الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124140 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

و كانوا ممّن بعث إليهم شعيبعليه‌السلام ، و كان أجنبيّاً منهم و لذلك قيل:( إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ) و لم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود و صالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما و كذا لوط فقد كان نسيباً إلى قومه بالمصاهرة و لذا عبّر عنهم بقوله:( أَخُوهُمْ هُودٌ ) ( أَخُوهُمْ صالِحٌ ) ( أَخُوهُمْ لُوطٌ ) .

و قد تقدّم تفسير باقي الآيات.

قوله تعالى: ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) الكيل ما يقدّر به المتاع من جهة حجمه و إيفاؤه أن لا ينقص الحجم، و القسطاس الميزان الّذي يقدّر به من جهة وزنه و استقامته أن يزن بالعدل، و الآيتان تأمران بالعدل في الأخذ و الإعطاء بالكيل و الوزن.

قوله تعالى: ( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) البخس النقص في الوزن و التقدير كما أنّ الإخسار النقص في رأس المال.

و ظاهر السياق أنّ قوله:( وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) أي سلعهم و أمتعتهم قيد متمّم لقوله:( وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) كما أنّ قوله:( وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) قيد متمّم لقوله:( أَوْفُوا الْكَيْلَ ) و قوله:( وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) تأكيد للنهيين جميعاً أعني قوله:( لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) و قوله:( لا تَبْخَسُوا ) و بيان لتبعة التطفيف السيّئة المشومة.

و قوله:( وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) العثيّ و العَيث الإفساد، فقوله:( مُفْسِدِينَ ) حال مؤكّد و قد تقدّم في قصّة شعيب من سورة هود و في قوله:( وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) الآية ٣٥ من سورة الإسراء كلام في كيفيّة إفساد التطفيف المجتمع الإنسانيّ، فراجع.

قوله تعالى: ( وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ) قال في المجمع: الجبلّة الخليقة الّتي طبع عليها الشي‏ء. انتهى. فالمراد بالجبلّة ذوو الجبلّة أي اتّقوا الله الّذي خلقكم و آباءكم الأوّلين الّذين فطرهم و قرّر في جبلّتهم تقبيح الفساد و الاعتراف بشؤمه.

٣٤١

و لعلّ هذا الّذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلّة بالذكر، و في الآية على أيّ حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنّهم لم يكونوا يتّقون الخالق الّذي هو ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ - إلى قوله -وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ) تقدّم تفسير الصدر، و:( إِنْ ) في قوله:( إِنْ نَظُنُّكَ ) مخفّفة من الثقيلة.

قوله تعالى: ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) إلخ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة و هي القطعة، و الأمر مبنيّ على التعجيز و الاستهزاء.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ ) جواب شعيب عن قولهم و اقتراحهم منه إتيان العذاب، و هو كناية عن أنّه ليس له من الأمر شي‏ء و إنّما الأمر إلى الله لأنّه أعلم بما يعملون و أنّ عملهم هل يستوجب عذاباً؟ و ما هو العذاب الّذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه:( إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ) الأحقاف: ٢٣.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) إلخ، يوم الظلّة يوم عذّب فيه قوم شعيب بظلّة من الغمام، و قد تقدّم تفصيل قصّتهم في سورة هود.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً - إلى قوله -الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسيره.

( بحث روائي)

في جوامع الجامع في قوله تعالى:( إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ) و في الحديث أنّ شعيباً أخا مدين اُرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ) قال: الخلق الأوّلين، و قوله:( فَكَذَّبُوهُ ) قال: قوم شعيب( فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ) قال: يوم حرّ و سمائم.

٣٤٢

( سورة الشعراء الآيات ١٩٢ - ٢٢٧)

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٩٢ ) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ( ١٩٣ ) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ١٩٤ ) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ( ١٩٥ ) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ( ١٩٦ ) أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ١٩٧ ) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَىٰ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ( ١٩٨ ) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١٩٩ ) كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( ٢٠٠ ) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( ٢٠١ ) فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٢٠٢ ) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ ( ٢٠٣ ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ٢٠٤ ) أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ( ٢٠٥ ) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ( ٢٠٦ ) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ( ٢٠٧ ) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ ( ٢٠٨ ) ذِكْرَىٰ وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٢٠٩ ) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ( ٢١٠ ) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ( ٢١١ ) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ( ٢١٢ ) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( ٢١٣ ) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ( ٢١٤ ) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢١٥ ) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( ٢١٦ ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( ٢١٧ ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ( ٢١٨ ) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( ٢١٩ ) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٢٢٠ ) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن

٣٤٣

تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ( ٢٢١ ) تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( ٢٢٢ ) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ( ٢٢٣ ) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ( ٢٢٤ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ( ٢٢٥ ) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ( ٢٢٦ ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا  وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ( ٢٢٧ )

( بيان)

تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة و يتضمّن التوبيخ و التهديد لكفّار الاُمّة.

و فيها دفاع عن نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الأوّلين و علم علماء بني إسرائيل به، و دفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنّه ليس من إلقاءات الشياطين و لا من أقاويل الشعراء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الضمير للقرآن، و فيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) و تعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك:( وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا ) الآية.

و التنزيل و الإنزال بمعنى واحد، غير أنّ الغالب على باب الإفعال الدفعة و على باب التفعيل التدريج، و أصل النزول في الأجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه و في غير الأجسام بما يناسبه.

و تنزيله تعالى إخراجه الشي‏ء من عنده إلى موطن الخلق و التقدير و قد سمّى نفسه بالعليّ العظيم و الكبير المتعال و رفيع الدرجات و القاهر فوق عباده

٣٤٤

فيكون خروج الشي‏ء بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق و التقدير - و إن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلاً منه تعالى له.

و قد استعمل الإنزال و التنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى:( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) الأعراف: ٢٦، و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) الحديد: ٢٥، و قوله:( ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) البقرة: ١٠٥، و قد أطلق القول في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١.

و من الآيات الدالّة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و قد اُضيف التنزيل إلى ربّ العالمين للدلالة على توحيد الربّ تعالى لما تكرّر مراراً أنّ المشركين إنّما كانوا يعترفون به تعالى بما أنّه ربّ الأرباب و لا يرون أنّه ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) المراد بالروح الأمين هو جبرئيل ملك الوحي بدليل قوله:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) البقرة: ٩٧ و قد سمّاه في موضع آخر بروح القدس:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) النحل: ١٠٢، و قد تقدّم في تفسير سورتي النحل و الإسراء ما يتعلّق بمعنى الروح من الكلام.

و قد وصف الروح بالأمين للدلالة على أنّه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يغيّر شيئاً من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أنّ توصيفه في آية اُخرى بالقدس يشير إلى ذلك.

و قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ) الباء للتعدية أي نزّله الروح الأمين و أمّا قول

٣٤٥

من قال: إنّ الباء للمصاحبة و المعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لأنّ العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.

و الضمير في( نَزَلَ بِهِ ) للقرآن بما أنّه كلام مؤلّف من ألفاظ لها معانيها الحقّة فإنّ ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أنّ معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة: ١٨، و قوله:( تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ) آل عمران: ١٠٨، الجاثية: ٦، إلى غير ذلك.

فلا يعبؤ بقول من قال: إنّ الّذي نزل به الروح الأمين إنّما هو معاني القرآن الكريم ثمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعبّر عنها بما يطابقها و يحكيها من الألفاظ بلسان عربيّ.

و أسخف منه قول من قال: إنّ القرآن بلفظه و معناه من منشئات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمّى الروح الأمين إلى مرتبة منها تسمّى القلب.

و المراد بالقلب المنسوب إليه الإدراك و الشعور في كلامه تعالى هو النفس الإنسانيّة الّتي لها الإدراك و إليها تنتهي أنواع الشعور و الإرادة دون اللحم الصنوبريّ المعلّق عن يسار الصدر الّذي هو أحد الأعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله:( وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) الأحزاب: ١٠، أي الأرواح، و قوله:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة: ٢٨٣، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الإثم إلى العضو الخاصّ.

و لعلّ الوجه في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) دون أن يقول: عليك هو الإشارة إلى كيفيّة تلقّيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن النازل عليه، و أنّ الّذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة الّتي هي الأدوات المستعملة في إدراك الاُمور الجزئيّة.

فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى و يسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاسّتي البصر و السمع كما روي أنّه كان يأخذه شبه إغماء يسمّى برجاء الوحي.

فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى الشخص و يسمع الصوت مثل ما نرى الشخص و نسمع الصوت

٣٤٦

غير أنّه ما كان يستخدم حاسّتي بصره و سمعه المادّيّتين في ذلك كما نستخدمهما.

و لو كان رؤيته و سمعه بالبصر و السمع المادّيّين لكان ما يجده مشتركاً بينه و بين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه و يسمعون ما يسمعه و النقل القطعيّ يكذّب ذلك فكثيراً ما كان يأخذه برجاء الوحي و هو بين الناس فيوحى إليه و من حوله لا يشعرون بشي‏ء و لا يشاهدون شخصاً يكلّمه و لا كلاماً يلقى إليه.

و القول بأنّ من الجائز أن يصرف الله تعالى حواسّ غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسّه و هي الاُمور الغيبيّة المستورة عنّا.

هدم لبنيان التصديق العلميّ إذ لو جاز مثل هذا الخطإ العظيم على الحواسّ و هي مفتاح العلوم الضروريّة و التصديقات البديهيّة و غيرها لم يبق وثوق على شي‏ء من العلوم و التصديقات.

على أنّ هذا الكلام مبنيّ على أصالة الحسّ و أن لا وجود إلّا لمحسوس و هو من أفحش الخطإ و قد تقدّم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثّل الملك نافع في المقام.

و ربّما قيل في وجه تخصيص القلب بالإنزال أنّه لكونه هو المدرك المكلّف دون الجسد و إن كان يتلقّى الوحي بتوسيط الأدوات البدنيّة من السمع و البصر، و قد عرفت ما فيه.

و ربّما قيل: لما كان للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهتان: جهة ملكيّة يستفيض بها، و جهة بشريّة يفيض بها، جعل الإنزال على روحه لأنّها المتّصفة بالصفات الملكيّة الّتي يستفيض بها من الروح الأمين، و للإشارة إلى ذلك قيل.( عَلى‏ قَلْبِكَ ) و لم يقل: عليك مع كونه أخصر. انتهى.

و هذا أيضاً مبنيّ على مشاركة الحواسّ و القوى البدنيّة في تلقّي الوحي فيرد عليه ما قدّمناه.

و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد بالقلب هو العضو الخاصّ البدنيّ و أنّ الإدراك كيفما كان من خواصّه.

٣٤٧

فمنهم من قال: إنّ جعل القلب متعلّق الإنزال مبنيّ على التوسّع لأنّ الله تعالى يُسمع القرآن جبرئيل بخلق الصوت فيحفظه و ينزل به على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يقرؤه عليه فيعيه و يحفظه بقلبه فكأنّه نزل به على قلبه.

و منهم من قال: إنّ تخصيص القلب بالإنزال لأنّ المعاني الروحانيّة تنزل أوّلاً على الروح ثمّ تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلّق ثمّ تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيّلة.

و منهم من قال: إنّ تخصيصه به للإشارة إلى كمال تعقّلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يعتبر الوسائط من سمع و بصر و غيرهما.

و منهم من قال: إنّ ذلك للإشارة إلى صلاح قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تقدّسه حيث كان منزلاً لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه و أعضائه فإنّ القلب رئيس سائر الأعضاء و ملكها و إذا صلح الملك صلحت رعيّته.

و منهم من قال: إنّ ذلك لأنّ الله تعالى جعل لقلب رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعاً و بصراً مخصوصين يسمع و يبصر بهما تمييزاً لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏ ) النجم: ١١.

و هذه الوجوه مضافاً على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنيّة على قياس هذه الاُمور الغيبيّة على ما عندنا من الحوادث المادّيّة و إجراء حكمها فيها و قد بلغ من تعسّف بعضهم أن قال: إنّ معنى إنزال الملك القرآن أنّ الله ألهمه كلامه و هو في السماء و علّمه قراءته ثمّ الملك أداه في الأرض و هو يهبط في المكان و في ذلك طريقتان: إحداهما أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انخلع من صورة البشريّة إلى صورة الملكيّة فأخذه من الملك، و ثانيتهما أنّ الملك انخلع إلى صورة البشريّة حتّى يأخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الاُولى أصعب الحالين. انتهى.

و ليت شعري ما الّذي تصوّره من انخلاع الإنسان من صورته إلى صورة الملكيّة و صيرورته ملكاً ثمّ عوده إنساناً و من انخلاع الملك إلى صورة الإنسانيّة

٣٤٨

و قد فرض لكلّ منهما هويّة مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما و الآخر ذاتاً و أثراً و في كلامه مواضع اُخرى للنظر غير خفيّة على من تأمّل فيه.

و للبحث تتمّة لعلّ الله سبحانه يوفّقنا لاستيفائها بإيراد كلام جامع في الملك و آخر في الوحي.

و قوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) أي من الداعين إلى الله سبحانه بالتخويف من عذابه و هو المراد بالإنذار في عرف القرآن دون النبيّ أو الرسول بالخصوص، قال تعالى في مؤمني الجنّ:( وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ) الأحقاف: ٢٩، و قال في المتفقّهين من المؤمنين:( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) براءة: ١٢٢.

و إنّما ذكر إنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية لإنزال القرآن دون نبوّته أو رسالته لأنّ سياق آيات السورة سياق التخويف و التهديد.

و قوله( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أي ظاهر في عربيّته أو مبيّن للمقاصد تمام البيان و الجارّ و المجرور متعلّق بنزل أي أنزله بلسان عربيّ مبين.

و جوّز بعضهم أن يكون متعلّقاً بقوله:( الْمُنْذِرِينَ ) و المعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الأنبياء من العرب و قد ذكر منهم في القرآن هود و صالح و إسماعيل و شعيبعليهم‌السلام و أوّل الوجهين أحسنهما.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) الضمير للقرآن أو نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الزبر جمع زبور و هو الكتاب و المعنى و إنّ خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الأنبياء.

و قيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلّيّة أي إنّ المعارف القرآنيّة موجودة مذكورة في كتب الأنبياء الماضين.

و فيه أوّلاً: أنّ المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء و كتبهم حتّى يحتجّ عليهم بما فيها من التوحيد و المعاد و غيرهما، و هذا بخلاف ذكر خبر القرآن

٣٤٩

و نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب الأوّلين فإنّه حينئذ يكون ملحمة تضطرّ النفوس إلى قبولها.

و ثانياً: أنّه لا يلائم الآية التالية.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) ضمير( أَنْ يَعْلَمَهُ ) لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي أ و لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الأنبياء الماضين آية للمشركين على صحّة نبوّتك و كانت اليهود تبشّر بذلك و تستفتح على العرب به كما مرّ في قوله تعالى:( وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) البقرة: ٨٩.

و قد أسلم عدّة من علماء اليهود في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اعترفوا بأنّه مبشّر به في كتبهم، و السورة من أوائل السور المكّيّة النازلة قبل الهجرة و لم تبلغ عداوة اليهود للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغها بعد الهجرة و كان من المرجوّ أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحقّ و لو بوجه كلّيّ.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) قال في المفردات: العجمة خلاف الإبانة و الإعجام الإبهام - إلى أن قال - و العجم خلاف العرب و العجميّ منسوب إليهم، و الأعجم من في لسانه عجمة عربيّاً كان أو غير عربيّ اعتباراً بقلّة فهمهم عن العجم، و منه قيل للبهيمة عجماء و الأعجميّ منسوب إليه قوله تعالى:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) على حذف الياءات انتهى.

و مقتضى ما ذكره - كما ترى - أنّ أصل الأعجمين الأعجميّين ثمّ حذفت ياء النسبة و به صرّح بعض آخر، و ذكر بعضهم أنّ الوجه أنّ أعجم مؤنّثه عجماء و أفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكنّ الكوفييّن من النحاة يجوّزون ذلك و ظاهر اللفظ يؤيّد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

و كيف كان فظاهر السياق اتّصال الآيتين بقوله:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )

٣٥٠

فتكونان في مقام التعليل له و يكون المعنى: نزّلناه عليك بلسان عربيّ ظاهر العربيّة واضح الدلالة ليؤمنوا به و لا يتعلّلوا بعدم فهمهم مقاصده و لو نزّلناه على بعض الأعجمين بلسان أعجميّ ما كانوا به مؤمنين و ردّوه بعدم فهم مقاصده.

فيكون المراد بنزوله على بعض الأعجمين نزوله أعجميّاً و بلسانه، و الآيتان و الّتي بعدهما في معنى قوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) حم السجدة: ٤٤.

و قال بعضهم: إنّ المعنى و لو نزّلناه قرآناً عربيّاً كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الّذين لا يقدرون على التكلّم بالعربيّة فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم و شدّة شكيمتهم في المكابرة.

قال: و أمّا قول بعضهم: إنّ المعنى و لو نزّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة و العناد. انتهى ملخّصاً.

و فيه أنّ اتّصال الآيتين بقوله:( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أقرب إليهما من اتّصالهما بسياق تمادي الكفّار في كفرهم و جحودهم و قد عرفت توضيحه.

و يمكن أن يورد على الوجه السابق أنّ الضمير في قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ) راجع إلى هذا القرآن الّذي هو عربيّ فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجميّ لكان المعنى و لو نزّلنا العربيّ غير عربيّ و لا محصّل له.

و يردّه أنّه من قبيل قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف: ٣، و لا معنى لقولنا: إنّا جعلنا العربيّ عربيّاً فالمراد بالقرآن على أيّ حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى الحال الّتي عليها القرآن عند المشركين و قد ذكرت في الآيات السابقة و هي أنّهم

٣٥١

معرضون عنه لا يؤمنون به و إن كان تنزيلاً من ربّ العالمين و كان عربيّاً مبيّناً غير أعجميّ و كان مذكوراً في زبر الأوّلين يعلمه علماء بني إسرائيل.

و السلوك الإدخال في الطريق و الإمرار، و المراد بالمجرمين هم الكفّار و المشركون و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علّة الحكم و هو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة و المنفورة و أنّ ذلك مجازاة إلهيّة جازاهم بها عن إجرامهم و ليعمّ الحكم بعموم العلّة.

و المعنى على هذه الحال - و هي أن يكون بحيث يعرض عنه و لا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين و نمرّه في نفوسهم جزاء لإجرامهم و كذلك كلّ مجرم.

و قيل: الإشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة و المعنى: ندخل القرآن و نمرّه في قلوب المجرمين بمثل ما بيّنّا له الأوصاف فيرون أنّه كتاب سماويّ ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر و أنّه مبشّر به في زبر الأوّلين يعلمه علماء بني إسرائيل و تتمّ الحجّة به عليهم و هو بعيد من السياق.

و قيل: الضمير في( سَلَكْناهُ ) للتكذيب بالقرآن و الكفر به المدلول عليه بقوله:( ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) هذا و هو قريب من الوجه الأوّل لكنّ الوجه الأوّل ألطف و أدقّ، و قد ذكره في الكشّاف.

و قد تبيّن بما تقدّم أنّ المراد بالمجرمين مشركو مكّة غير أنّ عموم وصف الاجرام يعمّم الحكم، و قال بعضهم: إنّ المراد بالمجرمين غير مشركي مكّة من معاصريهم و من يأتي بعدهم، و المعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكّة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.

و لعلّ الّذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتّحاد المشبّه و المشبّه به على الوجه الأوّل مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله:( كَذلِكَ ) السلوك في قلوب مشركي مكّة و هو المشبّه به و جعل المشبّه غيرهم من المجرمين و فيه أنّ تشبيه الكلّيّ ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الأفراد طريقة شائعة.

٣٥٢

و من هنا يظهر أنّ هناك وجهاً آخر و هو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعمّ مشركي مكّة و غيرهم بجعل اللّام فيه لغير العهد و لعلّ الوجه الأوّل أقرب من السياق.

قوله تعالى: ( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ - إلى قوله -مُنْظَرُونَ ) تفسير و بيان لقوله:( كَذلِكَ سَلَكْناهُ ) إلخ هذا على الوجه الأوّل و الثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة و أمّا على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبط بما قبله.

و قوله:( حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) أي حتّى يشاهدوا العذاب الأليم فيلجئهم إلى الإيمان الاضطراريّ الّذي لا ينفعهم، و الظاهر أنّ المراد بالعذاب الأليم ما يشاهدونه عند الموت و احتمل بعضهم أن يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكّة و غيرهم لا يلائم ذلك.

و قوله:( فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) كالتفسير لقوله:( حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) إذ لو لم يأتهم بغتة و علموا به قبل موعده لاستعدّوا له و آمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

و قوله:( فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) كلمة تحسّر منهم.

قوله تعالى: ( أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ) توبيخ و تهديد.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ - إلى قوله -يُمَتَّعُونَ ) متّصل بقوله:( فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ) و محصّل المعنى أنّ تمنّي الإمهال و الإنظار تمنّي أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنّونه و لم يغن عنهم شيئاً لو اُجيبوا إلى ما سألوه فإنّ تمتيعهم أمداً محدوداً طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الّذي قضي في حقّهم.

و هو قوله:( أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ) معدودة ستنقضي:( ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ) من العذاب بعد انقضاء سني الإنظار و الإمهال( ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ ) أي تمتيعهم أمداً محدوداً.

٣٥٣

قوله تعالى: ( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى) إلخ، الأقرب أن يكون قوله:( لَها مُنْذِرُونَ ) حالاً من( قَرْيَةٍ ) و قوله:( ذِكْرى) حالاً من ضمير الجمع في( مُنْذِرُونَ ) أو مفعولاً مطلقاً عامله( مُنْذِرُونَ ) لكونه في معنى مذكّرون و المعنى ظاهر، و قيل غير ذلك ممّا لا جدوى في ذكره و إطالة البحث عنه.

و قوله:( وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ ) ورود النفي على الكون دون أن يقال: و ما ظلمناهم و نحو ذلك يفيد نفي الشأنيّة أي و ما كان من شأننا و لا المترقّب منّا أن نظلمهم.

و الجملة في مقام التعليل للحصر السابق و المعنى: ما أهلكنا من قرية إلّا في حال لها منذرون مذكّرون تتمّ بهم الحجّة عليهم لأنّا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنّا ظالمين لهم و ليس من شأننا أن نظلم أحداً فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) إسراء: ١٥.

( كلام في معنى نفي الظلم عنه تعالى‏)

من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل و تصرّفه ما لا يملكه من الفعل و التصرّف، و يقابله العدل و لازمه أنّه فعل الفاعل و تصرّفه ما يملكه.

و من هنا يظهر أنّ أفعال الفواعل التكوينيّة من حيث هي مملوكة لها تكويناً لا يتحقّق فيها معنى الظلم لأنّ فرض صدور الفعل عن فاعله تكويناً مساوق لكونه مملوكاً له بمعنى قيام وجوده به قياماً لا يستقلّ دونه.

و لله سبحانه ملك مطلق منبسط على الأشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه و استقلال دونه فأيّ تصرّف تصرّف به فيها ممّا يسرّها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرّها ليس من الظلم في شي‏ء و إن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله أن يفعل ما يشاء و له أن يحكم ما يريد كلّ ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته، و لغيره من الفواعل التكوينيّة ملك تكوينيّ بالنسبة إلى فعله حسب الإعطاء و الموهبة الإلهيّة و هو ملك في طول ملكه تعالى و هو المالك لما ملّكها و المهيمن على ما عليه سلّطها.

٣٥٤

و من جملة هذه الفواعل النوع الإنسانيّ بالنسبة إلى أفعاله و خاصّة ما نسمّيها بالأفعال الاختياريّة و الاختيار الّذي يتعيّن به هذه الأفعال، فالواحد منّا يجد من نفسه عياناً أنّه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل و الترك معاً، فإن شاء فعل و إن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرّاً يملك الفعل و الترك، أيّ فعل و ترك كانا، بمعنى إمكان صدور كلّ منهما عنه.

ثمّ إنّ اضطرار الإنسان إلى الحياة الاجتماعيّة المدنيّة اضطرّ العقل أن يغمض عن بعض ما للإنسان من حرّيّة العمل و يرفع اليد عن بعض الأفعال الّتي كان يرى أنّه يملكها و هي الّتي يختلّ بإتيانها أمر المجتمع فيختلّ نظم حياته نفسه و هذه هي المحرّمات و المعاصي الّتي تنهى عنها القوانين المدنيّة أو السنن القوميّة أو الأحكام الملوكيّة الدائرة في المجتمعات.

و من الضروري لتحكيم هذه القوانين و السنن أن يجعل نوع من الجزاء السيّئ على المتخلّف عنها - بشرط العلم و تمام الحجّة لأنّه شرط تحقّق التكليف - من ذمّ أو عقاب، و نوع من الأجر الجميل للمطيع الّذي يحترمها من مدح أو ثواب.

و من الضروريّ أن ينتصب على المجتمع و القوانين الجارية فيها من يُجريها على ما هي عليه و هو مسؤل عمّا نصب له و خاصّة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسئولاً و جاز له أن يجازي و أن لا يجازي و يأخذ المحسن و يترك المسي‏ء لغي وضع القوانين و السنن من رأس. هذه اُصول عقلائيّة جارية في الجملة في المجتمعات الإنسانيّة منذ استقرّ هذا النوع على الأرض منبعثة عن فطرتهم الإنسانيّة.

و قد دلّت البراهين العقليّة و أيّدها تواتر الأنبياء و الرسل من قبله تعالى على أنّ القوانين الاجتماعيّة و سنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى و هي أحكام و وظائف إنسانيّة تهدي إليها الفطرة الإنسانيّة و تضمّن سعادة حياته و تحفظ مصالح مجتمعة.

٣٥٥

و هذه الشريعة السماويّة الفطريّة واضعها هو الله سبحانه و مجريها من حيث الثواب و العقاب - و موطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.

و مقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماويّة و اعتباره نفسه مجرياً لها أنّه أوجب على نفسه إيجاباً تشريعيّاً - و ليس بالتكوينيّ - أن لا يناقض نفسه و لا يتخلّف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقّه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمّد المعاند، و أخذ المظلوم بإثم الظالم و إلّا كان ظلماً منه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

و لعلّ هذا معنى ما يقال: إنّ الظلم مقدور له تعالى لكنّه ليس بواقع البتّة لأنّه نقص كمال يتنزّه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال و ليس بفرض محال، و هو المستفاد من ظاهر قوله تعالى:( وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ ) الآية ٢٠٩ من السورة و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) يونس: ٤٤، و قوله:( وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فصّلت: ٤٦، و قوله:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: ١٦٥، فظاهرها أنّها ليست من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما يومئ إليه تفسير من فسّرها بأنّ المعنى أنّ الله لا يفعل فعلاً لو فعله غيره لكان ظالماً.

فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثواباً أو عقاباً يخالف ما هو المسلّم عندهم أنّ ترك عقاب العاصي جائز لأنّه من حقّ المعاقب و من الجائز على صاحب الحقّ تركه و عدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنّه من حقّ الغير و هو المطيع فلا يجوز تركه و إبطاله.

على أنّه قيل: إنّ الإثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لأنّ العبد و عمله لمولاه فلا يملك شيئاً حتّى يعاوضه بشي‏ء.

قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة ممّا لا كلام فيه لأنّه من الفضل و أمّا بالجملة فلا لاستلزامه لغويّة التشريع و التقنين و ترتيب الجزاء على العمل.

و أمّا كون ثواب الأعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله

٣٥٦

فلا ينافي فضلاً آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكاً له، ثمّ جعل ما يثيبه عليه أجراً لعمله، و القرآن ملي‏ء بحديث الأجر على الأعمال الصالحة، و قد قال تعالى:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) براءة: ١١١.

قوله تعالى: ( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ - إلى قوله -لَمَعْزُولُونَ ) شروع في الجواب عن قول المشركين: إنّ لمحمّد جنّا يأتيه بهذا الكلام، و قولهم: إنّه شاعر، و قدّم الجواب عن الأوّل و قد وجّه الكلام أوّلاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبيّن له أنّ القرآن ليس من تنزيل الشياطين و طيّب بذلك نفسه ثمّ وجّه القول إلى القوم فبيّنه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ) أي ما نزّلته و الآية متّصلة بقوله:( وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) و وجّه الكلام كما سمعت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تلواً:( فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إلى آخر الخطابات المختصّة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتفرّعة على قوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ ) إلخ، على ما سيجي‏ء بيانه.

و إنّما وجّه الكلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون القوم لأنّه معلّل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) و الشيطان الشرير و جمعه الشياطين و المراد بهم أشرار الجنّ.

و قوله:( وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ ) أي للشياطين. قال في مجمع البيان: و معنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنّه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية الّتي هي الطلب. انتهى.

و الوجه في أنّه لا ينبغي لهم أن يتنزّلوا به أنّهم خلق شرير لا همّ لهم إلّا الشرّ و الفساد و الأخذ بالباطل و تصويره في صورة الحقّ ليضلّوا به عن سبيل الله، و القرآن كلام حقّ لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلّتهم الشيطانيّة أن يلقوه إلى أحد.

و قوله:( وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ) أي و ما يقدرون على التنزّل به لأنّه كلام سماويّ تتلقّاه الملائكة من ربّ العزّة فينزّلونه بأمره في حفظ و حراسة منه تعالى كما

٣٥٧

قال:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨، و إلى ذلك يشير قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ ) إلخ.

و قوله:( إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) أي إنّ الشياطين عن سمع الأخبار السماويّة و الاطّلاع على ما يجري في الملإ الأعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تسمّعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: ( فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ) خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهاه عن الشرك بالله متفرّع على قوله:( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ) إلخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلاً من ربّ العالمين و لم تنزّل به الشياطين و هو ينهى عن الشرك و يوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه و تدخل في زمرة المعذّبين.

و كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً بعصمة إلهيّة يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإنّ العصمة لا توجب بطلان تعلّق الأمر و النهي بالمعصوم و ارتفاع التكليف عنه بما أنّه بشر مختار في الفعل و الترك متصوّر في حقّه الطاعة و المعصية بالنظر إلى نفسه، و قد تكاثرت الآيات في تكليف الأنبياءعليهم‌السلام في القرآن الكريم كقوله في الأنبياءعليهم‌السلام :( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: ٨٨، و قوله في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الزمر: ٦٥، و الآيتان في معنى النهي.

و قول بعضهم: إنّ التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال و تحقّقه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإنّ الأعمال الصالحة الّتي يتعلّق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب و الكمال النفسانيّ كما يجب أن يكتسب بالإتيان بآثاره و مزاولة الأعمال الّتي تناسبه و الارتياض بها كذلك يجب أن يستبقي بذلك فما دام الإنسان بشراً له تعلّق بالحياة الأرضيّة لا مناص له عن تحمّل أعباء التكليف، و قد تقدّم كلام في هذا المعنى في بعض الأبحاث.

قوله تعالى: ( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) في مجمع البيان: عشيرة الرجل

٣٥٨

قرابته سمّوا بذلك لأنّه يعاشرهم و هم يعاشرونه انتهى. و خصّ عشيرته و قرابته الأقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك و إنذاره تنبيها على أنّه لا استثناء في الدعوة الدينيّة و لا مداهنة و لا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكيّة فلا فرق في تعلّق الإنذار بين النبيّ و اُمّته و لا بين الأقارب و الأجانب، فالجميع عبيد و الله مولاهم.

قوله تعالى: ( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي اشتغل بالمؤمنين بك و اجمعهم و ضمّهم إليك بالرأفة و الرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، و هذا من الاستعارة بالكناية تقدّم نظيره في قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨.

و المراد بالاتّباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية:( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) فملخّص معنى الآيتين: إن آمنوا بك و اتّبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة و اشتغل بهم بالتربية و إن عصوك فتبرّأ من عملهم.

قوله تعالى: ( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي ليس لك من أمر طاعتهم و معصيتهم شي‏ء وراء ما كلّفناك فكلّ ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنّه لعزّته سيعذّب العاصين و برحمته سينجي المؤمنين المتّبعين.

و في اختصاص اسمي العزيز و الرحيم إلفات للذهن إلى ما تقدّم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال: توكّل في أمر المتّبعين و العاصين جميعاً إلى الله فهو العزيز الرحيم الّذي فعل بقوم نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و قوم فرعون ما فعل ممّا قصصناه فسنّته أخذ العاصين و إنجاء المؤمنين.

قوله تعالى: ( الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏ ) ظاهر الآيتين - على ما يسبق إلى الذهن - أنّ المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين و فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته بهم جماعة، و المراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الّذي يراك و أنت بعينه في حالتي قيامك و سجودك متقلّباً في الساجدين

٣٥٩

و أنت تصلّي مع المؤمنين.

و في معنى الآية روايات من طرق الشيعة و أهل السنّة سنتعرّض لها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) تعليل لقوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) و في الآيات - على ما تقدّم من معناها - تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بشرى للمؤمنين بالنجاة و إيعاد للكفّار بالعذاب.

قوله تعالى:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ - إلى قوله -كاذِبُونَ ) ، تعريف لمن تتنزّل عليه الشياطين بما يخصّه من الصفة ليعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس منهم و لا أنّ القرآن من إلقاء الشياطين، و الخطاب متوجّه إلى المشركين.

فقوله:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ) في معنى هل اُعرّفكم الّذين تتنزّل عليهم شياطين الجنّ بالأخبار؟

و قوله:( تَنَزَّلُ عَلى‏ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) قال في مجمع البيان: الأفّاك الكذّاب و أصل الإفك القلب و الأفّاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، و الأثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثماً إذا ارتكب القبيح و تأثّم إذا ترك الإثم انتهى.

و ذلك أنّ الشياطين لا شأن لهم إلّا إظهار الباطل في صورة الحقّ و تزيين القبيح في زيّ الحسن فلا يتنزّلون إلّا على أفّاك أثيم.

و قوله:( يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) الظاهر أنّ ضميري الجمع في( يُلْقُونَ ) و( أَكْثَرُهُمْ ) معاً للشياطين، و السمع مصدر بمعنى المسموع و المراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء و لو ناقصاً فإنّهم ممنوعون من الاستماع مرميّون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلّا ناقصاً غير تامّ و لا كامل و لذا يتسرّب إليه الكذب كثيراً.

و قوله:( وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ) أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلاً و هذا هو الكثرة بحسب الأفراد و يمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453