الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124129 / تحميل: 6112
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٧ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ  وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ  الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا  ( ٦٠ ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ )

( بيان)

تذكر الآيات بعض صفات اُولئك الكفّار القادحين في الكتاب و الرسالة و المنكرين للتوحيد و المعاد ممّا يناسب سنخ اعتراضاتهم و اقتراحاتهم كاستهزائهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اتّباعهم الهوى و عبادتهم لما لا ينفعهم و لا يضرّهم و استكبارهم عن السجود لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) ضمير الجمع للّذين كفروا السابق ذكرهم، و الهزؤ الاستهزاء و السخريّة فالمصدر بمعنى المفعول، و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا لا يتّخذونك إلّا مهزوّا به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.

قوله تعالى: ( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ) إلخ( إِنْ )

٢٤١

مخفّفة من الثقيلة، و الإضلال كأنّه مضمّن معنى الصرف و لذا عدّي بعن، و جواب لو لا محذوف يدلّ عليه ما تقدّمه، و المعنى أنّه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلّاً لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.

و قوله:( وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) توعّد و تهديد منه تعالى لهم و تنبيه أنّهم على غفلة ممّا سيستقبلهم من معاينة العذاب و اليقين بالضلال و الغيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، و المراد باتّخاذ الهوى إلهاً طاعته و اتّباعه من دون الله و قد أكثر الله سبحانه في كلامه ذمّ اتّباع الهوى و عدّ طاعة الشي‏ء عبادة له في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) استفهام إنكاريّ أي لست أنت وكيلاً عليه قائماً على نفسه و باُموره حتّى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك و قد أضلّه الله و قطع عنه أسباب الهداية و في معناه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) القصص: ٥٦، و قوله:( وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فاطر: ٢٢، و الآية كالإجمال للتفصيل الّذي في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: ٢٣.

و يظهر ممّا تقدّم من المعنى أنّ قوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) على نظمه الطبيعي أي إنّ( اتَّخَذَ ) فعل متعدّ إلى مفعولين و( إِلهَهُ ) مفعوله الأوّل و( هَواهُ ) مفعول ثان له فهذا هو الّذي يلائم السياق و ذلك أنّ الكلام حول شرك المشركين و عدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، و إعراضهم عن طاعة الحقّ الّتي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الّذي يزيّن لهم الشرك، و هؤلاء يسلّمون أنّ لهم إلهاً مطاعاً و قد أصابوا في ذلك، لكنّهم يرون أنّ هذا المطاع هو الهوى فيتّخذونه مطاعاً بدلاً من أن

٢٤٢

يتّخذوا الحقّ مطاعاً فقد وضعوا الهوى موضع الحقّ لا أنّهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.

و من هنا يظهر ما في قول عدّة من المفسّرين أنّ( هَواهُ ) مفعول أوّل لقوله( اتَّخَذَ ) و( إِلهَهُ ) مفعول ثان مقدّم، و إنّما قدّم للاعتناء به من حيث إنّه الّذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ ) إلخ، كما قاله بعضهم، أو إنّما قدم للحصر على ما قاله آخرون، و لهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها و فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أم منقطعة، و الحسبان بمعنى الظنّ و ضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. و الترديد بين السمع و العقل من جهة أنّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إمّا أن يستقلّ بالتعقّل فيعقل الحقّ فيتّبعه أو يرجع إلى قول من يعقله و ينصحه فيتّبعه إن لم يستقلّ بالتعقّل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله:( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

و المعنى: بل أ تظنّ أنّ أكثرهم لهم استعداد استماع الحقّ ليتّبعه أو استعداد عقل الحقّ ليتّبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ) بيان للجملة السابقة فإنّه في معنى: أنّ أكثرهم لا يسمعون و لا يعقلون فتنبّه أنّهم ليسوا إلّا كالأنعام و البهائم في أنّها لا تعقل و لا تسمع إلّا اللفظ دون المعنى.

و قوله:( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أي من الأنعام و ذلك أنّ الأنعام لا تقتحم على ما يضرّها و هؤلاء يرجّحون ما يضرّهم على ما ينفعهم، و أيضاً الأنعام إن ضلّت عن سبيل الحقّ فإنّها لم تجهّز في خلقتها بما يهديها إليه و هؤلاء مجهّزون و قد ضلّوا.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الأنعام لا علم لها بربّها. و فيه أنّ الآية

٢٤٣

لا تنفي عنها و لا عن الكفّار أصل العلم بالله و إنّما تنفي عن الكفّار اتّباع الحقّ الّذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتّباع الهوى، و تشبّههم في ذلك بالأنعام الّتي لم تجهّز بهذا النوع من الإدراك.

و أمّا ما أجاب به بعضهم أنّ الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) هاتان الآيتان و ما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمّنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أنّ الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد و إنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممّن شاء الله و أمّا غيرهم ممّن اتّخذ إلهه هواه فصار لا يسمع و لا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.

فهي تبيّن أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه و بيّنات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه و هو على صراط مستقيم، و ذلك كمدّ الظلّ و جعل الشمس دليلاً عليه تنسخه، و كجعل الليل لباساً و النوم سباتاً و النهار نشوراً، و كجعل الرياح بشراً و إنزال المطر و إحياء الأرض الميتة و إرواء الأنعام و الأناسيّ به.

ثمّ ما مثل المؤمن و الكافر في اهتداء هذا و ضلال ذاك - و هم جميعاً عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلّا كمثل الماءين العذب الفرات و الملح الاُجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخاً و حجراً محجوراً، و كالماء خلق الله سبحانه منه بشراً ثمّ جعله نسباً و صهراً فاختلف بذلك المواليد و كان ربّك قديراً.

هذا ما يهدي إليه التدبّر في مضامين الآيات و خصوصيّات نظمها و به يظهر وجه اتّصالها بما تقدّمها، و أمّا ما ذكروه من أنّ الآيات مسوقة لبيان بعض أدلّة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها و ضلالهم فالسياق لا يساعد عليه و سنزيد ذلك إيضاحاً.

فقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ) تنظير

٢٤٤

- كما تقدّمت الإشارة إليه - لشمول الجهل و الضلال للناس و رفعه تعالى ذلك بالرسالة و الدعوة الحقّة كما يشاء و لازم ذلك أن يكون المراد بمدّ الظلّ ما يعرض الظلّ الحادث بعد الزوال من التمدّد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الاُفق حتّى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد و هو الليل، و هو في جميع أحواله متحرّك و لو شاء الله لجعله ساكناً.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) و الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أنّ هناك ظلّاً و بانبساطه شيئاً فشيئاً على تمدّد الظلّ شيئاً فشيئاً و لولاها لم يتنبّه لوجود الظلّ فإنّ السبب العامّ لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحوّل الأحوال المختلفة عليه من فقدان و وجدان فإذا فقد شيئاً كان يجده تنبّه لوجوده و إذا وجد ما كان يفقده تنبّه لعدمه، و أمّا الأمر الثابت الّذي لا تتحوّل عليه الحال فليس إلى تصوّره بالتنبّه سبيل.

و قوله:( ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) أي أزلنا الظلّ بإشراق الشمس و ارتفاعها شيئاً فشيئاً حتّى ينسخ بالكلّيّة، و في التعبير عن الإزالة و النسخ بالقبض، و كونه إليه، و توصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهيّة و أنّها لا يشقّ عليها فعل، و أنّ فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام و البطلان بل بالرجوع إليه تعالى.

و ما تقدّم من تفسير مدّ الظلّ بتمديد الفي‏ء بعد زوال الشمس و إن كان معنى لم يذكره المفسّرون لكنّ السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره ممّا ذكره المفسّرون كقول بعضهم: إنّ المراد بالظلّ الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و قول بعض: ما بين غروب الشمس و طلوعها، و قول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، و قول بعض - و هو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء و جعلها كالقبّة ثمّ دحا الأرض من تحتها فألقت ظلّها عليها.

و في الآية أعني قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) إلخ، التفات من سياق التكلّم بالغير

٢٤٥

في الآيات السابقة إلى الغيبة، و النكتة فيه أنّ المراد بالآية و ما يتلوها من الآيات بيان أنّ أمر الهداية إلى الله سبحانه و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر شي‏ء و هو تعالى لا يريد هدايتهم و أنّ الرسالة و الدعوة الحقّة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال و نسخها ما تنسخ منه من شعب السنّة العامّة الإلهيّة في بسط الرحمة على خلقه نظير اطلاع الشمس على الأرض و نسخ الظلّ الممدود فيها بها، و من المعلوم أنّ الخطاب المتضمّن لهذه الحقيقة ممّا ينبغي أن يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خاصّة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، و أمّا الكفّار المتّخذون إلههم هواهم و هم لا يسمعون و لا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

و في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا ) رجوع إلى السياق السابق، و في ذلك مع ذلك من إظهار العظمة و الدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.

و الكلام في قوله الآتي:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ ) إلخ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ) كالكلام في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) ، و الكلام في قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلخ، و قوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ) ، و قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا ) ، كالكلام في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ ) .

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) كون الليل لباساً إنّما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.

و قوله:( وَ النَّوْمَ سُباتاً ) أي قطعاً للعمل، و قوله:( وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) أي جعل فيه الانتشار و طلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.

و حال ستره تعالى الناس بلباس الليل و قطعهم به عن العمل و الحركة ثمّ نشرهم للعمل و السعي بإظهار النهار و بسط النور كحال مدّ الظلّ ثمّ جعل الشمس عليه دليلاً و قبض الظلّ بها إليه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ

٢٤٦

السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) البشر بالضمّ فالسكون مخفّف بشر بضمّتين جمع بشور بمعنى مبشّر أي هو الّذي أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته و هي المطر.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) أي من جهة العلو و هي جوّ الأرض ماء طهوراً أي بالغاً في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهّر لغيره يزيل الأوساخ و يذهب بالأرجاس و الأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.

قوله تعالى: ( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً ) ، البلدة معروفة قيل: و اُريد بها المكان كما في قوله:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨، و لذا اتّصف بالميت و هو مذكّر و المكان الميت ما لا نبات فيه و إحياؤه إنباته، و الأناسيّ جمع إنسان، و معنى الآية ظاهر.

و حال شمول الموت للأرض و الحاجة إلى الشرب و الريّ للأنعام و الأناسيّ ثمّ إنزاله تعالى من السماء ماء طهوراً ليحيي به بلدة ميتاً و يسقيه أنعاماً و أناسيّ كثيراً من خلقه كحال مدّ الظلّ ثمّ الدلالة عليه بالشمس و نسخه بها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) ظاهر اتّصال الآية بما قبلها أنّ ضمير( صَرَّفْناهُ ) للماء و تصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة و عن غيرهم إليهم اُخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا و لا ينقطع عن قوم دائماً فيهلكوا بل يدور بينهم حتّى ينال كلّ نصيبه بحسب المصلحة، و قيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.

و قوله:( لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) تعليل للتصريف أي و اُقسم لقد صرّفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكّروا فيشكروا فأبى و امتنع أكثر الناس إلّا كفران النعمة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ) أي لو أردنا أن نبعث في كلّ قرية نذيراً ينذرهم و رسولاً يبلّغهم رسالاتنا لبعثنا و لكن بعثناك إلى القرى كلّها نذيراً و رسولاً لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسّرت الآية و لا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، و هذا المعنى لما وجّهنا به اتّصال الآيات أنسب.

٢٤٧

أو أنّ المراد أنّا قادرون على أن نبعث في كلّ قرية رسولاً و إنّما اخترناك لمصلحة في اختيارك.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً ) متفرّع على معنى الآية السابقة، و ضمير( بِهِ ) للقرآن بشهادة سياق الآيات، و المجاهدة و الجهاد بذل الجهد و الطاقة في مدافعة العدوّ و إذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم و بيان حقائقه لهم و إتمام حججه عليهم.

فمحصّل مضمون الآية أنّه إذا كان مثل الرسالة الإلهيّة في رفع حجاب الجهل و الغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحقّ لهم و إتمام الحجّة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظلّ الممدود و نسخه بأمر الله، و مثل النهار بالنسبة إلى الليل و سبته، و مثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة و الأنعام و الأناسيّ الظامئة، و قد بعثناك لتكون نذيراً لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأنّ طاعتهم تبطل هذا الناموس العامّ المضروب للهداية. و ابذل مبلغ جهدك و وسعك في تبليغ رسالتك و إتمام حجّتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقّة و جاهدهم به مجاهدة كبيرة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) المرج الخلط و منه أمر مريج أي مختلط، و العذب من الماء ما طاب طعمه، و الفرات منه ما كثر عذوبته، و الملح هو الماء المتغيّر طعمه. و الاُجاج شديد الملوحة، و البرزخ هو الحدّ الحاجز بين شيئين، و حجراً محجوراً أي حراماً محرّماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَهُما ) إلخ قرينة على أنّ المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.

و الكلام معطوف على ما عطف عليه قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) إلخ، و فيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين و هما مع ذلك غير متمازجين كما تقدّمت

٢٤٨

الإشارة إليه في أوّل الآيات التسع.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) الصهر على ما نقل عن الخليل الختن و أهل بيت المرأة فالنسب هو التحرّم من جهة الرجل و الصهر هو التحرّم من جهة المرأة - كما قيل - و يؤيّده المقابلة بين النسب و الصهر.

و قد قيل: إنّ كلّا من النسب و الصهر بتقدير مضاف و التقدير فجعله ذا نسب و صهر، و الضمير للبشر، و المراد بالماء النطفة، و ربّما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الّذي خلق الله منه الأشياء الحيّة كما قال:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) الأنبياء: ٣٠.

و المعنى: و هو الّذي خلق من النطفة - و هي ماء واحد - بشراً فقسّمه قسمين ذا نسب و ذا صهر يعني الرجل و المرأة و هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أنّ لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة و التفرّق في عين الاتّحاد و هكذا يحفظ اختلاف النفوس و الآراء بالإيمان و الكفر مع اتّحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الّذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقّة.

و قوله:( وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدّم في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) معطوف على قوله:( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) . و الظهير بمعنى المظاهر على ما قيل و المظاهرة المعاونة.

و المعنى: و يعبدون - هؤلاء الكفّار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة و لا يضرّهم بإيصال الشرّ على تقدير ترك العبادة و كان الكافر معاوناً للشيطان على ربّه.

و كون هؤلاء المعبودين و هم الأصنام ظاهراً لا ينفعون و لا يضرّون لا ينافي كون عبادتهم مضرّة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شي‏ء

٢٤٩

نفي الضرر عن عبادتهم المضرّة المؤدّية للإنسان إلى شقاء لازم و عذاب دائم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) أي لم نجعل لك في رسالتك إلّا التبشير و الإنذار و ليس لك وراء ذلك من الأمر شي‏ء فلا عليك إن كانوا معاندين لربّهم مظاهرين لعدوّه عليه فليسوا بمعجزين لله و ما يمكرون إلّا بأنفسهم، هذا هو الّذي يعطيه السياق.

و عليه فقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) هذا الفصل من الكلام نظير قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) في الفصل السابق.

و منه يظهر أنّ أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال و المراد ما أرسلناك إلّا مبشّراً للمؤمنين و نذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد.

قوله تعالى: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) ضمير( عَلَيْهِ ) للقرآن بما أنّ تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) المزّمّل: ١٩، الدهر: ٢٩، و قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ص: ٨٧.

و قوله:( إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) استثناء منقطع في معنى المتّصل فإنّه في معنى إلّا أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً من شاء ذلك على حدّ قوله تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، أي إلّا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.

ففيه وضع الفاعل و هو من اتّخذ السبيل موضع فعله و هو اتّخاذ السبيل شكراً له ففي الكلام عدّ اتّخاذهم سبيلاً إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجراً لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر ماليّ أو جاهيّ منهم، و أنّه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة و اتّباعهم للحقّ شيئاً آخر من مال أو جاه أو أيّ أجر مفروض فليطيبوا نفساً و لا يتّهموه في نصيحته.

و قد علّق اتّخاذ السبيل على مشيّتهم للدلالة على حرّيّتهم الكاملة عن قبله

٢٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إكراه و لا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربّه وراء التبشير و الإنذار و ليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.

فقوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ ) إلخ بعد ما سجّل لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له إلّا الرسالة بالتبشير و الإنذار يأمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا أن يستجيبوا له و يتّخذوا إلى ربّهم سبيلاً من غير غرض زائد من الأجر أيّاً مّا كان، و أنّ لهم الخيرة في أمرهم من غير أيّ إجبار و إكراه فهم و الدعوة إن شاؤا فليؤمنوا و إن شاؤا فليكفروا.

هذا ما يرجع إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر و لا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، و أمّا ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه و ليتوكّل عليه كما أشار إليه في الآية التالية:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

و ذكر جمهور المفسّرين أنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة و الإنفاق في سبيل الله فليفعل، و هو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة و لا من جهة السياق.

و قال بعضهم: إنّه متّصل و الكلام بحذف مضاف و التقدير إلّا فعل من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً بالإيمان و الطاعة حسبما أدعو إليهما. و فيه أخذ استجابتهم له أجراً لنفسه و قطعاً لشائبة الطمع بالكلّيّة و تطييباً لأنفسهم، و يرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدّمناه و يمتاز منه بتقدير مضاف و التقدير خلاف الأصل.

و قال آخرون: إنّه متّصل بتقدير مضاف و التقدير لا أسألكم عليه من أجر إلّا أجر من شاء إلخ أي إلّا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإنّ الدالّ على الخير كفاعله. و فيه أنّ مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلّا من اتّخذ إلى ربّه سبيلاً فلا حاجة إلى تعليق الاتّخاذ بالمشيّة و الأجر إنّما يترتّب على العمل دون مشيّته.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) لما سجّل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له من أمرهم شي‏ء إلّا

٢٥١

الرسالة و أمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا الاستجابة لها و أنّهم على خيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا و إن شاؤا كفروا تمّم ذلك بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتّخذه تعالى وكيلاً في أمرهم فهو تعالى عليهم و على كلّ شي‏ء وكيل و بذنوب عباده خبير.

فقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) أي اتّخذه وكيلاً في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء و يفعل بهم ما يريد فإنّه الوكيل عليهم و على كلّ شي‏ء و قد عدل عن تعليق التوكّل بالله إلى تعليقه بالحيّ الّذي لا يموت ليفيد التعليل فإنّ الحيّ الّذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعيّن لأن يكون وكيلاً.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي نزّهه عن العجز و الجهل و كلّ ما لا يليق بساحة قدسه مقارناً ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم و استدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك و لا عن جهل بذنوبهم و إن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته و باستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه و بحمده.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) مسوق للدلالة على توحيده في فعله و صفته فهو الوكيل المتصرّف في اُمور عباده وحده و هو خبير بذنوبهم و حاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.

و من هنا يظهر أنّ الآية التالية:( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) متمّمة لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) إلخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه و تصرّفه كما يشتمل قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ ) إلخ على علمه و خبرته و بالحياة و الملك و العلم معاً يتمّ معنى الوكالة و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ظاهر السياق أنّ الموصول صفة لقوله في الآية السابقة:( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) و بهذه الآية يتمّ البيان في قوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) فإنّ الوكالة كما تتوقّف على حياة الوكيل تتوقّف على العلم، و قد ذكره في قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) و تتوقّف على السلطنة على

٢٥٢

الحكم و التصرّف و هو الّذي تتضمّنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات و الأرض و الاستواء على العرش.

و قد تقدّم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، و أمّا قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) فالّذي يعطيه السياق و يهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبراً لمبتدإ محذوف و التقدير هو الرحمن، و قوله:( فَسْئَلْ ) متفرّعاً عليه و الفاء للتفريع، و الباء في قوله:( بِهِ ) للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. و قوله:( خَبِيراً ) حال من الضمير.

و المعنى: هو الرحمن - الّذي استوى على عرش الملك و الّذي برحمته و إفاضته يقوم الخلق و الأمر و منه يبتدئ كلّ شي‏ء و إليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنّه خبير.

فقوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) كناية عن أنّ الّذي أخبر به حقيقة الأمر الّتي لا معدل عنها و هذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني اُجبك إنّ كذا و كذا و من هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.

و لهم في قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) أقوال اُخرى كثيرة: فقيل: إن( الرَّحْمنُ ) مرفوع على القطع للمدح، و قيل: مبتدأ خبره قوله:( فَسْئَلْ بِهِ ) و قيل: خبر مبتدؤه( الَّذِي ) في صدر الآية، و قيل: بدل من الضمير المستكنّ في( اسْتَوى) .

و قيل في( فَسْئَلْ بِهِ) إنّه خبر للرحمن كما تقدّم و الفاء فصيحة، و قيل: جملة مستقلّة متفرّعة على ما قبلها و الفاء للتفريع ثمّ الباء في( بِهِ ) للصلة أو بمعنى عن و الضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدّم من الخلق و الاستواء.

و قيل( خَبِيراً ) حال عن الضمير و هو راجع إليه تعالى، و المعنى فاسأل الله حال كونه خبيراً، و قيل: مفعول فاسأل و الباء بمعنى عن و المعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق و الاستواء خبيراً، و المراد بالخبير هو الله سبحانه، و قيل جبرئيل و قيل: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة و وقف على صفاته

٢٥٣

و أفعاله تعالى و كيفيّة الخلق و الإيجاد، و قيل: كلّ من كان له وقوف على هذه الحقائق.

و هذه الوجوه المتشتّتة جلّها أو كلّها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة و لا موجب للتكلّم عليها و الغور فيها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول و دعوته الحقّة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه و نفورهم منه و للآية اتّصال خاصّ بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها و قد وصف في الآية السابقة بما وصف و لعلّ اللّام فيه للعهد.

فقوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) الضمير للكفّار، و القائل هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله بعد:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) و لم يذكر اسمه ليتوجّه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.

و قوله:( قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ ) سؤال منهم عن هويّته و مائيّته مبالغة منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله و لو لا ذلك لقالوا: و من الرحمن، و هذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى ربّ العالمين:( وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ ) الشعراء: ٢٣، و قول إبراهيم لقومه:( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) الأنبياء: ٥٢، و مراد السائل في مثل هذا السؤال أنّه لا معرفة له من المسؤل عنه بشي‏ء أزيد من اسمه كقول هود لقومه:( أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) الأعراف: ٧١.

و قوله حكاية عنهم:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، و التعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكّم و استهزاء.

و قوله:( وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) معطوف على جواب إذا و المعنى: و إذا قيل لهم اسجدوا استكبروا و زادهم ذلك نفوراً ففاعل( زادَهُمْ ) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.

و قول بعضهم: إنّ الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنّه

٢٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة مّا لا يؤثّر في دلالة اللفظ ما لم يتعرّض له لفظاً. و لا تعرّض في الآية لهذه القصّة أصلاً.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) الظاهر أنّ المراد بالبروج منازل الشمس و القمر من السماء أو الكواكب الّتي عليها كما تقدّم في قوله:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و إنّما خصّت بالذكر في الآية للإشارة إلى الحفظ و الرجم المذكورين.

و المراد بالسراج الشمس بدليل قوله:( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: ١٦.

و قد قرّروا الآية أنّها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي و الأرضيّ على وحدة المدبّر فيجب التوجّه بالعبادات إليه و صرف الوجه عن غيره.

و التدبّر في اتّصال الآيتين بما قبلهما و سياق الآيات لا يساعد عليه لأنّ مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا اُمروا بالسجود له و استهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه و بين الاحتجاج على توحيد الربوبيّة حتّى يعقّب به، و إنّما المناسب لهذا المعنى إظهار العزّة و الغنى و أنّهم غير معجزين لله بفعالهم هذا و لا خارجين عن ملكه و سلطانه.

و الّذي يعطيه التدبّر أنّ قوله:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) إلخ، مسوق سوق التعزّز و الاستغناء، و أنّهم غير معجزين باستكبارهم على الله و استهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه و الصعود إلى سماء جواره و المعارف الإلهيّة مضيئة مع ذلك لأهله و عباده بما نوّرها الله سبحانه بنور هدايته و هو نور الرسالة.

و على هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج

٢٥٥

المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة و جعل الشمس المضيئة و القمر المنير فيها لإضاءة العالم المحسوس، و أشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإنسانيّ بنور الهداية من الرسالة ليتبصّر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات و دفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيّأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.

هذا ما يعطيه السياق و على هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات و الّتي قبلها كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الخلفة هي الشي‏ء يسدّ مسدّ شي‏ء آخر و بالعكس و كأنّه بناء نوع اُريد به معنى الوصف فكون الليل و النهار خلفة أنّ كلّا منهما يخلف الآخر، و تقييد الخلفة بقوله:( لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) للدلالة على نيابة كلّ منهما عن الآخر في التذكّر و الشكر.

و المقابلة بين التذكّر و الشكر يعطي أنّ المراد بالتذكّر الرجوع إلى ما يعرفه الإنسان بفطرته من الحجج الدالّة على توحيد ربّه و ما يليق به تعالى من الصفات و الأسماء و غايته الإيمان بالله، و بالشكور القول أو الفعل الّذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، و ينطبق على عبادته و ما يلحق بها من صالح العمل.

و على هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل و النهار بحيث يخلف كلّ صاحبه فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاُخرى منه، و من لم يوفّق لعبادة أو لأيّ عمل صالح في شي‏ء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة:( وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) ففيه إشارة إلى أنّ الله سبحانه و إن دفع اُولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنّه لم يمنع عباده عن التقرّب إليه و

٢٥٦

الاستضاءة بنوره فجعل نهاراً ذا شمس طالعة و ليلاً ذا قمر منير و هما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

و فسّر بعضهم التذكّر بصلاة الفريضة و الشكور بالنافلة و الآية تقبل الانطباق على ذلك و إن لم يتعيّن حملها عليه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أخرج الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تحت ظلّ السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عندالله من هوى متّبع.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فقال: الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ ) الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسباً و صهراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) يعني أبا الحكم الّذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا جهل بن هشام.

أقول: و الروايتان بالجري و التطبيق أشبه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تبارك و تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فالبروج الكواكب و البروج الّتي للربيع و الصيف الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة، و

٢٥٧

بروج الخريف و الشتاء: الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و هي اثنا عشر برجاً.

و في الفقيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك و تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار و ما فاته بالنهار بالليل.

٢٥٨

( سورة الفرقان الآيات ٦٣ - ٧٧)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ٦٤ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ  إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ٦٧ ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ  وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا ( ٧١ ) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ٧٢ ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ٧٤ ) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ٧٥ ) خَالِدِينَ فِيهَا  حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٧٦ ) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ  فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ( ٧٧ )

٢٥٩

( بيان)

تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفّار السيّئة و يجمعها أنّهم يدعون ربّهم و يصدّقون رسوله و الكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفّار لذلك و إعراضهم عنه إلى اتّباع الهوى، و لذلك تختتم الآيات بقوله:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه و إهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين و سمّاهم عباداً و أضافهم إلى نفسه متسمّياً باسم الرحمن الّذي كان يحيد عنه الكفّار و ينفرون.

و قد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم:

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) و الهون على ما ذكره الراغب التذلّل، و الأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس و معاشرتهم فهم في أنفسهم متذلّلون لربّهم و متواضعون للناس لما أنّهم عباد الله غير مستكبرين على الله و لا مستعلين على غيرهم بغير حقّ، و أمّا التذلّل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزّة الوهميّة فحاشاهم و إن كان الهون بمعنى الرفق و اللين فالمراد أنّهم يمشون من غير تكبّر و تبختر.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه قوله:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم ممّا يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلّق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول و قالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللّغو و الإثم، قال تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا

٢٦٠

قِيلًا سَلاماً سَلاماً ) الواقعة: ٢٦، و يرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.

و هذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس و أمّا صفة ليلهم فهي الّتي تصفها الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ) البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و( لِرَبِّهِمْ ) متعلّق بقوله:( سُجَّداً ) و السجّد و القيام جمعاً ساجد و قائم، و المراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الأرض و القيام على السوق، و من مصاديقه الصلاة.

و المعنى: و هم الّذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربّهم و قائمين يتراوحون سجوداً و قياماً، و يمكن أن يراد به التهجّد بنوافل الليل.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) الغرام ما ينوب الإنسان من شدّة أو مصيبة فيلزمه و لا يفارقه و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الضمير لجهنّم و المستقرّ و المقام اسماً مكان من الاستقرار و الإقامة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) ، الإنفاق بذل المال و صرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، و الإسراف الخروج عن الحدّ و لا يكون إلّا في جانب الزيادة، و هو في الإنفاق التعديّ عمّا ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، و القتر بالفتح فالسكون التقليل في الإنفاق و هو بإزاء الإسراف على ما ذكره الراغب، و القتر و الإقتار و التقتير بمعنى.

و القوام بالفتح الواسط العدل، و بالكسر ما يقوم به الشي‏ء و قوله:( بَيْنَ ذلِكَ ) متعلّق بالقوام، و المعنى: و كان إنفاقهم وسطاً عدلاً بين ما ذكر من الإسراف و القتر فقوله:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) تنصيص على ما يستفاد من قوله( إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) ، فصدر الآية ينفي طرفي الإفراط و التفريط في الإنفاق، و ذيلها يثبت الوسط.

٢٦١

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى آخر الآية هذا هو الشرك و اُصول الوثنيّة لا تجيز دعاءه تعالى و عبادته أصلاً لا وحده و لا مع آلهتهم و إنّما توجب دعاء آلهتهم و عبادتهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى و يشفعوا لهم عنده.

فالمراد بدعائهم مع الله إلهاً آخر إمّا التلويح إلى أنّه تعالى إله مدعوّ بالفطرة على كلّ حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه و إن لم يذكر الله.

أو أنّه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده و بعبارة اُخرى تعدّيه إلى غيره.

أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنّهم كانوا يرون أنّ دعاء آلهتهم إنّما ينفعهم في البرّ و أمّا البحر فإنّه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان و نحوه و دعاء غيره معه في مورد و هو البرّ، و أحسن الوجوه أوسطها.

و قوله:( وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) أي لا يقتلون النفس الإنسانيّة الّتي حرّم الله قتلها في حال من الأحوال إلّا حال تلبّس القتل بالحقّ كقتلها قصاصاً و حدّاً.

و قوله تعالى:( وَ لا يَزْنُونَ ) أي لا يطؤن الفرج الحرام و قد كان شائعاً بين العرب في الجاهليّة، و كان الإسلام معروفاً بتحريم الزنا و الخمر من أوّل ما ظهرت دعوته.

و قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم ذكره و هو الشرك و قتل النفس المحترمة بغير حقّ و الزنا، و الآثام الإثم و هو وبال الخطيئة و هو الجزاء بالعذاب الّذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) بيان للقاء الآثام، و قوله:( وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) أي يخلد في العذاب و قد وقعت عليه الإهانة.

و الخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، و أمّا الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة و الزنا و هما من الكبائر و قد صرّح القرآن بذلك فيهما و كذا في أكل

٢٦٢

الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربّما استفيد من ظاهر قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعمّ من المنقطع و المؤبّد أو يحمل قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) على فعل جميع الثلاثة لأنّ الآيات في الحقيقة تنزّه المؤمنين عمّا كان الكفّار مبتلين به و هو الجميع دون البعض.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) استثناء من لقي الآثام و الخلود فيه، و قد اُخذ في المستثنى التوبة و الإيمان و إتيان العمل الصالح، أمّا التوبة و هي الرجوع عن المعصية و أقلّ مراتبها الندم فلو لم يتحقّق لم ينتزع العبد عن المعصية و لم يزل مقيماً عليها، و أمّا إتيان العمل الصالح فهو ممّا تستقر به التوبة و به تكون نصوحاً.

و أمّا أخذ الإيمان فيدلّ على أنّ الاستثناء إنّما هو من الشرك فتختصّ الآية بمن أشرك و قتل و زنا أو بمن أشرك سواء أتى معه بشي‏ء من القتل المذكور و الزنا أو لم يأت، و أمّا من أتى بشي‏ء من القتل و الزنا من غير شرك فالمتكفّل لبيان حكم توبته الآية التالية.

و قوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) تفريع على التوبة و الإيمان و العمل الصالح يصف ما يترتّب على ذلك من جميل الأثر و هو أنّ الله يبدّل سيّئاتهم حسنات.

و قد قيل في معنى ذلك أنّ الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة و يثبت مكانها لواحق طاعاتهم فيبدّل الكفر إيماناً و القتل بغير حقّ جهاداً و قتلاً بالحقّ و الزنا عفّة و إحصاناً.

و قيل: المراد بالسيّئات و الحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدّل ملكة السيّئة ملكة الحسنة.

و قيل: المراد بهما العقاب و الثواب عليهما لا نفسهما فيبدّل عقاب القتل و الزنا مثلاً ثواب القتل بالحقّ و الإحصان.

٢٦٣

و أنت خبير بأنّ هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يفيد ظاهر قوله:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) و قد ذيّله بقوله:( وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) أنّ كلّ سيّئة منهم نفسها تتبدّل حسنة، و ليست السيّئة هي متن الفعل الصادر من فاعله و هو حركات خاصّة مشتركة بين السيّئة و الحسنة كعمل المواقعة مثلاً المشترك بين الزنا و النكاح، و الأكل المشترك بين أكل المال غصباً و بإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لأمر الله و مخالفته له مثلاً من حيث إنّه يتأثّر به الإنسان و يحفظ عليه دون الفعل الّذي هو مجموع حركات متصرّمة متقضيّة فانية و كذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه.

و هذه الآثار السيّئة الّتي يتبعها العقاب أعني السيّئات لازمة للإنسان حتّى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر.

و لو لا شوب من الشقوة و المساءة في الذات لم يصدر عنها عمل سيّئ إذ الذات السعيدة الطاهرة من كلّ وجه لا يصدر عنها سيّئة قذرة فالأعمال السيّئة إنّما تلحق ذاتاً شقيّة خبيثة بذاتها أو ذاتاً فيها شوب من شقاء و خباثة.

و لازم ذلك إذا تطهّرت بالتوبة و طابت بالإيمان و العمل الصالح فتبدّلت ذاتاً سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدّل آثارها اللازمة الّتي كانت سيّئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله و رحمة و كان الله غفوراً رحيماً.

و إلى مثل هذا يمكن أن تكون الإشارة بقوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

قوله تعالى: ( وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ) المتاب مصدر ميميّ للتوبة، و سياق الآية يعطي أنّها مسوقة لرفع استغراب تبدّل السيّئات حسنات بتعظيم أمر التوبة و أنّها رجوع خاصّ إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدّل السيّئات حسنات و هو الله يفعل ما يشاء.

و في الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم

٢٦٤

فارقته، و الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - كانت خفيّة الدلالة على حال المعاصي إذا تجرّدت من الشرك.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) قال في مجمع البيان: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ. انتهى. فيشمل الكذب و كلّ لهو باطل كالغناء و الفحش و الخنا بوجه، و قال أيضاً: يقال: تكرّم فلان عمّا يشينه إذا تنزّه و أكرم نفسه منه انتهى.

فقوله:( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق و التقدير لا يشهدون شهادة الزور، و إن كان المراد اللهو الباطل كالغناء و نحوه كان مفعولاً به و المعنى لا يحضرون مجالس الباطل، و ذيل الآية يناسب ثاني المعنيين.

و قوله:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) اللغو ما لا يعتدّ به من الأفعال و الأقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائيّ و يعمّ - كما قيل - جميع المعاصي، و المراد بالمرور باللّغو المرور بأهل اللّغو و هم مشتغلون به.

و المعنى: و إذا مرّوا بأهل اللّغو و هم يلغون مرّوا معرضين عنهم منزّهين أنفسهم عن الدخول فيهم و الاختلاط بهم و مجالستهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) الخرور على الأرض السقوط عليها و كأنّها في الآية كناية عن لزوم الشي‏ء و الانكباب عليه.

و المعنى: و الّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحي لم يسقطوا عليه و هم صمّ لا يسمعون و عميان لا يبصرون بل تفكّروا فيها و تعقّلوها فأخذوا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها و اتّعظوا بموعظتها و كانوا على بصيرة من أمرهم و بيّنة من ربّهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال الراغب في المفردات: قرّت عينه تقرّ سرّت قال، تعالى:

٢٦٥

( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ) و قيل لمن يسرّ به قرّة عين قال:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) و قوله تعالى:( هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قيل: أصله من القرّ أي البرد فقرّت عينه قيل: معناه بردت فصحّت، و قيل: بل لأنّ للسرور دمعة باردة قارّة و للحزن دمعة حارّة و لذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه، و قيل: هو من القرار و المعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره انتهى.

و مرادهم بكون أزواجهم و ذريّاتهم قرّة أعين لهم أن يسرّوهم بطاعة الله و التجنّب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك و لا إربة و هم أهل حقّ لا يتّبعون الهوى.

و قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتّبعنا غيرنا من المتّقين كما قال تعالى:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة: ١٤٨، و قال:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: ٢١، و قال:( وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١، و كأنّ المراد أن يكونوا صفّاً واحداً متقدّماً على غيرهم من المتّقين و لذا جي‏ء بالإمام بلفظ الإفراد.

و قال بعضهم: إنّ الإمام ممّا يطلق على الواحد و الجمع، و قيل: إنّ إمام جمع آمّ بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، و المعنى: اجعلنا قاصدين للمتّقين مقتدين بهم، و في قراءة أهل البيت( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

قوله تعالى: ( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، و هي كناية عن الدرجة العالية في الجنّة، و المراد بالصبر الصبر على طاعة الله و عن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفكّ ذلك عن الصبر عند النوائب و الشدائد.

و المعنى: اُولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنّة يلقّون فيها أي يتلقّاهم الملائكة بالتحيّة و هو ما يقدّم للإنسان ممّا يسرّه و بالسلام و هو كلّ ما ليس فيه ما يخافه و يحذره، و في تنكير التحيّة و السلام دلالة على التفخيم

٢٦٦

و التعظيم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) قال في المفردات: ما عبأت به أي لم اُبال به، و أصله من العب‏ء أي الثقل كأنّه قال: ما أرى له وزناً و قدراً، قال تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) و قيل: من عبأت الطيب كأنّه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم. انتهى.

قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى المفعول و فاعله ضمير راجع إلى( رَبِّي ) و على هذا فقوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) من تفريع السبب على المسبّب بمعنى انكشافه بمسبّبه، و قوله:( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) أي سوف يكون تكذيبكم ملازماً لكم أشدّ الملازمة فتجزون بشقاء لازم و عذاب دائم.

و المعنى: قل لا قدر و لا منزلة لكم عند ربّي فوجودكم و عدمكم عنده سواء لأنّكم كذّبتم فلا خير يرجى فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازماً لكم أشدّ الملازمة، إلّا أنّ الله يدعوكم ليتمّ الحجّة عليكم أو يدعوكم لعلّكم ترجعون عن تكذيبكم. و هذا معنى حسن.

و قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى الفاعل، و المراد به عبادتهم لله سبحانه و المعنى: ما يبالي بكم ربّي أو ما يبقيكم ربّي لو لا عبادتكم له.

و فيه أنّ هذا المعنى لا يلائم تفرّع قوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) عليه و كان عليه من حقّ الكلام أن يقال: و قد كذّبتم! على أنّ المصدر المضاف إلى فاعله يدلّ على تحقّق الفعل منه و تلبّسه به و هم غير متلبّسين بدعائه و عبادته تعالى فكان من حقّ الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم.

و الآية خاتمة السورة و تنعطف إلى غرض السورة و محصّل القول فيه و هو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول و على القرآن النازل عليه و تكذيبهما.

٢٦٧

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) قال أبوعبداللهعليه‌السلام : هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها لا يتكلّف و لا يتبختر.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) قال: الدائم.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) يقول: ملازماً لا ينفكّ. و قوله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) و الإسراف الإنفاق في المعصية في غير حقّ( وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) لم يبخلوا في حقّ الله عزّوجلّ( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) القوام العدل و الإنفاق فيما أمر الله به.

و في الكافي: أحمد بن محمّد بن عليّ عن محمّد بن سنان عن أبي الحسنعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره على قدر عياله و مئونتهم الّتي هي صلاح له و لهم لا يكلّف الله نفساً إلّا ما آتاها.

و في المجمع، روي عن معاذ أنّه قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال: من أعطى في غير حقّ فقد أسرف، و من منع من حقّ فقد قتر.

أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: سئل النبيّ (صلّي الله عليه آله وسلّم): أيّ الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّاً و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك( وَ الَّذِينَ

٢٦٨

لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ) .

أقول: لعلّ المراد الانطباق دون سبب النزول.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عليّ بن الحسين:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) قال: في الآخرة، و قال الحسن: في الدنيا.

و فيه، أخرج أحمد و هنّاد و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها و ينحّى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا و هو مقرّ ليس ينكر و هو مشفق من الكبار أن تجي‏ء فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة.

أقول: هو من أخبار تبديل السيّئات حسنات يوم القيامة و هي كثيرة مستفيضة من طرق أهل السنّة و الشيعة مرويّة عن النبيّ و الباقر و الصادق و الرضا عليه و عليهم الصلاة و السلام.

و في روضة الواعظين، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدّل الله سيّئاتكم حسنات و غفر لكم جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: الغناء.

أقول: و في المجمع، أنّه مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و رواه القمّيّ مسنداً و مرسلاً.

و في العيون، بإسناده إلى محمّد بن أبي عباد و كان مشتهراً بالسماع و يشرب النبيذ قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن السماع فقال: لأهل الحجاز رأي فيه و هو في حيّز الباطل و اللهو أ ما سمعت الله عزّوجلّ يقول:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) .

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) قال: مستبصرين ليسوا بشكّاك.

٢٦٩

و في جوامع الجامع، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال: إيّانا عنى.

أقول: و هناك عدّة روايات في هذا المعنى و اُخرى تتضمّن قراءتهمعليهم‌السلام :( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية عن أبي جعفر في قوله:( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ) قال: على الفقر في الدنيا.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

أقول: و في انطباق الآية على ما في الرواية إبهام.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) يقول: ما يفعل ربّي بكم فقد كذّبتم فسوف يكون لزاماً.

٢٧٠

( سورة الشعراء مكّيّة و هي مائتان و سبع و عشرون آية)

( سورة الشعراء الآيات ١ - ٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طسم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ٤ ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( ٥ ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٦ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٩ )

( بيان)

غرض السورة تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبال ما كذّبه قومه و كذّبوا بكتابه النازل عليه من ربّه - على ما يلوّح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - و قد رموه تارة بأنّه مجنون و اُخرى بأنّه شاعر، و فيها تهديدهم مشفّعاً ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء و هم موسى و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام و ما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلّى به نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يحزن بتكذيب أكثر قومه و ليعتبر المكذّبون.

و السورة من عتائق السور المكّيّة و أوائلها نزولاً و قد اشتملت على قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) . و ربّما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة و وقوع قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) في سورة الحجر

٢٧١

و قياس مضمونيهما كلّ مع الاُخرى أنّ هذه السورة أقدم نزولاً من سورة الحجر و ظاهر سياق آيات السورة أنّها جميعاً مكّيّة و استثنى بعضهم الآيات الخمس الّتي في آخرها، و بعض آخر قوله:( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) و سيجي‏ء الكلام فيهما.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب ممّا سينزل بنزول السورة و ما نزل قبل، و تخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علوّ قدرها و رفعة مكانتها، و المبين من أبان بمعنى ظهر و انجلى.

و المعنى: تلك الآيات العالية قدراً الرفيعة مكاناً آيات الكتاب الظاهر الجليّ كونه من عندالله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز و إن كذّب به هؤلاء المشركون المعاندون و رموه تارة بأنّه من إلقاء شياطين الجنّ و اُخرى بأنّه من الشعر.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، و قوله:( أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) تعليل للبخوع، و المعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.

و الكلام مسوق سوق الإنكار و الغرض منه تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) متعلّق المشيّة محذوف لدلالة الجزاء عليه، و قوله:( فَظَلَّتْ ) إلخ، ظلّ فعل ناقص اسمه( أَعْناقُهُمْ ) و خبره( خاضِعِينَ ) و نسب الخضوع إلى أعناقهم و هو وصفهم أنفسهم لأنّ الخضوع أوّل ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه تخضّعاً فهو من المجاز العقليّ.

و المعنى: إن نشأ أن ننزّل عليهم آية تخضعهم و تلجئهم إلى القبول و تضطرّهم إلى الإيمان ننزّل عليهم آية كذلك فظلّوا خاضعين لها خضوعاً بيّناً بانحناء أعناقهم.

و قيل: المراد بالأعناق الجماعات و قيل: الرؤساء و المقدّمون منهم، و قيل:

٢٧٢

هو على تقدير مضاف و التقدير فضلّت أصحاب أعناقهم خاضعين لها. و هو أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله و تمكّن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلّما تجدّد عليهم ذكر من الرحمن و دعوا إليه دفعه بالإعراض.

فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كلّ ذكر أتاهم لا أنّهم يعرضون عن محدث الذكر و يقبلون إلى قديمه و في ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أنّ الذكر الّذي يأتيهم إنّما ينشأ عن صفة الرحمة العامّة الّتي بها صلاح دنياهم و اُخراهم.

و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.

قوله تعالى: ( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) تفريع على ما تقدّم من استمرار إعراضهم، و قوله:( فَسَيَأْتِيهِمْ ) إلخ تفريع على التفريع و الأنباء جمع نبإ و هو الخبر الخطير، و المعنى لما استمرّ منهم الإعراض عن كلّ ذكر يأتيهم تحقّق منهم و ثبت عليهم أنّهم كذّبوا، و إذ تحقّق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، و تلك الأنباء العقوبات العاجلة و الآجلة الّتي ستحيق بهم.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) الاستفهام للإنكار التوبيخيّ و الجملة معطوف على مقدّر يدلّ عليه المقام و التقدير أصرّوا و استمرّوا على الإعراض و كذّبوا بالآيات و لم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات الّتي أنبتناها في الأرض.

فالرؤية في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا ) مضمّنة معنى النظر و لذا عدّيت بإلى، و الظاهر أنّ المراد بالزوج الكريم. و هو الحسن على ما قيل: النوع من النبات و قد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجاً، و قيل: المراد بالزوج الكريم الّذي أنبته الله يعمّ الحيوان و خاصّة الإنسان بدليل قوله:( وَ اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) الإشارة بذلك

٢٧٣

إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كلّ زوج كريم حيث أنّ فيه إيجاداً لكلّ زوج منه و تتميم نقائص كلّ من الزوجين بالآخر و سوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما و فيه هداية كلّ إلى سعادته الأخيرة و من كانت هذه سنّته فكيف يهمل أمر الإنسان و لا يهديه إلى سعادته و لا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه و آخرته. هذا ما تدلّ عليه آية النبات.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي لم يكن المترقّب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض و بطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله:( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) يونس: ٧٤ و تعليل الكفر و الفسوق برسوخ الملكات الرذيلة و استحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، ممّا لا دليل على أنّه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أنّ ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.

و عن سيبويه أنّ( كانَ ) في قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) صلة زائدة و المعنى: و ما أكثرهم مؤمنين. و فيه أنّه معنى صحيح في نفسه لكنّ المقام بما تقدّم من المعنى أوفق.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) فهو تعالى لكونه عزيزاً غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذّبين لآياته المستهزئين بها و يجازيهم بالعقوبات العاجلة و الآجلة، و لكونه رحيماً ينزّل عليهم الذكر ليهديهم و يغفر للمؤمنين به و يمهل الكافرين.

٢٧٤

( بحث عقليّ متعلّق بالعلم)

( في ارتباط الأشياء بعلمه تعالى ‏)

قال في روح المعاني، في قوله تعالى:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) قيل: أي و ما كان في علم الله تعالى ذلك، و اعترض - بناء على أنّه يفهم من السياق العلّيّة - بأنّ علمه تعالى ليس علّة لعدم إيمانهم لأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

و ردّ بأنّ معنى كون علمه تعالى تابعاً للمعلوم أنّ علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معيّن حادث تابع لماهيّته بمعنى أنّ خصوصيّة العلم و امتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنّه علم بهذه الماهية، و أمّا وجود الماهيّة فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزليّ التابع لماهيّته بمعنى أنّه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصيّة لزم أن يتحقّق و يوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر و عدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزليّ و وقوعه تابع له. انتهى.

و هذه حجّة كثيرة الورود في كلام المجبّرة و خاصّة الإمام الرازيّ في تفسيره الكبير يستدلّون بها على إثبات الجبر و نفي الاختيار و محصّلها أنّ الحوادث و منها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضروريّة الوقوع و إلّا كان علمه جهلاً - تعالى عن ذلك - فالإنسان مجبر عليها غير مختار. و اعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس و اُجيب بما ذكره من أنّ علمه في الأزل تابع لماهيّة المعلوم لكنّ المعلوم تابع في وجوده للعلم.

و الحجّة مضافاً إلى فساد مقدّماتها بناء و مبني مغالطة بيّنة ففيها أوّلاً أنّ فرض ثبوت مّا للماهيّة في الأزل و وجودها فيها لا يزال يقضي بتقدّم الماهيّة على الوجود و أنّى للماهيّة هذه الأصالة و التقدّم؟.

و ثانياً: أنّ مبنيّ الحجّة و كذا الاعتراض و الجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علماً حصوليّاً نظير علومنا الحصوليّة المتعلّقة بالمفاهيم و قد اُقيم البرهان في محلّه على بطلانه و أنّ الأشياء معلومة له تعالى علماً حضوريّاً و علمه علمان: علم

٢٧٥

حضوريّ بالأشياء قبل الإيجاد و هو عين الذات و علم حضوريّ بها بعد الإيجاد و هو عين وجود الأشياء. و تفصيل الكلام في محلّه.

و ثالثاً: أنّ العلم الأزليّ بمعلومه فيما لا يزال إنّما يكون علماً بحقيقة معنى العلم إذا تعلّق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده و مشخّصاته و خصوصيّاته الوجوديّة، و من خصوصيّات وجود الفعل أنّه حركات خاصّة إراديّة اختياريّة صادرة عن فاعله الخاصّ مخالفة لسائر الحركات الاضطراريّة القائمة بوجوده.

و إذا كان كذلك كانت الضرورة اللّاحقة للفعل من جهة تعلّق العلم به صفة للفعل الخاصّ الاختياريّ بما هو فعل خاصّ اختياريّ لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله و اختياره و إلّا تخلّف المعلوم عن العلم لا أن يتعلّق العلم بالفعل الاختياريّ ثمّ يدفع صفة الاختيار عن متعلّقه و يقيم مقامها صفة الضرورة و الإجبار.

فقد وضع في الحجّة الفعل المطلق مكان الفعل الخاصّ فعدّ ضروريّاً مع أنّ الضروريّ تحقّق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجّة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق و الفعل المقيّد بالاختيار.

و من هنا يتبيّن عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلّق العلم الأزليّ به فإنّ تعلّق العلم الأزليّ بفعل إنّما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الّذي هو عليه فإن كان اختياريّاً وجب تحقّقه اختياريّاً و إن كان غير اختياريّ وجب تحقّقه كذلك.

على أنّه لو كان معنى قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) امتناع إيمانهم لتعلّق العلم الأزليّ بعدمه لاتّخذوه حجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عدّوه عذراً لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبّرة.

٢٧٦

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: تخضع رقابهم يعني بني اُميّة و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

أقول: و هذا المعنى رواه الكلينيّ في روضة الكافي، و الصدوق في كمال الدين، و المفيد في الإرشاد، و الشيخ في الغيبة، و الظاهر أنّه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.

٢٧٧

( سورة الشعراء الآيات ١٠ - ٦٨)

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ  أَلَا يَتَّقُونَ ( ١١ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ( ١٢ ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ( ١٣ ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( ١٤ ) قَالَ كَلَّا  فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا  إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ( ١٥ ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦ ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٧ ) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( ١٨ ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ١٩ ) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ( ٢٠ ) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢١ ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٢٢ ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٢٣ ) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( ٢٤ ) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ( ٢٥ ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٢٦ ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ٢٧ ) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٨ ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( ٢٩ ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٣١ ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ٣٢ ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( ٣٣ ) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم

٢٧٨

مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( ٣٥ ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٣٦ ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ( ٣٧ ) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( ٣٨ ) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ( ٣٩ ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( ٤٠ ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( ٤١ ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٢ ) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ( ٤٣ ) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ٤٥ ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( ٤٦ ) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٧ ) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ٤٨ ) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ  لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٤٩ ) قَالُوا لَا ضَيْرَ  إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ( ٥٠ ) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥١ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ( ٥٢ ) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٥٣ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( ٥٤ ) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ( ٥٥ ) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ( ٥٦ ) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ٥٧ ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٥٩ ) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( ٦١ ) قَالَ كَلَّا  إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٦٢ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ

٢٧٩

الْبَحْرَ  فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( ٦٣ ) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ( ٦٤ ) وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ( ٦٥ ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ( ٦٦ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٦٧ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٦٨ )

( بيان)

شروع في ذكر قصص عدّة من أقوام الأنبياء الماضين موسى و هارون و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام ليظهر أنّ قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سائرون مسيرهم و سيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل و الآجل، و الدليل على ذلك ختم كلّ واحدة من القصص بقوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل السورة، و ليس ذلك إلّا لتطبيق القصّة على القصّة.

كلّ ذلك ليتسلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يضيق صدره و يعلم أنّه ليس بدعاً من الرسل و لا المتوقّع من قومه غير ما عامل به الاُمم الماضون رسلهم، و فيه تهديد ضمنيّ لقومه و يؤيّده تصدير قصّة إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ نادى‏ رَبُّكَ مُوسى‏ - إلى قوله -أَ لا يَتَّقُونَ ) أي و اذكر وقتاً نادى فيه ربّك موسى و بعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصّله في سورة طه و غيرها.

و قوله:( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) نوع تفسير للنداء، و توصيفهم أوّلاً بالظالمين ثمّ بيانه ثانياً بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال و هي ظلمهم بالشرك و تعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ - إلى أن قال -فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ ) طه: ٤٧.

و قوله:( أَ لا يَتَّقُونَ ) بصيغة الغيبة، و هو توبيخ غيابيّ منه تعالى لهم و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453