الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119412
تحميل: 5571


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119412 / تحميل: 5571
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الآية، قال الشاعر: أ قوم آل حصن أم نساء، و في عامّة القرآن اُريدوا به و النساء جميعاً. انتهى.

و لفظ القوم قيل: مذكّر و تأنيث الفعل المسند إليه بتأويل الجماعة و قيل: مؤنّث و قال في المصباح: يذكّر و يؤنّث.

و عدّ القوم مكذّبين للمرسلين مع أنّهم لم يكذّبوا إلّا واحداً منهم و هو نوحعليه‌السلام إنّما هو من جهة أنّ دعوتهم واحدة و كلمتهم متّفقة على التوحيد فيكون المكذّب للواحد منهم مكذّباً للجميع و لذا عدّ الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفراً بالجميع قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) النساء: ١٥١.

و قيل: هو من قبيل قولهم: فلان يركب الدوابّ و يلبس البرود و ليس له إلّا دابّة واحدة و بردة واحدة فيكون الجمع كناية عن الجنس، و الأوّل أوجه و نظير الوجهين جار في قوله الآتي:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) و غيرهما.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ ) المراد بالأخ النسيب كقولهم: أخو تميم و أخو كليب و الاستفهام للتوبيخ.

قوله تعالى: ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) أي رسول من الله سبحانه أمين على ما حمّلته من الرسالة لا اُبلّغكم إلّا ما أمرني ربّي و أراده منكم، و لذا فرّع عليه قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) فأمرهم بطاعته لأنّ طاعته طاعة الله.

قوله تعالى: ( وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) مسوق لنفي الطمع الدنيويّ بنفي سؤال الأجر فيثبت بذلك أنّه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه لا يخونهم و لا يغشّهم فعليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم، و لذا فرّع عليه ثانياً قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) .

و العدول في قوله:( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) عن اسم الجلالة إلى( رَبِّ الْعالَمِينَ ) للدّلالة على صريح التوحيد فإنّهم كانوا يرون أنّه تعالى إله عالم

٣٢١

الآلهة و كانوا يرون لكلّ عالم إلهاً آخر يعبدونه من دون الله فإثباته تعالى ربّاً للعالمين جميعاً تصريح بتوحيد العبادة و نفي الآلهة من دون الله مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) قد تقدّم وجه تكرار الآية فهو يفيد أنّ كلّا من الأمانة و عدم سؤال الأجر سبب مستقلّ في إيجاب طاعته عليهم.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) الأرذلون جمع أرذل على الصحّة و هو اسم تفضيل من الرذالة و الرذالة الخسّة و الدناءة، و مرادهم بكون متّبعيه أراذل أنّهم ذوو أعمال رذيلة و مشاغل خسيسة و لذا أجابعليه‌السلام عنه بمثل قوله:( وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

و الظاهر أنّهم كانوا يرون الشرف و الكرامة في الأموال و الجموع من البنين و الأتباع كما يستفاد من دعاء نوحعليه‌السلام إذ يقول:( رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) نوح: ٢١. فمرادهم بالأرذلين من يعدّهم الأشراف و المترفون سفلة يتجنّبون معاشرتهم من العبيد و الفقراء و أرباب الحرف الدنيّة.

قوله تعالى: ( قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الضمير لنوحعليه‌السلام ، و( ما ) استفهاميّة و قيل: نافية و عليه فالخبر محذوف لدلالة السياق عليه، و المراد على أيّ حال نفي علمه بأعمالهم قبل إيمانهم به لمكان قوله:( كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) المراد بقوله:( رَبِّي ) ربّ العالمين فإنّه الّذي كان يختصّ نوح بالدعوة إليه من بينهم، و قوله:( لَوْ تَشْعُرُونَ ) مقطوع عن العمل أي لو كان لكم شعور، و قيل: المعنى لو تشعرون بشي‏ء لعلمتم ذلك و هو كما ترى.

و المعنى: بالنظر إلى الحصر الّذي في صدر الآية أنّه لا علم لي بسابق أعمالهم و ليس عليّ حسابهم حتّى أتجسّس و أبحث عن أعمالهم و إنّما حسابهم على ربّي( لَوْ تَشْعُرُونَ ) فيجازيهم حسب أعمالهم.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الآية الثانية

٣٢٢

بمنزلة التعليل للاُولى و المجموع متمّم للبيان السابق و المعنى: لا شأن لي إلّا الإنذار و الدعوة فلست أطرد من أقبل عليّ و آمن بي و لست أتفحّص عن سابق أعمالهم لاُحاسبهم عليها فحسابهم على ربّي و هو ربّ العالمين لا عليّ.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) المراد بالانتهاء ترك الدعوة، و الرجم هو الرمي بالحجارة، و قيل: المراد به الشتم و هو بعيد، و هذا ممّا قالوه في آخر العهد من دعوتهم يهدّدونهعليه‌السلام بقول جازم كما يشهد به ما في الكلام من وجوه التأكيد.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً ) إلخ، هذا استفتاح منهعليه‌السلام و قد قدّم له قوله:( رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) على سبيل التوطئة أي تحقّق منهم التكذيب المطلق الّذي لا مطمع في تصديقهم بعده كما يستفاد من دعائه عليهم إذ يقول:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) نوح: ٢٧.

و قوله:( فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً ) كناية عن القضاء بينه و بين قومه كما قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧.

و أصله من الاستعارة بالكناية كأنّه و أتباعه و الكفّار من قومه اختلطوا و اجتمعوا من غير تميّز فسأل ربّه أن يفتح بينهم بإيجاد فسحة بينه و بين قومه يبتعد بذلك أحد القبيلين من الآخر و ذلك كناية عن نزول العذاب و ليس يُهلك إلّا القوم الفاسقين و الدليل عليه قوله بعد:( وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

و قيل: الفتح بمعنى الحكم و القضاء من الفتاحة بمعنى الحكومة.

قوله تعالى: ( فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) أي المملوء منهم و من كلّ زوجين اثنين كما ذكره في سورة هود.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ ) أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه.

٣٢٣

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم الكلام في معنى الآيتين.

( بحث روائي)

في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسنداً عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث: فمكث نوح ألف سنة إلّا خمسين عامّاً لم يشاركه في نبوّته أحد و لكنّه قدّم على قوم مكذّبين للأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم و ذلك قوله عزّوجلّ:( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) يعني من كان بينه و بين آدم إلى أن انتهى إلى قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )

و قال فيه، أيضاً: فكان بينه و بين آدم عشرة آباء كلّهم أنبياء، و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) قال: الفقراء.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) المجهّز الّذي قد فرغ منه و لم يبق إلّا دفعه.

٣٢٤

( سورة الشعراء الآيات ١٢٣ - ١٤٠)

كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ( ١٢٣ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٢٤ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٢٥ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٢٦ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٢٧ ) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ( ١٢٨ ) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ( ١٢٩ ) وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( ١٣٠ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٣١ ) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ( ١٣٢ ) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ( ١٣٣ ) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٣٤ ) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٣٥ ) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ ( ١٣٦ ) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ( ١٣٧ ) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( ١٣٨ ) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٣٩ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٤٠ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة هودعليه‌السلام و قومه و هو قوم عاد.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) قوم عاد من العرب العاربة الاُولى كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب لهم مدنيّة راقية و أراض خصبة و ديار معمورة فكذّبوا الرسل و كفروا بأنعم الله و أطغوا فأهلكهم الله بالريح العقيم و خرّب ديارهم و عفا آثارهم.

٣٢٥

و عاد فيما يقال اسم أبيهم فتسميتهم بعاد من قبيل تسمية القوم باسم أبيهم كما يقال تميم و بكر و تغلب و يراد بنو تميم و بنو بكر و بنو تغلب.

و قد تقدّم في نظير الآية من قصّة نوح وجه عدّ القوم مكذّبين للمرسلين و لم يكذّبوا ظاهراً إلّا واحداً منهم.

قوله تعالى: ( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) تقدّم الكلام فيها في نظائرها من قصّة نوحعليه‌السلام .

و ذكر بعض المفسّرين أنّ تصدير هذه القصص الخمس بذكر أمانة الرسل و عدم سؤالهم أجراً على رسالتهم و أمرهم الناس بالتقوى و الطاعة للتنبيه على أنّ مبني البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحقّ و الطاعة فيما يقرّب المدعوّ من الثواب و يبعّده من العقاب و أنّ الأنبياءعليهم‌السلام مجتمعون على ذلك و إن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة و الأعصار، و أنّهم منزّهون عن المطامع الدنيويّة بالكلّيّة انتهى.

و نظيره الكلام في ختم جميع القصص السبع الموردة في السورة بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ففيه دلالة على أنّ أكثر الاُمم و الأقوام معرضون عن آيات الله، و أنّ الله سبحانه عزيز يجازيهم على تكذيبهم رحيم ينجي المؤمنين برحمته، و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على غرض السورة.

قوله تعالى: ( أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) الريع هو المرتفع من الأرض و الآية العلامة و العبث الفعل الّذي لا غاية له، و كأنّهم كانوا يبنون على قلل الجبال و كلّ مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزّهون فيها و يفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك بل لهواً و اتّباعاً للهوى فوبّخهم عليه.

و قد ذكر للآية معان اُخر لا دليل عليها من جهة اللفظ و لا ملاءمة للسياق أضربنا عنها.

قوله تعالى: ( وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) ، المصانع على ما قيل:

٣٢٦

الحصون المنيعة و القصور المشيدة و الأبنية العالية واحدها مصنع.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) في مقام التعليل لما قبله أي تتّخذون هذه المصانع بسبب أنّكم ترجون الخلود و لو لا رجاء الخلود ما عملتم مثل هذه الأعمال الّتي من طبعها أن تدوم دهراً طويلاً لا يفي به أطول الأعمار الإنسانيّة، و قيل في معنى الآية و مفرداتها وجوه اُخرى أغمضنا عنها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) قال في المجمع: البطش العسف قتلاً بالسيف و ضرباً بالسوط، و الجبّار العالي على غيره بعظيم سلطانه. و هو في صفة الله سبحانه مدح و في صفة غيره ذمّ لأنّ معناه في العبد أنّه يتكلّف الجبريّة. انتهى.

فالمعنى: و إذا أظهرتم شدّة في العمل و بأساً بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدّة.

و محصّل الآيات الثلاث أنّكم مسرفون في جانبي الشهوة و الغضب متعدّون حدّ الاعتدال خارجون عن طور العبوديّة.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة و الغضب و خروجهم عن طور العبوديّة فليتّقوا الله و ليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الإتراف و الاستكبار.

قوله تعالى: ( وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ عُيُونٍ ) قال الراغب: أصل المدّ الجرّ، قال: و أمددت الجيش بمدود و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه، قال تعالى:( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) انتهى ملخّصاً.

و قوله:( وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ ) إلخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلّيّة أي اتّقوا الله الّذي يمدّكم بنعمه لأنّه يمدّكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف و استكبار فإنّ كفران النعمة يستعقب السخط و العذاب قال تعالى:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧.

٣٢٧

و قد ذكر النعم إجمالاً بقوله أوّلاً:( أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ) ثمّ فصّلها بقوله ثانياً:( أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) .

و في قوله:( أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ) نكتة اُخرى هي أنّكم تعلمون أنّ هذه النعم من إمداده تعالى و صنعه لا يشاركه في إيجادها و الإمداد بها غيره فهو الّذي يجب لكم أن تتّقوه بالشكر و العبادة دون الأوثان و الأصنام فالكلام متضمّن للحجّة.

قوله تعالى: ( إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) تعليل للأمر بالتقوى أي إنّي آمركم بالتقوى شكراً لأنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن تكفروا و لم تشكروا، و الظاهر أنّ المراد باليوم العظيم يوم القيامة و إن جوّز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ( قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ) نفي لأثر كلامه و إياس له من إيمانهم بالكلّيّة.

قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أ وعظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله:( أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ) النافي لأصل كونه واعظاً ما لا يخفى من المبالغة.

قوله تعالى: ( إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) الخلق بضمّ الخاء و اللّام أو سكونها قال الراغب: الخلق و الخلق - أي بفتح الخاء و ضمّها - في الأصل واحد كالشَّرب و الشُرب و الصَّرم و الصُرم لكن خصّ الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خصّ الخلق - بضمّ الخاء - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى:( إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و قرئ( إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) انتهى.

و الإشارة بهذا إلى ما جاء به هود و قد سمّوه وعظاً و المعنى: ليس ما تلبّست به من الدعوة إلى التوحيد و الموعظة إلّا عادة البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير و الخرافات، و هذا كقولهم:( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

و يمكن أن تكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك و عبادة الآلهة من

٣٢٨

دون الله اقتداء بآبائهم الأوّلين كقولهم:( وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

و احتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلّا خلق الأوّلين نحيا كما حيّوا و نموت كما ماتوا و لا بعث و لا حساب و لا عذاب. و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هودعليه‌السلام يوم القيامة.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الرَّحِيمُ ) معناه ظاهر ممّا تقدّم.

( بحث روائي)

في كتاب كمال الدين، و روضة الكافي، مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقرعليه‌السلام في حديث: و قال نوح إنّ الله تبارك و تعالى باعث نبيّاً يقال له هود و إنّه يدعو قومه إلى الله عزّوجلّ فيكذّبونه و إنّ الله عزّوجلّ يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به و ليتّبعه فإنّ الله تبارك و تعالى ينجيه من عذاب الريح.

و أمر نوح ابنه سام أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة و يكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود و زمانه الّذي يخرج فيه.

فلمّا بعث الله تبارك و تعالى هوداً نظروا فيما عندهم من العلم و الإيمان و ميراث العلم و الاسم الأكبر و آثار علم النبوّة فوجدوا هوداً نبيّاً و قد بشّرهم أبوهم نوح به فآمنوا به و صدّقوه و اتّبعوه فنجوا من عذاب الريح، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ إِلى‏ عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) و قوله:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ )

و في المجمع في قوله تعالى:( آيَةً تَعْبَثُونَ ) أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم و إنّما تريدون العبث بذلك و اللعب و اللهو كأنّه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثاً منهم عن ابن عبّاس في رواية عطاء، و يؤيّده‏ الخبر المأثور عن أنس بن مالك أنّ

٣٢٩

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فرأى قبّة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار فمكث حتّى إذا جاء صاحبها فسلّم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مراراً حتّى عرف الرجل الغضب به و الإعراض عنه.

فشكا ذلك إلى أصحابه و قال: و الله إنّي لاُنكر نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أدري ما حدث فيّ و ما صنعت؟ قالوا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى قبّتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبّته فسوّاها بالأرض فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم فلم ير القبّة فقال: ما فعلت القبّة الّتي كانت ههنا؟ قالوا: شكي إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها.

فقال: إنّ كلّ ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا ما لا بدّ منه.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

٣٣٠

( سورة الشعراء الآيات ١٤١ - ١٥٩)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ( ١٤١ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٤٢ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٤٣ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٤٤ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٤٥ ) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ ( ١٤٦ ) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ١٤٧ ) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ( ١٤٨ ) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ( ١٤٩ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٥٠ ) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ( ١٥١ ) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ( ١٥٢ ) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( ١٥٣ ) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٥٤ ) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( ١٥٥ ) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥٦ ) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ( ١٥٧ ) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٥٨ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٥٩ )

( بيان)

تشير الآيات إلى إجمال قصّة صالحعليه‌السلام و قومه و هو من أنبياء العرب و يذكر في القرآن بعد هودعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -عَلى‏ رَبِّ الْعالَمِينَ ) قد اتّضح معناها ممّا تقدّم.

٣٣١

قوله تعالى: ( أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ ) الظاهر أنّ الاستفهام للإنكار و( ما ) موصولة و المراد بها النعم الّتي يفصّلها بعد قوله:( فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) إلخ، و( هاهُنا ) إشارة إلى المكان الحاضر القريب و هو أرض ثمود و( آمِنِينَ ) حال من نائب فاعل( تُتْرَكُونَ ) .

و المعنى: لا تتركون في هذه النعم الّتي أحاطت بكم في أرضكم هذه و أنتم مطلقو العنان لا تسألون عمّا تفعلون آمنون من أيّ مؤاخذة إلهيّة.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ) بيان تفصيليّ لقوله:( فِي ما هاهُنا ) ، و قد خصّ النخل بالذكر مع دخوله في الجنّات لاهتمامهم به، و الطلع في النخل كالنور في سائر الأشجار و الهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضمّ بعضه إلى بعض.

قوله تعالى: ( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ) قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الأشر، و قوله تعالى:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ ) أي حاذقين و قيل: معناه أشرين. انتهى ملخصا، و على ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، و على المعنى الآخر تكون مسوقة لإنكار أشرهم و بطرهم. و الآية على أيّ حال في حيّز الاستفهام.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) تفريع على ما تقدّم من الإنكار الّذي في معنى المنفي.

قوله تعالى: ( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته و إن جوّز بعضهم كون الأمر بمعنى الشأن و عليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامّة و اتّباعهم لهم في أعمالهم و سلوكهم السبل الّتي يستحبّون لهم سلوكها.

و المراد بالمسرفين على أيّ حال أشراف القوم و عظماؤهم المتبوعون و الخطاب للعامّة التابعين لهم و أما السادة الأشراف فقد كانوا مأيوساً من إيمانهم و اتّباعهم للحقّ.

٣٣٢

و يمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أنّ الأشراف منهم أيضاً كانوا يقلّدون آباءهم و يطيعون أمرهم كما قالوا لصالحعليه‌السلام :( أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ) هود: ٦٢، فقد كانوا جميعاً يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.

و قد فسّر المسرفين و هم المتعدّون عن الحقّ الخارجون عن حدّ الاعتدال بتوصيفهم بقوله:( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ ) إشارة إلى علّة الحكم الحقيقيّة فالمعنى اتّقوا الله و لا تطيعوا أمر المسرفين لأنّهم مفسدون في الأرض غير مصلحين و الإفساد لا يؤمن معه العذاب الإلهيّ و هو عزيز ذو انتقام.

و ذلك أنّ الكون على ما بين أجزائه من التضادّ و التزاحم مؤلّف تأليفاً خاصّاً يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج و الآثار كالأمر في كفّتي الميزان فإنّهما على اضطرابها و اختلافها الشديد بالارتفاع و الانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون و هو الغاية و العالم الإنسانيّ الّذي هو جزء من الكون كذلك ثمّ الفرد من الإنسان بما له من القوى و الأدوات المختلفة المتضادّة مفطور على تعديل أفعاله و أعماله بحيث تنال كلّ قوّة من قواه حظّها المقدّر لها و قد جهّز بعقل يميّز بين الخير و الشرّ و يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.

فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة و هو بما بين أجزائه من الارتباط التامّ يخطّ لكلّ من أجزائه سبيلاً خاصّاً يسير فيها بأعمال خاصّة من غير أن يميل عن حاقّ وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإنّ في الميل و الانحراف إفساداً للنظام المرسوم، و يتبعه إفساد غايته و غاية الكلّ، و من الضروريّ أنّ خروج بعض الأجزاء عن خطّه المخطوط له و إفساد النظم المفروض له و لغيره يستعقب منازعة بقية الأجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه و تردّه إلى وسط الاعتدال فهو و إلّا أفنته و عفت آثاره حفظاً لصلاح الكون و استبقاء لقوامه.

و الإنسان الّذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلّيّة فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدّرة له و إن تعدّى حدود فطرته

٣٣٣

و أفسد في الأرض أخذه الله سبحانه بالسنين و المثلات و أنواع النكال و النقمة لعلّه يرجع إلى الصلاح و السداد قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٤١.

و إن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال و طهر الأرض من قذارة فسادهم قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦. و قال:( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) هود: ١١٧، و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥، و ذلك أنّهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم و إذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العامّ و صلحت بها الأرض لحياتهم الأرضيّة.

فقد تبيّن بما مرّ أوّلاً أنّ حقيقة دعوة النبوّة هي إصلاح الحياة الإنسانيّة الأرضيّة قال تعالى: حكاية عن شعيب:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) هود: ٨٨.

و ثانياً: أنّ قوله:( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ ) إلخ، على سذاجة بيانه معتمد على حجّة برهانيّة.

و لعلّ في قوله:( وَ لا يُصْلِحُونَ ) بعد قوله:( الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى أنّه كان المتوقّع منهم بما أنّهم بشر ذوو فطرة إنسانيّة أن يصلحوا في الأرض لكنّهم انحرفوا عن الفطرة و بدّلوا الإصلاح إفساداً.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) أي ممّن سحر مرّة بعد مرّة حتّى غلب على عقله، و قيل: إنّ السحر أعلى البطن و المسحّر من له جوف فيكون كناية عن أنّك بشر مثلنا تأكل و تشرب فيكون قوله بعده:( ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) تأكيداً له، و قيل: المسحّر من له سحر أي رئة كأنّ مرادهم أنّك متنفّس بشر مثلنا.

قوله تعالى: ( ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا - إلى قوله -عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الشرب

٣٣٤

بكسر الشين النصيب من الماء، و الباقي ظاهر و قد تقدّمت تفصيل القصّة في سورة هود.

قوله تعالى: ( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) نسبة العقر إلى الجمع - و لم يعقرها إلّا واحد منهم - لرضاهم بفعله، و في نهج البلاغة،: أيّها الناس إنّما يجمع الناس الرضي و السخط و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا فقال سبحانه:( فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) .

و قوله:( فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ) لعلّ ندمهم إنّما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب و إن قالوا له بعد العقر تعجيزاً و استهزاء:( يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٧٧.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإنّ صالحاً وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيّام كما في سورة هود، و الباقي ظاهر.

٣٣٥

( سورة الشعراء الآيات ١٦٠ - ١٧٥)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ( ١٦٠ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٦١ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٦٢ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٦٣ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٤ ) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( ١٦٥ ) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ( ١٦٦ ) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ( ١٦٧ ) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ( ١٦٨ ) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٦٩ ) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( ١٧٠ ) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( ١٧١ ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ( ١٧٢ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا  فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ( ١٧٣ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧٤ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٧٥ )

( بيان)

تشير الآيات إلى قصّة لوط النبيّعليه‌السلام و هو بعد صالحعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: ( أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ) الاستفهام للإنكار و التوبيخ و الذكران جمع ذكر مقابل الاُنثى و إتيانهم كناية عن اللواط و قد كان شاع فيما بينهم، و العالمين جمع عالم و هو الجماعة من الناس.

٣٣٦

و قوله:( مِنَ الْعالَمِينَ ) يمكن أن يكون متّصلاً بضمير الفاعل في( تَأْتُونَ ) و المراد أ تأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر:( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) الأعراف: ٨٠، العنكبوت: ٢٨.

و يمكن أن يكون متّصلاً بقوله:( الذُّكْرانَ ) و المعنى على هذا أ تنكحون من بين العالمين على كثرتهم و اشتمالهم على النساء الرجال فقط؟.

قوله تعالى: ( وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) إلخ( تَذَرُونَ ) بمعنى تتركون و لا ماضي له من مادّته.

و المتأمّل في خلق الإنسان و انقسام أفراده إلى صنفي الذكر و الاُنثى و ما جهّز به كلّ من الصنفين من الأعضاء و الأدوات و ما يختصّ به من الخلقة لا يرتاب في أنّ غرض الصنع و الإيجاد من هذا التصوير المختلف و إلقاء غريزة الشهوة في القبيلين و تفريق أمرهما بالفعل و الانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسّل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتّى حين.

فالرجل من الإنسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله و المرأة من الإنسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها و ما يختصّ به الرجل في خلقته للمرأة و ما بختصّ به المرأة في خلقتها للرجل و هذه هي الزوجيّة الطبيعيّة الّتي عقدها الصنع و الإيجاد بين الرجل و المرأة من الإنسان فجعلهما زوجين.

ثمّ الأغراض و الغايات الاجتماعيّة أو الدينيّة سنّت بين الناس سنّة النكاح الاجتماعيّ الاعتباريّ الّذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين و قسم من التحديد للزوجيّة الطبيعيّة المذكورة فالفطرة الإنسانيّة و الخلقة الخاصّة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال و ازدواج النساء بالرجال دون النساء، و أنّ الازدواج مبنيّ على أصل التوالد و التناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة.

و من هنا يظهر أنّ الأقرب أن يكون المراد بقوله:( ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ )

٣٣٧

العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج و اللّام للملك الطبيعيّ، و أنّ( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَزْواجِكُمْ ) للتبعيض و الزوجيّة هي الزوجيّة الطبيعيّة و إن أمكن أن يراد بها الزوجيّة الاجتماعيّة الاعتباريّة بوجه.

و أمّا تجويز بعضهم أن يراد بلفظة( ما ) النساء و يكون قوله:( مِنْ أَزْواجِكُمْ ) بياناً له فبعيد.

و قوله:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ) أي متجاوزون خارجون عن الحدّ الّذي خطّته لكم الفطرة و الخلقة فهو في معنى قوله:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) العنكبوت: ٢٩.

و قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ كلامهعليه‌السلام مبنيّ على حجّة برهانيّة اُشير إليها.

قوله تعالى: ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ) أي المبعّدين المنفيّين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر:( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ) .

قوله تعالى: ( قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ) المراد بعملهم - على ما يعطيه السياق - إتيان الذكران و ترك الإناث. و القالي المبغض، و مقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرّض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أنّي لا أخاف الخروج من قريتكم و لا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، و لذا أتبعه بقوله:( رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ) أي من أصل عملهم الّذي يأتون به بمرأى و مسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم و العذاب الّذي سيتبعه لا محالة.

و إنّما لم يذكر إلّا نفسه و أهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال

٣٣٨

تعالى في ذلك:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الذاريات: ٣٦.

قوله تعالى: ( فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إلى قوله الْآخَرِينَ ) الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، و التدمير الإهلاك، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ) إلخ، و هو السجّيل كما قال تعالى:( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) الحجر: ٧٤.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلى قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره.

٣٣٩

( سورة الشعراء الآيات ١٧٦ - ١٩١)

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ( ١٧٦ ) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٧٧ ) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٧٨ ) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ( ١٧٩ ) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٨٠ ) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ( ١٨١ ) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( ١٨٢ ) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ١٨٣ ) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ( ١٨٤ ) قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( ١٨٥ ) وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ١٨٦ ) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ١٨٧ ) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨٨ ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ  إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٨٩ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً  وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٩٠ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ١٩١ )

( بيان)

إجمال قصّة شعيبعليه‌السلام و هو من أنبياء العرب، و هي آخر القصص السبع الموردة في السورة.

قوله تعالى: ( كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -رَبِّ الْعالَمِينَ ) الأيكة الغيضة الملتفّ شجرها. قيل: إنّها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة

٣٤٠