الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124107 / تحميل: 6109
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قلبه إنّما هو شرّ ير كلّ يوم. فحزن الربّ أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسّف في قلبه. فقال الربّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الّذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء. لأنّى حزنت أنّى عملتهم. وأمّا نوح فوجد نعمة في عين الربّ.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

فقال الله لنوح نهاية كلّ بشر قد أتت أمامى. لأنّ الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفليّة ومتوسّطة وعلويّة تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لاُهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كلّ ما في الأرض يموت. ولكن اُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حىّ من كلّ ذى جسد اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا واُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كلّ دبّابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال(١) الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأنّى إيّاك

____________________

(١) الاصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٦١

رأيت بارّا لدىّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا واُنثى. ومن البهائم الّتى ليست بطاهرة اثنين ذكر واُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكرا واُنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. لأنّى بعد سبعة أيّام أيضاً أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الربّ.

ولمّا كان نوح ابن ستّمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم الّتى ليست بطاهرة ومن الطيور وكلّ ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر واُنثى. كما أمر الله نوحاً.

وحدث بعد السبعة الأيّام أنّ مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستّمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كلّ ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكلّ الوحوش كأجناسها وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض كأجناسها وكلّ الطيور كأجناسها كلّ عصفور ذى جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كلّ جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا واُنثى من كلّ ذى جسد كما أمره الله. وأغلق الربّ عليه.

وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة الّتى تحت كلّ السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كلّ ذى جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات الّتى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة مات. فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض. الناس

٢٦٢

والبهائم والدبّابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقّى نوح والّذين معه في الفلك فقطّ. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.

ثم(١) ذكر الله نوحاً وكلّ الوحوش وكلّ البهائم الّتى معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أوّل الشهر ظهرت رؤس الجبال.

وحدث من بعد أربعين يوماً أنّ نوحاً فتح طاقة الفلك الّتى كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردّدا حتّى نشفت المياه عن الأرض. ثمّ أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم يجد الحمامة مقرّا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأنّ مياها كانت على وجه كلّ الأرض فمدّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.

وكان في السنة الواحدة والستّمائة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض.

وكلّم الله نوحاً قائلا. اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكلّ الحيوانات الّتى معك من كلّ ذى جسد الطيور والبهائم وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكلّ الحيوانات وكلّ

____________________

(١) الاصحاح الثامن من سفر التكوين.

٢٦٣

الدبّابات وكلّ الطيور كلّ ما يدبّ على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للربّ. وأخذ من كلّ البهائم الطاهرة ومن كلّ الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسّم الربّ رائحة الرضا وقال الربّ في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته ولا أعود أيضاً اُميت كلّ حىّ كما فعلت. مدّة كلّ أيّام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله(١) نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء مع كلّ ما يدبّ على الأرض وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كلّ دابّة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أنّ لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقطّ من يد كلّ حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأنّ الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلّم الله نوحاً وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض الّتى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتّى كلّ حيوان الأرض. اُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الّذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسى في السحاب فتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض.فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أنّى أذكر ميثاقي الّذى بينى وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفانا لتهلك كلّ ذى جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لاذكر ميثاقاً أبديّاً بين الله وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد على

____________________

(١) الاصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٦٤

الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الّذى أنا أقمته بينى وبين كلّ ذى جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الّذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو ابوكنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض.

وابتدأ نوح يكون فلّاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كلّ أيّام نوح تسع ماءة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:

منها: أنّه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أنّ من الجائز أن يكون لنوح زوجان اُغرقت إحداهما ونجت الاُخرى.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصّه القرآن.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها: أنّه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنّها المدّة الّتى لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت: ١٤.

٢٦٥

ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصّة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيّات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدّة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيّات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصّة نوحعليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالاسرائيليّات أشبه.

٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الاُمم وأساطيرهم:

قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الاُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلّا قليلا ومنها المخالف له إلّا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيّين، وهم الّذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أنّ (زيزستروس) رأى في الحلم بعد موت والده (اُوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصّة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنّه كان في الأرض جيل من الجبّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر آشور بانيبال من نحو ستّمائة وستّين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أنّ كهنة المصريّين قالوا لسولون - الحكيم اليونانىّ - أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأوّل الّذى كان بعد ميناس الأوّل، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان عمّ الأرض كلّها إلّا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.

وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و

٢٦٦

الشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إنّ هذا الطوفان فار أوّلا من تنّور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكنّ المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنّه كان خاصّاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرّات في شكل خرافيّ آخرها أنّ ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدّها بالدسر حتّى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكنّ البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عامّ أغرق الهند كلّها، وروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكلّ هذه الروايات تتّفق في أنّ سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

وقد(١) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدّس أنّ (أهورامزدا) أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنّه جمشيد الملك) أنّه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدوابّ والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي(٢) في قصّة الطوفان: أنّه بينما كان (مانو) (هو ابن الإله عند الوثنيّين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، وممّا اندهش به أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذ (مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الّذى أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.

____________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٦٧

فلمّا كبرت أخبرت (مانو) عن السنة الّتى سيأتي فيها الطوفان ثمّ أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا اُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجفّ بقى مانو وحده. انتهى.

٦ - هل كانت نبوّتهعليه‌السلام عامّة للبشر؟

مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ما يدلّ عليه، وعلى أنّ اُولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافّة.

وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦ وقوله:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافّة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وكان كلّ نبىّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس كافّة) وأجابوا عن الآيات أنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي الّتى كانوا يسكنونها وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يونس: ٧٨.

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافرى قومي ديارا، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرّيّته هم الباقين من قومه.

والحقّ أنّ البحث لم يستوف حقّه في كلامهم، والّذى ينبغى أن يقال: أنّ النبوّة إنّما ظهرت في المجتمع الإنسانيّ عن حاجة واقعيّة إليها ورابطة حقيقيّة بين

٢٦٨

الناس وبين ربّهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينيّة لا اعتباريّة جزافيّة فإنّ من القوانين الحقيقيّة الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجوديّة، وقد قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥١.

فكلّ نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أوّل تكوّنه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الّذى فيه خيره وسعادته، والنوع الإنسانيّ أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجّه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

ومن الضرورىّ عندنا أنّ هذا الكمال لا يتمّ للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيويّة وكثرة الأعمال الّتى يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العمليّ الّذى يبعثه إلى الاستفادة من كلّ ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.

غير أنّ الأفراد أمثال وفي كلّ واحد منهم من العقل العمليّ والشعور الخاصّ الإنسانيّ ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العمليّ، واضطرّهم ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ بأن يعمل الكلّ للكلّ وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخّر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢.

وهذا الّذى ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاونيّ اضطرارىّ له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوّة الرقباء فهو في الحقيقة مدنىّ تعاونيّ بالطبع الثانيّ وإلّا فطبعه الأوّلىّ أن ينتفع بكلّ ما يتيسّر له الانتفاع حتّى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوى الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه واُخذ يسترقّ الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ وقال:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق: ٨.

ومن الضرورىّ أنّ الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد لا يتمّ إلّا بقوانين يحكم

٢٦٩

فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا ممّا استمرّت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلّا ويجرى فيه رسوم وسنن جرياناً كليّاً أو أكثريّاً ، التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي موادّ وقضايا فكريّة تطبّق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلّيّاً أو أكثريّاً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنّاً فهى اُمور متخلّلة بين كمال الإنسان ونقصه، وأشياء متوسّطة بين الإنسان وهو في أوّل نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أنّ من الواجب في عناية الله أن يهدى الإنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حدّ ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الّذى يبعثها إليه نظام الكون والجهازات الّتى جهّز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميّز خيره من شرّه وسعادته من شقائه كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس: ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى اُصول وقوانين اعتقاديّة وعمليّة يتمّ له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإنّ العناية الإلهيّة بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينيّة المحضة.

ولا يكفى في ذلك ما جهّز به الإنسان من العقل - وهو ههنا العمليّ منه - فإنّ العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أنّ المتخلّفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلّهم عقلاء ممتّعون بمتاع العقل مجهّزون به.

فظهر أنّ هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحقّ ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكّر والتعقّل وهو طريق الوحى، وهو نوع تكليم إلهىّ يعلّم

٢٧٠

الإنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيويّة والاُخرويّة.

فإن قلت: الأمر سواء فإنّ شرع النبوّة لم يأت بأزيد ممّا لو كان العقل لأتى به فإنّ العالم الإنسانيّ لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحى أن يدير المجتمع الإنسانيّ ويركّبه صراط الحقّ فما هي الحاجة إليه؟

قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أنّ العناية الإلهيّة من واجبها أن تهدى المجتمع الإنسانيّ إلى تعاليم تسعده وتكمّله لو عمل بها وهى الهداية بالوحى ولا يكفى فيها العقل، وجهة أنّ الواقع في الخارج والمتحقّق بالفعل ما هو؟ وإنّما نبحث في المقام من الجهة الاُولى دون الثانية، ولا يضرّ بها أنّ هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلّا قليلا. وذلك كما أنّ العناية الإلهيّة تهدى انواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كلّ نوع دون الوصول إلى غايته النوعيّة ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعيّ.

وبالجملة فطريق النبوّة ممّا لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهيّة وإلّا لم تتمّ الحجّة بمجرّد العقل لأنّ له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنّما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزّل الله على المجتمع الإنسانيّ دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعيّة دون أن يخصّ بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضرورىّ أن يكون أوّل شريعة نزلت عليهم شريعة عامّة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عزّ من قائل:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً

٢٧١

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، فبيّن أنّ الناس كانوا أوّل ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيويّة ثمّ ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادّة الخصومة والنزاع.

ثمّ قال تعالى فيما امتنّ به على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى: ١٣. ومقام الامتنان يقضى بأنّ الشرائع الإلهيّة المنزلة على البشر هي هذه الّتى ذكرت لا غير، وأوّل ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامّة للبشر كلّهم وخاصّة في زمنهعليه‌السلام لكان هناك إمّا نبىّ آخر ذو شريعة اُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإمّا إهمال سائر الناس غير قومهعليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أنّ نبوّة نوحعليه‌السلام كانت عامّة، وأنّ له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأنّ كتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة، وأنّ قوله تعالى في الآية السابقة( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من اُولى العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم).

وظهر أيضاً أنّ ما يدلّ من الروايات على عدم عموم دعوتهعليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضاعليه‌السلام أنّ اُولى العزم من الأنبياء خمسة لكلّ منهم شريعة وكتاب ونبوّتهم عامّة لجميع من سواهم نبيّا أو غير نبىّ، وقد تقدّم الحديث في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ - هل الطوفان كانت عامّة لجميع الأرض؟ تبيّن الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإنّ عموم دعوتهعليه‌السلام يقضى بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أنّ المراد بسائر الآيات الدالّة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح

٢٧٢

عليه‌السلام :( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦، وقوله حكاية عنه:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله: و( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين فمن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصّاً بأرض قوم نوحعليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أمّا قوله في نوحعليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيّاً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأمّا قوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فليس نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها فإنّ المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنى أرض مصر، وقوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) فالمراد بها مكّة، وقوله:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) والمراد بها الأرض الّتى كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيّته، وهذا يقتضى أن يكون الطوفان في البقعة الّتى كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلّها إلّا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجيّة - يقولون إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس

٢٧٣

كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثمّ أشار إلى ما استدلّ به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أنّ الماء قد صعد إليها مرّة من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض هذا.

وردّ عليه بأنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنّه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ثمّ قال ما ملخّصه: أنّ هذه المسائل التاريخيّة ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبيّنها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدّم إنّه ظاهر النصوص ولا نتّخذه عقيده دينيّة قطعيّة فإن أثبت علم الجيولوجيّة خلافه لا يضرّنا لأنّه لا ينقض نصّاً قطعيّاً عندنا. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأمّا قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إنّ صعود الماء إليها في أيّام معدودة لا يكفى في حدوثها ! ففيه أنّ من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثمّ تبقى عليها بعد النشف فإنّ ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيّام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كلّه قد فاته ما ينصّ عليه الآيات أنّهعليه‌السلام اُمر أن يحمل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإنّ ذلك كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الّذى هو بمنزلة الجميع.

فالحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّا للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر اُغرقوا جميعاً، ولم يقم لهذا الحين حجّة قطعيّة تصرّفها عن هذا الظهور.

٢٧٤

وقد كنت سألت صديقى الفاضل الدكتور سحابيّ المحترم اُستاذ الجيولوجيا بكلّيّة طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجيّة في أمر هذا الطوفان العامّ إن كان فيها ما يؤيّد ذلك على وجه كلّىّ فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصّلا في فصول:

١ - الأراضي الرسوبيّة: تطلق الأراضي الرسوبيّة في الجيولوجيا على الطبقات الأرضيّة الّتى كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات الّتى غطّتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبيّة بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكرويّة المدوّرة فإنّها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادّة الأطراف والزوايا حوّلتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثمّ إنّ الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبيّة في البطائح فغالب الأراضي الترابيّة من هذا القبيل تخالطها أو تكوّنها رمال بالغة في الدقّة، وقد حملها لدقّتها وخفّتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبيّة وقد غطّتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أوّلا - أمارة أنّ تلك الطبقات لم تتكوّن في زمان واحد بعينه - وثانياً - أنّ مسير المياه والسيول أو شدّة جريانها قد تغيّر بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتّضح بذلك أنّ الأراضي الرسوبيّة كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامّة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي الّتى تحكى عن جريان مياه كثيرة جدّاً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقيّ

٢٧٥

الصين، ومصر، وأكثر قطعات إمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبيّة في بعض الأماكن إلى مآت الأمتار كما أنّها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج ممّا مرّ أوّلا: أنّ سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربّما غطّت معظم بقاعها.

وثانياً: أنّ الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبيّ في بعض الأماكن - لم يحدث مرّة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرّر في مآت من السنين كلّما حدث مرّة كون طبقة رسوبيّة ثمّ إذا انقطع غطّتها طبقة ترابيّة ثمّ إذا عاد كوّن اُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبيّة في دقّة رمالها وعدمها يدلّ على اختلاف السيلان بالشدّة والضعف.

٢ - الطبقات الرسوبيّة أحدث القشور والطبقات الجيولوجيّة: ترسب الطبقات الرسوبيّة عادة رسوباً اُفقيّاً ولكن ربّما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبيّة قويّة شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الاُفقيّة إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكوّنت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أنّ الطبقات الرسوبيّة والقشور الاُفقيّة الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكوّنة على البسيط، والدلائل الفنّيّة الموجودة تدلّ على أنّ عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا(١) .

٣ - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها . كان تكوّن القشور الرسوبيّة الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتّساعها بأطرافها فارتفعت

____________________

(١) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالّتيك وسائر المناطق الشماليّة من طبقات رسوبيّة اُفقيّة باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجيّة لجهات مذكورة في محلّها.

٢٧٦

مياهها وغطّت أكثر سواحلها، وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانيّة انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من اُوربه بالكلّيّة، وكانت اُوربه من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّىّ إلى هذا الحين فانفصلتا باتّساع البحر المتوسّط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقيّ وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندنيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبىّ جزيرة اليابان متّصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقيّ إلى هذا الحين فانفصلت وتحوّلت إلى صورتها الفعليّة، وكذا انقطاع إمريكا الشماليّة من جهة شمالها عن شمال اُوربه أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحوّلات الأرضيّة الداخليّة آثار قويّة في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحليّة المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسّع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبيّة انكشف عنها ماء الخليج(١) .

٤ - العوامل المؤثّرة في إزدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان . الشواهد الجيولوجيّة الّتى أشرنا إلى بعضها تؤيّد أنّ النزولات الجوّيّة كانت غير عاديّة في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانيّة وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيّرات جوّيّة هامّة خارقة للعادة قطعاً.

فكان الهواء حارّاً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطّى معظم النصف الشماليّ من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويّاً أنّ المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشماليّة.

____________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشيّة بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشرعيّة الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.

٢٧٧

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجوّ وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادىّ وتعقّبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثمّ استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصّة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب اُوربه وشمال إفريقا كجبال(١) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق اُخرى قديمة وتوسّعها ثمّ تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبيّة جديدة.

وممّا كان يمدّ الطوفان السماويّ في شدّة عمله يزيد حجم السيول الجارية أنّ حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائيّة في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطريّة، ويزيد في قوّة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أنّ الذخائر الأرضيّة متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأرضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الّذى أفرغته السيول بالتفجير والمصّ.

٥ - نتيجة البحث . وعلى ما قدّمناه من البحث الكلّىّ يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيّات الطوفان الواقع في زمن نوحعليه‌السلام كقوله تعالى:

____________________

(١) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليونى سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.

٢٧٨

( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: ١٢، وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) هود: ٤٠، وقوله:( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر) هود: ٤٤. انتهى.

وممّا يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد(١) طهران في هذه الأيّام وملخّصه: أنّ جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركيّ عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقيّ تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطى القياس أنّها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطى أنّها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثى حجم مركب (كوئين مارى) الإنجليزيّة الّتى طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنّها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟عليه‌السلام .

٦ - عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدلّ على أنّهعليه‌السلام عمّر طويلا، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار الإنسانيّة لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتّى ذكر بعضهم أنّ القدماء كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلّا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أنّ طول عمرهعليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في قصص الأنبياء في خصائصهعليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوّة. انتهى.

____________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أوّل سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الاول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٩

والحقّ أنّه لم يقم حتّى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلىّ بأزيد من الأعمار الطبيعيّة اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلّما وجدنا معمّرا عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستّين وجدناه بسيط العيش قليل الهمّ ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقى بعض الأعمار في السابقين إلى مآت من السنين.

على أنّ الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوحعليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدّم كلام في المعجزة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٧ - أين هو جبل الجودى : ذكروا أنّه بديار بكر من موصل في جبال تتّصل بجبال أرمينيّة، وقد سمّاه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: و الجودىّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوحعليه‌السلام ، ويسمّى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطّلاع: الجودىّ مشدّدة جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لمّا نضب الماء.

٨ - ربّما قيل : هب إنّه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الّذى على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كلّ هلاك ولو كان عامّا عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامّة الّتى تهلك الاُلوف ثمّ الاُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول)

١ - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ : الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

و فيه دلالة على أنّ لله في اتّباعهم أمرا و أنّ فيه فرج بني إسرائيل و قد صرّح بذلك في قوله:( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) الدخان: ٢٤.

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ - إلى قوله -ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ‏ ) قصّة غرق آل فرعون و إنجاء بني إسرائيل في أربع عشرة آية و قد أوجز في الكلام بحذف بعض فصول القصّة لظهوره من سياقها كخروج موسى و بني إسرائيل ليلاً من مصر لدلالة قوله:( أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ) عليه و على هذا القياس.

فقال تعالى:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ ) أي فأسرى موسى بعبادي فلمّا علم فرعون بذلك أرسل( فِي الْمَدائِنِ ) الّتي تحت سلطانه رجالاً( حاشِرِينَ ) يحشرون الناس و يجمعون الجموع قائلين للناس( إِنَّ هؤُلاءِ ) بني إسرائيل( لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) و الشرذمة من كلّ شي‏ء بقيّته القليلة فتوصيفها بالقلّة تأكيد( وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ) يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به( وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ ) مجموع متّفق فيما نعزم عليه( حاذِرُونَ ) نحذر العدوّ أن يغتالنا أو يمكر بنا و إن كان ضعيفاً قليلاً، و المطلوب بقولهم هذا و هو لا محالة بلاغ من فرعون لحثّ الناس عليهم.

( فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ ) فيه قصورهم المشيدة و بيوتهم الرفيعة، و لما كان خروجهم عن مكر إلهيّ بسبب داعية الاستعلاء و الاستكبار الّتي فيهم نسب إلى نفسه أنّه أخرجهم( كَذلِكَ ) أي الأمر كذلك( وَ أَوْرَثْناها ) أي تلك الجنّات و العيون و الكنوز و المقام الكريم( بَنِي إِسْرائِيلَ ) حيث أهلكنا فرعون و جنوده و أبقينا بني إسرائيل بعدهم فكانوا هم الوارثين.

( فَأَتْبَعُوهُمْ ) أي لحقوا ببني إسرائيل( مُشْرِقِينَ ) أي داخلين في وقت شروق الشمس و طلوعها( فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ) أي دنا بعضهم من بعض فرأى كلّ من الجمعين جمع فرعون و جمع موسى الآخر،( قالَ أَصْحابُ مُوسى) من بني إسرائيل خائفين فزعين( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) سيدركنا جنود فرعون.

( قالَ موسى كَلَّا ) لن يدركونا( إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) و المراد بهذه المعيّة

٣٠١

معيّة الحفظ و النصرة و هي الّتي وعدها له ربّه أوّل ما بعثه و أخاه إلى فرعون:( إِنَّنِي مَعَكُما ) و أمّا معيّة الإيجاد و التدبير فالله سبحانه مع موسى و فرعون على نسبة سواء، و قوله:( سَيَهْدِينِ ) أي سيدلّني على طريق لا يدركني فرعون معها.

( فَأَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) و الانفلاق انشقاق الشي‏ء و بينونة بعضه من بعض( فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ ) أي قطعة منفصلة من الماء( كَالطَّوْدِ ) و هو القطعة من الجبل( الْعَظِيمِ ) فدخلها موسى و من معه من بني إسرائيل.

( وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ ) أي و قرّبنا هناك( الْآخَرِينَ ) و هم فرعون و جنوده( وَ أَنْجَيْنا مُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ) بحفظ البحر على حاله و هيئته حتّى قطعوه و خرجوا منه،( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) بإطباق البحر عليهم و هم في فلقه.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ظاهر السياق - و يؤيّده سياق القصص الآتية - أنّ المشار إليه مجموع ما ذكر في قصّة موسى من بعثه و دعوته فرعون و قومه و إنجاء بني إسرائيل و غرق فرعون و جنوده، ففي ذلك كلّه آية تدلّ على توحّده تعالى بالربوبيّة و صدق الرسالة لمن تدبّر فيها.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي و ما كان أكثر هؤلاء الّذين ذكرنا قصّتهم مؤمنين مع ظهور ما دلّ عليه من الآية و على هذا فقوله بعد كلّ من القصص الموردة في السورة:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) بمنزلة أخذ النتيجة و تطبيق الشاهد على المستشهد له كأنّه يقال بعد إيراد كلّ واحدة من القصص: هذه قصّتهم المتضمّنة لآيته تعالى و ما كان أكثرهم مؤمنين كما لم يؤمن أكثر قومك فلا تحزن عليهم فهذا دأب كلّ من الاُمم الّتي بعثنا إليهم رسولاً فدعاهم إلى توحيد الربوبيّة.

و قيل: إنّ الضمير في( أَكْثَرُهُمْ ) راجع إلى قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى: أنّ في هذه القصّة آية و ما كان أكثر قومك مؤمنين بها و لا يخلو من بعد.

و قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره في أوّل السورة.

٣٠٢

( سورة الشعراء الآيات ٦٩ - ١٠٤)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ( ٦٩ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ( ٧٠ ) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ( ٧١ ) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( ٧٢ ) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( ٧٣ ) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ ( ٧٤ ) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( ٧٥ ) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ( ٧٦ ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٧٧ ) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( ٧٨ ) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( ٧٩ ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( ٨٠ ) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ( ٨١ ) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ( ٨٢ ) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( ٨٣ ) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ( ٨٤ ) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ( ٨٥ ) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ( ٨٦ ) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( ٨٧ ) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ( ٨٨ ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ٨٩ ) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ٩٠ ) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ( ٩١ ) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( ٩٢ ) مِن دُونِ اللهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ( ٩٣ ) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( ٩٤ ) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ( ٩٥ ) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ( ٩٦ ) تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٩٧ ) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٩٨ ) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ( ٩٩ ) فَمَا لَنَا مِن

٣٠٣

شَافِعِينَ ( ١٠٠ ) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( ١٠١ ) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٠٢ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٠٣ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٠٤ )

( بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصّة موسى إلى نبإ إبراهيمعليه‌السلام و هو خبره الخطير إذ انتهض لتوحيد الله سبحانه بفطرته الزاكية الطاهرة من بين قومه المطبقين على عبادة الأصنام فتبرّأ منهم و دافع عن الحقّ ثمّ كان من أمره ما قد كان ففي ذلك آية و لم يؤمن به أكثر قومه كما سيشير إلى ذلك في آخر الآيات.

قوله تعالى: ( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) غير السياق عمّا كان عليه أوّل القصّة( وَ إِذْ نادى‏ رَبُّكَ مُوسى) إلخ، لمكان قوله:( عَلَيْهِمْ ) فإنّ المطلوب تلاوته على مشركي العرب و عمدتهم قريش و إبراهيم هذا أبوهم و قد قام لنشر التوحيد و إقامة الدين الحقّ و لم يكن بينهم يومئذ من يقول: لا إله إلّا الله، فنصر الله و نصره حتّى ثبتت كلمة التوحيد في الأرض المقدّسة و في الحجاز.

فلم يكن ذلك كلّه إلّا عن دعوة من الفطرة و بعث من الله سبحانه ففي ذلك آية لله فليعتبروا به و ليتبرّؤا من دين الوثنيّة كما تبرّأ منه و من أبيه و قومه المنتحلين به أبوهم إبراهيمعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ) مخاصمته و مناظرتهعليه‌السلام مع أبيه غير مخاصمته مع قومه و احتجاجه عليهم كما حكاه الله تعالى في سورة الأنعام و غيرها لكنّ البناء هاهنا على الإيجاز و الاختصار و لذا جمع بين المحاجّتين و سبكهما محاجّة واحدة أورد فيها ما هو القدر المشترك بينهما.

و قوله:( ما تَعْبُدُونَ ) سؤال عن الحقيقة بوضع نفسه موضع من لا يعرف شيئاً

٣٠٤

من حقيقتها و سائر شؤونها و هذا من طرق المناظرة سبيل من يريد أن يبيّن الخصم حقيقة مدّعاه و سائر شؤونه حتّى يأخذه بما سمع من اعترافه.

على أنّ هذه المحاجّة كانت من إبراهيم أوّل ما خرج من كهفه و دخل في مجتمع أبيه و قومه و لم يكن شهد شيئاً من ذلك قبل اليوم فحاجّهم عن فطرة ساذجة طاهرة كما تقدّم تفصيل القول فيه في تفسير سورة الأنعام.

قوله تعالى: ( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) ظلّ بمعنى دام، و العكوف على الشي‏ء ملازمته و الإقامة عنده، و اللّام في( لَها ) للتعليل أي ندوم عاكفين عليها لأجلها و هو تفريع على عبادة الأصنام.

و الصنم جثّة مأخوذة من فلزّ أو خشب أو غير ذلك على هيئة خاصّة يمثّل بها ما في المعبود من الصفات، و هؤلاء كانوا يعبدون الملائكة و الجنّ و هم يرون أنّها روحانيّات خارجة عن عالم الأجسام منزّهة عن خواصّ المادّة و آثارها، و لما كان من الصعب عليهم التوجّه العباديّ إلى هذه الروحانيّات باستحضارها للإدراك توسّلوا إلى ذلك باتّخاذ صور و تماثيل جسمانيّة تمثّل بأشكالها و هيئاتها ما هناك من المعنويّات.

و كذلك الحال في عبادة عبّاد الكواكب لها فإنّ المعبود الأصليّ هناك روحانيّات الكواكب ثمّ اتّخذ أجرام الكواكب أصناماً لروحانيّاتها ثمّ لما اختلفت أحوال الكواكب بالحضور و الغيبة و الطلوع و الغروب اتّخذوا لها أصناماً تمثّل ما للكواكب من القوى الفعّالة فيما دونها من عالم العناصر كالقوّة الفاعلة للطرب و السرور و النشاط في الزهرة فيصوّرونها في صورة فتاة، و لسفك الدماء في المرّيخ، و للعلم و المعرفة في عطارد و على هذا القياس الأمر في أصنام القدّيسين من الإنسان.

فالأصنام إنّما اتّخذت ليكون الواحد منها مرآة لربّ الصنم من ملك أو جنّ أو إنسان غير أنّهم يعبدون الصنم نفسه بتوجيه العبادة إليه و التقرّب منه و لو تعدّوا عن الصنم إلى ربّه عبدوه دون الله سبحانه.

٣٠٥

و هذا هو الّذي يكذّب قول القائل منهم: إنّ الصنم إنّما هي قبلة لم تتّخذ إلّا جهة للتوجّه العبادي لا مقصودة بالذات كالكعبة عند المسلمين و ذلك أنّ القبلة هي ما يستقبل في العبادة و لا يستقبل بالعبادة و هم يستقبلون الصنم في العبادة و بالعبادة، و بعبارة اُخرى التوجّه إلى القبلة و العبادة لربّ القبلة و هو الله عزّ اسمه و أمّا الصنم فالتوجّه إليه و العبادة له لا لربّه و لو فرض أنّ العبادة لربّه و هو شي‏ء من الروحانيّات كانت له لا لله فالله سبحانه غير معبود في ذلك على أيّ حال.

و بالجملة فجوابهم عن سؤال إبراهيم:( ما تَعْبُدُونَ ) بقولهم:( نَعْبُدُ أَصْناماً ) إبانة أنّ هذه الأجسام المعبودة ممثّلات مقصودة لغيرها لا لنفسها، و قد أخذ إبراهيم قولهم:( نَعْبُدُ ) و خاصمهم به فإنّ استقلال الأصنام بالمعبوديّة لا يجامع كونها أصناماً ممثّلة للغير فإذ كانت مقصودة بالعبادة فمن الواجب أن يشتمل على ما هو الغرض المقصود منها من جلب نفع أو دفع ضرّ بالتوجّه العباديّ و الدعاء و المسألة و الأصنام بمعزل من أن تعلم بمسألة أو تجيب مضطرّاً بإيصال نفع أو صرف ضرّ و لذلك سألهم إبراهيم بقوله:( هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) اعترضعليه‌السلام عليهم في عبادتهم الأصنام من جهتين:

إحداهما: أنّ العبادة تمثيل لذلّة العابد و حاجته إلى المعبود فلا يخلو من دعاء من العابد للمعبود، و الدعاء يتوقّف على علم المعبود بذلك و سمعه ما يدعوه به، و الأصنام أجسام جماديّة لا سمع لها فلا معنى لعبادتها.

و الثانية: أنّ الناس إنّما يعبدون الإله إمّا طمعاً في خيره و نفعه و إمّا اتقاء من شرّه و ضرّه و الأصنام جمادات لا قدرة لها على إيصال نفع أو دفع ضرر.

فكلّ من الآيتين يتضمّن جهة من جهتي الاعتراض، و قد أوردهما في صورة الاستفهام ليضطرّهم على الاعتراف.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) كان مقتضى المقام أن يجيبوا عن سؤالهعليه‌السلام بالنفي لكنّه لما كان ينتج خلاف ما هم عليه من الانتحال

٣٠٦

بالوثنيّة أضربوا عنه إلى التشبّث بذيل التقليد فذكروا أنّهم لا مستند لهم في عبادتها إلّا تقليد الآباء محضاً.

و قوله:( وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) أي ففعلنا كما كانوا يفعلون و عبدناهم كما كانوا يعبدون، و لم يعدل عن قوله:( كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) إلى مثل قولنا: يعبدونها ليكون أصرح في التقليد كأنّهم لا يفهمون من هذه العبادات إلّا أنّها أفعال كأفعال آبائهم من غير أن يفقهوا منها شيئاً أزيد من أشكالها و صورها.

قوله تعالى: ( قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ) لما انتهت محاجّته مع أبيه و قومه إلى أن لا حجّة لهم في عبادتهم الأصنام إلّا تقليد آبائهم محضاً تبرّأعليه‌السلام من آلهتهم و من أنفسهم و آبائهم بقوله:( أَ فَرَأَيْتُمْ ) إلخ.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ) تفريع على ما ظهر ممّا تقدّم من عدم الدليل على عبادة الأصنام إلّا التقليد بل بطلانها من أصلها أي فإذا كانت باطلة لا حجّة لكم عليها إلّا تقليد آبائكم فهذه الأصنام الّتي رأيتموها أي هذه بأعيانها الّتي تعبدونها أنتم و آباؤكم الأقدمون فإنّها عدوّ لي لأنّ عبادتها ضارّة لديني مهلكة لنفسي فليست إلّا عدوّاً لي.

و ذكر آبائهم الأقدمين للدلالة على أنّه لا يأخذ بالتقليد كما أخذوا و أن لا وقع عندهعليه‌السلام لتقدّم العهد، و لا أثر للسبق الزمانيّ في إبطال حقّ أو إحقاق باطل، و إرجاع ضمير اُولي العقل إلى الأصنام لمكان نسبة العبادة إليها و هي تستلزم الشعور و العقل، و هو كثير الوقوع في القرآن.

و قوله:( إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ) استثناء منقطع من قوله:( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) أي لكنّ ربّ العالمين ليس كذلك.

قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - إلى قوله -يَوْمَ الدِّينِ ) لما استثنى ربّ العالمين جلّ اسمه وصفه بأوصاف تتمّ بها الحجّة على أنّه تعالى ليس عدوّاً له بل ربّ رحيم ذو عناية بحاله منعم عليه بكلّ خير دافع عنه كلّ شرّ فقال:( الَّذِي

٣٠٧

خَلَقَنِي ) إلخ و أمّا قول القائل: إنّ قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي ) إلخ استيناف من الكلام لا يعبأ به.

فقوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) بدأ بالخلق لأنّ المطلوب بيان استناد تدبير أمره إليه تعالى بطريق إعطاء الحكم بالدليل، و البرهان على قيام التدبير به تعالى قيام الخلق و الإيجاد به لوضوح أنّ الخلق و التدبير لا ينفكّان في هذه الموجودات الجسمانيّة التدريجيّة الوجود الّتي تستكمل الوجود على التدريج فليس من المعقول أن يقوم الخلق بشي‏ء و التدبير بشي‏ء و إذ كان الخلق و الإيجاد لله سبحانه فالتدبير له أيضاًَ.

و لهذا عطف الهداية على الخلق بفاء التفريع فدلّ على أنّه تعالى هو الهادي لأنّه هو الخالق.

و ظاهر قوله:( فَهُوَ يَهْدِينِ ) - و هو مطلق - أنّ المراد به مطلق الهداية إلى المنافع دنيويّة كانت أو اُخرويّة و التعبير بلفظ المضارع لإفادة الاستمرار فالمعنى أنّه الّذي خلقني و لا يزال يهديني إلى ما فيه سعادة حياتي منذ خلقني و لن يزال كذلك. فيكون الآية في معنى ما حكاه الله عن موسى إذ قال لفرعون:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: ٥٠، أي هداه إلى منافعه و هي الهداية العامّة.

و هذا هو الّذي اُشير إليه في أوّل السورة بقوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) و قد مرّ تقرير الحجّة فيه.

و على هذا فما سيأتي في قوله:( وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ) إلخ من الصفات المعدودة من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ فإنّها جميعاً من مصاديق الهداية العامّة بعضها هداية إلى منافع دنيويّة و بعضها هداية إلى ما يرجع إلى الآخرة.

و لو كان المراد بالهداية الهداية الخاصّة الدينيّة فالصفات المعدودة على رسلها و ذكر الهداية بعد الخلقة، و تقديمها على سائر النعم و المواهب لكونها أفضل النعم بعد الوجود.

٣٠٨

و قوله:( وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) هو كالكناية عن جملة النعم المادّيّة الّتي يرزقه الله إيّاها لتتميم النواقص و رفع الحوائج الدنيويّة، و قد خصّ بالذكر منها ما هو أهمّها و هو الإطعام و السقي و الشفاء إذا مرض.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( وَ إِذا مَرِضْتُ ) توطئة و تمهيد لذكر الشفاء فالكلام في معنى يطعمني و يسقيني و يشفين، و لذا نسب المرض إلى نفسه لئلّا يختلّ المراد بذكر ما هو سلب النعمة بين النعم، و أمّا قول القائل: إنّه إنّما نسب المرض إلى نفسه مع كونه من الله للتأدّب فليس بذاك.

و إنّما أعاد الموصول فقال:( الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي ) إلخ، و لم يعطف الصفات على ما في قوله:( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) للدلالة على أنّ كلّا من الصفات المذكورة في هذه الجمل المترتّبة كان في إثبات كونه تعالى هو الربّ المدبّر لأمره و القائم على نفسه المجيب لدعوته.

و قوله:( وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) يريد الموت المقضي لكلّ نفس المدلول عليه بقوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الأنبياء: ٣٥، و ليس بانعدام و فناء بل انتقال من دار إلى دار من جملة التدبير العامّ الجاري، و المراد بالإحياء إفاضة الحياة بعد الموت.

و قوله:( وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) أي يوم الجزاء و هو يوم القيامة، و لم يقطع بالمغفرة كما قطع في الاُمور المذكورة قبلها لأنّ المغفرة ليست بالاستحقاق بل هي فضل من الله فليس يستحقّ أحد على الله سبحانه شيئاً لكنّه سبحانه قضى على نفسه الهداية و الرزق و الإماتة و الإحياء لكلّ ذي نفس و لم يقض المغفرة لكلّ ذي خطيئة فقال:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) الذاريات: ٢٣، و قال:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الأنبياء: ٣٥، و قال:( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا ) يونس: ٤، و قال في المغفرة:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

و نسبة الخطيئة إلى نفسه و هوعليه‌السلام نبيّ معصوم من المعصية دليل على أنّ

٣٠٩

المراد بالخطيئة غير المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولويّ فإنّ للخطيئة و الذنب مراتب تتقدّر حسب حال العبد في عبوديّته كما قيل: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين و قد قال تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) .

فالخطيئة من مثل إبراهيمعليه‌السلام اشتغاله عن ذكر الله محضاً بما تقتضيه ضروريّات الحياة كالنوم و الأكل و الشرب و نحوها و إن كانت بنظر آخر طاعة منهعليه‌السلام كيف؟ و قد نصّ تعالى على كونهعليه‌السلام مخلصاً لله لا يشاركه تعالى فيه شي‏ء إذ قال:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦، و قد قدّمنا كلاماً له تعلّق بهذا المقام في آخر الجزء السادس و في قصص إبراهيم في الجزء السابع من الكتاب.

قوله تعالى: ( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) لما ذكرعليه‌السلام نعم ربّه المستمرّة المتوالية المتراكمة عليه منذ خلق إلى ما لا نهاية له من أمد البقاء و صوّر بذلك شمول اللطف و الحنان الإلهيّ أخذته جاذبة الرحمة الملتئمة بالفقر العبوديّ فدعته إلى إظهار الحاجة و بثّ المسألة فالتفت من الغيبة إلى الخطاب فسأل ما سأل.

فقوله:( رَبِّ ) أضاف الربّ إلى نفسه بعد ما كان يصفه بما أنّه ربّ العالمين إثارة للرحمة الإلهيّة و تهييجاً للعناية الربّانيّة لاستجابة دعائه و مسألته.

و قوله:( هَبْ لِي حُكْماً ) يريد بالحكم ما تقدّم في قول موسىعليه‌السلام :( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ) الآية ٢١ من السورة و هو - كما تقدّم - إصابة النظر و الرأي في المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الكلّيّة و تطبيق العمل عليها كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥، و هو وحي المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الّتي يجمعها التوحيد و التقوى، و قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: ٧٣، و هو وحي التسديد و الهداية إلى الصلاح في مقام العمل، و تنكير الحكم لتفخيم أمره.

و قوله:( وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الصلاح - على ما ذكره الراغب - يقابل الفساد

٣١٠

الّذي هو تغيّر الشي‏ء عن مقتضى طبعه الأصليّ فصلاحه كونه على مقتضى الطبع الأصليّ فيترتّب عليه من الخير و النفع ما من شأنه أن يترتّب عليه من غير أن يفسد فيحرم من آثاره الحسنة.

و إذ كان( بِالصَّالِحِينَ ) غير مقيّد بالعمل و نحوه فالمراد به الصالحون ذاتاً لا عملاً فحسب و إن كان صلاح الذات لا ينفكّ عنه صلاح العمل، قال تعالى:( الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨.

فصلاح الذات كونها تامّة الاستعداد لقبول الرحمة الإلهيّة و إفاضة كلّ خير و سعادة من شأنها أن تتلبّس به من غير أن يقارنها ما يفسدها من اعتقاد باطل أو عمل سيّئ و بذلك يتبيّن أنّ الصلاح الذاتيّ من لوازم موهبة الحكم بالمعنى الّذي تقدّم و إن كان الحكم أخصّ مورداً من الصلاح و هو ظاهر.

فمسألته الإلحاق بالصالحين من لوازم مسألة موهبة الحكم و فروعها المترتّبة عليها فيعود معنى قوله:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) إلى مثل قولنا: ربّ هب لي حكماً و تمّم أثره فيّ و هو الصلاح الذاتيّ.

و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقرة: ١٣٠ في الجزء الأوّل من الكتاب كلام له تعلّق بهذا المقام.

قوله تعالى: ( وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) إضافة اللسان إلى الصدق لاميّة تفيد اختصاصه بالصدق بحيث لا يتكلّم إلّا به، و ظاهر جعل هذا اللسان له أن يكون مختصّاً به كلسانه لا يتكلّم إلّا بما في ضميره ممّا يتكلّم هو به فيؤل المعنى إلى مسألة أن يبعث الله في الآخرين من يقوم بدعوته و يدعو الناس إلى ملّته و هي دين التوحيد.

فتكون الآية في معنى قوله في سورة الصافّات بعد ذكر إبراهيمعليه‌السلام :( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) الصافّات: ١٠٨، و قد ذكر هذه الجملة بعد ذكر عدّة من الأنبياء غيره كنوح و موسى و هارون و إلياس، و كذا قال تعالى في سورة مريم بعد ذكر زكريّا و يحيى و عيسى و إبراهيم و موسى و هارون:( وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ

٣١١

عَلِيًّا ) مريم: ٥٠ فالمراد على أيّ حال إبقاء دعوتهم بعدهم ببعث رسل أمثالهم.

و قيل: المراد به بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد روي عنه أنّه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم‏، و يؤيّده تسمية دينه في مواضع من القرآن ملّة إبراهيم، و يرجع معنى الآية حينئذ إلى معنى قوله حكاية عن إبراهيم و إسماعيل حين بناء الكعبة:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ - إلى أن قال -رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) البقرة: ١٢٩.

و قيل: المراد به أن يجعل الله له ذكراً جميلاً و ثناء حسناً بعده إلى يوم القيامة و قد استجاب الله دعاءه فأهل الأديان يثنون عليه و يذكرونه بالجميل.

و في صدق لسان الصدق على الذكر الجميل خفاء، و كذا كون هذا الدعاء و المحكيّ في سورة البقرة دعاء واحداً لا يخلو من خفاء.

قوله تعالى: ( وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) تقدّم معنى وراثة الجنّة في تفسير قوله تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) المؤمنون: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) استغفار لأبيه حسب ما وعده في قوله:( سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) مريم: ٤٧، و ليس ببعيد أن يستفاد من قوله تعالى:( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة: ١١٤، أنّه دعا لأبيه بهذا الدعاء و هو حيّ بعد، و على هذا فمعنى قوله:( إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) أنّه كان قبل الدعاء بزمان من أهل الضلال.

قوله تعالى: ( وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الخزي عدم النصر ممّن يؤمّل منه النصر، و الضمير في( يُبْعَثُونَ ) للناس و لا يضرّه عدم سبق الذكر لكونه معلوماً من خارج.

و يعلم من سؤاله عدم الإخزاء يوم القيامة أنّ الإنسان في حاجة إلى النصر الإلهيّ يومئذ فهذه البنية الضعيفة لا تقوم دون الأهوال الّتي تواجهها يوم القيامة إلّا بنصر و تأييد منه تعالى.

٣١٢

و قوله:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ ) الظرف بدل من قوله:( يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) و به يندفع قول من قال: إنّ قول إبراهيم قد انقطع في( يُبْعَثُونَ ) و الآية إلى تمام خمس عشرة آية من كلام الله تعالى.

و الآية تنفي نفع المال و البنين يوم القيامة و ذلك أنّ رابطة المال و البنين الّتي هي المناط في التناصر و التعاضد في الدنيا هي رابطة وهميّة اجتماعيّة لا تؤثّر أثراً في الخارج من ظرف الاجتماع المدنيّ و يوم القيامة يوم انكشاف الحقائق و تقطّع الأسباب فلا ينفع فيه مال بماليّته و لا بنون بنسبة بنوّتهم و قرابتهم، قال تعالى:( وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ) الأنعام: ٩٤، و قال:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ) المؤمنون: ١٠١.

فالمراد بنفي نفع المال و البنين يوم القيامة نفي سببيّتهما الوضعيّة الاعتباريّة في المجتمع الإنسانيّ في الدنيا فإنّ المال نعم السبب و الوسيلة في المجتمع للظفر بالمقاصد الحيويّة، و كذا البنون نعمت الوسيلة للقوّة و العزّة و الغلبة و الشوكة، فالمال و البنون عمدة ما يركن إليهما و يتعلّق بهما الإنسان في الحياة الدنيا فنفي نفعهما يوم القيامة كالكناية عن نفي نفع كلّ سبب وضعيّ اعتباريّ في المجتمع الإنسانيّ يتوسّل به إلى جلب المنافع المادّيّة كالعلم و الصنعة و الجمال و غيرها.

و بعبارة اُخرى نفي نفعهما في معنى الإخبار عن بطلان الاجتماع المدنيّ بما يعمل فيه من الأسباب الوضعيّة الاعتباريّة كما يشير إليه قوله تعالى:( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) .

و قوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال الراغب: السلم و السلامة التعرّي من الآفات الظاهرة و الباطنة. انتهى. و السياق يعطي أنّهعليه‌السلام في مقام ذكر معنى جامع يتميّز به اليوم من غيره و قد سأل ربّه أوّلاً أن ينصره و لا يخزيه يوم لا ينفعه ما كان ينفعه في الدنيا من المال و البنين، و مقتضى هذه التوطئة أن يكون المطلوب بقوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) بيان ما هو النافع يومئذ و قد ذكر فيه الإتيان

٣١٣

بالقلب السليم.

فالاستثناء منقطع، و المعنى: لكنّ من أتى الله بقلب سليم فإنّه ينتفع به، و المحصّل أنّ مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب سواء كان صاحبه ذا مال و بنين في الدنيا أو لم يكن.

و قيل: الاستثناء متّصل و المستثنى منه مفعول ينفع المحذوف و التقدير يوم لا ينفع مال و لا بنون أحداً إلّا من أتى الله بقلب سليم.

و قيل: الاستثناء متّصل و الكلام بتقدير مضاف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلّا مال و بنو من أتى إلخ.

و قيل: المال و البنون في معنى الغنى و الاستثناء منه بحذف مضاف من نوعه و التقدير يوم لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى الله بقلب سليم، و سلامة القلب من الغنى فالاستثناء متّصل ادّعاء لا حقيقة.

و قيل: الاستثناء منقطع و هناك مضاف محذوف، و التقدير لا ينفع مال و لا بنون إلّا حال من أتى إلخ.

و الأقوال الثلاثة الاُول توجب اختصاص تميّز اليوم بمن له مال و بنون فقط فإنّ الكلام عليها في معنى قولنا: يوم لا ينفع المال و البنون أصحابهما إلّا ذا القلب السليم منهم و أمّا من لا مال له و لا ولد فمسكوت عنه و السياق لا يساعده، و أمّا القول الرابع فمبنيّ على تقدير لا حاجة إليه.

و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا ) الكهف: ٤٦، غير أنّها تسند النفع إلى القلب السليم و هو النفس السالمة من وصمة الظلم و هو الشرك و المعصية كما قال تعالى في وصف اليوم:( وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) طه: ١١١.

قال بعضهم: و في الآيتين تأييد لكون استغفارهعليه‌السلام لأبيه طلباً لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافراً مع علمه بعدم نفعه لأنّه من باب

٣١٤

الشفاعة انتهى.

و هذا على تقدير أخذ الاستثناء متّصلاً كما ذهب إليه هذا القائل مبنيّ على كون إبراهيمعليه‌السلام ابن آزر لصلبه و قد تقدّم في قصّتهعليه‌السلام من سورة الأنعام فساد القول به و أنّ الآيات ناصّة على خلافه.

و أمّا إذا اُخذ الاستثناء منقطعاً فقوله:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) بضميمة قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء: ٢٨. دليل على كون الاستغفار قبل موته كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الإزلاف التقريب و التبريز الإظهار، و في المقابلة بين المتّقين و الغاوين و اختيار هذين الوصفين لهاتين الطائفتين إشارة إلى ما قضى به الله سبحانه يوم رجم إبليس عند إبائه أن يسجد لآدم كما ذكر في سورة الحجر( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ - إلى أن قال -إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) الحجر: ٤٥.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) أي هل يدفعون الشقاء و العذاب عنكم أو عن أنفسهم، و المحصّل أنّه يتبيّن لهم أنّهم ضلّوا في عبادتهم غير الله.

قوله تعالى: ( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) يقال: كبّه فانكبّ أي ألقاه على وجهه و كبكبه أي ألقاه على وجهه مرّة بعد اُخرى فهو يفيد تكرار الكبّ كدبّ و دبدب و ذبّ و ذبذب و زلّ و زلزل و دكّ و دكدك.

و ضمير الجمع في قوله:( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ ) للأصنام كما يدلّ عليه قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الأنبياء: ٩٨، و هؤلاء إحدى الطوائف الثلاث الّتي تذكر الآية أنّها تكبكب في جهنّم يوم القيامة، و الطائفة الثانية الغاوون المقضيّ عليهم ذلك كما في آية الحجر المنقولة آنفاً، و الطائفة الثالثة جنود إبليس و هم قرناء الشياطين الّذين يذكر القرآن أنّهم لا يفارقون أهل الغواية

٣١٥

حتّى يدخلوا النار، قال تعالى:( وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - إلى أن قال -وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) الزخرف: ٣٩.

قوله تعالى: ( قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ - إلى قوله -إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) الظاهر أنّ القائلين هم الغاوون، و الاختصام واقع بينهم يخاصمون أنفسهم و الشياطين على ما ذكره الله سبحانه في مواضع من كلامه.

و قوله:( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) اعتراف منهم بالضلال، و الخطاب في قوله:( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) للآلهة من الأصنام و هم معهم في النار، أو لهم و للشياطين أو لهما و للمتبوعين و الرؤساء من الغاوين و خير الوجوه أوّلها.

و قوله:( وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) الظاهر أنّ كلّا من القائلين يريد بالمجرمين غيره من إمام ضلال اقتدى به في الدنيا و داع دعاه إلى الشرك فاتّبعه و آباء مشركين قلّدهم فيه و خليل تشبّه به، و المجرمون على ما يستفاد من آيات القيامة هم الّذين ثبت فيهم الاجرام و قضي عليهم بدخول النار قال تعالى:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: ٥٦.

قوله تعالى: ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الحميم على ما ذكره الراغب القريب المشفق.

و هذا الكلام تحسّر منهم على حرمانهم من شفاعة الشافعين و إغاثة الأصدقاء و في التعبير بقوله:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) إشارة إلى وجود شافعين هناك يشفعون بعض المذنبين، و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: فما لنا من شافع إذ لا نكتة تقتضي الجمع، و قد روي أنّهم يقولون ذلك لما يرون الملائكة و الأنبياء و المؤمنين يشفعون.

قوله تعالى: ( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) تمنّ منهم أن يرجعوا إلى الدنيا فيكونوا من المؤمنين حتّى ينالوا ما ناله المؤمنون من السعادة.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) إلى آخر الآيتين أي في قصّة إبراهيم

٣١٦

عليه‌السلام و لزومه عن فطرته الساذجة دين التوحيد و توجيه وجهه نحو ربّ العالمين و تبرّيه من الأصنام و احتجاجه على الوثنيّين و عبدة الأصنام آية لمن تدبّر فيها على أنّ في سائر قصصه من محنه و ابتلاءاته الّتي لم تذكر ههنا كإلقائه في النار و نزول الضيف من الملائكة عليه و قصّة إسكانه إسماعيل و اُمّه بوادي مكّة و بناء الكعبة و ذبح إسماعيل آيات لاُولي الألباب.

و قوله:( وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي و ما كان أكثر قوم إبراهيم مؤمنين و الباقي ظاهر ممّا تقدّم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) قال: هو أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: يحتمل التفسير و الجري.

و في الكافي، بإسناده عن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : و لسان الصدق للمرء يجعله الله في الناس خير من المال يأكله و يورثه. الحديث.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ اغْفِرْ لِأَبِي ) أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله:( وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ليجيئنّ رجل يوم القيامة من المؤمنين آخذاً بيد أب له مشرك حتّى يقطعه النار و يرجو أن يدخله الجنّة فيناديه مناد إنّه لا يدخل الجنّة مشرك فيقول: ربّي أبي و وعدت أن لا تخزيني.

قال: فما يزال متشبّثاً به حتّى يحوّله الله في صورة سيّئة و ريح منتنة في صورة ضبعان فإذا رآه كذلك تبرّأ منه و قال: لست بأبي. قال: فكنّا نرى أنّه يعني إبراهيم و ما سمّى به يومئذ.

و فيه، أخرج البخاريّ و النسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يلقى

٣١٧

إبراهيم أباه آزر يوم القيامة و على وجه آزر قترة و غبرة يقول له إبراهيم: أ لم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك.

فيقول إبراهيم: ربّ إنّك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إنّي حرّمت الجنّة على الكافرين ثمّ يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطّخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار.

أقول: الخبران من أخبار بنوّة إبراهيم لآزر لصلبه و قد مرّ في قصص إبراهيم من سورة الأنعام أنّها مخالفة للكتاب و كلامه تعالى نصّ في خلافه.

و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) قال: السليم الّذي يلقى ربّه و ليس فيه أحد سواه. قال: و كلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط و إنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم إلى الآخرة.

و في المجمع، و روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: هو القلب الّذي سلم من حبّ الدنيا. و يؤيّده قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : في حديث( وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ) جنود إبليس ذرّيّته من الشياطين.

قال: و قولهم:( وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عزّوجلّ فيهم إذ جمعهم إلى النار:( قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) و قوله:( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ) برى‏ء بعضهم من بعض و لعن بعضهم بعضاً يريد بعضهم أن يحجّ بعضاً رجاء الفلج فيفلتوا جميعاً من عظيم ما نزل بهم و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة.

و في الكافي، أيضاً بسندين عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ ) هم قوم وصفوا عدلاً بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره.

٣١٨

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره، و البرقي في المحاسن، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و الظاهر أنّ الرواية كانت واردة في ذيل قوله تعالى:( وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ) لما بعده من قوله تعالى:( وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ) و قد وقع الخطأ في إيرادها في ذيل قوله:( فَكُبْكِبُوا فِيها ) إلخ، و هو ظاهر للمتأمّل.

و في المجمع، و في الخبر المأثور عن جابر بن عبدالله قال سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي؟ و صديقه في الجحيم. فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة فيقول من بقي في النار:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ )

و روي بالإسناد عن حمران بن أعين عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: و الله لنشفعنّ لشيعتنا ثلاث مرّات حتّى يقول الناس:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ - إلى قوله -فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) و في رواية اُخرى حتّى يقول عدوّنا.

و في تفسير القمّيّ:( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: من المهتدين قال: لأنّ الإيمان قد لزمهم بالإقرار.

أقول: مراده أنّهم يؤمنون يومئذ إيمان إيقان لكنّهم يرون أنّ الإيمان يومئذ لا ينفعهم بل الإيمان النافع هو الإيمان في الدنيا فيتمنّون أن يرجعوا إلى الدنيا ليكون ما عنده من الإيمان من إيمان المهتدين و هم المؤمنون حقّاً المهتدون بإيمانهم يوم القيامة و هذا معنى لطيف، و إليه يشير قوله تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) سجدة: ١٣ فلم يقولوا فارجعنا نؤمن و نعمل صالحاً بل قالوا فارجعنا نعمل صالحاً فافهم ذلك.

٣١٩

( سورة الشعراء الآيات ١٠٥ - ١٢٢)

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ( ١٠٥ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٠٦ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٠٧ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٠٨ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٠٩ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١١٠ ) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ( ١١١ ) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١١٢ ) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي  لَوْ تَشْعُرُونَ ( ١١٣ ) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٤ ) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ١١٥ ) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ( ١١٦ ) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ( ١١٧ ) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( ١١٩ ) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ( ١٢٠ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٢١ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٢٢ )

( بيان)

تشير الآيات بعد الفراغ عن قصّتي موسى و إبراهيمعليهما‌السلام و هما من اُولي العزم إلى قصّة نوحعليه‌السلام و هو أوّل اُولي العزم سادة الأنبياء، و إجمال ما جرى بينه و بين قومه فلم يؤمن به أكثرهم فأغرقهم الله و أنجى نوحاً و من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) قال في المفردات: القوم جماعة الرجال في الأصل دون النساء، و لذلك قال:( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ )

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453