الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128742 / تحميل: 6586
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

و فيه دلالة على أنّ لله في اتّباعهم أمرا و أنّ فيه فرج بني إسرائيل و قد صرّح بذلك في قوله:( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) الدخان: ٢٤.

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ - إلى قوله -ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ‏ ) قصّة غرق آل فرعون و إنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية و قد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصّة لظهوره من سياقها كخروج موسى و بني إسرائيل ليلاً من مصر لدلالة قوله:( أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ) عليه و على هذا القياس.

فقال تعالى:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ ) أي فأسرى موسى بعبادي فلمّا علم فرعون بذلك أرسل( فِي الْمَدائِنِ ) الّتي تحت سلطانه رجالاً( حاشِرِينَ ) يحشرون الناس و يجمعون الجموع قائلين للناس( إِنَّ هؤُلاءِ ) بني إسرائيل( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) و الشرذمة من كلّ شي‏ء بقيّته القليلة فتوصيفها بالقلّة تأكيد( وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ) يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به( وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ ) مجموع متّفق فيما نعزم عليه( حاذِرُونَ ) نحذر العدوّ أن يغتالنا أو يمكر بنا و إن كان ضعيفاً قليلاً، و المطلوب بقولهم هذا و هو لا محالة بلاغ من فرعون لحثّ الناس عليهم.

( فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ ) فيه قصورهم المشيدة و بيوتهم الرفيعة، و لما كان خروجهم عن مكر إلهيّ بسبب داعية الاستعلاء و الاستكبار الّتي فيهم نسب إلى نفسه أنّه أخرجهم( كَذلِكَ ) أي الأمر كذلك( وَ أَوْرَثْناها ) أي تلك الجنّات و العيون و الكنوز و المقام الكريم( بَنِي إِسْرائِيلَ ) حيث أهلكنا فرعون و جنوده و أبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين.

( فَأَتْبَعُوهُمْ ) أي لحقوا ببني إسرائيل( مُشْرِقِينَ ) أي داخلين في وقت شروق الشمس و طلوعها( فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ) أي دنا بعضهم من بعض فرأى كلّ من الجمعين جمع فرعون و جمع موسى الآخر،( قالَ أَصْحابُ مُوسى) من بني إسرائيل خائفين فزعين( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) سيدركنا جنود فرعون.

( قالَ موسى كَلَّا ) لن يدركونا( إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) و المراد بهذه المعيّة

٣٠١

معيّة الحفظ و النصرة و هي الّتي وعدها له ربّه أوّل ما بعثه و أخاه إلى فرعون:( إِنَّنِي مَعَكُما ) و أمّا معيّة الإيجاد و التدبير فالله سبحانه مع موسى و فرعون على نسبة سواء، و قوله:( سَيَهْدِينِ ) أي سيدلّني على طريق لا يدركني فرعون معها.

( فَأَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) و الانفلاق انشقاق الشي‏ء و بينونة بعضه من بعض( فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ ) أي قطعة منفصلة من الماء( كَالطَّوْدِ ) و هو القطعة من الجبل( الْعَظِيمِ ) فدخلها موسى و من معه من بني إسرائيل.

( وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ ) أي و قرّبنا هناك( الْآخَرِينَ ) و هم فرعون و جنوده( وَ أَنْجَيْنا مُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ) بحفظ البحر على حاله و هيئته حتّى قطعوه و خرجوا منه،( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) بإطباق البحر عليهم و هم في فلقه.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ظاهر السياق - و يؤيّده سياق القصص الآتية - أنّ المشار إليه مجموع ما ذكر في قصّة موسى من بعثه و دعوته فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل و غرق فرعون و جنوده، ففي ذلك كلّه آية تدلّ على توحّده تعالى بالربوبيّة و صدق الرسالة لمن تدبّر فيها.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي و ما كان أكثر هؤلاء الّذين ذكرنا قصّتهم مؤمنين مع ظهور ما دلّ عليه من الآية و على هذا فقوله بعد كلّ من القصص الموردة في السورة:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) بمنزلة أخذ النتيجة و تطبيق الشاهد على المستشهد له كأنّه يقال بعد إيراد كلّ واحدة من القصص: هذه قصّتهم المتضمّنة لآيته تعالى و ما كان أكثرهم مؤمنين كما لم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كلّ من الاُمم الّتي بعثنا إليهم رسولاً فدعاهم إلى توحيد الربوبيّة.

و قيل: إنّ الضمير في( أَكْثَرُهُمْ ) راجع إلى قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: أنّ في هذه القصّة آية و ما كان أكثر قومك مؤمنين بها و لا يخلو من بعد.

و قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره في أوّل السورة.

٣٠٢

( سورة الشعراء الآيات ٦٩ - ١٠٤)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ( ٦٩ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ( ٧٠ ) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ( ٧١ ) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( ٧٢ ) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( ٧٣ ) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ( ٧٤ ) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( ٧٥ ) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ( ٧٦ ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٧٧ ) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( ٧٨ ) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( ٧٩ ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( ٨٠ ) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ( ٨١ ) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ( ٨٢ ) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( ٨٣ ) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ( ٨٤ ) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ( ٨٥ ) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ( ٨٦ ) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( ٨٧ ) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ( ٨٨ ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ٨٩ ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ٩٠ ) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( ٩١ ) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( ٩٢ ) مِن دُونِ اللهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ( ٩٣ ) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( ٩٤ ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ( ٩٥ ) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ( ٩٦ ) تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٩٧ ) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٩٨ ) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ( ٩٩ ) فَمَا لَنَا مِن

٣٠٣

شَافِعِينَ ( ١٠٠ ) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( ١٠١ ) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٠٢ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٠٣ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ )

( بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصّة موسى إلى نبإ إبراهيمعليه‌السلام و هو خبره الخطير إذ انتهض لتوحيد الله سبحانه بفطرته الزاكية الطاهرة من بين قومه المطبقين على عبادة الأصنام فتبرّأ منهم و دافع عن الحقّ ثمّ كان من أمره ما قد كان ففي ذلك آية و لم يؤمن به أكثر قومه كما سيشير إلى ذلك في آخر الآيات.

قوله تعالى: ( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) غير السياق عمّا كان عليه أوّل القصّة( وَ إِذْ نادى‏ رَبُّكَ مُوسى) إلخ، لمكان قوله:( عَلَيْهِمْ ) فإنّ المطلوب تلاوته على مشركي العرب و عمدتهم قريش و إبراهيم هذا أبوهم و قد قام لنشر التوحيد و إقامة الدين الحقّ و لم يكن بينهم يومئذ من يقول: لا إله إلّا الله، فنصر الله و نصره حتّى ثبتت كلمة التوحيد في الأرض المقدّسة و في الحجاز.

فلم يكن ذلك كلّه إلّا عن دعوة من الفطرة و بعث من الله سبحانه ففي ذلك آية لله فليعتبروا به و ليتبرّؤا من دين الوثنيّة كما تبرّأ منه و من أبيه و قومه المنتحلين به أبوهم إبراهيمعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ) مخاصمته و مناظرتهعليه‌السلام مع أبيه غير مخاصمته مع قومه و احتجاجه عليهم كما حكاه الله تعالى في سورة الأنعام و غيرها لكنّ البناء هاهنا على الإيجاز و الاختصار و لذا جمع بين المحاجّتين و سبكهما محاجّة واحدة أورد فيها ما هو القدر المشترك بينهما.

و قوله:( ما تَعْبُدُونَ ) سؤال عن الحقيقة بوضع نفسه موضع من لا يعرف شيئاً

٣٠٤

من حقيقتها و سائر شؤونها و هذا من طرق المناظرة سبيل من يريد أن يبيّن الخصم حقيقة مدّعاه و سائر شؤونه حتّى يأخذه بما سمع من اعترافه.

على أنّ هذه المحاجّة كانت من إبراهيم أوّل ما خرج من كهفه و دخل في مجتمع أبيه و قومه و لم يكن شهد شيئاً من ذلك قبل اليوم فحاجّهم عن فطرة ساذجة طاهرة كما تقدّم تفصيل القول فيه في تفسير سورة الأنعام.

قوله تعالى: ( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) ظلّ بمعنى دام، و العكوف على الشي‏ء ملازمته و الإقامة عنده، و اللّام في( لَها ) للتعليل أي ندوم عاكفين عليها لأجلها و هو تفريع على عبادة الأصنام.

و الصنم جثّة مأخوذة من فلزّ أو خشب أو غير ذلك على هيئة خاصّة يمثّل بها ما في المعبود من الصفات، و هؤلاء كانوا يعبدون الملائكة و الجنّ و هم يرون أنّها روحانيّات خارجة عن عالم الأجسام منزّهة عن خواصّ المادّة و آثارها، و لما كان من الصعب عليهم التوجّه العباديّ إلى هذه الروحانيّات باستحضارها للإدراك توسّلوا إلى ذلك باتّخاذ صور و تماثيل جسمانيّة تمثّل بأشكالها و هيئاتها ما هناك من المعنويّات.

و كذلك الحال في عبادة عبّاد الكواكب لها فإنّ المعبود الأصليّ هناك روحانيّات الكواكب ثمّ اتّخذ أجرام الكواكب أصناماً لروحانيّاتها ثمّ لما اختلفت أحوال الكواكب بالحضور و الغيبة و الطلوع و الغروب اتّخذوا لها أصناماً تمثّل ما للكواكب من القوى الفعّالة فيما دونها من عالم العناصر كالقوّة الفاعلة للطرب و السرور و النشاط في الزهرة فيصوّرونها في صورة فتاة، و لسفك الدماء في المرّيخ، و للعلم و المعرفة في عطارد و على هذا القياس الأمر في أصنام القدّيسين من الإنسان.

فالأصنام إنّما اتّخذت ليكون الواحد منها مرآة لربّ الصنم من ملك أو جنّ أو إنسان غير أنّهم يعبدون الصنم نفسه بتوجيه العبادة إليه و التقرّب منه و لو تعدّوا عن الصنم إلى ربّه عبدوه دون الله سبحانه.

٣٠٥

و هذا هو الّذي يكذّب قول القائل منهم: إنّ الصنم إنّما هي قبلة لم تتّخذ إلّا جهة للتوجّه العبادي لا مقصودة بالذات كالكعبة عند المسلمين و ذلك أنّ القبلة هي ما يستقبل في العبادة و لا يستقبل بالعبادة و هم يستقبلون الصنم في العبادة و بالعبادة، و بعبارة اُخرى التوجّه إلى القبلة و العبادة لربّ القبلة و هو الله عزّ اسمه و أمّا الصنم فالتوجّه إليه و العبادة له لا لربّه و لو فرض أنّ العبادة لربّه و هو شي‏ء من الروحانيّات كانت له لا لله فالله سبحانه غير معبود في ذلك على أيّ حال.

و بالجملة فجوابهم عن سؤال إبراهيم:( ما تَعْبُدُونَ ) بقولهم:( نَعْبُدُ أَصْناماً ) إبانة أنّ هذه الأجسام المعبودة ممثّلات مقصودة لغيرها لا لنفسها، و قد أخذ إبراهيم قولهم:( نَعْبُدُ ) و خاصمهم به فإنّ استقلال الأصنام بالمعبوديّة لا يجامع كونها أصناماً ممثّلة للغير فإذ كانت مقصودة بالعبادة فمن الواجب أن يشتمل على ما هو الغرض المقصود منها من جلب نفع أو دفع ضرّ بالتوجّه العباديّ و الدعاء و المسألة و الأصنام بمعزل من أن تعلم بمسألة أو تجيب مضطرّاً بإيصال نفع أو صرف ضرّ و لذلك سألهم إبراهيم بقوله:( هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) اعترضعليه‌السلام عليهم في عبادتهم الأصنام من جهتين:

إحداهما: أنّ العبادة تمثيل لذلّة العابد و حاجته إلى المعبود فلا يخلو من دعاء من العابد للمعبود، و الدعاء يتوقّف على علم المعبود بذلك و سمعه ما يدعوه به، و الأصنام أجسام جماديّة لا سمع لها فلا معنى لعبادتها.

و الثانية: أنّ الناس إنّما يعبدون الإله إمّا طمعاً في خيره و نفعه و إمّا اتقاء من شرّه و ضرّه و الأصنام جمادات لا قدرة لها على إيصال نفع أو دفع ضرر.

فكلّ من الآيتين يتضمّن جهة من جهتي الاعتراض، و قد أوردهما في صورة الاستفهام ليضطرّهم على الاعتراف.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) كان مقتضى المقام أن يجيبوا عن سؤالهعليه‌السلام بالنفي لكنّه لما كان ينتج خلاف ما هم عليه من الانتحال

٣٠٦

بالوثنيّة أضربوا عنه إلى التشبّث بذيل التقليد فذكروا أنّهم لا مستند لهم في عبادتها إلّا تقليد الآباء محضاً.

و قوله:( وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) أي ففعلنا كما كانوا يفعلون و عبدناهم كما كانوا يعبدون، و لم يعدل عن قوله:( كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) إلى مثل قولنا: يعبدونها ليكون أصرح في التقليد كأنّهم لا يفهمون من هذه العبادات إلّا أنّها أفعال كأفعال آبائهم من غير أن يفقهوا منها شيئاً أزيد من أشكالها و صورها.

قوله تعالى: ( قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ) لما انتهت محاجّته مع أبيه و قومه إلى أن لا حجّة لهم في عبادتهم الأصنام إلّا تقليد آبائهم محضاً تبرّأعليه‌السلام من آلهتهم و من أنفسهم و آبائهم بقوله:( أَ فَرَأَيْتُمْ ) إلخ.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ) تفريع على ما ظهر ممّا تقدّم من عدم الدليل على عبادة الأصنام إلّا التقليد بل بطلانها من أصلها أي فإذا كانت باطلة لا حجّة لكم عليها إلّا تقليد آبائكم فهذه الأصنام الّتي رأيتموها أي هذه بأعيانها الّتي تعبدونها أنتم و آباؤكم الأقدمون فإنّها عدوّ لي لأنّ عبادتها ضارّة لديني مهلكة لنفسي فليست إلّا عدوّاً لي.

و ذكر آبائهم الأقدمين للدلالة على أنّه لا يأخذ بالتقليد كما أخذوا و أن لا وقع عندهعليه‌السلام لتقدّم العهد، و لا أثر للسبق الزمانيّ في إبطال حقّ أو إحقاق باطل، و إرجاع ضمير اُولي العقل إلى الأصنام لمكان نسبة العبادة إليها و هي تستلزم الشعور و العقل، و هو كثير الوقوع في القرآن.

و قوله:( إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ) استثناء منقطع من قوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) أي لكنّ ربّ العالمين ليس كذلك.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - إلى قوله -يَوْمَ الدِّينِ ) لما استثنى ربّ العالمين جلّ اسمه وصفه بأوصاف تتمّ بها الحجّة على أنّه تعالى ليس عدوّاً له بل ربّ رحيم ذو عناية بحاله منعم عليه بكلّ خير دافع عنه كلّ شرّ فقال:( الَّذِي

٣٠٧

خَلَقَنِي ) إلخ و أمّا قول القائل: إنّ قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي ) إلخ استيناف من الكلام لا يعبأ به.

فقوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) بدأ بالخلق لأنّ المطلوب بيان استناد تدبير أمره إليه تعالى بطريق إعطاء الحكم بالدليل، و البرهان على قيام التدبير به تعالى قيام الخلق و الإيجاد به لوضوح أنّ الخلق و التدبير لا ينفكّان في هذه الموجودات الجسمانيّة التدريجيّة الوجود الّتي تستكمل الوجود على التدريج فليس من المعقول أن يقوم الخلق بشي‏ء و التدبير بشي‏ء و إذ كان الخلق و الإيجاد لله سبحانه فالتدبير له أيضاًَ.

و لهذا عطف الهداية على الخلق بفاء التفريع فدلّ على أنّه تعالى هو الهادي لأنّه هو الخالق.

و ظاهر قوله:( فَهُوَ يَهْدِينِ ) - و هو مطلق - أنّ المراد به مطلق الهداية إلى المنافع دنيويّة كانت أو اُخرويّة و التعبير بلفظ المضارع لإفادة الاستمرار فالمعنى أنّه الّذي خلقني و لا يزال يهديني إلى ما فيه سعادة حياتي منذ خلقني و لن يزال كذلك. فيكون الآية في معنى ما حكاه الله عن موسى إذ قال لفرعون:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠، أي هداه إلى منافعه و هي الهداية العامّة.

و هذا هو الّذي اُشير إليه في أوّل السورة بقوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) و قد مرّ تقرير الحجّة فيه.

و على هذا فما سيأتي في قوله:( وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ) إلخ من الصفات المعدودة من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ فإنّها جميعاً من مصاديق الهداية العامّة بعضها هداية إلى منافع دنيويّة و بعضها هداية إلى ما يرجع إلى الآخرة.

و لو كان المراد بالهداية الهداية الخاصّة الدينيّة فالصفات المعدودة على رسلها و ذكر الهداية بعد الخلقة، و تقديمها على سائر النعم و المواهب لكونها أفضل النعم بعد الوجود.

٣٠٨

و قوله:( وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) هو كالكناية عن جملة النعم المادّيّة الّتي يرزقه الله إيّاها لتتميم النواقص و رفع الحوائج الدنيويّة، و قد خصّ بالذكر منها ما هو أهمّها و هو الإطعام و السقي و الشفاء إذا مرض.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ إِذا مَرِضْتُ ) توطئة و تمهيد لذكر الشفاء فالكلام في معنى يطعمني و يسقيني و يشفين، و لذا نسب المرض إلى نفسه لئلّا يختلّ المراد بذكر ما هو سلب النعمة بين النعم، و أمّا قول القائل: إنّه إنّما نسب المرض إلى نفسه مع كونه من الله للتأدّب فليس بذاك.

و إنّما أعاد الموصول فقال:( الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ) إلخ، و لم يعطف الصفات على ما في قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) للدلالة على أنّ كلّا من الصفات المذكورة في هذه الجمل المترتّبة كان في إثبات كونه تعالى هو الربّ المدبّر لأمره و القائم على نفسه المجيب لدعوته.

و قوله:( وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) يريد الموت المقضي لكلّ نفس المدلول عليه بقوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الأنبياء: ٣٥، و ليس بانعدام و فناء بل انتقال من دار إلى دار من جملة التدبير العامّ الجاري، و المراد بالإحياء إفاضة الحياة بعد الموت.

و قوله:( وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) أي يوم الجزاء و هو يوم القيامة، و لم يقطع بالمغفرة كما قطع في الاُمور المذكورة قبلها لأنّ المغفرة ليست بالاستحقاق بل هي فضل من الله فليس يستحقّ أحد على الله سبحانه شيئاً لكنّه سبحانه قضى على نفسه الهداية و الرزق و الإماتة و الإحياء لكلّ ذي نفس و لم يقض المغفرة لكلّ ذي خطيئة فقال:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: ٢٣، و قال:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الأنبياء: ٣٥، و قال:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) يونس: ٤، و قال في المغفرة:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

و نسبة الخطيئة إلى نفسه و هوعليه‌السلام نبيّ معصوم من المعصية دليل على أنّ

٣٠٩

المراد بالخطيئة غير المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولويّ فإنّ للخطيئة و الذنب مراتب تتقدّر حسب حال العبد في عبوديّته كما قيل: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين و قد قال تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) .

فالخطيئة من مثل إبراهيمعليه‌السلام اشتغاله عن ذكر الله محضاً بما تقتضيه ضروريّات الحياة كالنوم و الأكل و الشرب و نحوها و إن كانت بنظر آخر طاعة منهعليه‌السلام كيف؟ و قد نصّ تعالى على كونهعليه‌السلام مخلصاً لله لا يشاركه تعالى فيه شي‏ء إذ قال:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦، و قد قدّمنا كلاماً له تعلّق بهذا المقام في آخر الجزء السادس و في قصص إبراهيم في الجزء السابع من الكتاب.

قوله تعالى: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) لما ذكرعليه‌السلام نعم ربّه المستمرّة المتوالية المتراكمة عليه منذ خلق إلى ما لا نهاية له من أمد البقاء و صوّر بذلك شمول اللطف و الحنان الإلهيّ أخذته جاذبة الرحمة الملتئمة بالفقر العبوديّ فدعته إلى إظهار الحاجة و بثّ المسألة فالتفت من الغيبة إلى الخطاب فسأل ما سأل.

فقوله:( رَبِّ ) أضاف الربّ إلى نفسه بعد ما كان يصفه بما أنّه ربّ العالمين إثارة للرحمة الإلهيّة و تهييجاً للعناية الربّانيّة لاستجابة دعائه و مسألته.

و قوله:( هَبْ لِي حُكْماً ) يريد بالحكم ما تقدّم في قول موسىعليه‌السلام :( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ) الآية ٢١ من السورة و هو - كما تقدّم - إصابة النظر و الرأي في المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الكلّيّة و تطبيق العمل عليها كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥، و هو وحي المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الّتي يجمعها التوحيد و التقوى، و قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: ٧٣، و هو وحي التسديد و الهداية إلى الصلاح في مقام العمل، و تنكير الحكم لتفخيم أمره.

و قوله:( وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الصلاح - على ما ذكره الراغب - يقابل الفساد

٣١٠

الّذي هو تغيّر الشي‏ء عن مقتضى طبعه الأصليّ فصلاحه كونه على مقتضى الطبع الأصليّ فيترتّب عليه من الخير و النفع ما من شأنه أن يترتّب عليه من غير أن يفسد فيحرم من آثاره الحسنة.

و إذ كان( بِالصَّالِحِينَ ) غير مقيّد بالعمل و نحوه فالمراد به الصالحون ذاتاً لا عملاً فحسب و إن كان صلاح الذات لا ينفكّ عنه صلاح العمل، قال تعالى:( الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨.

فصلاح الذات كونها تامّة الاستعداد لقبول الرحمة الإلهيّة و إفاضة كلّ خير و سعادة من شأنها أن تتلبّس به من غير أن يقارنها ما يفسدها من اعتقاد باطل أو عمل سيّئ و بذلك يتبيّن أنّ الصلاح الذاتيّ من لوازم موهبة الحكم بالمعنى الّذي تقدّم و إن كان الحكم أخصّ مورداً من الصلاح و هو ظاهر.

فمسألته الإلحاق بالصالحين من لوازم مسألة موهبة الحكم و فروعها المترتّبة عليها فيعود معنى قوله:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) إلى مثل قولنا: ربّ هب لي حكماً و تمّم أثره فيّ و هو الصلاح الذاتيّ.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقرة: ١٣٠ في الجزء الأوّل من الكتاب كلام له تعلّق بهذا المقام.

قوله تعالى: ( وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) إضافة اللسان إلى الصدق لاميّة تفيد اختصاصه بالصدق بحيث لا يتكلّم إلّا به، و ظاهر جعل هذا اللسان له أن يكون مختصّاً به كلسانه لا يتكلّم إلّا بما في ضميره ممّا يتكلّم هو به فيؤل المعنى إلى مسألة أن يبعث الله في الآخرين من يقوم بدعوته و يدعو الناس إلى ملّته و هي دين التوحيد.

فتكون الآية في معنى قوله في سورة الصافّات بعد ذكر إبراهيمعليه‌السلام :( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافّات: ١٠٨، و قد ذكر هذه الجملة بعد ذكر عدّة من الأنبياء غيره كنوح و موسى و هارون و إلياس، و كذا قال تعالى في سورة مريم بعد ذكر زكريّا و يحيى و عيسى و إبراهيم و موسى و هارون:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ

٣١١

عَلِيًّا ) مريم: ٥٠ فالمراد على أيّ حال إبقاء دعوتهم بعدهم ببعث رسل أمثالهم.

و قيل: المراد به بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد روي عنه أنّه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم‏، و يؤيّده تسمية دينه في مواضع من القرآن ملّة إبراهيم، و يرجع معنى الآية حينئذ إلى معنى قوله حكاية عن إبراهيم و إسماعيل حين بناء الكعبة:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ - إلى أن قال -رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: ١٢٩.

و قيل: المراد به أن يجعل الله له ذكراً جميلاً و ثناء حسناً بعده إلى يوم القيامة و قد استجاب الله دعاءه فأهل الأديان يثنون عليه و يذكرونه بالجميل.

و في صدق لسان الصدق على الذكر الجميل خفاء، و كذا كون هذا الدعاء و المحكيّ في سورة البقرة دعاء واحداً لا يخلو من خفاء.

قوله تعالى: ( وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) تقدّم معنى وراثة الجنّة في تفسير قوله تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) المؤمنون: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) استغفار لأبيه حسب ما وعده في قوله:( سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) مريم: ٤٧، و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله تعالى:( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة: ١١٤، أنّه دعا لأبيه بهذا الدعاء و هو حيّ بعد، و على هذا فمعنى قوله:( إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) أنّه كان قبل الدعاء بزمان من أهل الضلال.

قوله تعالى: ( وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الخزي عدم النصر ممّن يؤمّل منه النصر، و الضمير في( يُبْعَثُونَ ) للناس و لا يضرّه عدم سبق الذكر لكونه معلوماً من خارج.

و يعلم من سؤاله عدم الإخزاء يوم القيامة أنّ الإنسان في حاجة إلى النصر الإلهيّ يومئذ فهذه البنية الضعيفة لا تقوم دون الأهوال الّتي تواجهها يوم القيامة إلّا بنصر و تأييد منه تعالى.

٣١٢

و قوله:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ ) الظرف بدل من قوله:( يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) و به يندفع قول من قال: إنّ قول إبراهيم قد انقطع في( يُبْعَثُونَ ) و الآية إلى تمام خمس عشرة آية من كلام الله تعالى.

و الآية تنفي نفع المال و البنين يوم القيامة و ذلك أنّ رابطة المال و البنين الّتي هي المناط في التناصر و التعاضد في الدنيا هي رابطة وهميّة اجتماعيّة لا تؤثّر أثراً في الخارج من ظرف الاجتماع المدنيّ و يوم القيامة يوم انكشاف الحقائق و تقطّع الأسباب فلا ينفع فيه مال بماليّته و لا بنون بنسبة بنوّتهم و قرابتهم، قال تعالى:( وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ) الأنعام: ٩٤، و قال:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ) المؤمنون: ١٠١.

فالمراد بنفي نفع المال و البنين يوم القيامة نفي سببيّتهما الوضعيّة الاعتباريّة في المجتمع الإنسانيّ في الدنيا فإنّ المال نعم السبب و الوسيلة في المجتمع للظفر بالمقاصد الحيويّة، و كذا البنون نعمت الوسيلة للقوّة و العزّة و الغلبة و الشوكة، فالمال و البنون عمدة ما يركن إليهما و يتعلّق بهما الإنسان في الحياة الدنيا فنفي نفعهما يوم القيامة كالكناية عن نفي نفع كلّ سبب وضعيّ اعتباريّ في المجتمع الإنسانيّ يتوسّل به إلى جلب المنافع المادّيّة كالعلم و الصنعة و الجمال و غيرها.

و بعبارة اُخرى نفي نفعهما في معنى الإخبار عن بطلان الاجتماع المدنيّ بما يعمل فيه من الأسباب الوضعيّة الاعتباريّة كما يشير إليه قوله تعالى:( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) .

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال الراغب: السلم و السلامة التعرّي من الآفات الظاهرة و الباطنة. انتهى. و السياق يعطي أنّهعليه‌السلام في مقام ذكر معنى جامع يتميّز به اليوم من غيره و قد سأل ربّه أوّلاً أن ينصره و لا يخزيه يوم لا ينفعه ما كان ينفعه في الدنيا من المال و البنين، و مقتضى هذه التوطئة أن يكون المطلوب بقوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) بيان ما هو النافع يومئذ و قد ذكر فيه الإتيان

٣١٣

بالقلب السليم.

فالاستثناء منقطع، و المعنى: لكنّ من أتى الله بقلب سليم فإنّه ينتفع به، و المحصّل أنّ مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب سواء كان صاحبه ذا مال و بنين في الدنيا أو لم يكن.

و قيل: الاستثناء متّصل و المستثنى منه مفعول ينفع المحذوف و التقدير يوم لا ينفع مال و لا بنون أحداً إلّا من أتى الله بقلب سليم.

و قيل: الاستثناء متّصل و الكلام بتقدير مضاف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلّا مال و بنو من أتى إلخ.

و قيل: المال و البنون في معنى الغنى و الاستثناء منه بحذف مضاف من نوعه و التقدير يوم لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى الله بقلب سليم، و سلامة القلب من الغنى فالاستثناء متّصل ادّعاء لا حقيقة.

و قيل: الاستثناء منقطع و هناك مضاف محذوف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلّا حال من أتى إلخ.

و الأقوال الثلاثة الاُول توجب اختصاص تميّز اليوم بمن له مال و بنون فقط فإنّ الكلام عليها في معنى قولنا: يوم لا ينفع المال و البنون أصحابهما إلّا ذا القلب السليم منهم و أمّا من لا مال له و لا ولد فمسكوت عنه و السياق لا يساعده، و أمّا القول الرابع فمبنيّ على تقدير لا حاجة إليه.

و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا ) الكهف: ٤٦، غير أنّها تسند النفع إلى القلب السليم و هو النفس السالمة من وصمة الظلم و هو الشرك و المعصية كما قال تعالى في وصف اليوم:( وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) طه: ١١١.

قال بعضهم: و في الآيتين تأييد لكون استغفارهعليه‌السلام لأبيه طلباً لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافراً مع علمه بعدم نفعه لأنّه من باب

٣١٤

الشفاعة انتهى.

و هذا على تقدير أخذ الاستثناء متّصلاً كما ذهب إليه هذا القائل مبنيّ على كون إبراهيمعليه‌السلام ابن آزر لصلبه و قد تقدّم في قصّتهعليه‌السلام من سورة الأنعام فساد القول به و أنّ الآيات ناصّة على خلافه.

و أمّا إذا اُخذ الاستثناء منقطعاً فقوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) بضميمة قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء: ٢٨. دليل على كون الاستغفار قبل موته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الإزلاف التقريب و التبريز الإظهار، و في المقابلة بين المتّقين و الغاوين و اختيار هذين الوصفين لهاتين الطائفتين إشارة إلى ما قضى به الله سبحانه يوم رجم إبليس عند إبائه أن يسجد لآدم كما ذكر في سورة الحجر( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ - إلى أن قال -إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) الحجر: ٤٥.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) أي هل يدفعون الشقاء و العذاب عنكم أو عن أنفسهم، و المحصّل أنّه يتبيّن لهم أنّهم ضلّوا في عبادتهم غير الله.

قوله تعالى: ( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) يقال: كبّه فانكبّ أي ألقاه على وجهه و كبكبه أي ألقاه على وجهه مرّة بعد اُخرى فهو يفيد تكرار الكبّ كدبّ و دبدب و ذبّ و ذبذب و زلّ و زلزل و دكّ و دكدك.

و ضمير الجمع في قوله:( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ ) للأصنام كما يدلّ عليه قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الأنبياء: ٩٨، و هؤلاء إحدى الطوائف الثلاث الّتي تذكر الآية أنّها تكبكب في جهنّم يوم القيامة، و الطائفة الثانية الغاوون المقضيّ عليهم ذلك كما في آية الحجر المنقولة آنفاً، و الطائفة الثالثة جنود إبليس و هم قرناء الشياطين الّذين يذكر القرآن أنّهم لا يفارقون أهل الغواية

٣١٥

حتّى يدخلوا النار، قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - إلى أن قال -وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩.

قوله تعالى: ( قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ - إلى قوله -إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) الظاهر أنّ القائلين هم الغاوون، و الاختصام واقع بينهم يخاصمون أنفسهم و الشياطين على ما ذكره الله سبحانه في مواضع من كلامه.

و قوله:( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) اعتراف منهم بالضلال، و الخطاب في قوله:( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) للآلهة من الأصنام و هم معهم في النار، أو لهم و للشياطين أو لهما و للمتبوعين و الرؤساء من الغاوين و خير الوجوه أوّلها.

و قوله:( وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) الظاهر أنّ كلّا من القائلين يريد بالمجرمين غيره من إمام ضلال اقتدى به في الدنيا و داع دعاه إلى الشرك فاتّبعه و آباء مشركين قلّدهم فيه و خليل تشبّه به، و المجرمون على ما يستفاد من آيات القيامة هم الّذين ثبت فيهم الاجرام و قضي عليهم بدخول النار قال تعالى:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: ٥٦.

قوله تعالى: ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الحميم على ما ذكره الراغب القريب المشفق.

و هذا الكلام تحسّر منهم على حرمانهم من شفاعة الشافعين و إغاثة الأصدقاء و في التعبير بقوله:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) إشارة إلى وجود شافعين هناك يشفعون بعض المذنبين، و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: فما لنا من شافع إذ لا نكتة تقتضي الجمع، و قد روي أنّهم يقولون ذلك لما يرون الملائكة و الأنبياء و المؤمنين يشفعون.

قوله تعالى: ( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) تمنّ منهم أن يرجعوا إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين حتّى ينالوا ما ناله المؤمنون من السعادة.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) إلى آخر الآيتين أي في قصّة إبراهيم

٣١٦

عليه‌السلام و لزومه عن فطرته الساذجة دين التوحيد و توجيه وجهه نحو ربّ العالمين و تبرّيه من الأصنام و احتجاجه على الوثنيّين و عبدة الأصنام آية لمن تدبّر فيها على أنّ في سائر قصصه من محنه و ابتلاءاته الّتي لم تذكر ههنا كإلقائه في النار و نزول الضيف من الملائكة عليه و قصّة إسكانه إسماعيل و اُمّه بوادي مكّة و بناء الكعبة و ذبح إسماعيل آيات لاُولي الألباب.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي و ما كان أكثر قوم إبراهيم مؤمنين و الباقي ظاهر ممّا تقدّم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) قال: هو أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: يحتمل التفسير و الجري.

و في الكافي، بإسناده عن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : و لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خير من المال يأكله و يورثه. الحديث.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ اغْفِرْ لِأَبِي ) أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله:( وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ليجيئنّ رجل يوم القيامة من المؤمنين آخذاً بيد أب له مشرك حتّى يقطعه النار و يرجو أن يدخله الجنّة فيناديه مناد إنّه لا يدخل الجنّة مشرك فيقول: ربّي أبي و وعدت أن لا تخزيني.

قال: فما يزال متشبّثاً به حتّى يحوّله الله في صورة سيّئة و ريح منتنة في صورة ضبعان فإذا رآه كذلك تبرّأ منه و قال: لست بأبي. قال: فكنّا نرى أنّه يعني إبراهيم و ما سمّى به يومئذ.

و فيه، أخرج البخاريّ و النسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يلقى

٣١٧

إبراهيم أباه آزر يوم القيامة و على وجه آزر قترة و غبرة يقول له إبراهيم: أ لم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.

فيقول إبراهيم: ربّ إنّك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إنّي حرّمت الجنّة على الكافرين ثمّ يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطّخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار.

أقول: الخبران من أخبار بنوّة إبراهيم لآزر لصلبه و قد مرّ في قصص إبراهيم من سورة الأنعام أنّها مخالفة للكتاب و كلامه تعالى نصّ في خلافه.

و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: السليم الّذي يلقى ربّه و ليس فيه أحد سواه. قال: و كلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط و إنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم إلى الآخرة.

و في المجمع، و روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: هو القلب الّذي سلم من حبّ الدنيا. و يؤيّده قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : في حديث( وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) جنود إبليس ذرّيّته من الشياطين.

قال: و قولهم:( وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عزّوجلّ فيهم إذ جمعهم إلى النار:( قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) و قوله:( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ) برى‏ء بعضهم من بعض و لعن بعضهم بعضاً يريد بعضهم أن يحجّ بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا جميعاً من عظيم ما نزل بهم و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة.

و في الكافي، أيضاً بسندين عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ ) هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره.

٣١٨

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، و البرقي في المحاسن، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و الظاهر أنّ الرواية كانت واردة في ذيل قوله تعالى:( وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ) لما بعده من قوله تعالى:( وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) و قد وقع الخطأ في إيرادها في ذيل قوله:( فَكُبْكِبُوا فِيها ) إلخ، و هو ظاهر للمتأمّل.

و في المجمع، و في الخبر المأثور عن جابر بن عبدالله قال سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي؟ و صديقه في الجحيم. فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة فيقول من بقي في النار:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ )

و روي بالإسناد عن حمران بن أعين عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: و الله لنشفعنّ لشيعتنا ثلاث مرّات حتّى يقول الناس:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ - إلى قوله -فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) و في رواية اُخرى حتّى يقول عدوّنا.

و في تفسير القمّيّ:( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: من المهتدين قال: لأنّ الإيمان قد لزمهم بالإقرار.

أقول: مراده أنّهم يؤمنون يومئذ إيمان إيقان لكنّهم يرون أنّ الإيمان يومئذ لا ينفعهم بل الإيمان النافع هو الإيمان في الدنيا فيتمنّون أن يرجعوا إلى الدنيا ليكون ما عنده من الإيمان من إيمان المهتدين و هم المؤمنون حقّاً المهتدون بإيمانهم يوم القيامة و هذا معنى لطيف، و إليه يشير قوله تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) سجدة: ١٣ فلم يقولوا فارجعنا نؤمن و نعمل صالحاً بل قالوا فارجعنا نعمل صالحاً فافهم ذلك.

٣١٩

( سورة الشعراء الآيات ١٠٥ - ١٢٢)

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ( ١٠٥ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٠٦ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٠٧ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٠٨ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٠٩ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١١٠ ) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ( ١١١ ) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١١٢ ) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي  لَوْ تَشْعُرُونَ ( ١١٣ ) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٤ ) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ١١٥ ) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ( ١١٦ ) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ( ١١٧ ) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( ١١٩ ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ( ١٢٠ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٢١ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٢٢ )

( بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصّتي موسى و إبراهيمعليهما‌السلام و هما من اُولي العزم إلى قصّة نوحعليه‌السلام و هو أوّل اُولي العزم سادة الأنبياء، و إجمال ما جرى بينه و بين قومه فلم يؤمن به أكثرهم فأغرقهم الله و أنجى نوحاً و من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) قال في المفردات: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، و لذلك قال:( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ )

٣٢٠

الآية، قال الشاعر: أ قوم آل حصن أم نساء، و في عامّة القرآن اُريدوا به و النساء جميعاً. انتهى.

و لفظ القوم قيل: مذكّر و تأنيث الفعل المسند إليه بتأويل الجماعة و قيل: مؤنّث و قال في المصباح: يذكّر و يؤنّث.

و عدّ القوم مكذّبين للمرسلين مع أنّهم لم يكذّبوا إلّا واحداً منهم و هو نوحعليه‌السلام إنّما هو من جهة أنّ دعوتهم واحدة و كلمتهم متّفقة على التوحيد فيكون المكذّب للواحد منهم مكذّباً للجميع و لذا عدّ الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفراً بالجميع قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) النساء: ١٥١.

و قيل: هو من قبيل قولهم: فلان يركب الدوابّ و يلبس البرود و ليس له إلّا دابّة واحدة و بردة واحدة فيكون الجمع كناية عن الجنس، و الأوّل أوجه و نظير الوجهين جار في قوله الآتي:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) و غيرهما.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ ) المراد بالأخ النسيب كقولهم: أخو تميم و أخو كليب و الاستفهام للتوبيخ.

قوله تعالى: ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) أي رسول من الله سبحانه أمين على ما حمّلته من الرسالة لا اُبلّغكم إلّا ما أمرني ربّي و أراده منكم، و لذا فرّع عليه قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) فأمرهم بطاعته لأنّ طاعته طاعة الله.

قوله تعالى: ( وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) مسوق لنفي الطمع الدنيويّ بنفي سؤال الأجر فيثبت بذلك أنّه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه لا يخونهم و لا يغشّهم فعليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم، و لذا فرّع عليه ثانياً قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) .

و العدول في قوله:( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) عن اسم الجلالة إلى( رَبِّ الْعالَمِينَ ) للدّلالة على صريح التوحيد فإنّهم كانوا يرون أنّه تعالى إله عالم

٣٢١

الآلهة و كانوا يرون لكلّ عالم إلهاً آخر يعبدونه من دون الله فإثباته تعالى ربّاً للعالمين جميعاً تصريح بتوحيد العبادة و نفي الآلهة من دون الله مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) قد تقدّم وجه تكرار الآية فهو يفيد أنّ كلّا من الأمانة و عدم سؤال الأجر سبب مستقلّ في إيجاب طاعته عليهم.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) الأرذلون جمع أرذل على الصحّة و هو اسم تفضيل من الرذالة و الرذالة الخسّة و الدناءة، و مرادهم بكون متّبعيه أراذل أنّهم ذوو أعمال رذيلة و مشاغل خسيسة و لذا أجابعليه‌السلام عنه بمثل قوله:( وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

و الظاهر أنّهم كانوا يرون الشرف و الكرامة في الأموال و الجموع من البنين و الأتباع كما يستفاد من دعاء نوحعليه‌السلام إذ يقول:( رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) نوح: ٢١. فمرادهم بالأرذلين من يعدّهم الأشراف و المترفون سفلة يتجنّبون معاشرتهم من العبيد و الفقراء و أرباب الحرف الدنيّة.

قوله تعالى: ( قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الضمير لنوحعليه‌السلام ، و( ما ) استفهاميّة و قيل: نافية و عليه فالخبر محذوف لدلالة السياق عليه، و المراد على أيّ حال نفي علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به لمكان قوله:( كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) المراد بقوله:( رَبِّي ) ربّ العالمين فإنّه الّذي كان يختصّ نوح بالدعوة إليه من بينهم، و قوله:( لَوْ تَشْعُرُونَ ) مقطوع عن العمل أي لو كان لكم شعور، و قيل: المعنى لو تشعرون بشي‏ء لعلمتم ذلك و هو كما ترى.

و المعنى: بالنظر إلى الحصر الّذي في صدر الآية أنّه لا علم لي بسابق أعمالهم و ليس عليّ حسابهم حتّى أتجسّس و أبحث عن أعمالهم و إنّما حسابهم على ربّي( لَوْ تَشْعُرُونَ ) فيجازيهم حسب أعمالهم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الآية الثانية

٣٢٢

بمنزلة التعليل للاُولى و المجموع متمّم للبيان السابق و المعنى: لا شأن لي إلّا الإنذار و الدعوة فلست أطرد من أقبل عليّ و آمن بي و لست أتفحّص عن سابق أعمالهم لاُحاسبهم عليها فحسابهم على ربّي و هو ربّ العالمين لا عليّ.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) المراد بالانتهاء ترك الدعوة، و الرجم هو الرمي بالحجارة، و قيل: المراد به الشتم و هو بعيد، و هذا ممّا قالوه في آخر العهد من دعوتهم يهدّدونهعليه‌السلام بقول جازم كما يشهد به ما في الكلام من وجوه التأكيد.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً ) إلخ، هذا استفتاح منهعليه‌السلام و قد قدّم له قوله:( رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) على سبيل التوطئة أي تحقّق منهم التكذيب المطلق الّذي لا مطمع في تصديقهم بعده كما يستفاد من دعائه عليهم إذ يقول:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧.

و قوله:( فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً ) كناية عن القضاء بينه و بين قومه كما قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧.

و أصله من الاستعارة بالكناية كأنّه و أتباعه و الكفّار من قومه اختلطوا و اجتمعوا من غير تميّز فسأل ربّه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه و بين قومه يبتعد بذلك أحد القبيلين من الآخر و ذلك كناية عن نزول العذاب و ليس يُهلك إلّا القوم الفاسقين و الدليل عليه قوله بعد:( وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

و قيل: الفتح بمعنى الحكم و القضاء من الفتاحة بمعنى الحكومة.

قوله تعالى: ( فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) أي المملوء منهم و من كلّ زوجين اثنين كما ذكره في سورة هود.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ ) أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه.

٣٢٣

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم الكلام في معنى الآيتين.

( بحث روائي)

في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسنداً عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث: فمكث نوح ألف سنة إلّا خمسين عامّاً لم يشاركه في نبوّته أحد و لكنّه قدّم على قوم مكذّبين للأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم و ذلك قوله عزّوجلّ:( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) يعني من كان بينه و بين آدم إلى أن انتهى إلى قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )

و قال فيه، أيضاً: فكان بينه و بين آدم عشرة آباء كلّهم أنبياء، و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) قال: الفقراء.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) المجهّز الّذي قد فرغ منه و لم يبق إلّا دفعه.

٣٢٤

( سورة الشعراء الآيات ١٢٣ - ١٤٠)

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ( ١٢٣ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٢٤ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٢٥ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٢٦ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٢٧ ) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ( ١٢٨ ) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( ١٢٩ ) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( ١٣٠ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٣١ ) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ( ١٣٢ ) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ( ١٣٣ ) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٣٤ ) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٣٥ ) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ ( ١٣٦ ) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ( ١٣٧ ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( ١٣٨ ) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٣٩ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٤٠ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة هودعليه‌السلام و قومه و هو قوم عاد.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) قوم عاد من العرب العاربة الاُولى كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب لهم مدنيّة راقية و أراض خصبة و ديار معمورة فكذّبوا الرسل و كفروا بأنعم الله و أطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم و خرّب ديارهم و عفا آثارهم.

٣٢٥

و عاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم و بكر و تغلب و يراد بنو تميم و بنو بكر و بنو تغلب.

و قد تقدّم في نظير الآية من قصّة نوح وجه عدّ القوم مكذّبين للمرسلين و لم يكذّبوا ظاهراً إلّا واحداً منهم.

قوله تعالى: ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) تقدّم الكلام فيها في نظائرها من قصّة نوحعليه‌السلام .

و ذكر بعض المفسّرين أنّ تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل و عدم سؤالهم أجراً على رسالتهم و أمرهم الناس بالتقوى و الطاعة للتنبيه على أنّ مبني البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحقّ و الطاعة فيما يقرّب المدعوّ من الثواب و يبعّده من العقاب و أنّ الأنبياءعليهم‌السلام مجتمعون على ذلك و إن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة و الأعصار، و أنّهم منزّهون عن المطامع الدنيويّة بالكلّيّة انتهى.

و نظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ففيه دلالة على أنّ أكثر الاُمم و الأقوام معرضون عن آيات الله، و أنّ الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة.

قوله تعالى: ( أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) الريع هو المرتفع من الأرض و الآية العلامة و العبث الفعل الّذي لا غاية له، و كأنّهم كانوا يبنون على قلل الجبال و كلّ مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزّهون فيها و يفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهواً و اتّباعاً للهوى فوبّخهم عليه.

و قد ذكر للآية معان اُخر لا دليل عليها من جهة اللفظ و لا ملاءمة للسياق أضربنا عنها.

قوله تعالى: ( وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) ، المصانع على ما قيل:

٣٢٦

الحصون المنيعة و القصور المشيدة و الأبنية العالية واحدها مصنع.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) في مقام التعليل لما قبله أي تتّخذون هذه المصانع بسبب أنّكم ترجون الخلود و لو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الأعمال الّتي من طبعها أن تدوم دهراً طويلاً لا يفي به أطول الأعمار الإنسانيّة، و قيل في معنى الآية و مفرداتها وجوه اُخرى أغمضنا عنها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) قال في المجمع: البطش العسف قتلاً بالسيف و ضرباً بالسوط، و الجبّار العالي على غيره بعظيم سلطانه. و هو في صفة الله سبحانه مدح و في صفة غيره ذمّ لأنّ معناه في العبد أنّه يتكلّف الجبريّة. انتهى.

فالمعنى: و إذا أظهرتم شدّة في العمل و بأساً بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدّة.

و محصّل الآيات الثلاث أنّكم مسرفون في جانبي الشهوة و الغضب متعدّون حدّ الاعتدال خارجون عن طور العبوديّة.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة و الغضب و خروجهم عن طور العبوديّة فليتّقوا الله و ليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الإتراف و الاستكبار.

قوله تعالى: ( وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ عُيُونٍ ) قال الراغب: أصل المدّ الجرّ، قال: و أمددت الجيش بمدود و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه، قال تعالى:( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) انتهى ملخّصاً.

و قوله:( وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ ) إلخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلّيّة أي اتّقوا الله الّذي يمدّكم بنعمه لأنّه يمدّكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف و استكبار فإنّ كفران النعمة يستعقب السخط و العذاب قال تعالى:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧.

٣٢٧

و قد ذكر النعم إجمالاً بقوله أوّلاً:( أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ) ثمّ فصّلها بقوله ثانياً:( أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) .

و في قوله:( أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ) نكتة اُخرى هي أنّكم تعلمون أنّ هذه النعم من إمداده تعالى و صنعه لا يشاركه في إيجادها و الإمداد بها غيره فهو الّذي يجب لكم أن تتّقوه بالشكر و العبادة دون الأوثان و الأصنام فالكلام متضمّن للحجّة.

قوله تعالى: ( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تعليل للأمر بالتقوى أي إنّي آمركم بالتقوى شكراً لأنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن تكفروا و لم تشكروا، و الظاهر أنّ المراد باليوم العظيم يوم القيامة و إن جوّز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ( قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ) نفي لأثر كلامه و إياس له من إيمانهم بالكلّيّة.

قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أ وعظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله:( أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ) النافي لأصل كونه واعظاً ما لا يخفى من المبالغة.

قوله تعالى: ( إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) الخلق بضمّ الخاء و اللّام أو سكونها قال الراغب: الخلق و الخلق - أي بفتح الخاء و ضمّها - في الأصل واحد كالشَّرب و الشُرب و الصَّرم و الصُرم لكن خصّ الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خصّ الخلق - بضمّ الخاء - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى:( إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و قرئ( إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) انتهى.

و الإشارة بهذا إلى ما جاء به هود و قد سمّوه وعظاً و المعنى: ليس ما تلبّست به من الدعوة إلى التوحيد و الموعظة إلّا عادة البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات، و هذا كقولهم:( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك و عبادة الآلهة من

٣٢٨

دون الله اقتداء بآبائهم الأوّلين كقولهم:( وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

و احتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلّا خلق الأوّلين نحيا كما حيّوا و نموت كما ماتوا و لا بعث و لا حساب و لا عذاب. و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هودعليه‌السلام يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الرَّحِيمُ ) معناه ظاهر ممّا تقدّم.

( بحث روائي)

في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقرعليه‌السلام في حديث: و قال نوح إنّ الله تبارك و تعالى باعث نبيّاً يقال له هود و إنّه يدعو قومه إلى الله عزّوجلّ فيكذّبونه و إنّ الله عزّوجلّ يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتّبعه فإنّ الله تبارك و تعالى ينجيه من عذاب الريح.

و أمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة و يكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود و زمانه الّذي يخرج فيه.

فلمّا بعث الله تبارك و تعالى هوداً نظروا فيما عندهم من العلم و الإيمان و ميراث العلم و الاسم الأكبر و آثار علم النبوّة فوجدوا هوداً نبيّاً و قد بشّرهم أبوهم نوح به فآمنوا به و صدّقوه و اتّبعوه فنجوا من عذاب الريح، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ إِلى‏ عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) و قوله:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ )

و في المجمع في قوله تعالى:( آيَةً تَعْبَثُونَ ) أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم و إنّما تريدون العبث بذلك و اللعب و اللهو كأنّه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً منهم عن ابن عبّاس في رواية عطاء، و يؤيّده‏ الخبر المأثور عن أنس بن مالك أنّ

٣٢٩

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فرأى قبّة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتّى إذا جاء صاحبها فسلّم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مراراً حتّى عرف الرجل الغضب به و الإعراض عنه.

فشكا ذلك إلى أصحابه و قال: و الله إنّي لاُنكر نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أدري ما حدث فيّ و ما صنعت؟ قالوا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبّته فسوّاها بالأرض فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم فلم ير القبّة فقال: ما فعلت القبّة الّتي كانت ههنا؟ قالوا: شكي إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها.

فقال: إنّ كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا ما لا بدّ منه.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

٣٣٠

( سورة الشعراء الآيات ١٤١ - ١٥٩)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( ١٤١ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٤٢ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٤٣ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٤٤ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٤٥ ) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ( ١٤٦ ) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٤٧ ) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ( ١٤٨ ) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ( ١٤٩ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٥٠ ) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ( ١٥١ ) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ( ١٥٢ ) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( ١٥٣ ) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٥٤ ) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( ١٥٥ ) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥٦ ) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ( ١٥٧ ) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٥٨ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٥٩ )

( بيان)

تشير الآيات إلى إجمال قصّة صالحعليه‌السلام و قومه و هو من أنبياء العرب و يذكر في القرآن بعد هودعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) قد اتّضح معناها ممّا تقدّم.

٣٣١

قوله تعالى: ( أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ ) الظاهر أنّ الاستفهام للإنكار و( ما ) موصولة و المراد بها النعم الّتي يفصّلها بعد قوله:( فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) إلخ، و( هاهُنا ) إشارة إلى المكان الحاضر القريب و هو أرض ثمود و( آمِنِينَ ) حال من نائب فاعل( تُتْرَكُونَ ) .

و المعنى: لا تتركون في هذه النعم الّتي أحاطت بكم في أرضكم هذه و أنتم مطلقو العنان لا تسألون عمّا تفعلون آمنون من أيّ مؤاخذة إلهيّة.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ) بيان تفصيليّ لقوله:( فِي ما هاهُنا ) ، و قد خصّ النخل بالذكر مع دخوله في الجنّات لاهتمامهم به، و الطلع في النخل كالنور في سائر الأشجار و الهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضمّ بعضه إلى بعض.

قوله تعالى: ( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ) قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الأشر، و قوله تعالى:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ) أي حاذقين و قيل: معناه أشرين. انتهى ملخصا، و على ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، و على المعنى الآخر تكون مسوقة لإنكار أشرهم و بطرهم. و الآية على أيّ حال في حيّز الاستفهام.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) تفريع على ما تقدّم من الإنكار الّذي في معنى المنفي.

قوله تعالى: ( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته و إن جوّز بعضهم كون الأمر بمعنى الشأن و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامّة و اتّباعهم لهم في أعمالهم و سلوكهم السبل الّتي يستحبّون لهم سلوكها.

و المراد بالمسرفين على أيّ حال أشراف القوم و عظماؤهم المتبوعون و الخطاب للعامّة التابعين لهم و أما السادة الأشراف فقد كانوا مأيوساً من إيمانهم و اتّباعهم للحقّ.

٣٣٢

و يمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أنّ الأشراف منهم أيضاً كانوا يقلّدون آباءهم و يطيعون أمرهم كما قالوا لصالحعليه‌السلام :( أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ) هود: ٦٢، فقد كانوا جميعاً يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.

و قد فسّر المسرفين و هم المتعدّون عن الحقّ الخارجون عن حدّ الاعتدال بتوصيفهم بقوله:( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ ) إشارة إلى علّة الحكم الحقيقيّة فالمعنى اتّقوا الله و لا تطيعوا أمر المسرفين لأنّهم مفسدون في الأرض غير مصلحين و الإفساد لا يؤمن معه العذاب الإلهيّ و هو عزيز ذو انتقام.

و ذلك أنّ الكون على ما بين أجزائه من التضادّ و التزاحم مؤلّف تأليفاً خاصّاً يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج و الآثار كالأمر في كفّتي الميزان فإنّهما على اضطرابها و اختلافها الشديد بالارتفاع و الانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون و هو الغاية و العالم الإنسانيّ الّذي هو جزء من الكون كذلك ثمّ الفرد من الإنسان بما له من القوى و الأدوات المختلفة المتضادّة مفطور على تعديل أفعاله و أعماله بحيث تنال كلّ قوّة من قواه حظّها المقدّر لها و قد جهّز بعقل يميّز بين الخير و الشرّ و يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة و هو بما بين أجزائه من الارتباط التامّ يخطّ لكلّ من أجزائه سبيلاً خاصّاً يسير فيها بأعمال خاصّة من غير أن يميل عن حاقّ وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإنّ في الميل و الانحراف إفساداً للنظام المرسوم، و يتبعه إفساد غايته و غاية الكلّ، و من الضروريّ أنّ خروج بعض الأجزاء عن خطّه المخطوط له و إفساد النظم المفروض له و لغيره يستعقب منازعة بقية الأجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه و تردّه إلى وسط الاعتدال فهو و إلّا أفنته و عفت آثاره حفظاً لصلاح الكون و استبقاء لقوامه.

و الإنسان الّذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلّيّة فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدّرة له و إن تعدّى حدود فطرته

٣٣٣

و أفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين و المثلات و أنواع النكال و النقمة لعلّه يرجع إلى الصلاح و السداد قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٤١.

و إن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال و طهر الأرض من قذارة فسادهم قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦. و قال:( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) هود: ١١٧، و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥، و ذلك أنّهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم و إذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العامّ و صلحت بها الأرض لحياتهم الأرضيّة.

فقد تبيّن بما مرّ أوّلاً أنّ حقيقة دعوة النبوّة هي إصلاح الحياة الإنسانيّة الأرضيّة قال تعالى: حكاية عن شعيب:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) هود: ٨٨.

و ثانياً: أنّ قوله:( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ ) إلخ، على سذاجة بيانه معتمد على حجّة برهانيّة.

و لعلّ في قوله:( وَ لا يُصْلِحُونَ ) بعد قوله:( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أنّه كان المتوقّع منهم بما أنّهم بشر ذوو فطرة إنسانيّة أن يصلحوا في الأرض لكنّهم انحرفوا عن الفطرة و بدّلوا الإصلاح إفساداً.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) أي ممّن سحر مرّة بعد مرّة حتّى غلب على عقله، و قيل: إنّ السحر أعلى البطن و المسحّر من له جوف فيكون كناية عن أنّك بشر مثلنا تأكل و تشرب فيكون قوله بعده:( ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) تأكيداً له، و قيل: المسحّر من له سحر أي رئة كأنّ مرادهم أنّك متنفّس بشر مثلنا.

قوله تعالى: ( ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا - إلى قوله -عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الشرب

٣٣٤

بكسر الشين النصيب من الماء، و الباقي ظاهر و قد تقدّمت تفصيل القصّة في سورة هود.

قوله تعالى: ( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) نسبة العقر إلى الجمع - و لم يعقرها إلّا واحد منهم - لرضاهم بفعله، و في نهج البلاغة،: أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضي و السخط و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا فقال سبحانه:( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) .

و قوله:( فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) لعلّ ندمهم إنّما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب و إن قالوا له بعد العقر تعجيزاً و استهزاء:( يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٧٧.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإنّ صالحاً وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيّام كما في سورة هود، و الباقي ظاهر.

٣٣٥

( سورة الشعراء الآيات ١٦٠ - ١٧٥)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ( ١٦٠ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٦١ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٦٢ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٦٣ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٤ ) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( ١٦٥ ) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ( ١٦٦ ) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ( ١٦٧ ) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ( ١٦٨ ) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٦٩ ) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( ١٧٠ ) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( ١٧١ ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ( ١٧٢ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا  فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ( ١٧٣ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧٤ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٧٥ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة لوط النبيّعليه‌السلام و هو بعد صالحعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: ( أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ) الاستفهام للإنكار و التوبيخ و الذكران جمع ذكر مقابل الاُنثى و إتيانهم كناية عن اللواط و قد كان شاع فيما بينهم، و العالمين جمع عالم و هو الجماعة من الناس.

٣٣٦

و قوله:( مِنَ الْعالَمِينَ ) يمكن أن يكون متّصلاً بضمير الفاعل في( تَأْتُونَ ) و المراد أ تأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر:( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) الأعراف: ٨٠، العنكبوت: ٢٨.

و يمكن أن يكون متّصلاً بقوله:( الذُّكْرانَ ) و المعنى على هذا أ تنكحون من بين العالمين على كثرتهم و اشتمالهم على النساء الرجال فقط؟.

قوله تعالى: ( وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) إلخ( تَذَرُونَ ) بمعنى تتركون و لا ماضي له من مادّته.

و المتأمّل في خلق الإنسان و انقسام أفراده إلى صنفي الذكر و الاُنثى و ما جهّز به كلّ من الصنفين من الأعضاء و الأدوات و ما يختصّ به من الخلقة لا يرتاب في أنّ غرض الصنع و الإيجاد من هذا التصوير المختلف و إلقاء غريزة الشهوة في القبيلين و تفريق أمرهما بالفعل و الانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسّل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتّى حين.

فالرجل من الإنسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله و المرأة من الإنسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها و ما يختصّ به الرجل في خلقته للمرأة و ما بختصّ به المرأة في خلقتها للرجل و هذه هي الزوجيّة الطبيعيّة الّتي عقدها الصنع و الإيجاد بين الرجل و المرأة من الإنسان فجعلهما زوجين.

ثمّ الأغراض و الغايات الاجتماعيّة أو الدينيّة سنّت بين الناس سنّة النكاح الاجتماعيّ الاعتباريّ الّذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين و قسم من التحديد للزوجيّة الطبيعيّة المذكورة فالفطرة الإنسانيّة و الخلقة الخاصّة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال و ازدواج النساء بالرجال دون النساء، و أنّ الازدواج مبنيّ على أصل التوالد و التناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة.

و من هنا يظهر أنّ الأقرب أن يكون المراد بقوله:( ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ )

٣٣٧

العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج و اللّام للملك الطبيعيّ، و أنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَزْواجِكُمْ ) للتبعيض و الزوجيّة هي الزوجيّة الطبيعيّة و إن أمكن أن يراد بها الزوجيّة الاجتماعيّة الاعتباريّة بوجه.

و أمّا تجويز بعضهم أن يراد بلفظة( ما ) النساء و يكون قوله:( مِنْ أَزْواجِكُمْ ) بياناً له فبعيد.

و قوله:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ) أي متجاوزون خارجون عن الحدّ الّذي خطّته لكم الفطرة و الخلقة فهو في معنى قوله:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) العنكبوت: ٢٩.

و قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ كلامهعليه‌السلام مبنيّ على حجّة برهانيّة اُشير إليها.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ) أي المبعّدين المنفيّين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر:( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ) .

قوله تعالى: ( قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ) المراد بعملهم - على ما يعطيه السياق - إتيان الذكران و ترك الإناث. و القالي المبغض، و مقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرّض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أنّي لا أخاف الخروج من قريتكم و لا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، و لذا أتبعه بقوله:( رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ) أي من أصل عملهم الّذي يأتون به بمرأى و مسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم و العذاب الّذي سيتبعه لا محالة.

و إنّما لم يذكر إلّا نفسه و أهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال

٣٣٨

تعالى في ذلك:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الذاريات: ٣٦.

قوله تعالى: ( فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إلى قوله الْآخَرِينَ ) الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، و التدمير الإهلاك، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ) إلخ، و هو السجّيل كما قال تعالى:( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) الحجر: ٧٤.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلى قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره.

٣٣٩

( سورة الشعراء الآيات ١٧٦ - ١٩١)

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ( ١٧٦ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٧٧ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٧٨ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٧٩ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٨٠ ) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ( ١٨١ ) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( ١٨٢ ) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ١٨٣ ) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ( ١٨٤ ) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( ١٨٥ ) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ١٨٦ ) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٨٧ ) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨٨ ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ  إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٨٩ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٩٠ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٩١ )

( بيان)

إجمال قصّة شعيبعليه‌السلام و هو من أنبياء العرب، و هي آخر القصص السبع الموردة في السورة.

قوله تعالى: ( كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) الأيكة الغيضة الملتفّ شجرها. قيل: إنّها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453