الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124159 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قِيلًا سَلاماً سَلاماً ) الواقعة: ٢٦، و يرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.

و هذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس و أمّا صفة ليلهم فهي الّتي تصفها الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ) البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و( لِرَبِّهِمْ ) متعلّق بقوله:( سُجَّداً ) و السجّد و القيام جمعاً ساجد و قائم، و المراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الأرض و القيام على السوق، و من مصاديقه الصلاة.

و المعنى: و هم الّذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربّهم و قائمين يتراوحون سجوداً و قياماً، و يمكن أن يراد به التهجّد بنوافل الليل.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) الغرام ما ينوب الإنسان من شدّة أو مصيبة فيلزمه و لا يفارقه و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الضمير لجهنّم و المستقرّ و المقام اسماً مكان من الاستقرار و الإقامة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) ، الإنفاق بذل المال و صرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، و الإسراف الخروج عن الحدّ و لا يكون إلّا في جانب الزيادة، و هو في الإنفاق التعديّ عمّا ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، و القتر بالفتح فالسكون التقليل في الإنفاق و هو بإزاء الإسراف على ما ذكره الراغب، و القتر و الإقتار و التقتير بمعنى.

و القوام بالفتح الواسط العدل، و بالكسر ما يقوم به الشي‏ء و قوله:( بَيْنَ ذلِكَ ) متعلّق بالقوام، و المعنى: و كان إنفاقهم وسطاً عدلاً بين ما ذكر من الإسراف و القتر فقوله:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) تنصيص على ما يستفاد من قوله( إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) ، فصدر الآية ينفي طرفي الإفراط و التفريط في الإنفاق، و ذيلها يثبت الوسط.

٢٦١

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى آخر الآية هذا هو الشرك و اُصول الوثنيّة لا تجيز دعاءه تعالى و عبادته أصلاً لا وحده و لا مع آلهتهم و إنّما توجب دعاء آلهتهم و عبادتهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى و يشفعوا لهم عنده.

فالمراد بدعائهم مع الله إلهاً آخر إمّا التلويح إلى أنّه تعالى إله مدعوّ بالفطرة على كلّ حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه و إن لم يذكر الله.

أو أنّه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده و بعبارة اُخرى تعدّيه إلى غيره.

أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنّهم كانوا يرون أنّ دعاء آلهتهم إنّما ينفعهم في البرّ و أمّا البحر فإنّه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان و نحوه و دعاء غيره معه في مورد و هو البرّ، و أحسن الوجوه أوسطها.

و قوله:( وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) أي لا يقتلون النفس الإنسانيّة الّتي حرّم الله قتلها في حال من الأحوال إلّا حال تلبّس القتل بالحقّ كقتلها قصاصاً و حدّاً.

و قوله تعالى:( وَ لا يَزْنُونَ ) أي لا يطؤن الفرج الحرام و قد كان شائعاً بين العرب في الجاهليّة، و كان الإسلام معروفاً بتحريم الزنا و الخمر من أوّل ما ظهرت دعوته.

و قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم ذكره و هو الشرك و قتل النفس المحترمة بغير حقّ و الزنا، و الآثام الإثم و هو وبال الخطيئة و هو الجزاء بالعذاب الّذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) بيان للقاء الآثام، و قوله:( وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) أي يخلد في العذاب و قد وقعت عليه الإهانة.

و الخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، و أمّا الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة و الزنا و هما من الكبائر و قد صرّح القرآن بذلك فيهما و كذا في أكل

٢٦٢

الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربّما استفيد من ظاهر قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعمّ من المنقطع و المؤبّد أو يحمل قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) على فعل جميع الثلاثة لأنّ الآيات في الحقيقة تنزّه المؤمنين عمّا كان الكفّار مبتلين به و هو الجميع دون البعض.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) استثناء من لقي الآثام و الخلود فيه، و قد اُخذ في المستثنى التوبة و الإيمان و إتيان العمل الصالح، أمّا التوبة و هي الرجوع عن المعصية و أقلّ مراتبها الندم فلو لم يتحقّق لم ينتزع العبد عن المعصية و لم يزل مقيماً عليها، و أمّا إتيان العمل الصالح فهو ممّا تستقر به التوبة و به تكون نصوحاً.

و أمّا أخذ الإيمان فيدلّ على أنّ الاستثناء إنّما هو من الشرك فتختصّ الآية بمن أشرك و قتل و زنا أو بمن أشرك سواء أتى معه بشي‏ء من القتل المذكور و الزنا أو لم يأت، و أمّا من أتى بشي‏ء من القتل و الزنا من غير شرك فالمتكفّل لبيان حكم توبته الآية التالية.

و قوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) تفريع على التوبة و الإيمان و العمل الصالح يصف ما يترتّب على ذلك من جميل الأثر و هو أنّ الله يبدّل سيّئاتهم حسنات.

و قد قيل في معنى ذلك أنّ الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة و يثبت مكانها لواحق طاعاتهم فيبدّل الكفر إيماناً و القتل بغير حقّ جهاداً و قتلاً بالحقّ و الزنا عفّة و إحصاناً.

و قيل: المراد بالسيّئات و الحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدّل ملكة السيّئة ملكة الحسنة.

و قيل: المراد بهما العقاب و الثواب عليهما لا نفسهما فيبدّل عقاب القتل و الزنا مثلاً ثواب القتل بالحقّ و الإحصان.

٢٦٣

و أنت خبير بأنّ هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يفيد ظاهر قوله:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) و قد ذيّله بقوله:( وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) أنّ كلّ سيّئة منهم نفسها تتبدّل حسنة، و ليست السيّئة هي متن الفعل الصادر من فاعله و هو حركات خاصّة مشتركة بين السيّئة و الحسنة كعمل المواقعة مثلاً المشترك بين الزنا و النكاح، و الأكل المشترك بين أكل المال غصباً و بإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لأمر الله و مخالفته له مثلاً من حيث إنّه يتأثّر به الإنسان و يحفظ عليه دون الفعل الّذي هو مجموع حركات متصرّمة متقضيّة فانية و كذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه.

و هذه الآثار السيّئة الّتي يتبعها العقاب أعني السيّئات لازمة للإنسان حتّى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر.

و لو لا شوب من الشقوة و المساءة في الذات لم يصدر عنها عمل سيّئ إذ الذات السعيدة الطاهرة من كلّ وجه لا يصدر عنها سيّئة قذرة فالأعمال السيّئة إنّما تلحق ذاتاً شقيّة خبيثة بذاتها أو ذاتاً فيها شوب من شقاء و خباثة.

و لازم ذلك إذا تطهّرت بالتوبة و طابت بالإيمان و العمل الصالح فتبدّلت ذاتاً سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدّل آثارها اللازمة الّتي كانت سيّئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله و رحمة و كان الله غفوراً رحيماً.

و إلى مثل هذا يمكن أن تكون الإشارة بقوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

قوله تعالى: ( وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ) المتاب مصدر ميميّ للتوبة، و سياق الآية يعطي أنّها مسوقة لرفع استغراب تبدّل السيّئات حسنات بتعظيم أمر التوبة و أنّها رجوع خاصّ إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدّل السيّئات حسنات و هو الله يفعل ما يشاء.

و في الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم

٢٦٤

فارقته، و الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - كانت خفيّة الدلالة على حال المعاصي إذا تجرّدت من الشرك.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) قال في مجمع البيان: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ. انتهى. فيشمل الكذب و كلّ لهو باطل كالغناء و الفحش و الخنا بوجه، و قال أيضاً: يقال: تكرّم فلان عمّا يشينه إذا تنزّه و أكرم نفسه منه انتهى.

فقوله:( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق و التقدير لا يشهدون شهادة الزور، و إن كان المراد اللهو الباطل كالغناء و نحوه كان مفعولاً به و المعنى لا يحضرون مجالس الباطل، و ذيل الآية يناسب ثاني المعنيين.

و قوله:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) اللغو ما لا يعتدّ به من الأفعال و الأقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائيّ و يعمّ - كما قيل - جميع المعاصي، و المراد بالمرور باللّغو المرور بأهل اللّغو و هم مشتغلون به.

و المعنى: و إذا مرّوا بأهل اللّغو و هم يلغون مرّوا معرضين عنهم منزّهين أنفسهم عن الدخول فيهم و الاختلاط بهم و مجالستهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) الخرور على الأرض السقوط عليها و كأنّها في الآية كناية عن لزوم الشي‏ء و الانكباب عليه.

و المعنى: و الّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحي لم يسقطوا عليه و هم صمّ لا يسمعون و عميان لا يبصرون بل تفكّروا فيها و تعقّلوها فأخذوا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها و اتّعظوا بموعظتها و كانوا على بصيرة من أمرهم و بيّنة من ربّهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال الراغب في المفردات: قرّت عينه تقرّ سرّت قال، تعالى:

٢٦٥

( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ) و قيل لمن يسرّ به قرّة عين قال:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) و قوله تعالى:( هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قيل: أصله من القرّ أي البرد فقرّت عينه قيل: معناه بردت فصحّت، و قيل: بل لأنّ للسرور دمعة باردة قارّة و للحزن دمعة حارّة و لذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه، و قيل: هو من القرار و المعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره انتهى.

و مرادهم بكون أزواجهم و ذريّاتهم قرّة أعين لهم أن يسرّوهم بطاعة الله و التجنّب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك و لا إربة و هم أهل حقّ لا يتّبعون الهوى.

و قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتّبعنا غيرنا من المتّقين كما قال تعالى:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة: ١٤٨، و قال:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: ٢١، و قال:( وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١، و كأنّ المراد أن يكونوا صفّاً واحداً متقدّماً على غيرهم من المتّقين و لذا جي‏ء بالإمام بلفظ الإفراد.

و قال بعضهم: إنّ الإمام ممّا يطلق على الواحد و الجمع، و قيل: إنّ إمام جمع آمّ بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، و المعنى: اجعلنا قاصدين للمتّقين مقتدين بهم، و في قراءة أهل البيت( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

قوله تعالى: ( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، و هي كناية عن الدرجة العالية في الجنّة، و المراد بالصبر الصبر على طاعة الله و عن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفكّ ذلك عن الصبر عند النوائب و الشدائد.

و المعنى: اُولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنّة يلقّون فيها أي يتلقّاهم الملائكة بالتحيّة و هو ما يقدّم للإنسان ممّا يسرّه و بالسلام و هو كلّ ما ليس فيه ما يخافه و يحذره، و في تنكير التحيّة و السلام دلالة على التفخيم

٢٦٦

و التعظيم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) قال في المفردات: ما عبأت به أي لم اُبال به، و أصله من العب‏ء أي الثقل كأنّه قال: ما أرى له وزناً و قدراً، قال تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) و قيل: من عبأت الطيب كأنّه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم. انتهى.

قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى المفعول و فاعله ضمير راجع إلى( رَبِّي ) و على هذا فقوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) من تفريع السبب على المسبّب بمعنى انكشافه بمسبّبه، و قوله:( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) أي سوف يكون تكذيبكم ملازماً لكم أشدّ الملازمة فتجزون بشقاء لازم و عذاب دائم.

و المعنى: قل لا قدر و لا منزلة لكم عند ربّي فوجودكم و عدمكم عنده سواء لأنّكم كذّبتم فلا خير يرجى فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازماً لكم أشدّ الملازمة، إلّا أنّ الله يدعوكم ليتمّ الحجّة عليكم أو يدعوكم لعلّكم ترجعون عن تكذيبكم. و هذا معنى حسن.

و قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى الفاعل، و المراد به عبادتهم لله سبحانه و المعنى: ما يبالي بكم ربّي أو ما يبقيكم ربّي لو لا عبادتكم له.

و فيه أنّ هذا المعنى لا يلائم تفرّع قوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) عليه و كان عليه من حقّ الكلام أن يقال: و قد كذّبتم! على أنّ المصدر المضاف إلى فاعله يدلّ على تحقّق الفعل منه و تلبّسه به و هم غير متلبّسين بدعائه و عبادته تعالى فكان من حقّ الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم.

و الآية خاتمة السورة و تنعطف إلى غرض السورة و محصّل القول فيه و هو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول و على القرآن النازل عليه و تكذيبهما.

٢٦٧

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) قال أبوعبداللهعليه‌السلام : هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها لا يتكلّف و لا يتبختر.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) قال: الدائم.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) يقول: ملازماً لا ينفكّ. و قوله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) و الإسراف الإنفاق في المعصية في غير حقّ( وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) لم يبخلوا في حقّ الله عزّوجلّ( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) القوام العدل و الإنفاق فيما أمر الله به.

و في الكافي: أحمد بن محمّد بن عليّ عن محمّد بن سنان عن أبي الحسنعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره على قدر عياله و مئونتهم الّتي هي صلاح له و لهم لا يكلّف الله نفساً إلّا ما آتاها.

و في المجمع، روي عن معاذ أنّه قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال: من أعطى في غير حقّ فقد أسرف، و من منع من حقّ فقد قتر.

أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: سئل النبيّ (صلّي الله عليه آله وسلّم): أيّ الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّاً و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك( وَ الَّذِينَ

٢٦٨

لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ) .

أقول: لعلّ المراد الانطباق دون سبب النزول.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عليّ بن الحسين:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) قال: في الآخرة، و قال الحسن: في الدنيا.

و فيه، أخرج أحمد و هنّاد و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها و ينحّى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا و هو مقرّ ليس ينكر و هو مشفق من الكبار أن تجي‏ء فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة.

أقول: هو من أخبار تبديل السيّئات حسنات يوم القيامة و هي كثيرة مستفيضة من طرق أهل السنّة و الشيعة مرويّة عن النبيّ و الباقر و الصادق و الرضا عليه و عليهم الصلاة و السلام.

و في روضة الواعظين، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدّل الله سيّئاتكم حسنات و غفر لكم جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: الغناء.

أقول: و في المجمع، أنّه مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و رواه القمّيّ مسنداً و مرسلاً.

و في العيون، بإسناده إلى محمّد بن أبي عباد و كان مشتهراً بالسماع و يشرب النبيذ قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن السماع فقال: لأهل الحجاز رأي فيه و هو في حيّز الباطل و اللهو أ ما سمعت الله عزّوجلّ يقول:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) .

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) قال: مستبصرين ليسوا بشكّاك.

٢٦٩

و في جوامع الجامع، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال: إيّانا عنى.

أقول: و هناك عدّة روايات في هذا المعنى و اُخرى تتضمّن قراءتهمعليهم‌السلام :( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية عن أبي جعفر في قوله:( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ) قال: على الفقر في الدنيا.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

أقول: و في انطباق الآية على ما في الرواية إبهام.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) يقول: ما يفعل ربّي بكم فقد كذّبتم فسوف يكون لزاماً.

٢٧٠

( سورة الشعراء مكّيّة و هي مائتان و سبع و عشرون آية)

( سورة الشعراء الآيات ١ - ٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طسم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ٤ ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( ٥ ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٦ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٩ )

( بيان)

غرض السورة تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبال ما كذّبه قومه و كذّبوا بكتابه النازل عليه من ربّه - على ما يلوّح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - و قد رموه تارة بأنّه مجنون و اُخرى بأنّه شاعر، و فيها تهديدهم مشفّعاً ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء و هم موسى و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام و ما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلّى به نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يحزن بتكذيب أكثر قومه و ليعتبر المكذّبون.

و السورة من عتائق السور المكّيّة و أوائلها نزولاً و قد اشتملت على قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) . و ربّما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة و وقوع قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) في سورة الحجر

٢٧١

و قياس مضمونيهما كلّ مع الاُخرى أنّ هذه السورة أقدم نزولاً من سورة الحجر و ظاهر سياق آيات السورة أنّها جميعاً مكّيّة و استثنى بعضهم الآيات الخمس الّتي في آخرها، و بعض آخر قوله:( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) و سيجي‏ء الكلام فيهما.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب ممّا سينزل بنزول السورة و ما نزل قبل، و تخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علوّ قدرها و رفعة مكانتها، و المبين من أبان بمعنى ظهر و انجلى.

و المعنى: تلك الآيات العالية قدراً الرفيعة مكاناً آيات الكتاب الظاهر الجليّ كونه من عندالله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز و إن كذّب به هؤلاء المشركون المعاندون و رموه تارة بأنّه من إلقاء شياطين الجنّ و اُخرى بأنّه من الشعر.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، و قوله:( أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) تعليل للبخوع، و المعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.

و الكلام مسوق سوق الإنكار و الغرض منه تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) متعلّق المشيّة محذوف لدلالة الجزاء عليه، و قوله:( فَظَلَّتْ ) إلخ، ظلّ فعل ناقص اسمه( أَعْناقُهُمْ ) و خبره( خاضِعِينَ ) و نسب الخضوع إلى أعناقهم و هو وصفهم أنفسهم لأنّ الخضوع أوّل ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه تخضّعاً فهو من المجاز العقليّ.

و المعنى: إن نشأ أن ننزّل عليهم آية تخضعهم و تلجئهم إلى القبول و تضطرّهم إلى الإيمان ننزّل عليهم آية كذلك فظلّوا خاضعين لها خضوعاً بيّناً بانحناء أعناقهم.

و قيل: المراد بالأعناق الجماعات و قيل: الرؤساء و المقدّمون منهم، و قيل:

٢٧٢

هو على تقدير مضاف و التقدير فضلّت أصحاب أعناقهم خاضعين لها. و هو أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله و تمكّن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلّما تجدّد عليهم ذكر من الرحمن و دعوا إليه دفعه بالإعراض.

فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كلّ ذكر أتاهم لا أنّهم يعرضون عن محدث الذكر و يقبلون إلى قديمه و في ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أنّ الذكر الّذي يأتيهم إنّما ينشأ عن صفة الرحمة العامّة الّتي بها صلاح دنياهم و اُخراهم.

و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.

قوله تعالى: ( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) تفريع على ما تقدّم من استمرار إعراضهم، و قوله:( فَسَيَأْتِيهِمْ ) إلخ تفريع على التفريع و الأنباء جمع نبإ و هو الخبر الخطير، و المعنى لما استمرّ منهم الإعراض عن كلّ ذكر يأتيهم تحقّق منهم و ثبت عليهم أنّهم كذّبوا، و إذ تحقّق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، و تلك الأنباء العقوبات العاجلة و الآجلة الّتي ستحيق بهم.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) الاستفهام للإنكار التوبيخيّ و الجملة معطوف على مقدّر يدلّ عليه المقام و التقدير أصرّوا و استمرّوا على الإعراض و كذّبوا بالآيات و لم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات الّتي أنبتناها في الأرض.

فالرؤية في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا ) مضمّنة معنى النظر و لذا عدّيت بإلى، و الظاهر أنّ المراد بالزوج الكريم. و هو الحسن على ما قيل: النوع من النبات و قد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجاً، و قيل: المراد بالزوج الكريم الّذي أنبته الله يعمّ الحيوان و خاصّة الإنسان بدليل قوله:( وَ اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) الإشارة بذلك

٢٧٣

إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كلّ زوج كريم حيث أنّ فيه إيجاداً لكلّ زوج منه و تتميم نقائص كلّ من الزوجين بالآخر و سوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما و فيه هداية كلّ إلى سعادته الأخيرة و من كانت هذه سنّته فكيف يهمل أمر الإنسان و لا يهديه إلى سعادته و لا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه و آخرته. هذا ما تدلّ عليه آية النبات.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي لم يكن المترقّب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض و بطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله:( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) يونس: ٧٤ و تعليل الكفر و الفسوق برسوخ الملكات الرذيلة و استحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، ممّا لا دليل على أنّه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أنّ ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.

و عن سيبويه أنّ( كانَ ) في قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) صلة زائدة و المعنى: و ما أكثرهم مؤمنين. و فيه أنّه معنى صحيح في نفسه لكنّ المقام بما تقدّم من المعنى أوفق.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) فهو تعالى لكونه عزيزاً غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذّبين لآياته المستهزئين بها و يجازيهم بالعقوبات العاجلة و الآجلة، و لكونه رحيماً ينزّل عليهم الذكر ليهديهم و يغفر للمؤمنين به و يمهل الكافرين.

٢٧٤

( بحث عقليّ متعلّق بالعلم)

( في ارتباط الأشياء بعلمه تعالى ‏)

قال في روح المعاني، في قوله تعالى:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) قيل: أي و ما كان في علم الله تعالى ذلك، و اعترض - بناء على أنّه يفهم من السياق العلّيّة - بأنّ علمه تعالى ليس علّة لعدم إيمانهم لأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

و ردّ بأنّ معنى كون علمه تعالى تابعاً للمعلوم أنّ علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معيّن حادث تابع لماهيّته بمعنى أنّ خصوصيّة العلم و امتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنّه علم بهذه الماهية، و أمّا وجود الماهيّة فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزليّ التابع لماهيّته بمعنى أنّه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصيّة لزم أن يتحقّق و يوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر و عدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزليّ و وقوعه تابع له. انتهى.

و هذه حجّة كثيرة الورود في كلام المجبّرة و خاصّة الإمام الرازيّ في تفسيره الكبير يستدلّون بها على إثبات الجبر و نفي الاختيار و محصّلها أنّ الحوادث و منها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضروريّة الوقوع و إلّا كان علمه جهلاً - تعالى عن ذلك - فالإنسان مجبر عليها غير مختار. و اعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس و اُجيب بما ذكره من أنّ علمه في الأزل تابع لماهيّة المعلوم لكنّ المعلوم تابع في وجوده للعلم.

و الحجّة مضافاً إلى فساد مقدّماتها بناء و مبني مغالطة بيّنة ففيها أوّلاً أنّ فرض ثبوت مّا للماهيّة في الأزل و وجودها فيها لا يزال يقضي بتقدّم الماهيّة على الوجود و أنّى للماهيّة هذه الأصالة و التقدّم؟.

و ثانياً: أنّ مبنيّ الحجّة و كذا الاعتراض و الجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علماً حصوليّاً نظير علومنا الحصوليّة المتعلّقة بالمفاهيم و قد اُقيم البرهان في محلّه على بطلانه و أنّ الأشياء معلومة له تعالى علماً حضوريّاً و علمه علمان: علم

٢٧٥

حضوريّ بالأشياء قبل الإيجاد و هو عين الذات و علم حضوريّ بها بعد الإيجاد و هو عين وجود الأشياء. و تفصيل الكلام في محلّه.

و ثالثاً: أنّ العلم الأزليّ بمعلومه فيما لا يزال إنّما يكون علماً بحقيقة معنى العلم إذا تعلّق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده و مشخّصاته و خصوصيّاته الوجوديّة، و من خصوصيّات وجود الفعل أنّه حركات خاصّة إراديّة اختياريّة صادرة عن فاعله الخاصّ مخالفة لسائر الحركات الاضطراريّة القائمة بوجوده.

و إذا كان كذلك كانت الضرورة اللّاحقة للفعل من جهة تعلّق العلم به صفة للفعل الخاصّ الاختياريّ بما هو فعل خاصّ اختياريّ لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله و اختياره و إلّا تخلّف المعلوم عن العلم لا أن يتعلّق العلم بالفعل الاختياريّ ثمّ يدفع صفة الاختيار عن متعلّقه و يقيم مقامها صفة الضرورة و الإجبار.

فقد وضع في الحجّة الفعل المطلق مكان الفعل الخاصّ فعدّ ضروريّاً مع أنّ الضروريّ تحقّق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجّة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق و الفعل المقيّد بالاختيار.

و من هنا يتبيّن عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلّق العلم الأزليّ به فإنّ تعلّق العلم الأزليّ بفعل إنّما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الّذي هو عليه فإن كان اختياريّاً وجب تحقّقه اختياريّاً و إن كان غير اختياريّ وجب تحقّقه كذلك.

على أنّه لو كان معنى قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) امتناع إيمانهم لتعلّق العلم الأزليّ بعدمه لاتّخذوه حجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عدّوه عذراً لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبّرة.

٢٧٦

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: تخضع رقابهم يعني بني اُميّة و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

أقول: و هذا المعنى رواه الكلينيّ في روضة الكافي، و الصدوق في كمال الدين، و المفيد في الإرشاد، و الشيخ في الغيبة، و الظاهر أنّه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.

٢٧٧

( سورة الشعراء الآيات ١٠ - ٦٨)

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ  أَلَا يَتَّقُونَ ( ١١ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ( ١٢ ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ( ١٣ ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( ١٤ ) قَالَ كَلَّا  فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا  إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ( ١٥ ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦ ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٧ ) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( ١٨ ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ١٩ ) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ( ٢٠ ) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢١ ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٢٢ ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٢٣ ) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( ٢٤ ) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ( ٢٥ ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٢٦ ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ٢٧ ) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٨ ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( ٢٩ ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٣١ ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ٣٢ ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( ٣٣ ) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم

٢٧٨

مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( ٣٥ ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٣٦ ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ( ٣٧ ) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( ٣٨ ) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ( ٣٩ ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( ٤٠ ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( ٤١ ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٢ ) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ( ٤٣ ) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ٤٥ ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( ٤٦ ) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٧ ) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ٤٨ ) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ  لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٤٩ ) قَالُوا لَا ضَيْرَ  إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ( ٥٠ ) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥١ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ( ٥٢ ) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٥٣ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( ٥٤ ) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ( ٥٥ ) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ( ٥٦ ) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ٥٧ ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٥٩ ) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( ٦١ ) قَالَ كَلَّا  إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٦٢ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ

٢٧٩

الْبَحْرَ  فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( ٦٣ ) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ( ٦٤ ) وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ( ٦٥ ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ( ٦٦ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٦٧ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٦٨ )

( بيان)

شروع في ذكر قصص عدّة من أقوام الأنبياء الماضين موسى و هارون و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام ليظهر أنّ قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سائرون مسيرهم و سيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل و الآجل، و الدليل على ذلك ختم كلّ واحدة من القصص بقوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل السورة، و ليس ذلك إلّا لتطبيق القصّة على القصّة.

كلّ ذلك ليتسلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يضيق صدره و يعلم أنّه ليس بدعاً من الرسل و لا المتوقّع من قومه غير ما عامل به الاُمم الماضون رسلهم، و فيه تهديد ضمنيّ لقومه و يؤيّده تصدير قصّة إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ نادى‏ رَبُّكَ مُوسى‏ - إلى قوله -أَ لا يَتَّقُونَ ) أي و اذكر وقتاً نادى فيه ربّك موسى و بعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصّله في سورة طه و غيرها.

و قوله:( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) نوع تفسير للنداء، و توصيفهم أوّلاً بالظالمين ثمّ بيانه ثانياً بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال و هي ظلمهم بالشرك و تعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ - إلى أن قال -فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ ) طه: ٤٧.

و قوله:( أَ لا يَتَّقُونَ ) بصيغة الغيبة، و هو توبيخ غيابيّ منه تعالى لهم و

٢٨٠

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453