السنّة العامّة الإلهيّة في بسط الرحمة على خلقه نظير اطلاع الشمس على الأرض و نسخ الظلّ الممدود فيها بها، و من المعلوم أنّ الخطاب المتضمّن لهذه الحقيقة ممّا ينبغي أن يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خاصّة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، و أمّا الكفّار المتّخذون إلههم هواهم و هم لا يسمعون و لا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

و في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا ) رجوع إلى السياق السابق، و في ذلك مع ذلك من إظهار العظمة و الدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.

و الكلام في قوله الآتي:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ ) إلخ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ) كالكلام في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) ، و الكلام في قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلخ، و قوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ) ، و قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا ) ، كالكلام في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ ) .

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) كون الليل لباساً إنّما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.

و قوله:( وَ النَّوْمَ سُباتاً ) أي قطعاً للعمل، و قوله:( وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) أي جعل فيه الانتشار و طلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.

و حال ستره تعالى الناس بلباس الليل و قطعهم به عن العمل و الحركة ثمّ نشرهم للعمل و السعي بإظهار النهار و بسط النور كحال مدّ الظلّ ثمّ جعل الشمس عليه دليلاً و قبض الظلّ بها إليه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ

٢٤٦

السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) البشر بالضمّ فالسكون مخفّف بشر بضمّتين جمع بشور بمعنى مبشّر أي هو الّذي أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته و هي المطر.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) أي من جهة العلو و هي جوّ الأرض ماء طهوراً أي بالغاً في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهّر لغيره يزيل الأوساخ و يذهب بالأرجاس و الأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.

قوله تعالى: ( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً ) ، البلدة معروفة قيل: و اُريد بها المكان كما في قوله:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨، و لذا اتّصف بالميت و هو مذكّر و المكان الميت ما لا نبات فيه و إحياؤه إنباته، و الأناسيّ جمع إنسان، و معنى الآية ظاهر.

و حال شمول الموت للأرض و الحاجة إلى الشرب و الريّ للأنعام و الأناسيّ ثمّ إنزاله تعالى من السماء ماء طهوراً ليحيي به بلدة ميتاً و يسقيه أنعاماً و أناسيّ كثيراً من خلقه كحال مدّ الظلّ ثمّ الدلالة عليه بالشمس و نسخه بها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) ظاهر اتّصال الآية بما قبلها أنّ ضمير( صَرَّفْناهُ ) للماء و تصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة و عن غيرهم إليهم اُخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا و لا ينقطع عن قوم دائماً فيهلكوا بل يدور بينهم حتّى ينال كلّ نصيبه بحسب المصلحة، و قيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.

و قوله:( لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) تعليل للتصريف أي و اُقسم لقد صرّفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكّروا فيشكروا فأبى و امتنع أكثر الناس إلّا كفران النعمة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ) أي لو أردنا أن نبعث في كلّ قرية نذيراً ينذرهم و رسولاً يبلّغهم رسالاتنا لبعثنا و لكن بعثناك إلى القرى كلّها نذيراً و رسولاً لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسّرت الآية و لا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، و هذا المعنى لما وجّهنا به اتّصال الآيات أنسب.

٢٤٧

أو أنّ المراد أنّا قادرون على أن نبعث في كلّ قرية رسولاً و إنّما اخترناك لمصلحة في اختيارك.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً ) متفرّع على معنى الآية السابقة، و ضمير( بِهِ ) للقرآن بشهادة سياق الآيات، و المجاهدة و الجهاد بذل الجهد و الطاقة في مدافعة العدوّ و إذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم و بيان حقائقه لهم و إتمام حججه عليهم.

فمحصّل مضمون الآية أنّه إذا كان مثل الرسالة الإلهيّة في رفع حجاب الجهل و الغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحقّ لهم و إتمام الحجّة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظلّ الممدود و نسخه بأمر الله، و مثل النهار بالنسبة إلى الليل و سبته، و مثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة و الأنعام و الأناسيّ الظامئة، و قد بعثناك لتكون نذيراً لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأنّ طاعتهم تبطل هذا الناموس العامّ المضروب للهداية. و ابذل مبلغ جهدك و وسعك في تبليغ رسالتك و إتمام حجّتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقّة و جاهدهم به مجاهدة كبيرة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) المرج الخلط و منه أمر مريج أي مختلط، و العذب من الماء ما طاب طعمه، و الفرات منه ما كثر عذوبته، و الملح هو الماء المتغيّر طعمه. و الاُجاج شديد الملوحة، و البرزخ هو الحدّ الحاجز بين شيئين، و حجراً محجوراً أي حراماً محرّماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَهُما ) إلخ قرينة على أنّ المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.

و الكلام معطوف على ما عطف عليه قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) إلخ، و فيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين و هما مع ذلك غير متمازجين كما تقدّمت

٢٤٨

الإشارة إليه في أوّل الآيات التسع.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) الصهر على ما نقل عن الخليل الختن و أهل بيت المرأة فالنسب هو التحرّم من جهة الرجل و الصهر هو التحرّم من جهة المرأة - كما قيل - و يؤيّده المقابلة بين النسب و الصهر.

و قد قيل: إنّ كلّا من النسب و الصهر بتقدير مضاف و التقدير فجعله ذا نسب و صهر، و الضمير للبشر، و المراد بالماء النطفة، و ربّما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الّذي خلق الله منه الأشياء الحيّة كما قال:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) الأنبياء: ٣٠.

و المعنى: و هو الّذي خلق من النطفة - و هي ماء واحد - بشراً فقسّمه قسمين ذا نسب و ذا صهر يعني الرجل و المرأة و هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أنّ لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة و التفرّق في عين الاتّحاد و هكذا يحفظ اختلاف النفوس و الآراء بالإيمان و الكفر مع اتّحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الّذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقّة.

و قوله:( وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدّم في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) معطوف على قوله:( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) . و الظهير بمعنى المظاهر على ما قيل و المظاهرة المعاونة.

و المعنى: و يعبدون - هؤلاء الكفّار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة و لا يضرّهم بإيصال الشرّ على تقدير ترك العبادة و كان الكافر معاوناً للشيطان على ربّه.

و كون هؤلاء المعبودين و هم الأصنام ظاهراً لا ينفعون و لا يضرّون لا ينافي كون عبادتهم مضرّة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شي‏ء

٢٤٩

نفي الضرر عن عبادتهم المضرّة المؤدّية للإنسان إلى شقاء لازم و عذاب دائم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) أي لم نجعل لك في رسالتك إلّا التبشير و الإنذار و ليس لك وراء ذلك من الأمر شي‏ء فلا عليك إن كانوا معاندين لربّهم مظاهرين لعدوّه عليه فليسوا بمعجزين لله و ما يمكرون إلّا بأنفسهم، هذا هو الّذي يعطيه السياق.

و عليه فقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) هذا الفصل من الكلام نظير قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) في الفصل السابق.

و منه يظهر أنّ أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال و المراد ما أرسلناك إلّا مبشّراً للمؤمنين و نذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد.

قوله تعالى: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) ضمير( عَلَيْهِ ) للقرآن بما أنّ تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) المزّمّل: ١٩، الدهر: ٢٩، و قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ص: ٨٧.

و قوله:( إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) استثناء منقطع في معنى المتّصل فإنّه في معنى إلّا أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً من شاء ذلك على حدّ قوله تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، أي إلّا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.

ففيه وضع الفاعل و هو من اتّخذ السبيل موضع فعله و هو اتّخاذ السبيل شكراً له ففي الكلام عدّ اتّخاذهم سبيلاً إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجراً لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر ماليّ أو جاهيّ منهم، و أنّه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة و اتّباعهم للحقّ شيئاً آخر من مال أو جاه أو أيّ أجر مفروض فليطيبوا نفساً و لا يتّهموه في نصيحته.

و قد علّق اتّخاذ السبيل على مشيّتهم للدلالة على حرّيّتهم الكاملة عن قبله

٢٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إكراه و لا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربّه وراء التبشير و الإنذار و ليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.

فقوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ ) إلخ بعد ما سجّل لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له إلّا الرسالة بالتبشير و الإنذار يأمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا أن يستجيبوا له و يتّخذوا إلى ربّهم سبيلاً من غير غرض زائد من الأجر أيّاً مّا كان، و أنّ لهم الخيرة في أمرهم من غير أيّ إجبار و إكراه فهم و الدعوة إن شاؤا فليؤمنوا و إن شاؤا فليكفروا.

هذا ما يرجع إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر و لا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، و أمّا ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه و ليتوكّل عليه كما أشار إليه في الآية التالية:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

و ذكر جمهور المفسّرين أنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة و الإنفاق في سبيل الله فليفعل، و هو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة و لا من جهة السياق.

و قال بعضهم: إنّه متّصل و الكلام بحذف مضاف و التقدير إلّا فعل من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً بالإيمان و الطاعة حسبما أدعو إليهما. و فيه أخذ استجابتهم له أجراً لنفسه و قطعاً لشائبة الطمع بالكلّيّة و تطييباً لأنفسهم، و يرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدّمناه و يمتاز منه بتقدير مضاف و التقدير خلاف الأصل.

و قال آخرون: إنّه متّصل بتقدير مضاف و التقدير لا أسألكم عليه من أجر إلّا أجر من شاء إلخ أي إلّا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإنّ الدالّ على الخير كفاعله. و فيه أنّ مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلّا من اتّخذ إلى ربّه سبيلاً فلا حاجة إلى تعليق الاتّخاذ بالمشيّة و الأجر إنّما يترتّب على العمل دون مشيّته.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) لما سجّل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له من أمرهم شي‏ء إلّا

٢٥١

الرسالة و أمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا الاستجابة لها و أنّهم على خيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا و إن شاؤا كفروا تمّم ذلك بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتّخذه تعالى وكيلاً في أمرهم فهو تعالى عليهم و على كلّ شي‏ء وكيل و بذنوب عباده خبير.

فقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) أي اتّخذه وكيلاً في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء و يفعل بهم ما يريد فإنّه الوكيل عليهم و على كلّ شي‏ء و قد عدل عن تعليق التوكّل بالله إلى تعليقه بالحيّ الّذي لا يموت ليفيد التعليل فإنّ الحيّ الّذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعيّن لأن يكون وكيلاً.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي نزّهه عن العجز و الجهل و كلّ ما لا يليق بساحة قدسه مقارناً ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم و استدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك و لا عن جهل بذنوبهم و إن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته و باستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه و بحمده.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) مسوق للدلالة على توحيده في فعله و صفته فهو الوكيل المتصرّف في اُمور عباده وحده و هو خبير بذنوبهم و حاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.

و من هنا يظهر أنّ الآية التالية:( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) متمّمة لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) إلخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه و تصرّفه كما يشتمل قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ ) إلخ على علمه و خبرته و بالحياة و الملك و العلم معاً يتمّ معنى الوكالة و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ظاهر السياق أنّ الموصول صفة لقوله في الآية السابقة:( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) و بهذه الآية يتمّ البيان في قوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) فإنّ الوكالة كما تتوقّف على حياة الوكيل تتوقّف على العلم، و قد ذكره في قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) و تتوقّف على السلطنة على

٢٥٢

الحكم و التصرّف و هو الّذي تتضمّنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات و الأرض و الاستواء على العرش.

و قد تقدّم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، و أمّا قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) فالّذي يعطيه السياق و يهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبراً لمبتدإ محذوف و التقدير هو الرحمن، و قوله:( فَسْئَلْ ) متفرّعاً عليه و الفاء للتفريع، و الباء في قوله:( بِهِ ) للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. و قوله:( خَبِيراً ) حال من الضمير.

و المعنى: هو الرحمن - الّذي استوى على عرش الملك و الّذي برحمته و إفاضته يقوم الخلق و الأمر و منه يبتدئ كلّ شي‏ء و إليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنّه خبير.

فقوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) كناية عن أنّ الّذي أخبر به حقيقة الأمر الّتي لا معدل عنها و هذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني اُجبك إنّ كذا و كذا و من هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.

و لهم في قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) أقوال اُخرى كثيرة: فقيل: إن( الرَّحْمنُ ) مرفوع على القطع للمدح، و قيل: مبتدأ خبره قوله:( فَسْئَلْ بِهِ ) و قيل: خبر مبتدؤه( الَّذِي ) في صدر الآية، و قيل: بدل من الضمير المستكنّ في( اسْتَوى) .

و قيل في( فَسْئَلْ بِهِ) إنّه خبر للرحمن كما تقدّم و الفاء فصيحة، و قيل: جملة مستقلّة متفرّعة على ما قبلها و الفاء للتفريع ثمّ الباء في( بِهِ ) للصلة أو بمعنى عن و الضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدّم من الخلق و الاستواء.

و قيل( خَبِيراً ) حال عن الضمير و هو راجع إليه تعالى، و المعنى فاسأل الله حال كونه خبيراً، و قيل: مفعول فاسأل و الباء بمعنى عن و المعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق و الاستواء خبيراً، و المراد بالخبير هو الله سبحانه، و قيل جبرئيل و قيل: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة و وقف على صفاته

٢٥٣

و أفعاله تعالى و كيفيّة الخلق و الإيجاد، و قيل: كلّ من كان له وقوف على هذه الحقائق.

و هذه الوجوه المتشتّتة جلّها أو كلّها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة و لا موجب للتكلّم عليها و الغور فيها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول و دعوته الحقّة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه و نفورهم منه و للآية اتّصال خاصّ بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها و قد وصف في الآية السابقة بما وصف و لعلّ اللّام فيه للعهد.

فقوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) الضمير للكفّار، و القائل هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله بعد:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) و لم يذكر اسمه ليتوجّه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.

و قوله:( قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ ) سؤال منهم عن هويّته و مائيّته مبالغة منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله و لو لا ذلك لقالوا: و من الرحمن، و هذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى ربّ العالمين:( وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ ) الشعراء: ٢٣، و قول إبراهيم لقومه:( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) الأنبياء: ٥٢، و مراد السائل في مثل هذا السؤال أنّه لا معرفة له من المسؤل عنه بشي‏ء أزيد من اسمه كقول هود لقومه:( أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) الأعراف: ٧١.

و قوله حكاية عنهم:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، و التعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكّم و استهزاء.

و قوله:( وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) معطوف على جواب إذا و المعنى: و إذا قيل لهم اسجدوا استكبروا و زادهم ذلك نفوراً ففاعل( زادَهُمْ ) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.

و قول بعضهم: إنّ الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنّه

٢٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة مّا لا يؤثّر في دلالة اللفظ ما لم يتعرّض له لفظاً. و لا تعرّض في الآية لهذه القصّة أصلاً.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) الظاهر أنّ المراد بالبروج منازل الشمس و القمر من السماء أو الكواكب الّتي عليها كما تقدّم في قوله:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و إنّما خصّت بالذكر في الآية للإشارة إلى الحفظ و الرجم المذكورين.

و المراد بالسراج الشمس بدليل قوله:( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: ١٦.

و قد قرّروا الآية أنّها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي و الأرضيّ على وحدة المدبّر فيجب التوجّه بالعبادات إليه و صرف الوجه عن غيره.

و التدبّر في اتّصال الآيتين بما قبلهما و سياق الآيات لا يساعد عليه لأنّ مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا اُمروا بالسجود له و استهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه و بين الاحتجاج على توحيد الربوبيّة حتّى يعقّب به، و إنّما المناسب لهذا المعنى إظهار العزّة و الغنى و أنّهم غير معجزين لله بفعالهم هذا و لا خارجين عن ملكه و سلطانه.

و الّذي يعطيه التدبّر أنّ قوله:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) إلخ، مسوق سوق التعزّز و الاستغناء، و أنّهم غير معجزين باستكبارهم على الله و استهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه و الصعود إلى سماء جواره و المعارف الإلهيّة مضيئة مع ذلك لأهله و عباده بما نوّرها الله سبحانه بنور هدايته و هو نور الرسالة.

و على هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج

٢٥٥

المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة و جعل الشمس المضيئة و القمر المنير فيها لإضاءة العالم المحسوس، و أشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإنسانيّ بنور الهداية من الرسالة ليتبصّر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات و دفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيّأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.

هذا ما يعطيه السياق و على هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات و الّتي قبلها كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الخلفة هي الشي‏ء يسدّ مسدّ شي‏ء آخر و بالعكس و كأنّه بناء نوع اُريد به معنى الوصف فكون الليل و النهار خلفة أنّ كلّا منهما يخلف الآخر، و تقييد الخلفة بقوله:( لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) للدلالة على نيابة كلّ منهما عن الآخر في التذكّر و الشكر.

و المقابلة بين التذكّر و الشكر يعطي أنّ المراد بالتذكّر الرجوع إلى ما يعرفه الإنسان بفطرته من الحجج الدالّة على توحيد ربّه و ما يليق به تعالى من الصفات و الأسماء و غايته الإيمان بالله، و بالشكور القول أو الفعل الّذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، و ينطبق على عبادته و ما يلحق بها من صالح العمل.

و على هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل و النهار بحيث يخلف كلّ صاحبه فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاُخرى منه، و من لم يوفّق لعبادة أو لأيّ عمل صالح في شي‏ء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة:( وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) ففيه إشارة إلى أنّ الله سبحانه و إن دفع اُولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنّه لم يمنع عباده عن التقرّب إليه و

٢٥٦

الاستضاءة بنوره فجعل نهاراً ذا شمس طالعة و ليلاً ذا قمر منير و هما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

و فسّر بعضهم التذكّر بصلاة الفريضة و الشكور بالنافلة و الآية تقبل الانطباق على ذلك و إن لم يتعيّن حملها عليه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أخرج الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تحت ظلّ السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عندالله من هوى متّبع.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فقال: الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ ) الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسباً و صهراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) يعني أبا الحكم الّذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا جهل بن هشام.

أقول: و الروايتان بالجري و التطبيق أشبه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تبارك و تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فالبروج الكواكب و البروج الّتي للربيع و الصيف الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة، و

٢٥٧

بروج الخريف و الشتاء: الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و هي اثنا عشر برجاً.

و في الفقيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك و تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار و ما فاته بالنهار بالليل.

٢٥٨

( سورة الفرقان الآيات ٦٣ - ٧٧)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ٦٤ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ  إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ٦٧ ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ  وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا ( ٧١ ) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ٧٢ ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ٧٤ ) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ٧٥ ) خَالِدِينَ فِيهَا  حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٧٦ ) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ  فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ( ٧٧ )

٢٥٩

( بيان)

تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفّار السيّئة و يجمعها أنّهم يدعون ربّهم و يصدّقون رسوله و الكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفّار لذلك و إعراضهم عنه إلى اتّباع الهوى، و لذلك تختتم الآيات بقوله:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه و إهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين و سمّاهم عباداً و أضافهم إلى نفسه متسمّياً باسم الرحمن الّذي كان يحيد عنه الكفّار و ينفرون.

و قد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم:

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) و الهون على ما ذكره الراغب التذلّل، و الأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس و معاشرتهم فهم في أنفسهم متذلّلون لربّهم و متواضعون للناس لما أنّهم عباد الله غير مستكبرين على الله و لا مستعلين على غيرهم بغير حقّ، و أمّا التذلّل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزّة الوهميّة فحاشاهم و إن كان الهون بمعنى الرفق و اللين فالمراد أنّهم يمشون من غير تكبّر و تبختر.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه قوله:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم ممّا يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلّق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول و قالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللّغو و الإثم، قال تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا

٢٦٠

قلبه إنّما هو شرّ ير كلّ يوم. فحزن الربّ أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسّف في قلبه. فقال الربّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الّذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء. لأنّى حزنت أنّى عملتهم. وأمّا نوح فوجد نعمة في عين الربّ.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

فقال الله لنوح نهاية كلّ بشر قد أتت أمامى. لأنّ الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفليّة ومتوسّطة وعلويّة تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لاُهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كلّ ما في الأرض يموت. ولكن اُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حىّ من كلّ ذى جسد اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا واُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كلّ دبّابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال(١) الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأنّى إيّاك

____________________

(١) الاصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٦١

رأيت بارّا لدىّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا واُنثى. ومن البهائم الّتى ليست بطاهرة اثنين ذكر واُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكرا واُنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. لأنّى بعد سبعة أيّام أيضاً أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الربّ.

ولمّا كان نوح ابن ستّمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم الّتى ليست بطاهرة ومن الطيور وكلّ ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر واُنثى. كما أمر الله نوحاً.

وحدث بعد السبعة الأيّام أنّ مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستّمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كلّ ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكلّ الوحوش كأجناسها وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض كأجناسها وكلّ الطيور كأجناسها كلّ عصفور ذى جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كلّ جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا واُنثى من كلّ ذى جسد كما أمره الله. وأغلق الربّ عليه.

وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة الّتى تحت كلّ السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كلّ ذى جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات الّتى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة مات. فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض. الناس

٢٦٢

والبهائم والدبّابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقّى نوح والّذين معه في الفلك فقطّ. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.

ثم(١) ذكر الله نوحاً وكلّ الوحوش وكلّ البهائم الّتى معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أوّل الشهر ظهرت رؤس الجبال.

وحدث من بعد أربعين يوماً أنّ نوحاً فتح طاقة الفلك الّتى كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردّدا حتّى نشفت المياه عن الأرض. ثمّ أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم يجد الحمامة مقرّا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأنّ مياها كانت على وجه كلّ الأرض فمدّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.

وكان في السنة الواحدة والستّمائة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض.

وكلّم الله نوحاً قائلا. اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكلّ الحيوانات الّتى معك من كلّ ذى جسد الطيور والبهائم وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكلّ الحيوانات وكلّ

____________________

(١) الاصحاح الثامن من سفر التكوين.

٢٦٣

الدبّابات وكلّ الطيور كلّ ما يدبّ على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للربّ. وأخذ من كلّ البهائم الطاهرة ومن كلّ الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسّم الربّ رائحة الرضا وقال الربّ في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته ولا أعود أيضاً اُميت كلّ حىّ كما فعلت. مدّة كلّ أيّام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله(١) نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء مع كلّ ما يدبّ على الأرض وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كلّ دابّة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أنّ لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقطّ من يد كلّ حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأنّ الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلّم الله نوحاً وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض الّتى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتّى كلّ حيوان الأرض. اُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الّذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسى في السحاب فتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض.فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أنّى أذكر ميثاقي الّذى بينى وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفانا لتهلك كلّ ذى جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لاذكر ميثاقاً أبديّاً بين الله وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد على

____________________

(١) الاصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٦٤

الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الّذى أنا أقمته بينى وبين كلّ ذى جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الّذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو ابوكنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض.

وابتدأ نوح يكون فلّاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كلّ أيّام نوح تسع ماءة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:

منها: أنّه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أنّ من الجائز أن يكون لنوح زوجان اُغرقت إحداهما ونجت الاُخرى.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصّه القرآن.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها: أنّه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنّها المدّة الّتى لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت: ١٤.

٢٦٥

ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصّة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيّات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدّة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيّات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصّة نوحعليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالاسرائيليّات أشبه.

٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الاُمم وأساطيرهم:

قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الاُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلّا قليلا ومنها المخالف له إلّا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيّين، وهم الّذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أنّ (زيزستروس) رأى في الحلم بعد موت والده (اُوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصّة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنّه كان في الأرض جيل من الجبّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر آشور بانيبال من نحو ستّمائة وستّين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أنّ كهنة المصريّين قالوا لسولون - الحكيم اليونانىّ - أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأوّل الّذى كان بعد ميناس الأوّل، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان عمّ الأرض كلّها إلّا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.

وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و

٢٦٦

الشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إنّ هذا الطوفان فار أوّلا من تنّور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكنّ المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنّه كان خاصّاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرّات في شكل خرافيّ آخرها أنّ ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدّها بالدسر حتّى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكنّ البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عامّ أغرق الهند كلّها، وروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكلّ هذه الروايات تتّفق في أنّ سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

وقد(١) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدّس أنّ (أهورامزدا) أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنّه جمشيد الملك) أنّه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدوابّ والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي(٢) في قصّة الطوفان: أنّه بينما كان (مانو) (هو ابن الإله عند الوثنيّين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، وممّا اندهش به أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذ (مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الّذى أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.

____________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٦٧

فلمّا كبرت أخبرت (مانو) عن السنة الّتى سيأتي فيها الطوفان ثمّ أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا اُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجفّ بقى مانو وحده. انتهى.

٦ - هل كانت نبوّتهعليه‌السلام عامّة للبشر؟

مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ما يدلّ عليه، وعلى أنّ اُولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافّة.

وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦ وقوله:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافّة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وكان كلّ نبىّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس كافّة) وأجابوا عن الآيات أنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي الّتى كانوا يسكنونها وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يونس: ٧٨.

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافرى قومي ديارا، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرّيّته هم الباقين من قومه.

والحقّ أنّ البحث لم يستوف حقّه في كلامهم، والّذى ينبغى أن يقال: أنّ النبوّة إنّما ظهرت في المجتمع الإنسانيّ عن حاجة واقعيّة إليها ورابطة حقيقيّة بين

٢٦٨

الناس وبين ربّهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينيّة لا اعتباريّة جزافيّة فإنّ من القوانين الحقيقيّة الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجوديّة، وقد قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥١.

فكلّ نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أوّل تكوّنه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الّذى فيه خيره وسعادته، والنوع الإنسانيّ أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجّه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

ومن الضرورىّ عندنا أنّ هذا الكمال لا يتمّ للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيويّة وكثرة الأعمال الّتى يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العمليّ الّذى يبعثه إلى الاستفادة من كلّ ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.

غير أنّ الأفراد أمثال وفي كلّ واحد منهم من العقل العمليّ والشعور الخاصّ الإنسانيّ ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العمليّ، واضطرّهم ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ بأن يعمل الكلّ للكلّ وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخّر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢.

وهذا الّذى ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاونيّ اضطرارىّ له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوّة الرقباء فهو في الحقيقة مدنىّ تعاونيّ بالطبع الثانيّ وإلّا فطبعه الأوّلىّ أن ينتفع بكلّ ما يتيسّر له الانتفاع حتّى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوى الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه واُخذ يسترقّ الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ وقال:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق: ٨.

ومن الضرورىّ أنّ الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد لا يتمّ إلّا بقوانين يحكم

٢٦٩

فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا ممّا استمرّت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلّا ويجرى فيه رسوم وسنن جرياناً كليّاً أو أكثريّاً ، التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي موادّ وقضايا فكريّة تطبّق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلّيّاً أو أكثريّاً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنّاً فهى اُمور متخلّلة بين كمال الإنسان ونقصه، وأشياء متوسّطة بين الإنسان وهو في أوّل نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أنّ من الواجب في عناية الله أن يهدى الإنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حدّ ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الّذى يبعثها إليه نظام الكون والجهازات الّتى جهّز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميّز خيره من شرّه وسعادته من شقائه كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس: ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى اُصول وقوانين اعتقاديّة وعمليّة يتمّ له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإنّ العناية الإلهيّة بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينيّة المحضة.

ولا يكفى في ذلك ما جهّز به الإنسان من العقل - وهو ههنا العمليّ منه - فإنّ العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أنّ المتخلّفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلّهم عقلاء ممتّعون بمتاع العقل مجهّزون به.

فظهر أنّ هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحقّ ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكّر والتعقّل وهو طريق الوحى، وهو نوع تكليم إلهىّ يعلّم

٢٧٠

الإنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيويّة والاُخرويّة.

فإن قلت: الأمر سواء فإنّ شرع النبوّة لم يأت بأزيد ممّا لو كان العقل لأتى به فإنّ العالم الإنسانيّ لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحى أن يدير المجتمع الإنسانيّ ويركّبه صراط الحقّ فما هي الحاجة إليه؟

قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أنّ العناية الإلهيّة من واجبها أن تهدى المجتمع الإنسانيّ إلى تعاليم تسعده وتكمّله لو عمل بها وهى الهداية بالوحى ولا يكفى فيها العقل، وجهة أنّ الواقع في الخارج والمتحقّق بالفعل ما هو؟ وإنّما نبحث في المقام من الجهة الاُولى دون الثانية، ولا يضرّ بها أنّ هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلّا قليلا. وذلك كما أنّ العناية الإلهيّة تهدى انواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كلّ نوع دون الوصول إلى غايته النوعيّة ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعيّ.

وبالجملة فطريق النبوّة ممّا لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهيّة وإلّا لم تتمّ الحجّة بمجرّد العقل لأنّ له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنّما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزّل الله على المجتمع الإنسانيّ دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعيّة دون أن يخصّ بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضرورىّ أن يكون أوّل شريعة نزلت عليهم شريعة عامّة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عزّ من قائل:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً

٢٧١

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، فبيّن أنّ الناس كانوا أوّل ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيويّة ثمّ ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادّة الخصومة والنزاع.

ثمّ قال تعالى فيما امتنّ به على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى: ١٣. ومقام الامتنان يقضى بأنّ الشرائع الإلهيّة المنزلة على البشر هي هذه الّتى ذكرت لا غير، وأوّل ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامّة للبشر كلّهم وخاصّة في زمنهعليه‌السلام لكان هناك إمّا نبىّ آخر ذو شريعة اُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإمّا إهمال سائر الناس غير قومهعليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أنّ نبوّة نوحعليه‌السلام كانت عامّة، وأنّ له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأنّ كتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة، وأنّ قوله تعالى في الآية السابقة( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من اُولى العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم).

وظهر أيضاً أنّ ما يدلّ من الروايات على عدم عموم دعوتهعليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضاعليه‌السلام أنّ اُولى العزم من الأنبياء خمسة لكلّ منهم شريعة وكتاب ونبوّتهم عامّة لجميع من سواهم نبيّا أو غير نبىّ، وقد تقدّم الحديث في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ - هل الطوفان كانت عامّة لجميع الأرض؟ تبيّن الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإنّ عموم دعوتهعليه‌السلام يقضى بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أنّ المراد بسائر الآيات الدالّة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح

٢٧٢

عليه‌السلام :( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦، وقوله حكاية عنه:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله: و( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين فمن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصّاً بأرض قوم نوحعليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أمّا قوله في نوحعليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيّاً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأمّا قوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فليس نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها فإنّ المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنى أرض مصر، وقوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) فالمراد بها مكّة، وقوله:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) والمراد بها الأرض الّتى كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيّته، وهذا يقتضى أن يكون الطوفان في البقعة الّتى كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلّها إلّا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجيّة - يقولون إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس

٢٧٣

كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثمّ أشار إلى ما استدلّ به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أنّ الماء قد صعد إليها مرّة من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض هذا.

وردّ عليه بأنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنّه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ثمّ قال ما ملخّصه: أنّ هذه المسائل التاريخيّة ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبيّنها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدّم إنّه ظاهر النصوص ولا نتّخذه عقيده دينيّة قطعيّة فإن أثبت علم الجيولوجيّة خلافه لا يضرّنا لأنّه لا ينقض نصّاً قطعيّاً عندنا. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأمّا قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إنّ صعود الماء إليها في أيّام معدودة لا يكفى في حدوثها ! ففيه أنّ من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثمّ تبقى عليها بعد النشف فإنّ ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيّام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كلّه قد فاته ما ينصّ عليه الآيات أنّهعليه‌السلام اُمر أن يحمل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإنّ ذلك كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الّذى هو بمنزلة الجميع.

فالحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّا للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر اُغرقوا جميعاً، ولم يقم لهذا الحين حجّة قطعيّة تصرّفها عن هذا الظهور.

٢٧٤

وقد كنت سألت صديقى الفاضل الدكتور سحابيّ المحترم اُستاذ الجيولوجيا بكلّيّة طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجيّة في أمر هذا الطوفان العامّ إن كان فيها ما يؤيّد ذلك على وجه كلّىّ فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصّلا في فصول:

١ - الأراضي الرسوبيّة: تطلق الأراضي الرسوبيّة في الجيولوجيا على الطبقات الأرضيّة الّتى كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات الّتى غطّتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبيّة بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكرويّة المدوّرة فإنّها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادّة الأطراف والزوايا حوّلتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثمّ إنّ الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبيّة في البطائح فغالب الأراضي الترابيّة من هذا القبيل تخالطها أو تكوّنها رمال بالغة في الدقّة، وقد حملها لدقّتها وخفّتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبيّة وقد غطّتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أوّلا - أمارة أنّ تلك الطبقات لم تتكوّن في زمان واحد بعينه - وثانياً - أنّ مسير المياه والسيول أو شدّة جريانها قد تغيّر بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتّضح بذلك أنّ الأراضي الرسوبيّة كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامّة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي الّتى تحكى عن جريان مياه كثيرة جدّاً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقيّ

٢٧٥

الصين، ومصر، وأكثر قطعات إمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبيّة في بعض الأماكن إلى مآت الأمتار كما أنّها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج ممّا مرّ أوّلا: أنّ سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربّما غطّت معظم بقاعها.

وثانياً: أنّ الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبيّ في بعض الأماكن - لم يحدث مرّة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرّر في مآت من السنين كلّما حدث مرّة كون طبقة رسوبيّة ثمّ إذا انقطع غطّتها طبقة ترابيّة ثمّ إذا عاد كوّن اُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبيّة في دقّة رمالها وعدمها يدلّ على اختلاف السيلان بالشدّة والضعف.

٢ - الطبقات الرسوبيّة أحدث القشور والطبقات الجيولوجيّة: ترسب الطبقات الرسوبيّة عادة رسوباً اُفقيّاً ولكن ربّما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبيّة قويّة شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الاُفقيّة إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكوّنت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أنّ الطبقات الرسوبيّة والقشور الاُفقيّة الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكوّنة على البسيط، والدلائل الفنّيّة الموجودة تدلّ على أنّ عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا(١) .

٣ - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها . كان تكوّن القشور الرسوبيّة الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتّساعها بأطرافها فارتفعت

____________________

(١) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالّتيك وسائر المناطق الشماليّة من طبقات رسوبيّة اُفقيّة باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجيّة لجهات مذكورة في محلّها.

٢٧٦

مياهها وغطّت أكثر سواحلها، وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانيّة انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من اُوربه بالكلّيّة، وكانت اُوربه من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّىّ إلى هذا الحين فانفصلتا باتّساع البحر المتوسّط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقيّ وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندنيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبىّ جزيرة اليابان متّصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقيّ إلى هذا الحين فانفصلت وتحوّلت إلى صورتها الفعليّة، وكذا انقطاع إمريكا الشماليّة من جهة شمالها عن شمال اُوربه أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحوّلات الأرضيّة الداخليّة آثار قويّة في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحليّة المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسّع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبيّة انكشف عنها ماء الخليج(١) .

٤ - العوامل المؤثّرة في إزدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان . الشواهد الجيولوجيّة الّتى أشرنا إلى بعضها تؤيّد أنّ النزولات الجوّيّة كانت غير عاديّة في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانيّة وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيّرات جوّيّة هامّة خارقة للعادة قطعاً.

فكان الهواء حارّاً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطّى معظم النصف الشماليّ من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويّاً أنّ المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشماليّة.

____________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشيّة بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشرعيّة الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.

٢٧٧

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجوّ وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادىّ وتعقّبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثمّ استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصّة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب اُوربه وشمال إفريقا كجبال(١) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق اُخرى قديمة وتوسّعها ثمّ تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبيّة جديدة.

وممّا كان يمدّ الطوفان السماويّ في شدّة عمله يزيد حجم السيول الجارية أنّ حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائيّة في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطريّة، ويزيد في قوّة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أنّ الذخائر الأرضيّة متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأرضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الّذى أفرغته السيول بالتفجير والمصّ.

٥ - نتيجة البحث . وعلى ما قدّمناه من البحث الكلّىّ يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيّات الطوفان الواقع في زمن نوحعليه‌السلام كقوله تعالى:

____________________

(١) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليونى سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.

٢٧٨

( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: ١٢، وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) هود: ٤٠، وقوله:( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر) هود: ٤٤. انتهى.

وممّا يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد(١) طهران في هذه الأيّام وملخّصه: أنّ جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركيّ عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقيّ تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطى القياس أنّها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطى أنّها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثى حجم مركب (كوئين مارى) الإنجليزيّة الّتى طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنّها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟عليه‌السلام .

٦ - عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدلّ على أنّهعليه‌السلام عمّر طويلا، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار الإنسانيّة لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتّى ذكر بعضهم أنّ القدماء كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلّا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أنّ طول عمرهعليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في قصص الأنبياء في خصائصهعليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوّة. انتهى.

____________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أوّل سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الاول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٩

والحقّ أنّه لم يقم حتّى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلىّ بأزيد من الأعمار الطبيعيّة اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلّما وجدنا معمّرا عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستّين وجدناه بسيط العيش قليل الهمّ ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقى بعض الأعمار في السابقين إلى مآت من السنين.

على أنّ الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوحعليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدّم كلام في المعجزة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٧ - أين هو جبل الجودى : ذكروا أنّه بديار بكر من موصل في جبال تتّصل بجبال أرمينيّة، وقد سمّاه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: و الجودىّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوحعليه‌السلام ، ويسمّى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطّلاع: الجودىّ مشدّدة جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لمّا نضب الماء.

٨ - ربّما قيل : هب إنّه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الّذى على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كلّ هلاك ولو كان عامّا عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامّة الّتى تهلك الاُلوف ثمّ الاُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول)

١ - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ : الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453