الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119356
تحميل: 5562


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119356 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( ٥٧ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ  وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( ٥٨ ) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ  الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ( ٥٩ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا  ( ٦٠ ) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ( ٦١ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ( ٦٢ )

( بيان)

تذكر الآيات بعض صفات اُولئك الكفّار القادحين في الكتاب و الرسالة و المنكرين للتوحيد و المعاد ممّا يناسب سنخ اعتراضاتهم و اقتراحاتهم كاستهزائهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اتّباعهم الهوى و عبادتهم لما لا ينفعهم و لا يضرّهم و استكبارهم عن السجود لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) ضمير الجمع للّذين كفروا السابق ذكرهم، و الهزؤ الاستهزاء و السخريّة فالمصدر بمعنى المفعول، و المعنى: و إذا رآك الّذين كفروا لا يتّخذونك إلّا مهزوّا به.

و قوله:( أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا ) بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك.

قوله تعالى: ( إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ) إلخ( إِنْ )

٢٤١

مخفّفة من الثقيلة، و الإضلال كأنّه مضمّن معنى الصرف و لذا عدّي بعن، و جواب لو لا محذوف يدلّ عليه ما تقدّمه، و المعنى أنّه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلّاً لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها.

و قوله:( وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) توعّد و تهديد منه تعالى لهم و تنبيه أنّهم على غفلة ممّا سيستقبلهم من معاينة العذاب و اليقين بالضلال و الغيّ.

قوله تعالى: ( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) الهوى ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، و المراد باتّخاذ الهوى إلهاً طاعته و اتّباعه من دون الله و قد أكثر الله سبحانه في كلامه ذمّ اتّباع الهوى و عدّ طاعة الشي‏ء عبادة له في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١.

و قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) استفهام إنكاريّ أي لست أنت وكيلاً عليه قائماً على نفسه و باُموره حتّى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك و قد أضلّه الله و قطع عنه أسباب الهداية و في معناه قوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) القصص: ٥٦، و قوله:( وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) فاطر: ٢٢، و الآية كالإجمال للتفصيل الّذي في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: ٢٣.

و يظهر ممّا تقدّم من المعنى أنّ قوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) على نظمه الطبيعي أي إنّ( اتَّخَذَ ) فعل متعدّ إلى مفعولين و( إِلهَهُ ) مفعوله الأوّل و( هَواهُ ) مفعول ثان له فهذا هو الّذي يلائم السياق و ذلك أنّ الكلام حول شرك المشركين و عدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام، و إعراضهم عن طاعة الحقّ الّتي هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الّذي يزيّن لهم الشرك، و هؤلاء يسلّمون أنّ لهم إلهاً مطاعاً و قد أصابوا في ذلك، لكنّهم يرون أنّ هذا المطاع هو الهوى فيتّخذونه مطاعاً بدلاً من أن

٢٤٢

يتّخذوا الحقّ مطاعاً فقد وضعوا الهوى موضع الحقّ لا أنّهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم.

و من هنا يظهر ما في قول عدّة من المفسّرين أنّ( هَواهُ ) مفعول أوّل لقوله( اتَّخَذَ ) و( إِلهَهُ ) مفعول ثان مقدّم، و إنّما قدّم للاعتناء به من حيث إنّه الّذي يدور عليه أمر التعجيب في قوله:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ ) إلخ، كما قاله بعضهم، أو إنّما قدم للحصر على ما قاله آخرون، و لهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها و فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أم منقطعة، و الحسبان بمعنى الظنّ و ضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. و الترديد بين السمع و العقل من جهة أنّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إمّا أن يستقلّ بالتعقّل فيعقل الحقّ فيتّبعه أو يرجع إلى قول من يعقله و ينصحه فيتّبعه إن لم يستقلّ بالتعقّل فالطريق إلى الرشد سمع أو عقل فالآية في معنى قوله:( وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) الملك: ١٠.

و المعنى: بل أ تظنّ أنّ أكثرهم لهم استعداد استماع الحقّ ليتّبعه أو استعداد عقل الحقّ ليتّبعه فترجو اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم.

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ) بيان للجملة السابقة فإنّه في معنى: أنّ أكثرهم لا يسمعون و لا يعقلون فتنبّه أنّهم ليسوا إلّا كالأنعام و البهائم في أنّها لا تعقل و لا تسمع إلّا اللفظ دون المعنى.

و قوله:( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) أي من الأنعام و ذلك أنّ الأنعام لا تقتحم على ما يضرّها و هؤلاء يرجّحون ما يضرّهم على ما ينفعهم، و أيضاً الأنعام إن ضلّت عن سبيل الحقّ فإنّها لم تجهّز في خلقتها بما يهديها إليه و هؤلاء مجهّزون و قد ضلّوا.

و استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الأنعام لا علم لها بربّها. و فيه أنّ الآية

٢٤٣

لا تنفي عنها و لا عن الكفّار أصل العلم بالله و إنّما تنفي عن الكفّار اتّباع الحقّ الّذي يهدي إليه عقل الإنسان الفطري لاحتجابه باتّباع الهوى، و تشبّههم في ذلك بالأنعام الّتي لم تجهّز بهذا النوع من الإدراك.

و أمّا ما أجاب به بعضهم أنّ الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) هاتان الآيتان و ما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمّنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أنّ الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد و إنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممّن شاء الله و أمّا غيرهم ممّن اتّخذ إلهه هواه فصار لا يسمع و لا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله.

فهي تبيّن أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه و بيّنات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه و هو على صراط مستقيم، و ذلك كمدّ الظلّ و جعل الشمس دليلاً عليه تنسخه، و كجعل الليل لباساً و النوم سباتاً و النهار نشوراً، و كجعل الرياح بشراً و إنزال المطر و إحياء الأرض الميتة و إرواء الأنعام و الأناسيّ به.

ثمّ ما مثل المؤمن و الكافر في اهتداء هذا و ضلال ذاك - و هم جميعاً عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلّا كمثل الماءين العذب الفرات و الملح الاُجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخاً و حجراً محجوراً، و كالماء خلق الله سبحانه منه بشراً ثمّ جعله نسباً و صهراً فاختلف بذلك المواليد و كان ربّك قديراً.

هذا ما يهدي إليه التدبّر في مضامين الآيات و خصوصيّات نظمها و به يظهر وجه اتّصالها بما تقدّمها، و أمّا ما ذكروه من أنّ الآيات مسوقة لبيان بعض أدلّة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها و ضلالهم فالسياق لا يساعد عليه و سنزيد ذلك إيضاحاً.

فقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ) تنظير

٢٤٤

- كما تقدّمت الإشارة إليه - لشمول الجهل و الضلال للناس و رفعه تعالى ذلك بالرسالة و الدعوة الحقّة كما يشاء و لازم ذلك أن يكون المراد بمدّ الظلّ ما يعرض الظلّ الحادث بعد الزوال من التمدّد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الاُفق حتّى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد و هو الليل، و هو في جميع أحواله متحرّك و لو شاء الله لجعله ساكناً.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ) و الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أنّ هناك ظلّاً و بانبساطه شيئاً فشيئاً على تمدّد الظلّ شيئاً فشيئاً و لولاها لم يتنبّه لوجود الظلّ فإنّ السبب العامّ لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحوّل الأحوال المختلفة عليه من فقدان و وجدان فإذا فقد شيئاً كان يجده تنبّه لوجوده و إذا وجد ما كان يفقده تنبّه لعدمه، و أمّا الأمر الثابت الّذي لا تتحوّل عليه الحال فليس إلى تصوّره بالتنبّه سبيل.

و قوله:( ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) أي أزلنا الظلّ بإشراق الشمس و ارتفاعها شيئاً فشيئاً حتّى ينسخ بالكلّيّة، و في التعبير عن الإزالة و النسخ بالقبض، و كونه إليه، و توصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهيّة و أنّها لا يشقّ عليها فعل، و أنّ فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام و البطلان بل بالرجوع إليه تعالى.

و ما تقدّم من تفسير مدّ الظلّ بتمديد الفي‏ء بعد زوال الشمس و إن كان معنى لم يذكره المفسّرون لكنّ السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره ممّا ذكره المفسّرون كقول بعضهم: إنّ المراد بالظلّ الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و قول بعض: ما بين غروب الشمس و طلوعها، و قول بعض: ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها، و قول بعض - و هو أسخف الأقوال - هو ما كان يوم خلق الله السماء و جعلها كالقبّة ثمّ دحا الأرض من تحتها فألقت ظلّها عليها.

و في الآية أعني قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) إلخ، التفات من سياق التكلّم بالغير

٢٤٥

في الآيات السابقة إلى الغيبة، و النكتة فيه أنّ المراد بالآية و ما يتلوها من الآيات بيان أنّ أمر الهداية إلى الله سبحانه و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأمر شي‏ء و هو تعالى لا يريد هدايتهم و أنّ الرسالة و الدعوة الحقّة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال و نسخها ما تنسخ منه من شعب السنّة العامّة الإلهيّة في بسط الرحمة على خلقه نظير اطلاع الشمس على الأرض و نسخ الظلّ الممدود فيها بها، و من المعلوم أنّ الخطاب المتضمّن لهذه الحقيقة ممّا ينبغي أن يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خاصّة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه، و أمّا الكفّار المتّخذون إلههم هواهم و هم لا يسمعون و لا يعقلون فلا نصيب لهم فيه.

و في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا ) رجوع إلى السياق السابق، و في ذلك مع ذلك من إظهار العظمة و الدلالة على الكبرياء ما لا يخفى.

و الكلام في قوله الآتي:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ ) إلخ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ) ، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ) كالكلام في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) ، و الكلام في قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلخ، و قوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ) ، و قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا ) ، كالكلام في قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ ) .

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) كون الليل لباساً إنّما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه.

و قوله:( وَ النَّوْمَ سُباتاً ) أي قطعاً للعمل، و قوله:( وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ) أي جعل فيه الانتشار و طلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين.

و حال ستره تعالى الناس بلباس الليل و قطعهم به عن العمل و الحركة ثمّ نشرهم للعمل و السعي بإظهار النهار و بسط النور كحال مدّ الظلّ ثمّ جعل الشمس عليه دليلاً و قبض الظلّ بها إليه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ

٢٤٦

السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) البشر بالضمّ فالسكون مخفّف بشر بضمّتين جمع بشور بمعنى مبشّر أي هو الّذي أرسل الرياح مبشّرات بين يدي رحمته و هي المطر.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) أي من جهة العلو و هي جوّ الأرض ماء طهوراً أي بالغاً في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهّر لغيره يزيل الأوساخ و يذهب بالأرجاس و الأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة -.

قوله تعالى: ( لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً ) ، البلدة معروفة قيل: و اُريد بها المكان كما في قوله:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨، و لذا اتّصف بالميت و هو مذكّر و المكان الميت ما لا نبات فيه و إحياؤه إنباته، و الأناسيّ جمع إنسان، و معنى الآية ظاهر.

و حال شمول الموت للأرض و الحاجة إلى الشرب و الريّ للأنعام و الأناسيّ ثمّ إنزاله تعالى من السماء ماء طهوراً ليحيي به بلدة ميتاً و يسقيه أنعاماً و أناسيّ كثيراً من خلقه كحال مدّ الظلّ ثمّ الدلالة عليه بالشمس و نسخه بها كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) ظاهر اتّصال الآية بما قبلها أنّ ضمير( صَرَّفْناهُ ) للماء و تصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة و عن غيرهم إليهم اُخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا و لا ينقطع عن قوم دائماً فيهلكوا بل يدور بينهم حتّى ينال كلّ نصيبه بحسب المصلحة، و قيل: المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان.

و قوله:( لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) تعليل للتصريف أي و اُقسم لقد صرّفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكّروا فيشكروا فأبى و امتنع أكثر الناس إلّا كفران النعمة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ) أي لو أردنا أن نبعث في كلّ قرية نذيراً ينذرهم و رسولاً يبلّغهم رسالاتنا لبعثنا و لكن بعثناك إلى القرى كلّها نذيراً و رسولاً لعظيم منزلتك عندنا. هكذا فسّرت الآية و لا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك، و هذا المعنى لما وجّهنا به اتّصال الآيات أنسب.

٢٤٧

أو أنّ المراد أنّا قادرون على أن نبعث في كلّ قرية رسولاً و إنّما اخترناك لمصلحة في اختيارك.

قوله تعالى: ( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً ) متفرّع على معنى الآية السابقة، و ضمير( بِهِ ) للقرآن بشهادة سياق الآيات، و المجاهدة و الجهاد بذل الجهد و الطاقة في مدافعة العدوّ و إذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم و بيان حقائقه لهم و إتمام حججه عليهم.

فمحصّل مضمون الآية أنّه إذا كان مثل الرسالة الإلهيّة في رفع حجاب الجهل و الغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحقّ لهم و إتمام الحجّة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظلّ الممدود و نسخه بأمر الله، و مثل النهار بالنسبة إلى الليل و سبته، و مثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة و الأنعام و الأناسيّ الظامئة، و قد بعثناك لتكون نذيراً لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأنّ طاعتهم تبطل هذا الناموس العامّ المضروب للهداية. و ابذل مبلغ جهدك و وسعك في تبليغ رسالتك و إتمام حجّتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقّة و جاهدهم به مجاهدة كبيرة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) المرج الخلط و منه أمر مريج أي مختلط، و العذب من الماء ما طاب طعمه، و الفرات منه ما كثر عذوبته، و الملح هو الماء المتغيّر طعمه. و الاُجاج شديد الملوحة، و البرزخ هو الحدّ الحاجز بين شيئين، و حجراً محجوراً أي حراماً محرّماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَهُما ) إلخ قرينة على أنّ المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض.

و الكلام معطوف على ما عطف عليه قوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) إلخ، و فيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين و هما مع ذلك غير متمازجين كما تقدّمت

٢٤٨

الإشارة إليه في أوّل الآيات التسع.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) الصهر على ما نقل عن الخليل الختن و أهل بيت المرأة فالنسب هو التحرّم من جهة الرجل و الصهر هو التحرّم من جهة المرأة - كما قيل - و يؤيّده المقابلة بين النسب و الصهر.

و قد قيل: إنّ كلّا من النسب و الصهر بتقدير مضاف و التقدير فجعله ذا نسب و صهر، و الضمير للبشر، و المراد بالماء النطفة، و ربّما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الّذي خلق الله منه الأشياء الحيّة كما قال:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) الأنبياء: ٣٠.

و المعنى: و هو الّذي خلق من النطفة - و هي ماء واحد - بشراً فقسّمه قسمين ذا نسب و ذا صهر يعني الرجل و المرأة و هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أنّ لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة و التفرّق في عين الاتّحاد و هكذا يحفظ اختلاف النفوس و الآراء بالإيمان و الكفر مع اتّحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الّذي من شأنه غشيانه لو لا الدعوة الحقّة.

و قوله:( وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) في إضافة الربّ إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدّم في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) معطوف على قوله:( وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ) . و الظهير بمعنى المظاهر على ما قيل و المظاهرة المعاونة.

و المعنى: و يعبدون - هؤلاء الكفّار المشركون - من دون الله ما لا ينفعهم بإيصال الخير على تقدير العبادة و لا يضرّهم بإيصال الشرّ على تقدير ترك العبادة و كان الكافر معاوناً للشيطان على ربّه.

و كون هؤلاء المعبودين و هم الأصنام ظاهراً لا ينفعون و لا يضرّون لا ينافي كون عبادتهم مضرّة فلا يستلزم نفي الضرر عنهم أنفسهم حيث لا يقدرون على شي‏ء

٢٤٩

نفي الضرر عن عبادتهم المضرّة المؤدّية للإنسان إلى شقاء لازم و عذاب دائم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) أي لم نجعل لك في رسالتك إلّا التبشير و الإنذار و ليس لك وراء ذلك من الأمر شي‏ء فلا عليك إن كانوا معاندين لربّهم مظاهرين لعدوّه عليه فليسوا بمعجزين لله و ما يمكرون إلّا بأنفسهم، هذا هو الّذي يعطيه السياق.

و عليه فقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) هذا الفصل من الكلام نظير قوله:( أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) في الفصل السابق.

و منه يظهر أنّ أخذ بعضهم الآية تسلية منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال و المراد ما أرسلناك إلّا مبشّراً للمؤمنين و نذيراً للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم. غير سديد.

قوله تعالى: ( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) ضمير( عَلَيْهِ ) للقرآن بما أنّ تلاوته عليهم تبلغ للرسالة كما قال تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) المزّمّل: ١٩، الدهر: ٢٩، و قال:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ص: ٨٧.

و قوله:( إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) استثناء منقطع في معنى المتّصل فإنّه في معنى إلّا أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً من شاء ذلك على حدّ قوله تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، أي إلّا أن يأتي الله بقلب سليم من أتاه به.

ففيه وضع الفاعل و هو من اتّخذ السبيل موضع فعله و هو اتّخاذ السبيل شكراً له ففي الكلام عدّ اتّخاذهم سبيلاً إلى الله سبحانه باستجابة الدعوة أجراً لنفسه ففيه تلويح إلى نهاية استغنائه عن أجر ماليّ أو جاهيّ منهم، و أنّه لا يريد منهم وراء استجابتهم للدعوة و اتّباعهم للحقّ شيئاً آخر من مال أو جاه أو أيّ أجر مفروض فليطيبوا نفساً و لا يتّهموه في نصيحته.

و قد علّق اتّخاذ السبيل على مشيّتهم للدلالة على حرّيّتهم الكاملة عن قبله

٢٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا إكراه و لا إجبار إذ لا وظيفة له عن قبل ربّه وراء التبشير و الإنذار و ليس عليهم بوكيل بل الأمر إلى الله يحكم فيهم ما يشاء.

فقوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ ) إلخ بعد ما سجّل لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له إلّا الرسالة بالتبشير و الإنذار يأمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا أن يستجيبوا له و يتّخذوا إلى ربّهم سبيلاً من غير غرض زائد من الأجر أيّاً مّا كان، و أنّ لهم الخيرة في أمرهم من غير أيّ إجبار و إكراه فهم و الدعوة إن شاؤا فليؤمنوا و إن شاؤا فليكفروا.

هذا ما يرجع إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تبليغ الرسالة فحسب من غير طمع في أجر و لا تحميل عليهم بإكراه أو انتقام منهم بنكال، و أمّا ما وراء ذلك فهو لله فليرجعه إليه و ليتوكّل عليه كما أشار إليه في الآية التالية:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) .

و ذكر جمهور المفسّرين أنّ الاستثناء منقطع، و المعنى لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة و الإنفاق في سبيل الله فليفعل، و هو ضعيف لا دليل عليه لا من جهة لفظ الجملة و لا من جهة السياق.

و قال بعضهم: إنّه متّصل و الكلام بحذف مضاف و التقدير إلّا فعل من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً بالإيمان و الطاعة حسبما أدعو إليهما. و فيه أخذ استجابتهم له أجراً لنفسه و قطعاً لشائبة الطمع بالكلّيّة و تطييباً لأنفسهم، و يرجع هذا الوجه بحسب المعنى إلى ما قدّمناه و يمتاز منه بتقدير مضاف و التقدير خلاف الأصل.

و قال آخرون: إنّه متّصل بتقدير مضاف و التقدير لا أسألكم عليه من أجر إلّا أجر من شاء إلخ أي إلّا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإنّ الدالّ على الخير كفاعله. و فيه أنّ مقتضى هذا المعنى أن يقال: إلّا من اتّخذ إلى ربّه سبيلاً فلا حاجة إلى تعليق الاتّخاذ بالمشيّة و الأجر إنّما يترتّب على العمل دون مشيّته.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) لما سجّل على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ليس له من أمرهم شي‏ء إلّا

٢٥١

الرسالة و أمره أن يبلّغهم أن لا بغية له في دعوتهم إلّا الاستجابة لها و أنّهم على خيرة من أمرهم إن شاؤا آمنوا و إن شاؤا كفروا تمّم ذلك بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتّخذه تعالى وكيلاً في أمرهم فهو تعالى عليهم و على كلّ شي‏ء وكيل و بذنوب عباده خبير.

فقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) أي اتّخذه وكيلاً في أمرهم يحكم فيهم ما يشاء و يفعل بهم ما يريد فإنّه الوكيل عليهم و على كلّ شي‏ء و قد عدل عن تعليق التوكّل بالله إلى تعليقه بالحيّ الّذي لا يموت ليفيد التعليل فإنّ الحيّ الّذي لا يموت لا يفوته فائت فهو المتعيّن لأن يكون وكيلاً.

و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) أي نزّهه عن العجز و الجهل و كلّ ما لا يليق بساحة قدسه مقارناً ذلك للثناء عليه بالجميل فإن أمهلهم و استدرجهم بنعمه فليس عن عجز فعل بهم ذلك و لا عن جهل بذنوبهم و إن أخذهم بذنوبهم فبحكمة اقتضته و باستحقاق منهم استدعى ذلك فسبحانه و بحمده.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) مسوق للدلالة على توحيده في فعله و صفته فهو الوكيل المتصرّف في اُمور عباده وحده و هو خبير بذنوبهم و حاكم فيهم وحده من غير حاجة إلى من يعينه في علمه أو في حكمه.

و من هنا يظهر أنّ الآية التالية:( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) متمّمة لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) إلخ، لاشتمالها على توحيده في ملكه و تصرّفه كما يشتمل قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ ) إلخ على علمه و خبرته و بالحياة و الملك و العلم معاً يتمّ معنى الوكالة و سنشير إليه.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) ظاهر السياق أنّ الموصول صفة لقوله في الآية السابقة:( الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) و بهذه الآية يتمّ البيان في قوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) فإنّ الوكالة كما تتوقّف على حياة الوكيل تتوقّف على العلم، و قد ذكره في قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) و تتوقّف على السلطنة على

٢٥٢

الحكم و التصرّف و هو الّذي تتضمّنه هذه الآية بما فيها من حديث خلق السماوات و الأرض و الاستواء على العرش.

و قد تقدّم تفسير صدر الآية في مواضع من السور السابقة، و أمّا قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) فالّذي يعطيه السياق و يهدي إليه النظم أن يكون الرحمن خبراً لمبتدإ محذوف و التقدير هو الرحمن، و قوله:( فَسْئَلْ ) متفرّعاً عليه و الفاء للتفريع، و الباء في قوله:( بِهِ ) للتعدية مع تضمين السؤال معنى الاعتناء. و قوله:( خَبِيراً ) حال من الضمير.

و المعنى: هو الرحمن - الّذي استوى على عرش الملك و الّذي برحمته و إفاضته يقوم الخلق و الأمر و منه يبتدئ كلّ شي‏ء و إليه يرجع - فاسأله عن حقيقة الحال يخبرك بها فإنّه خبير.

فقوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) كناية عن أنّ الّذي أخبر به حقيقة الأمر الّتي لا معدل عنها و هذا كما يقول من سئل عن أمر: سلني اُجبك إنّ كذا و كذا و من هذا الباب قولهم: على الخبير سقطت.

و لهم في قوله:( الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) أقوال اُخرى كثيرة: فقيل: إن( الرَّحْمنُ ) مرفوع على القطع للمدح، و قيل: مبتدأ خبره قوله:( فَسْئَلْ بِهِ ) و قيل: خبر مبتدؤه( الَّذِي ) في صدر الآية، و قيل: بدل من الضمير المستكنّ في( اسْتَوى) .

و قيل في( فَسْئَلْ بِهِ) إنّه خبر للرحمن كما تقدّم و الفاء فصيحة، و قيل: جملة مستقلّة متفرّعة على ما قبلها و الفاء للتفريع ثمّ الباء في( بِهِ ) للصلة أو بمعنى عن و الضمير راجع إليه تعالى أو إلى ما تقدّم من الخلق و الاستواء.

و قيل( خَبِيراً ) حال عن الضمير و هو راجع إليه تعالى، و المعنى فاسأل الله حال كونه خبيراً، و قيل: مفعول فاسأل و الباء بمعنى عن و المعنى فاسأل عن الرحمن أو عن حديث الخلق و الاستواء خبيراً، و المراد بالخبير هو الله سبحانه، و قيل جبرئيل و قيل: محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: من قرأ الكتب السماوية القديمة و وقف على صفاته

٢٥٣

و أفعاله تعالى و كيفيّة الخلق و الإيجاد، و قيل: كلّ من كان له وقوف على هذه الحقائق.

و هذه الوجوه المتشتّتة جلّها أو كلّها لا تلائم ما يعطيه سياق الآيات الكريمة و لا موجب للتكلّم عليها و الغور فيها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) هذا فصل آخر من معاملتهم السوء مع الرسول و دعوته الحقّة يذكر فيه استكبارهم عن السجود لله سبحانه إذا دعوا إليه و نفورهم منه و للآية اتّصال خاصّ بما قبلها من حيث ذكر الرحمن فيها و قد وصف في الآية السابقة بما وصف و لعلّ اللّام فيه للعهد.

فقوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ) الضمير للكفّار، و القائل هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله بعد:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) و لم يذكر اسمه ليتوجّه استكبارهم إلى الله سبحانه وحده.

و قوله:( قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ ) سؤال منهم عن هويّته و مائيّته مبالغة منهم في التجاهل به استكباراً منهم على الله و لو لا ذلك لقالوا: و من الرحمن، و هذا كقول فرعون لموسى لما دعاه إلى ربّ العالمين:( وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ ) الشعراء: ٢٣، و قول إبراهيم لقومه:( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) الأنبياء: ٥٢، و مراد السائل في مثل هذا السؤال أنّه لا معرفة له من المسؤل عنه بشي‏ء أزيد من اسمه كقول هود لقومه:( أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) الأعراف: ٧١.

و قوله حكاية عنهم:( أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ) في تكرار التعبير عنه تعالى بما إصرار على الاستكبار، و التعبير عن طلبه عنهم السجدة بالأمر لا يخلو من تهكّم و استهزاء.

و قوله:( وَ زادَهُمْ نُفُوراً ) معطوف على جواب إذا و المعنى: و إذا قيل لهم اسجدوا استكبروا و زادهم ذلك نفوراً ففاعل( زادَهُمْ ) ضمير راجع إلى القول المفهوم من سابق الكلام.

و قول بعضهم: إنّ الفاعل ضمير راجع إلى السجود بناء على ما رووا أنّه

٢٥٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين ليس بسديد فإن وقوع واقعة مّا لا يؤثّر في دلالة اللفظ ما لم يتعرّض له لفظاً. و لا تعرّض في الآية لهذه القصّة أصلاً.

قوله تعالى: ( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) الظاهر أنّ المراد بالبروج منازل الشمس و القمر من السماء أو الكواكب الّتي عليها كما تقدّم في قوله:( وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) الحجر: ١٧، و إنّما خصّت بالذكر في الآية للإشارة إلى الحفظ و الرجم المذكورين.

و المراد بالسراج الشمس بدليل قوله:( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: ١٦.

و قد قرّروا الآية أنّها احتجاج بوحدة التدبير العجيب السماوي و الأرضيّ على وحدة المدبّر فيجب التوجّه بالعبادات إليه و صرف الوجه عن غيره.

و التدبّر في اتّصال الآيتين بما قبلهما و سياق الآيات لا يساعد عليه لأنّ مضمون الآية السابقة من استكبارهم على الرحمن إذا اُمروا بالسجود له و استهزائهم بالرسول لا نسبة كافية بينه و بين الاحتجاج على توحيد الربوبيّة حتّى يعقّب به، و إنّما المناسب لهذا المعنى إظهار العزّة و الغنى و أنّهم غير معجزين لله بفعالهم هذا و لا خارجين عن ملكه و سلطانه.

و الّذي يعطيه التدبّر أنّ قوله:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) إلخ، مسوق سوق التعزّز و الاستغناء، و أنّهم غير معجزين باستكبارهم على الله و استهزائهم بالرسول بل هؤلاء ممنوعون عن الاقتراب من حضرة قربه و الصعود إلى سماء جواره و المعارف الإلهيّة مضيئة مع ذلك لأهله و عباده بما نوّرها الله سبحانه بنور هدايته و هو نور الرسالة.

و على هذا فقد أثنى الله سبحانه على نفسه بذكر تباركه بجعل البروج

٢٥٥

المحفوظة الراجمة للشياطين بالشهب في السماء المحسوسة و جعل الشمس المضيئة و القمر المنير فيها لإضاءة العالم المحسوس، و أشار بذلك إلى ما يناظره في الحقيقة من إضاءة العالم الإنسانيّ بنور الهداية من الرسالة ليتبصّر به عباده، كما يذكر حالهم بعد هذه الآيات و دفع أولياء الشياطين عن الصعود إليه بما هيّأ لدفعهم من بروج محفوظة راجمة.

هذا ما يعطيه السياق و على هذا النمط من البيان سيقت هذه الآيات و الّتي قبلها كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فليس ما ذكرناه من التأويل بمعنى صرف الآيات عن ظاهرها.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الخلفة هي الشي‏ء يسدّ مسدّ شي‏ء آخر و بالعكس و كأنّه بناء نوع اُريد به معنى الوصف فكون الليل و النهار خلفة أنّ كلّا منهما يخلف الآخر، و تقييد الخلفة بقوله:( لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) للدلالة على نيابة كلّ منهما عن الآخر في التذكّر و الشكر.

و المقابلة بين التذكّر و الشكر يعطي أنّ المراد بالتذكّر الرجوع إلى ما يعرفه الإنسان بفطرته من الحجج الدالّة على توحيد ربّه و ما يليق به تعالى من الصفات و الأسماء و غايته الإيمان بالله، و بالشكور القول أو الفعل الّذي ينبئ عن الثناء عليه بجميل ما أنعم، و ينطبق على عبادته و ما يلحق بها من صالح العمل.

و على هذا فالآية اعتزاز أو امتنان بجعله تعالى الليل و النهار بحيث يخلف كلّ صاحبه فمن فاته الإيمان به في هذه البرهة من الزمان تداركه في البرهة الاُخرى منه، و من لم يوفّق لعبادة أو لأيّ عمل صالح في شي‏ء منهما أتى به في الآخر.

هذا ما تفيده الآية و لها مع ذلك ارتباط بقوله في الآية السابقة:( وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً ) ففيه إشارة إلى أنّ الله سبحانه و إن دفع اُولئك المستكبرين عن الصعود إلى ساحة قربه لكنّه لم يمنع عباده عن التقرّب إليه و

٢٥٦

الاستضاءة بنوره فجعل نهاراً ذا شمس طالعة و ليلاً ذا قمر منير و هما ذوا خلفة من فاته ذكر أو شكر في أحدهما أتى به في الآخر.

و فسّر بعضهم التذكّر بصلاة الفريضة و الشكور بالنافلة و الآية تقبل الانطباق على ذلك و إن لم يتعيّن حملها عليه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أخرج الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تحت ظلّ السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عندالله من هوى متّبع.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ) فقال: الظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ ) الآية، قال ابن سيرين: نزلت في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّ بن أبي طالب زوّج فاطمة عليّا فهو ابن عمّه و زوج ابنته فكان نسباً و صهراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ كانَ الْكافِرُ عَلى‏ رَبِّهِ ظَهِيراً ) يعني أبا الحكم الّذي سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا جهل بن هشام.

أقول: و الروايتان بالجري و التطبيق أشبه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تبارك و تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) فالبروج الكواكب و البروج الّتي للربيع و الصيف الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة، و

٢٥٧

بروج الخريف و الشتاء: الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت و هي اثنا عشر برجاً.

و في الفقيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّما فاتك بالليل فاقضه بالنهار قال الله تبارك و تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار و ما فاته بالنهار بالليل.

٢٥٨

( سورة الفرقان الآيات ٦٣ - ٧٧)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ٦٣ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ٦٤ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ  إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ٦٥ ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٦٦ ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ٦٧ ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ  وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( ٦٨ ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ٦٩ ) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٧٠ ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا ( ٧١ ) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ٧٢ ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ٧٤ ) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ٧٥ ) خَالِدِينَ فِيهَا  حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ٧٦ ) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ  فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ( ٧٧ )

٢٥٩

( بيان)

تذكر الآيات من محاسن خصال المؤمنين ما يقابل ما وصف من صفات الكفّار السيّئة و يجمعها أنّهم يدعون ربّهم و يصدّقون رسوله و الكتاب النازل عليه قبال تكذيب الكفّار لذلك و إعراضهم عنه إلى اتّباع الهوى، و لذلك تختتم الآيات بقوله:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) لما ذكر في الآية السابقة استكبارهم على الله سبحانه و إهانتهم بالاسم الكريم: الرحمن، قابله في هذه الآية بذكر ما يقابل ذلك للمؤمنين و سمّاهم عباداً و أضافهم إلى نفسه متسمّياً باسم الرحمن الّذي كان يحيد عنه الكفّار و ينفرون.

و قد وصفتهم الآية بوصفين من صفاتهم:

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) و الهون على ما ذكره الراغب التذلّل، و الأشبه حينئذ أن يكون المشي على الأرض كناية عن عيشتهم بمخالطة الناس و معاشرتهم فهم في أنفسهم متذلّلون لربّهم و متواضعون للناس لما أنّهم عباد الله غير مستكبرين على الله و لا مستعلين على غيرهم بغير حقّ، و أمّا التذلّل لأعداء الله ابتغاء ما عندهم من العزّة الوهميّة فحاشاهم و إن كان الهون بمعنى الرفق و اللين فالمراد أنّهم يمشون من غير تكبّر و تبختر.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه قوله:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) أي إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم ممّا يكرهون أن يخاطبوا به أو يثقل عليهم كما يستفاد من تعلّق الفعل بالوصف أجابوهم بما هو سالم من القول و قالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللّغو و الإثم، قال تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا

٢٦٠