الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124152 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (2) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (3) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (4) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (5) .

____________________

(1) الشورى: 23.

(2) الكليني، الكافي، ج4، ص549.

(3) المصدر، ص550.

(4) المصدر، ص549.

(5) المصدر، ج1، ص392.

١٠١

6 - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (2) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (3) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (4) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (5) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(1) طه: 82.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الأنبياء: 72 - 73.

(4) السجدة: 24.

(5) القصص: 41.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (1) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(1) طه: 79.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (1) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (2) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (4) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(1) الحمد: 2 - 3.

(2) الحمد: 4.

(3) الحمد: 5.

(4) الحمد: 6 - 7.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (1) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (2) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (5) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (6) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (7) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(1) سورة الحشر: 7.

(2) سورة الأنفال: 41.

(3) سورة الأحزاب: 33.

(4) سورة الشورى: 23.

(5) سورة المائدة: 55.

(6) سورة الواقعة: 77 - 79.

(7) الأحزاب: 33.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (1) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (2) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

7 - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(1) طه: 82.

(2) أصول الكافي، ج 1، ص 393.

(3) الحج: 26 - 27.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(1) إبراهيم: 37.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (1) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (2) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

8 - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (3) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(1) ابن حمزة، الوسيلة، ص172.

(2) الصدوق، المقنع، ص255.

(3) مريم: 31.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (1) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9 - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (4) .

____________________

(1) ق: 9.

(2) طه: 9 - 12.

(3) النازعات: 15 - 16.

(4) مريم: 51 - 52.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (2) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (3) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (4) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(1) القصص:29 - 30.

(2) التين: 1 - 3.

(3) الصدوق، الخصال، ص225، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص405.

(4) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص275.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (1) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (2) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (3) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

10 - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(1) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 34.

(2) طه: 12.

(3) تفسير القرطبي، ج11، ص175.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(1) النور: 35 -37.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (1) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (2) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(1) سورة البقرة: 31 - 33.

(2) بصائر الدرجات، ص89، الطبراني، المعجم الأوسط، ج4، ص44.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (1) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (2) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج 5، ص50.

(2) الكافي، ج8، ص331، ح510.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (1) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (2) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(1) تفسير القمي: ج2 ص79.

(2) المستدرك، ج 2، ص 671 و 672

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (1) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (2) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (3) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص158، ح4.

(2) المصدر، ص157، ح3.

(3) مناقب ابن المغازلي، ص263، ح361.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (1) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(1) الكافي، ج6، ص256، ح1.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (1) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (2) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (3) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(1) الكافي، ج1، ص182، ح6.

(2) الطوسي، لاحظ التبيان، ج7، ص439، وابن الجوزي، زاد المسير، ج5، ص364.

(3) الجمعة: 11.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (1) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (2) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(1) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج28، ص132.

(2) شرف الدين، تأويل الآيات، ج2، ص693.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قِيلًا سَلاماً سَلاماً ) الواقعة: ٢٦، و يرجع إلى عدم مقابلتهم الجهل بالجهل.

و هذه - كما قيل - صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس و أمّا صفة ليلهم فهي الّتي تصفها الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً ) البيتوتة إدراك الليل سواء نام أم لا، و( لِرَبِّهِمْ ) متعلّق بقوله:( سُجَّداً ) و السجّد و القيام جمعاً ساجد و قائم، و المراد عبادتهم له تعالى بالخرور على الأرض و القيام على السوق، و من مصاديقه الصلاة.

و المعنى: و هم الّذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربّهم و قائمين يتراوحون سجوداً و قياماً، و يمكن أن يراد به التهجّد بنوافل الليل.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) الغرام ما ينوب الإنسان من شدّة أو مصيبة فيلزمه و لا يفارقه و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الضمير لجهنّم و المستقرّ و المقام اسماً مكان من الاستقرار و الإقامة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) ، الإنفاق بذل المال و صرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، و الإسراف الخروج عن الحدّ و لا يكون إلّا في جانب الزيادة، و هو في الإنفاق التعديّ عمّا ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، و القتر بالفتح فالسكون التقليل في الإنفاق و هو بإزاء الإسراف على ما ذكره الراغب، و القتر و الإقتار و التقتير بمعنى.

و القوام بالفتح الواسط العدل، و بالكسر ما يقوم به الشي‏ء و قوله:( بَيْنَ ذلِكَ ) متعلّق بالقوام، و المعنى: و كان إنفاقهم وسطاً عدلاً بين ما ذكر من الإسراف و القتر فقوله:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) تنصيص على ما يستفاد من قوله( إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) ، فصدر الآية ينفي طرفي الإفراط و التفريط في الإنفاق، و ذيلها يثبت الوسط.

٢٦١

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى آخر الآية هذا هو الشرك و اُصول الوثنيّة لا تجيز دعاءه تعالى و عبادته أصلاً لا وحده و لا مع آلهتهم و إنّما توجب دعاء آلهتهم و عبادتهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى و يشفعوا لهم عنده.

فالمراد بدعائهم مع الله إلهاً آخر إمّا التلويح إلى أنّه تعالى إله مدعوّ بالفطرة على كلّ حال فدعاء غيره دعاء لإله آخر معه و إن لم يذكر الله.

أو أنّه تعالى ثابت في نفسه سواء دعي غيره أم لا فالمراد بدعاء غيره دعاء إله آخر مع وجوده و بعبارة اُخرى تعدّيه إلى غيره.

أو إشارة إلى ما كان يفعله جهلة مشركي العرب فإنّهم كانوا يرون أنّ دعاء آلهتهم إنّما ينفعهم في البرّ و أمّا البحر فإنّه لله لا يشاركه فيه أحد فالمراد دعاؤه تعالى في مورد كما عند شدائد البحر من طوفان و نحوه و دعاء غيره معه في مورد و هو البرّ، و أحسن الوجوه أوسطها.

و قوله:( وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) أي لا يقتلون النفس الإنسانيّة الّتي حرّم الله قتلها في حال من الأحوال إلّا حال تلبّس القتل بالحقّ كقتلها قصاصاً و حدّاً.

و قوله تعالى:( وَ لا يَزْنُونَ ) أي لا يطؤن الفرج الحرام و قد كان شائعاً بين العرب في الجاهليّة، و كان الإسلام معروفاً بتحريم الزنا و الخمر من أوّل ما ظهرت دعوته.

و قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم ذكره و هو الشرك و قتل النفس المحترمة بغير حقّ و الزنا، و الآثام الإثم و هو وبال الخطيئة و هو الجزاء بالعذاب الّذي سيلقاه يوم القيامة المذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) بيان للقاء الآثام، و قوله:( وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) أي يخلد في العذاب و قد وقعت عليه الإهانة.

و الخلود في العذاب في الشرك لا ريب فيه، و أمّا الخلود فيه عند قتل النفس المحترمة و الزنا و هما من الكبائر و قد صرّح القرآن بذلك فيهما و كذا في أكل

٢٦٢

الربا فيمكن أن يحمل على اقتضاء طبع المعصية ذلك كما ربّما استفيد من ظاهر قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

أو يحمل الخلود على المكث الطويل أعمّ من المنقطع و المؤبّد أو يحمل قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) على فعل جميع الثلاثة لأنّ الآيات في الحقيقة تنزّه المؤمنين عمّا كان الكفّار مبتلين به و هو الجميع دون البعض.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) استثناء من لقي الآثام و الخلود فيه، و قد اُخذ في المستثنى التوبة و الإيمان و إتيان العمل الصالح، أمّا التوبة و هي الرجوع عن المعصية و أقلّ مراتبها الندم فلو لم يتحقّق لم ينتزع العبد عن المعصية و لم يزل مقيماً عليها، و أمّا إتيان العمل الصالح فهو ممّا تستقر به التوبة و به تكون نصوحاً.

و أمّا أخذ الإيمان فيدلّ على أنّ الاستثناء إنّما هو من الشرك فتختصّ الآية بمن أشرك و قتل و زنا أو بمن أشرك سواء أتى معه بشي‏ء من القتل المذكور و الزنا أو لم يأت، و أمّا من أتى بشي‏ء من القتل و الزنا من غير شرك فالمتكفّل لبيان حكم توبته الآية التالية.

و قوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) تفريع على التوبة و الإيمان و العمل الصالح يصف ما يترتّب على ذلك من جميل الأثر و هو أنّ الله يبدّل سيّئاتهم حسنات.

و قد قيل في معنى ذلك أنّ الله يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة و يثبت مكانها لواحق طاعاتهم فيبدّل الكفر إيماناً و القتل بغير حقّ جهاداً و قتلاً بالحقّ و الزنا عفّة و إحصاناً.

و قيل: المراد بالسيّئات و الحسنات ملكاتهما لا نفسهما فيبدّل ملكة السيّئة ملكة الحسنة.

و قيل: المراد بهما العقاب و الثواب عليهما لا نفسهما فيبدّل عقاب القتل و الزنا مثلاً ثواب القتل بالحقّ و الإحصان.

٢٦٣

و أنت خبير بأنّ هذه الوجوه من صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يفيد ظاهر قوله:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) و قد ذيّله بقوله:( وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) أنّ كلّ سيّئة منهم نفسها تتبدّل حسنة، و ليست السيّئة هي متن الفعل الصادر من فاعله و هو حركات خاصّة مشتركة بين السيّئة و الحسنة كعمل المواقعة مثلاً المشترك بين الزنا و النكاح، و الأكل المشترك بين أكل المال غصباً و بإذن من مالكه بل صفة الفعل من حيث موافقته لأمر الله و مخالفته له مثلاً من حيث إنّه يتأثّر به الإنسان و يحفظ عليه دون الفعل الّذي هو مجموع حركات متصرّمة متقضيّة فانية و كذا عنوانه القائم به الفاني بفنائه.

و هذه الآثار السيّئة الّتي يتبعها العقاب أعني السيّئات لازمة للإنسان حتّى يؤخذ بها يوم تبلى السرائر.

و لو لا شوب من الشقوة و المساءة في الذات لم يصدر عنها عمل سيّئ إذ الذات السعيدة الطاهرة من كلّ وجه لا يصدر عنها سيّئة قذرة فالأعمال السيّئة إنّما تلحق ذاتاً شقيّة خبيثة بذاتها أو ذاتاً فيها شوب من شقاء و خباثة.

و لازم ذلك إذا تطهّرت بالتوبة و طابت بالإيمان و العمل الصالح فتبدّلت ذاتاً سعيدة ما فيها شوب من قذارة الشقاء أن تتبدّل آثارها اللازمة الّتي كانت سيّئات قبل ذلك فتناسب الآثار للذات بمغفرة من الله و رحمة و كان الله غفوراً رحيماً.

و إلى مثل هذا يمكن أن تكون الإشارة بقوله:( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

قوله تعالى: ( وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ) المتاب مصدر ميميّ للتوبة، و سياق الآية يعطي أنّها مسوقة لرفع استغراب تبدّل السيّئات حسنات بتعظيم أمر التوبة و أنّها رجوع خاصّ إلى الله سبحانه فلا بدع في أن يبدّل السيّئات حسنات و هو الله يفعل ما يشاء.

و في الآية مع ذلك شمول للتوبة من جميع المعاصي سواء قارنت الشرك أم

٢٦٤

فارقته، و الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - كانت خفيّة الدلالة على حال المعاصي إذا تجرّدت من الشرك.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) قال في مجمع البيان: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ. انتهى. فيشمل الكذب و كلّ لهو باطل كالغناء و الفحش و الخنا بوجه، و قال أيضاً: يقال: تكرّم فلان عمّا يشينه إذا تنزّه و أكرم نفسه منه انتهى.

فقوله:( وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) إن كان المراد بالزور الكذب فهو قائم مقام المفعول المطلق و التقدير لا يشهدون شهادة الزور، و إن كان المراد اللهو الباطل كالغناء و نحوه كان مفعولاً به و المعنى لا يحضرون مجالس الباطل، و ذيل الآية يناسب ثاني المعنيين.

و قوله:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) اللغو ما لا يعتدّ به من الأفعال و الأقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائيّ و يعمّ - كما قيل - جميع المعاصي، و المراد بالمرور باللّغو المرور بأهل اللّغو و هم مشتغلون به.

و المعنى: و إذا مرّوا بأهل اللّغو و هم يلغون مرّوا معرضين عنهم منزّهين أنفسهم عن الدخول فيهم و الاختلاط بهم و مجالستهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) الخرور على الأرض السقوط عليها و كأنّها في الآية كناية عن لزوم الشي‏ء و الانكباب عليه.

و المعنى: و الّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم من حكمة أو موعظة حسنة من قرآن أو وحي لم يسقطوا عليه و هم صمّ لا يسمعون و عميان لا يبصرون بل تفكّروا فيها و تعقّلوها فأخذوا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها و اتّعظوا بموعظتها و كانوا على بصيرة من أمرهم و بيّنة من ربّهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال الراغب في المفردات: قرّت عينه تقرّ سرّت قال، تعالى:

٢٦٥

( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ) و قيل لمن يسرّ به قرّة عين قال:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) و قوله تعالى:( هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) قيل: أصله من القرّ أي البرد فقرّت عينه قيل: معناه بردت فصحّت، و قيل: بل لأنّ للسرور دمعة باردة قارّة و للحزن دمعة حارّة و لذلك يقال فيمن يدعى عليه: أسخن الله عينه، و قيل: هو من القرار و المعنى أعطاه الله ما يسكن به عينه فلا تطمح إلى غيره انتهى.

و مرادهم بكون أزواجهم و ذريّاتهم قرّة أعين لهم أن يسرّوهم بطاعة الله و التجنّب عن معصيته فلا حاجة لهم في غير ذلك و لا إربة و هم أهل حقّ لا يتّبعون الهوى.

و قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتّبعنا غيرنا من المتّقين كما قال تعالى:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة: ١٤٨، و قال:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: ٢١، و قال:( وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: ١١، و كأنّ المراد أن يكونوا صفّاً واحداً متقدّماً على غيرهم من المتّقين و لذا جي‏ء بالإمام بلفظ الإفراد.

و قال بعضهم: إنّ الإمام ممّا يطلق على الواحد و الجمع، و قيل: إنّ إمام جمع آمّ بمعنى القاصد كصيام جمع صائم، و المعنى: اجعلنا قاصدين للمتّقين مقتدين بهم، و في قراءة أهل البيت( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

قوله تعالى: ( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً ) الغرفة - كما قيل - البناء فوق البناء فهو الدرجة العالية من البيت، و هي كناية عن الدرجة العالية في الجنّة، و المراد بالصبر الصبر على طاعة الله و عن معصيته فهذان القسمان من الصبر هما المذكوران في الآيات السابقة لكن لا ينفكّ ذلك عن الصبر عند النوائب و الشدائد.

و المعنى: اُولئك الموصوفون بما وصفوا يجزون الدرجة الرفيعة من الجنّة يلقّون فيها أي يتلقّاهم الملائكة بالتحيّة و هو ما يقدّم للإنسان ممّا يسرّه و بالسلام و هو كلّ ما ليس فيه ما يخافه و يحذره، و في تنكير التحيّة و السلام دلالة على التفخيم

٢٦٦

و التعظيم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) قال في المفردات: ما عبأت به أي لم اُبال به، و أصله من العب‏ء أي الثقل كأنّه قال: ما أرى له وزناً و قدراً، قال تعالى:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) و قيل: من عبأت الطيب كأنّه قيل: ما يبقيكم لو لا دعاؤكم. انتهى.

قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى المفعول و فاعله ضمير راجع إلى( رَبِّي ) و على هذا فقوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) من تفريع السبب على المسبّب بمعنى انكشافه بمسبّبه، و قوله:( فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً ) أي سوف يكون تكذيبكم ملازماً لكم أشدّ الملازمة فتجزون بشقاء لازم و عذاب دائم.

و المعنى: قل لا قدر و لا منزلة لكم عند ربّي فوجودكم و عدمكم عنده سواء لأنّكم كذّبتم فلا خير يرجى فيكم فسوف يكون هذا التكذيب ملازماً لكم أشدّ الملازمة، إلّا أنّ الله يدعوكم ليتمّ الحجّة عليكم أو يدعوكم لعلّكم ترجعون عن تكذيبكم. و هذا معنى حسن.

و قيل:( دُعاؤُكُمْ ) من إضافة المصدر إلى الفاعل، و المراد به عبادتهم لله سبحانه و المعنى: ما يبالي بكم ربّي أو ما يبقيكم ربّي لو لا عبادتكم له.

و فيه أنّ هذا المعنى لا يلائم تفرّع قوله:( فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ) عليه و كان عليه من حقّ الكلام أن يقال: و قد كذّبتم! على أنّ المصدر المضاف إلى فاعله يدلّ على تحقّق الفعل منه و تلبّسه به و هم غير متلبّسين بدعائه و عبادته تعالى فكان من حقّ الكلام على هذا التقدير أن يقال لو لا أن تدعوه فافهم.

و الآية خاتمة السورة و تنعطف إلى غرض السورة و محصّل القول فيه و هو الكلام على اعتراض المشركين على الرسول و على القرآن النازل عليه و تكذيبهما.

٢٦٧

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى:( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) قال أبوعبداللهعليه‌السلام : هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها لا يتكلّف و لا يتبختر.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) قال: الدائم.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) يقول: ملازماً لا ينفكّ. و قوله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) و الإسراف الإنفاق في المعصية في غير حقّ( وَ لَمْ يَقْتُرُوا ) لم يبخلوا في حقّ الله عزّوجلّ( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) القوام العدل و الإنفاق فيما أمر الله به.

و في الكافي: أحمد بن محمّد بن عليّ عن محمّد بن سنان عن أبي الحسنعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) قال: القوام هو المعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره على قدر عياله و مئونتهم الّتي هي صلاح له و لهم لا يكلّف الله نفساً إلّا ما آتاها.

و في المجمع، روي عن معاذ أنّه قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال: من أعطى في غير حقّ فقد أسرف، و من منع من حقّ فقد قتر.

أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: سئل النبيّ (صلّي الله عليه آله وسلّم): أيّ الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله ندّاً و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك( وَ الَّذِينَ

٢٦٨

لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ) .

أقول: لعلّ المراد الانطباق دون سبب النزول.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عليّ بن الحسين:( يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) قال: في الآخرة، و قال الحسن: في الدنيا.

و فيه، أخرج أحمد و هنّاد و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه صغارها و ينحّى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا و هو مقرّ ليس ينكر و هو مشفق من الكبار أن تجي‏ء فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة.

أقول: هو من أخبار تبديل السيّئات حسنات يوم القيامة و هي كثيرة مستفيضة من طرق أهل السنّة و الشيعة مرويّة عن النبيّ و الباقر و الصادق و الرضا عليه و عليهم الصلاة و السلام.

و في روضة الواعظين، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جلس قوم يذكرون الله إلّا نادى بهم مناد من السماء قوموا فقد بدّل الله سيّئاتكم حسنات و غفر لكم جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) قال: الغناء.

أقول: و في المجمع، أنّه مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و رواه القمّيّ مسنداً و مرسلاً.

و في العيون، بإسناده إلى محمّد بن أبي عباد و كان مشتهراً بالسماع و يشرب النبيذ قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن السماع فقال: لأهل الحجاز رأي فيه و هو في حيّز الباطل و اللهو أ ما سمعت الله عزّوجلّ يقول:( وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) .

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً ) قال: مستبصرين ليسوا بشكّاك.

٢٦٩

و في جوامع الجامع، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله:( وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) قال: إيّانا عنى.

أقول: و هناك عدّة روايات في هذا المعنى و اُخرى تتضمّن قراءتهمعليهم‌السلام :( و اجعل لنا من المتّقين إماماً) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبونعيم في الحلية عن أبي جعفر في قوله:( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ) قال: على الفقر في الدنيا.

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء أفضل و قرأ هذه الآية.

أقول: و في انطباق الآية على ما في الرواية إبهام.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) يقول: ما يفعل ربّي بكم فقد كذّبتم فسوف يكون لزاماً.

٢٧٠

( سورة الشعراء مكّيّة و هي مائتان و سبع و عشرون آية)

( سورة الشعراء الآيات ١ - ٩)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طسم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( ٣ ) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( ٤ ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( ٥ ) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٦ ) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٨ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٩ )

( بيان)

غرض السورة تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبال ما كذّبه قومه و كذّبوا بكتابه النازل عليه من ربّه - على ما يلوّح إليه صدر السورة: تلك آيات الكتاب المبين - و قد رموه تارة بأنّه مجنون و اُخرى بأنّه شاعر، و فيها تهديدهم مشفّعاً ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء و هم موسى و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام و ما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم لتتسلّى به نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يحزن بتكذيب أكثر قومه و ليعتبر المكذّبون.

و السورة من عتائق السور المكّيّة و أوائلها نزولاً و قد اشتملت على قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) . و ربّما أمكن أن يستفاد من وقوع هذه الآية في هذه السورة و وقوع قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) في سورة الحجر

٢٧١

و قياس مضمونيهما كلّ مع الاُخرى أنّ هذه السورة أقدم نزولاً من سورة الحجر و ظاهر سياق آيات السورة أنّها جميعاً مكّيّة و استثنى بعضهم الآيات الخمس الّتي في آخرها، و بعض آخر قوله:( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) و سيجي‏ء الكلام فيهما.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الإشارة بتلك إلى آيات الكتاب ممّا سينزل بنزول السورة و ما نزل قبل، و تخصيصها بالإشارة البعيدة للدلالة على علوّ قدرها و رفعة مكانتها، و المبين من أبان بمعنى ظهر و انجلى.

و المعنى: تلك الآيات العالية قدراً الرفيعة مكاناً آيات الكتاب الظاهر الجليّ كونه من عندالله سبحانه بما فيه من سمة الإعجاز و إن كذّب به هؤلاء المشركون المعاندون و رموه تارة بأنّه من إلقاء شياطين الجنّ و اُخرى بأنّه من الشعر.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) البخوع هو إهلاك النفس عن وجد، و قوله:( أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) تعليل للبخوع، و المعنى: يرجى منك أن تهلك نفسك بسبب عدم إيمانهم بآيات هذا الكتاب النازل عليك.

و الكلام مسوق سوق الإنكار و الغرض منه تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) متعلّق المشيّة محذوف لدلالة الجزاء عليه، و قوله:( فَظَلَّتْ ) إلخ، ظلّ فعل ناقص اسمه( أَعْناقُهُمْ ) و خبره( خاضِعِينَ ) و نسب الخضوع إلى أعناقهم و هو وصفهم أنفسهم لأنّ الخضوع أوّل ما يظهر في عنق الإنسان حيث يطأطئ رأسه تخضّعاً فهو من المجاز العقليّ.

و المعنى: إن نشأ أن ننزّل عليهم آية تخضعهم و تلجئهم إلى القبول و تضطرّهم إلى الإيمان ننزّل عليهم آية كذلك فظلّوا خاضعين لها خضوعاً بيّناً بانحناء أعناقهم.

و قيل: المراد بالأعناق الجماعات و قيل: الرؤساء و المقدّمون منهم، و قيل:

٢٧٢

هو على تقدير مضاف و التقدير فضلّت أصحاب أعناقهم خاضعين لها. و هو أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله و تمكّن الإعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلّما تجدّد عليهم ذكر من الرحمن و دعوا إليه دفعه بالإعراض.

فالغرض بيان استمرارهم على الإعراض عن كلّ ذكر أتاهم لا أنّهم يعرضون عن محدث الذكر و يقبلون إلى قديمه و في ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أنّ الذكر الّذي يأتيهم إنّما ينشأ عن صفة الرحمة العامّة الّتي بها صلاح دنياهم و اُخراهم.

و قد تقدّم في تفسير أوّل سورة الأنبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع.

قوله تعالى: ( فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) تفريع على ما تقدّم من استمرار إعراضهم، و قوله:( فَسَيَأْتِيهِمْ ) إلخ تفريع على التفريع و الأنباء جمع نبإ و هو الخبر الخطير، و المعنى لما استمرّ منهم الإعراض عن كلّ ذكر يأتيهم تحقّق منهم و ثبت عليهم أنّهم كذّبوا، و إذ تحقّق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، و تلك الأنباء العقوبات العاجلة و الآجلة الّتي ستحيق بهم.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) الاستفهام للإنكار التوبيخيّ و الجملة معطوف على مقدّر يدلّ عليه المقام و التقدير أصرّوا و استمرّوا على الإعراض و كذّبوا بالآيات و لم ينظروا إلى هذه الأزواج الكريمة من النباتات الّتي أنبتناها في الأرض.

فالرؤية في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا ) مضمّنة معنى النظر و لذا عدّيت بإلى، و الظاهر أنّ المراد بالزوج الكريم. و هو الحسن على ما قيل: النوع من النبات و قد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجاً، و قيل: المراد بالزوج الكريم الّذي أنبته الله يعمّ الحيوان و خاصّة الإنسان بدليل قوله:( وَ اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) الإشارة بذلك

٢٧٣

إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كلّ زوج كريم حيث أنّ فيه إيجاداً لكلّ زوج منه و تتميم نقائص كلّ من الزوجين بالآخر و سوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما و فيه هداية كلّ إلى سعادته الأخيرة و من كانت هذه سنّته فكيف يهمل أمر الإنسان و لا يهديه إلى سعادته و لا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه و آخرته. هذا ما تدلّ عليه آية النبات.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي لم يكن المترقّب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الإعراض و بطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله:( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) يونس: ٧٤ و تعليل الكفر و الفسوق برسوخ الملكات الرذيلة و استحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصى.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لأنّه مضافاً إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، ممّا لا دليل على أنّه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه لسبق الدلالة على أنّ ملكة الإعراض راسخة لم تزل في نفوسهم.

و عن سيبويه أنّ( كانَ ) في قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) صلة زائدة و المعنى: و ما أكثرهم مؤمنين. و فيه أنّه معنى صحيح في نفسه لكنّ المقام بما تقدّم من المعنى أوفق.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) فهو تعالى لكونه عزيزاً غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذّبين لآياته المستهزئين بها و يجازيهم بالعقوبات العاجلة و الآجلة، و لكونه رحيماً ينزّل عليهم الذكر ليهديهم و يغفر للمؤمنين به و يمهل الكافرين.

٢٧٤

( بحث عقليّ متعلّق بالعلم)

( في ارتباط الأشياء بعلمه تعالى ‏)

قال في روح المعاني، في قوله تعالى:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) قيل: أي و ما كان في علم الله تعالى ذلك، و اعترض - بناء على أنّه يفهم من السياق العلّيّة - بأنّ علمه تعالى ليس علّة لعدم إيمانهم لأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.

و ردّ بأنّ معنى كون علمه تعالى تابعاً للمعلوم أنّ علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معيّن حادث تابع لماهيّته بمعنى أنّ خصوصيّة العلم و امتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنّه علم بهذه الماهية، و أمّا وجود الماهيّة فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزليّ التابع لماهيّته بمعنى أنّه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصيّة لزم أن يتحقّق و يوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر و عدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزليّ و وقوعه تابع له. انتهى.

و هذه حجّة كثيرة الورود في كلام المجبّرة و خاصّة الإمام الرازيّ في تفسيره الكبير يستدلّون بها على إثبات الجبر و نفي الاختيار و محصّلها أنّ الحوادث و منها أفعال الإنسان معلومة لله سبحانه في الأزل فهي ضروريّة الوقوع و إلّا كان علمه جهلاً - تعالى عن ذلك - فالإنسان مجبر عليها غير مختار. و اعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم لا بالعكس و اُجيب بما ذكره من أنّ علمه في الأزل تابع لماهيّة المعلوم لكنّ المعلوم تابع في وجوده للعلم.

و الحجّة مضافاً إلى فساد مقدّماتها بناء و مبني مغالطة بيّنة ففيها أوّلاً أنّ فرض ثبوت مّا للماهيّة في الأزل و وجودها فيها لا يزال يقضي بتقدّم الماهيّة على الوجود و أنّى للماهيّة هذه الأصالة و التقدّم؟.

و ثانياً: أنّ مبنيّ الحجّة و كذا الاعتراض و الجواب على كون علمه تعالى بالأشياء علماً حصوليّاً نظير علومنا الحصوليّة المتعلّقة بالمفاهيم و قد اُقيم البرهان في محلّه على بطلانه و أنّ الأشياء معلومة له تعالى علماً حضوريّاً و علمه علمان: علم

٢٧٥

حضوريّ بالأشياء قبل الإيجاد و هو عين الذات و علم حضوريّ بها بعد الإيجاد و هو عين وجود الأشياء. و تفصيل الكلام في محلّه.

و ثالثاً: أنّ العلم الأزليّ بمعلومه فيما لا يزال إنّما يكون علماً بحقيقة معنى العلم إذا تعلّق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده و مشخّصاته و خصوصيّاته الوجوديّة، و من خصوصيّات وجود الفعل أنّه حركات خاصّة إراديّة اختياريّة صادرة عن فاعله الخاصّ مخالفة لسائر الحركات الاضطراريّة القائمة بوجوده.

و إذا كان كذلك كانت الضرورة اللّاحقة للفعل من جهة تعلّق العلم به صفة للفعل الخاصّ الاختياريّ بما هو فعل خاصّ اختياريّ لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله و اختياره و إلّا تخلّف المعلوم عن العلم لا أن يتعلّق العلم بالفعل الاختياريّ ثمّ يدفع صفة الاختيار عن متعلّقه و يقيم مقامها صفة الضرورة و الإجبار.

فقد وضع في الحجّة الفعل المطلق مكان الفعل الخاصّ فعدّ ضروريّاً مع أنّ الضروريّ تحقّق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجّة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق و الفعل المقيّد بالاختيار.

و من هنا يتبيّن عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلّق العلم الأزليّ به فإنّ تعلّق العلم الأزليّ بفعل إنّما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الّذي هو عليه فإن كان اختياريّاً وجب تحقّقه اختياريّاً و إن كان غير اختياريّ وجب تحقّقه كذلك.

على أنّه لو كان معنى قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) امتناع إيمانهم لتعلّق العلم الأزليّ بعدمه لاتّخذوه حجّة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عدّوه عذراً لأنفسهم في استنكافهم عن الإيمان كما اعترف به بعض المجبّرة.

٢٧٦

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: تخضع رقابهم يعني بني اُميّة و هي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر.

أقول: و هذا المعنى رواه الكلينيّ في روضة الكافي، و الصدوق في كمال الدين، و المفيد في الإرشاد، و الشيخ في الغيبة، و الظاهر أنّه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه.

٢٧٧

( سورة الشعراء الآيات ١٠ - ٦٨)

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ  أَلَا يَتَّقُونَ ( ١١ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ( ١٢ ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ( ١٣ ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( ١٤ ) قَالَ كَلَّا  فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا  إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ( ١٥ ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦ ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٧ ) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( ١٨ ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ١٩ ) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ( ٢٠ ) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢١ ) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٢٢ ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ٢٣ ) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( ٢٤ ) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ( ٢٥ ) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٢٦ ) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( ٢٧ ) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٨ ) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( ٢٩ ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٣١ ) فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ( ٣٢ ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( ٣٣ ) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( ٣٤ ) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم

٢٧٨

مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( ٣٥ ) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٣٦ ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ( ٣٧ ) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( ٣٨ ) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ( ٣٩ ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( ٤٠ ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( ٤١ ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( ٤٢ ) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ( ٤٣ ) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( ٤٥ ) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( ٤٦ ) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٧ ) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ٤٨ ) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ  لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ٤٩ ) قَالُوا لَا ضَيْرَ  إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ( ٥٠ ) إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٥١ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ( ٥٢ ) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( ٥٣ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ( ٥٤ ) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ( ٥٥ ) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ( ٥٦ ) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ٥٧ ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٥٩ ) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( ٦١ ) قَالَ كَلَّا  إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ( ٦٢ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ

٢٧٩

الْبَحْرَ  فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( ٦٣ ) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ ( ٦٤ ) وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ( ٦٥ ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ( ٦٦ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ٦٧ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٦٨ )

( بيان)

شروع في ذكر قصص عدّة من أقوام الأنبياء الماضين موسى و هارون و إبراهيم و نوح و هود و صالح و لوط و شعيبعليهم‌السلام ليظهر أنّ قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سائرون مسيرهم و سيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل و الآجل، و الدليل على ذلك ختم كلّ واحدة من القصص بقوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) كما ختم به الكلام الحاكي لإعراض قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل السورة، و ليس ذلك إلّا لتطبيق القصّة على القصّة.

كلّ ذلك ليتسلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يضيق صدره و يعلم أنّه ليس بدعاً من الرسل و لا المتوقّع من قومه غير ما عامل به الاُمم الماضون رسلهم، و فيه تهديد ضمنيّ لقومه و يؤيّده تصدير قصّة إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ نادى‏ رَبُّكَ مُوسى‏ - إلى قوله -أَ لا يَتَّقُونَ ) أي و اذكر وقتاً نادى فيه ربّك موسى و بعثه بالرسالة إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل على ما فصّله في سورة طه و غيرها.

و قوله:( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) نوع تفسير للنداء، و توصيفهم أوّلاً بالظالمين ثمّ بيانه ثانياً بقوم فرعون للإشارة إلى حكمة الإرسال و هي ظلمهم بالشرك و تعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله:( اذْهَبا إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ - إلى أن قال -فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ ) طه: ٤٧.

و قوله:( أَ لا يَتَّقُونَ ) بصيغة الغيبة، و هو توبيخ غيابيّ منه تعالى لهم و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453