الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124141 / تحميل: 6113
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الأرض، قال تعالى:( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: ١٢، و قال:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: ٥، و السبل الّتي تسلكها الأعمال في صعودها إلى الله و الملائكة في هبوطهم و عروجهم كما قال:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠، و قال:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) مريم: ٦٤.

و بذلك يتّضح اتّصال ذيل الآية( وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) بصدرها أي لستم بمنقطعين عنّا و لا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا و بينكم يتطرّقها رسل الملائكة بالنزول و الصعود و ينزل منها أمرنا إليكم و تصعد منها أعمالكم إلينا.

و بذلك كلّه يظهر ما في قول بعضهم: إنّ الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، و قول آخرين: إنّها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة.

على أنّ اتّصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بيّن.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏ ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) المراد بالسماء جهة العلو فإنّ ما علاك و أظلّك فهو سماء، و المراد بالماء النازل منها ماء المطر.

و في قوله:( بِقَدَرٍ ) دلالة على أنّ الّذي نزل إنّما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التامّ الإلهيّ الّذي يقدّره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدّر و لا ينقص، و فيه تلميح أيضاً إلى قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١.

و المعنى: و أنزلنا من جهة العلو ماء بقدر و هو ماء المطر فأسكنّاه في الأرض و هو الذخائر المدّخرة من الماء في الجبال و السهول تتفجّر عنه العيون و الأنهار و تكشف عنه الآبار، و إنّا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الّذي أسكنّاه في الأرض نوعاً من الذهاب لا تهتدون إلى علمه.

٢١

قوله تعالى: ( فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ ) إلى آخر الآية، إنشاء الجنّات إحداثها و تربيتها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) معطوف على( جَنَّاتٍ ) أي و أنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، و المراد بها شجرة الزيتون الّتي تكثر في طور سيناء، و قوله:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ) أي تثمر ثمرة فيها الدهن و هو الزيت فهي تنبت بالدهن، و قوله:( وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) أي و تنبت بصبغ للآكلين، و الصبغ بالكسر فالسكون الإدام الّذي يؤتدم به، و إنّما خصّ شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ) إلخ، العبرة الدلالة يستدلّ بها على أنّه تعالى مدبّر لأمر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، و المراد بسقيه تعالى ممّا في بطونها أنّه رزقهم من ألبانها، و المراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها و شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و منها يأكلون.

قوله تعالى: ( عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏ ) ضمير( عَلَيْها ) للأنعام و الحمل على الأنعام هو الحمل على الإبل، و هو حمل في البرّ و يقابله الحمل في البحر و هو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله:( وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) إسراء: ٧٠، و الفلك جمع فلكة و هي السفينة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال: إذا تمّت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) يعني نفخ الروح فيه.

و في الكافي، بإسناده عن ابن فضّال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أباالحسن الرضاعليه‌السلام يقول: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله

٢٢

ملكين خلّاقين فيقولان: يا ربّ ما نخلق ذكراً أو اُنثى؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ شقيّ أو سعيد؟ فيؤمران فيقولان: يا ربّ ما أجله و ما رزقه و كلّ شي‏ء من حاله؟ و عدّد من ذلك أشياء، و يكتبان الميثاق بين عينيه.

فإذا كمل الأجل بعث الله إليه ملكاً فزجره زجرة فيخرج و قد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أ فيجوز أن يدعو الله فيحوّل الاُنثى ذكراً أو الذكر اُنثى؟ فقال: إنّ الله يفعل ما يشاء.

أقول: و الرواية مرويّة عن أبي جعفرعليه‌السلام بطرق اُخرى و ألفاظ متقاربة.

و في تفسير القمّيّ قوله عزّوجلّ:( وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) قال: شجرة الزيتون، و هو مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مثل أميرالمؤمنينعليه‌السلام فالطور الجبل و سيناء الشجرة.

و في المجمع:( تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ ) و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه و ادّهنوا.

٢٣

( سورة المؤمنون الآيات ٢٣ - ٥٤)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٢٣ ) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ( ٢٤ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٢٥ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٢٦ ) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ  فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ  وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا  إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ( ٢٧ ) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ( ٢٩ ) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ( ٣٠ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٣١ ) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ  أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٣٢ ) وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ( ٣٣ ) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ( ٣٤ ) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا

٢٤

وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ( ٣٥ ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ( ٣٦ ) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( ٣٧ ) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ( ٣٨ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ( ٣٩ ) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ( ٤٠ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً  فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٤١ ) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ ( ٤٢ ) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ( ٤٣ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ  كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ  فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ  فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ( ٤٤ ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ٤٥ ) إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ( ٤٦ ) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( ٤٧ ) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ( ٤٨ ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ٤٩ ) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( ٥٠ ) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٥١ ) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( ٥٢ ) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( ٥٣ ) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ( ٥٤ )

٢٥

( بيان‏)

بعد ما عدّ نعمه العظام على الناس عقّبه في هذه الآيات بذكر دعوتهم إلى توحيد عبادته من طريق الرسالة و قصّ إجمال دعوة الرسل من لدن نوح إلى عيسى بن مريمعليهما‌السلام ، و لم يصرّح من أسمائهم إلّا باسم نوح و هو أوّل الناهضين لدعوة التوحيد و اسم موسى و عيسىعليهما‌السلام و هما في آخرهم، و أبهم أسماء الباقين غير أنّه صرح باتّصال الدعوة و تواتر الرسل، و أنّ الناس لم يستجيبوا إلّا بالكفر بآيات الله و الكفران لنعمه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ ) قد تقدّم في قصص نوحعليه‌السلام من سورة هود أنّه أوّل اُولي العزم من الرسل أصحاب الكتب و الشرائع المبعوثين إلى عامّة البشر و الناهضين للتوحيد و نفي الشرك، فالمراد بقومه اُمّته و أهل عصره عامّة.

و قوله:( اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) دعوة إلى عبادة الله و رفض عبادة الآلهة من دونه فإنّ الوثنيّين إنّما يعبدون غيره من الملائكة و الجنّ و القدّيسين بدعوى اُلوهيّتهم أي كونهم معبودين من دونه.

قال بعض المفسّرين: إنّ معنى( اعْبُدُوا اللهَ ) اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله في سورة هود:( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و ترك التقييد به للإيذان بأنّها هي العبادة فقط و أمّا العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شي‏ء رأسا. انتهى.

و فيه غفلة أو ذهول عن أنّ الوثنيّين لا يعبدون الله سبحانه أصلاً بناء على أنّ العبادة توجّه من العابد إلى المعبود، و الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به توجّه متوجّه أو علم عالم، فالوجه أن يتقرّب إلى خاصّة خلقه من الملائكة و غيره ليشفعوا عنده و يقرّبوا منه، و العبادة بإزاء التدبير و أمر التدبير مفوّض إليهم منه تعالى فهم الآلهة المعبودون و الأرباب من دونه.

و من هنا يظهر أنّه لو جازت عبادته تعالى عندهم لم يجز إلّا عبادته وحده لأنّهم

٢٦

لا يرتابون في أنّه تعالى ربّ الأرباب موجد الكلّ و لو صحّت عبادته لم تجز إلّا عبادته وحده و لم تصحّ عبادة غيره لكنّهم لا يرون صحّتها بناء على ما زعموه من الوجه المتقدّم.

فقولهعليه‌السلام لقومه الوثنيّين:( اعْبُدُوا اللهَ ) في معنى أن يقال: اعبدوا الله وحده كما ورد في سورة هود( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) ، و قوله:( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) في معنى أن يقال: ما لكم من معبود سواه لأنّه لا ربّ غيره يدبّر أمركم حتّى تعبدوه رجاء لرحمته أو خوفاً من سخطه، و قوله بالتفريع على ذلك:( أَ فَلا تَتَّقُونَ ) أي إذا لم يكن لكم ربّ يدبّر اُموركم دونه أ فلا تتّقون عذابه حيث لا تعبدونه و تكفرون به؟

قوله تعالى: ( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ - إلى قوله -حَتَّى حِينٍ ) ملأ القوم أشرافهم، و وصفهم بقوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) وصف توضيحيّ لا احترازيّ إذ لم يؤمن به من ملإ قومه أحد بدليل قولهم على ما حكاه الله:( وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ) هود: ٢٧.

و السياق يدلّ على أنّ الملأ كانوا يخاطبون بمضمون الآيتين عامّة الناس لصرف وجوههم عنه و إغرائهم عليه و تحريضهم على إيذائه و إسكاته، و ما حكاه تعالى من أقاويلهم في الآيتين وجوه أربعة أو خمسة من فرية أو مغالطة لفّقوها و احتجّوا بها على بطلان دعوته.

الأوّل قولهم:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) و محصّله أنّه بشر مثلكم فلو كان صادقاً فيما يدّعيه من الوحي الإلهيّ و الاتّصال بالغيب كان نظير ما يدّعيه متحقّقاً فيكم إذ لا تنقصون منه في شي‏ء من البشريّة و لوازمها، و لم يتحقّق فهو كاذب و كيف يمكن أن يكون كمال في وسع البشر أن يناله ثمّ لا يناله إلّا واحد منهم فقط ثمّ يدّعيه من غير شاهد يشهد عليه؟ فلم يبق إلّا أنّه يريد بهذه الدعوة أن يتفضّل عليكم و يترأس فيكم و يؤيّده أنّه يدعوكم إلى اتّباعه و طاعته و هذه الحجّة تنحلّ في الحقيقة إلى حجّتين مختلقتين.

٢٧

و الثاني قولهم:( وَ لَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) و محصّله أنّ الله سبحانه لو شاء أن يدعونا بدعوة غيبيّة لاختار لذلك الملائكة الّذين هم المقرّبون عنده و الشفعاء الروابط بيننا و بينه فأرسلهم إلينا لا بشراً ممّن لا نسبة بينه و بينه. على أنّ في نزولهم و اعترافهم بوجوب العبادة له تعالى وحده و عدم جواز اتّخاذهم أرباباً و آلهة معبودين آية بيّنة على صحّة الدعوة و صدقها.

و التعبير عن إرسال الملائكة بإنزالهم إنّما هو لكون إرسالهم يتحقّق بالإنزال و التعبير بلفظ الجمع دون الإفراد لعلّه لكون المراد بهم الآلهة المتّخذة منهم و هم كثيرون.

و الثالث قولهم:( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) و محصّله أنّه لو كانت دعوته حقّة لاتّفق لها نظير فيما سلف من تاريخ الإنسانيّة، و آباؤنا كانوا أفضل منّا و أعقل و لم يتّفق لهم و في أعصارهم ما يناظر هذه الدعوة فليست إلّا بدعة و اُحدوثة كاذبة.

و الرابع قولهم:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ) الجنّة إمّا مصدر أي به جنون أو مفرد الجنّ أي حلّ به من الجنّ من يتكلّم على لسانه لأنّه يدّعي ما لا يقبله العقل السليم و يقول ما لا يقوله إلّا مصاب في عقله فترّبصوا و انتظروا به إلى حين مّا لعلّه يفيق من حالة جنونه أو يموت فنستريح منه.

و هذه حجج مختلقة ألقاها ملأ قومه إلى عامّتهم أو ذكر كلّا منها بعضهم و هي و إن كانت حججاً جدليّة مدخولة لكنّهم كانوا ينتفعون بها حينما يلقونها إلى الناس فيصرفون وجوههم عنه و يغرونهم عليه و يمدّون في ضلالهم.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) سؤال منه للنصر و الباء في قوله:( بِما كَذَّبُونِ ) للبدليّة و المعنى انصرني بدل تكذيبهم لي أو للآلة و عليه فالمعنى انصرني بالّذي كذّبوني فيه و هو العذاب فإنّهم قالوا:( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) هود: ٣٢، و يؤيّده قول نوح:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) نوح: ٢٦، و فصل الآية لكونها في معنى جواب السؤال.

٢٨

قوله تعالى: ( فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) إلى آخر الآية. متفرّع على سؤال النصر، و معنى صنع الفلك بأعينه صنعه بمرأى منه و هو كناية عن كونه تحت مراقبته تعالى و محافظته، و معنى كون الصنع بوحيه كونه بتعليمه الغيبيّ حالاً بعد حال.

و قوله:( فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ ) المراد بالأمر - كما قيل - حكمه الفصل بينه و بين قومه و قضاؤه فيهم بالغرق، و السياق يشهد على كون فوران التنّور بالماء أمارة نزول العذاب عليهم و هو أعني فوران الماء من التنّور و هو محلّ النار من عجيب الأمر في نفسه.

و قوله:( فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) القراءة الدائرة( مِنْ كُلٍّ ) بالتنوين و القطع عن الإضافة، و التقدير من كلّ نوع من الحيوان، و السلوك فيها الإدخال في الفلك و الظاهر أنّ( مِنْ ) لابتداء الغاية و المعنى فأدخل في الفلك زوجين اثنين: ذكر و اُنثى من كلّ نوع من الحيوان.

و قوله:( وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ) معطوف على قوله:( زَوْجَيْنِ ) و ما قيل: إنّ عطف( أَهْلَكَ ) على( زَوْجَيْنِ ) يفسد المعنى المراد لرجوع التقدير حينئذ إلى قولنا: و اسلك فيها من كلّ نوع أهلك فالأولى تقدير( فَاسْلُكْ ) ثانياً قبل( أَهْلَكَ ) و عطفه على( فَاسْلُكْ ) يدفعه أنّ( مِنْ كُلٍّ ) في موضع الحال من( زَوْجَيْنِ ) فهو متأخّر عنه رتبة كما قدّمنا تقديره فلا يعود ثانياً على المعطوف.

و المراد بالأهل خاصّته، و الظاهر أنّهم أهل بيته و المؤمنون به فقد ذكرهم في سورة هود مع الأهل و لم يذكر ههنا إلّا الأهل فقط.

و المراد بمن سبق عليه القول منهم امرأته الكافرة على ما فهم نوحعليه‌السلام و هي و ابنه الّذي أبى ركوب السفينة و غرق حينما آوى إلى جبل في الحقيقة، و سبق القول هو القضاء المحتوم بالغرق.

و قوله:( وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) النهي عن مخاطبته تعالى كناية عن النهي الشديد عن الشفاعة لهم، بدليل تعليق المخاطبة بالّذين ظلموا

٢٩

و تعليل النهي بقوله:( إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) فكأنّه قيل: أنهاك عن أصل تكليمي فيهم فضلاً أن تشفع لهم فقد شملهم غضبي شمولاً لا يدفعه دافع.

قوله تعالى: ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ ) إلى آخر الآيتين علّمه أن يحمد الله بعد الاستواء على الفلك على تنجيته تعالى من القوم الظالمين و هذا بيان بعد بيان لكونهم هالكين مغرقين حتماً، و أن يسأله أن ينجيه من الطوفان و ينزله على الأرض إنزالاً مباركاً ذا خير كثير ثابت فإنّه خير المنزلين.

و في أمرهعليه‌السلام أن يحمده و يصفه بالجميل دليل على أنّه من عباده المخلصين فإنّه تعالى منزّه عمّا يصفه غيرهم كما قال:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠.

و قد اكتفى سبحانه في القصّة بإخباره عن حكمه بغرقهم و أنّهم مغرقون حتماً و لم يذكر خبر غرقهم إيماء إلى أنّهم آل بهم الأمر إلى أن لا خبر عنهم بعد ذلك، و إعظاماً للقدرة و تهويلاً للسخطة و تحقيراً لهم و استهانة بأمرهم، فالسكوت في هذه القصّة عن هلاكهم أبلغ من قوله في القصّة الآتية:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) من وجوه.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) خطاب في آخر القصّة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بيان أنّ هذه الدعوة مع ما جرى معها كانت ابتلاءً أي امتحاناً و اختباراً إلهيّاً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ) إلى آخر الآية الثانية. القرن أهل عصر واحد، و قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) تفسير لإرسال الرسول من قبيل تفسير الفعل بنتيجته كقوله تعالى:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا ) حم السجدة: ٣٠.

قوله تعالى: ( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) هؤلاء أشرافهم المتوغّلون في الدنيا المخلدون إلى الأرض يغرون بقولهم هذا عامّتهم على رسولهم.

٣٠

و قد وصفهم الله بصفات ثلاث و هي: الكفر بالله بعبادة غيره، و التكذيب بلقاء الآخرة - أي بلقاء الحياة الآخرة بقرينة مقابلتها لقوله:( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) - و لكفرهم بالمبدإ و المعاد انقطعوا عمّا وراء الدنيا فانكبّوا عليها ثمّ لما اُترفوا في الحياة الدنيا و تمكّنوا من زخارفها و زيناتها الملذّة اجتذبتهم الدنيا إلى نفسها فاتّبعوا الهوى و نسوا كلّ حقّ و حقيقة، و لذلك تفوّهوا تارة بنفي التوحيد و الرسالة و تارة بإنكار المعاد و تارة ردّ الدعوة بإضرارها دنياهم و حرّيّتهم في اتّباع هواهم.

فتارة قالوا لعوامهم مشيرين إلى رسولهم إشارة المستحقر المستهين بأمره:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) يريدون به تكذيبه في دعوته و دعواه الرسالة على ما مرّ من تقرير حجّتهم في قصّة نوح السابقة.

و في استدلالهم على بشريّته و مساواته سائر الناس بأكله و شربه مثل الناس و ذلك من خاصّة مطلق الحيوان دليل على أنّهم ما كانوا يرون للإنسان إلّا كمال الحيوان و لا فضيلة إلّا في الأكل و الشرب و لا سعادة إلّا في التمكّن من التوسّع و الاسترسال من اللذائذ الحيوانيّة كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ) الأعراف: ١٧٩، و قال:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) سورة محمّد: ١٢.

و تارة قالوا:( وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) و هو في معنى قولهم في القصّة السابقة:( يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) يريدون به أنّ في اتّباعه و إطاعته فيما يأمركم به مع كونه بشراً مثلكم من غير فضل له عليكم خسرانكم و بطلان سعادتكم في الحياة إذ لا حياة إلّا الحياة الدنيا و لا سعادة فيها إلّا الحرّيّة في التمتّع من لذائذها، و في طاعة من لا فضل له عليكم رقّيّتكم و زوال حرّيّتكم و هو الخسران.

و تارة قالوا:( أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ) أي مبعوثون من قبوركم للحساب و الجزاء( هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ) و هيهات كلمة استبعاد و في تكراره مبالغة في الاستبعاد( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا )

٣١

أي يموت قوم منّا في الدنيا و يحيا آخرون فيها لا نزال كذلك( وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) للحياة في دار اُخرى وراء الدنيا.

و يمكن أن يحمل قولهم:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) على التناسخ و هو خروج الروح بالموت من بدن و تعلّقها ببدن آخر إنسانيّ أو غير إنسانيّ فإنّ التناسخ مذهب شائع عند الوثنيّين و ربّما عبّروا عنه بالولادة بعد الولادة لكنّه لا يلائم سياق الآيات كثير ملائمة.

و تارة قالوا:( إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ) يريدون به تكذيب دعواه الرسالة مع ما احتوت عليه دعوته و قد أنكروا التوحيد و المعاد قبل ذلك.

و مرادهم بقولهم:( نَحْنُ ) أنفسهم و عامّتهم أشركوا أنفسهم عامّتهم لئلّا يتّهمهم العامّة فيما يأمرونهم به من الكفر بالرسول، و يمكن أن يكون المراد به أنفسهم خاصّة دون العامّة و إنّما أخبروا بعدم إيمانهم ليقتدوا بهم فيه.

و قد نشأت هذه الأقاويل من اجتماع الصفات الّتي وصفهم الله بها في أوّل الآيات و هي إنكار التوحيد و النبوّة و المعاد و الإتراف في الحياة الدنيا.

و اعلم أنّ في قوله في صدر الآيات:( وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ ) قدم قوله:( مِنْ قَوْمِهِ ) على( الَّذِينَ كَفَرُوا ) بخلاف ما في القصّة السابقة من قوله:( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه لو وقع بعد( الَّذِينَ كَفَرُوا ) اختلّ به ترتيب الجمل المتوالية( كَفَرُوا ) ( وَ كَذَّبُوا ) ( وَ أَتْرَفْناهُمْ ) و لو وقع بعد الجميع طال الفصل.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) تقدّم تفسيره في القصّة السابقة.

قوله تعالى: ( قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ) استجابة لدعوة الرسول و صيرورتهم نادمين كناية عن حلول عذاب الاستئصال بهم، و قوله:( عَمَّا قَلِيلٍ ) عن بمعنى بعد و( مَّا ) لتأكيد القلّة و ضمير الجمع للقوم، و الكلام مؤكّد بلام القسم و نون التأكيد، و المعنى: اُقسم لتأخذنّهم الندامة بعد قليل من الزمان بمشاهدة

٣٢

حلول العذاب.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ، الباء في( بِالْحَقِّ ) للمصاحبة و هو متعلّق بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ ) أي أخذتهم الصيحة أخذاً مصاحباً للحقّ، أو للسببيّة، و الحقّ وصف اُقيم مقام موصوفه المحذوف و التقدير فأخذتهم الصيحة بسبب الأمر الحقّ أو القضاء الحقّ كما قال:( فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٧٨.

و الغثاء بضمّ الغين و ربّما شدّدت الثاء: ما يحمله السيل من يابس النبات و الورق و العيدان البالية، و قوله:( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) إبعاد و لعن لهم أو دعاء عليهم.

و المعنى: فأنجزنا للرسول ما وعدناه من عذابهم فأخذتهم الصيحة السماويّة و هي العذاب فأهلكناهم و جعلناهم كغثاء السيل فليبعد القوم الظالمون بعداً.

و لم يصرّح باسم هؤلاء القوم الّذين أنشأهم بعد قوم نوح ثمّ أهلكهم و لا باسم رسولهم، و ليس من البعيد أن يكونوا هم ثمود قوم صالحعليه‌السلام فقد ذكر الله سبحانه في قصّتهم في مواضع من كلامه أنّهم كانوا بعد قوم نوح و قد اُهلكوا بالصيحة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ) تقدّم توضيح مضمون الآيتين كراراً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ ) ، إلى آخر الآية يقال: جاؤا تترى أي فرادى يتبع بعضهم بعضاً، و منه التواتر و هو تتابع الشي‏ء وتراً و فرادى، و عن الأصمعيّ: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضاً و بين الخبرين هنيهة انتهى.

و الكلام من تتمّة قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً ) و( ثُمَّ ) للتراخي بحسب الذكر دون الزمان، و القصّة إجمال منتزع من قصص الرسل و اُممهم بين اُمّة نوح و الاُمّة الناشئة بعدها و بين اُمّة موسى.

يقول تعالى: ثمّ أنشأنا بعد تلك الاُمّة الهالكة بالصيحة بعد اُمّة نوح قروناً و اُمماً آخرين و أرسلنا إليهم رسلنا متتابعين يتبع بعضهم بعضا كلّما جاء اُمّة رسولها

٣٣

المبعوث منها إليها كذّبوه فأتبعنا بعضهم أي بعض هذه الاُمم بعضاً أي بالعذاب و جعلناهم أحاديث أي صيّرناهم قصصاً و أخباراً بعد ما كانوا أعياناً ذوات آثار فليبعد قوم لا يؤمنون.

و الآيات تدلّ على أنّه كان من سنّة الله إنشاء قرن بعد قرن و هدايتهم إلى الحقّ بإرسال رسول بعد رسول و هي سنّة الابتلاء و الامتحان، و من سنّة القرون تكذيب الرسول بعد الرسول ثمّ من سنّة الله ثانياً - و هي سنّة المجازاة - تعذيب المكذّبين و إتباع بعضهم بعضاً.

و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ ) أبلغ كلمة تفصح عن القهر الإلهيّ الّذي يغشى أعداء الحقّ و المكذّبين لدعوته حيث يمحو العين و يعفو الأثر و لا يبقى إلّا الخبر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى‏ وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ ) الآيات هي العصا و اليد البيضاء و سائر الآيات الّتي أراها موسى فرعون و قومه، و السلطان المبين الحجّة الواضحة، و تفسير بعضهم السلطان بالعصا غير سديد.

قوله تعالى: ( إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ ) قيل: إنّما ذكر ملأ فرعون و اكتفى بهم عن ذكر قومه لأنّهم الأشراف المتبوعون و سائر القوم أتباع يتبعونهم.

و المراد بكونهم عالين أنّهم كانوا يعلون على غيرهم فيستعبدونهم كما علوا على بني إسرائيل و استعبدوهم فالعلوّ في الأرض كناية عن التطاول على أهلها و قهرهم على الطاعة.

قوله تعالى: ( فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) المراد بكونهما بشرين مثلهم نفي أن يكون لهما فضل عليهم، و بكون قومهما لهم عابدين فضلهم عليهما كما فضّلوا على قومهما فإذا كان الفضل لهم عليهما كان من الواجب أن يعبداهم كما عبدهم قومهما لا أن يؤمنوا بهما كما قال فرعون لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) ثمّ ختم تعالى القصّة بذكر هلاكهم

٣٤

فقال:( فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ) ثمّ قال:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) و المراد بهم بنو إسرائيل لأنّ التوراة إنّما نزلت بعد هلاك فرعون و ملئه.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) تقدّم أنّ الآية هي ولادة عيسىعليه‌السلام الخارقة للعادة و إذ كانت أمراً قائماً به و باُمّه معاً عدّاً جميعاً آية واحدة.

و الإيواء من الاُويّ و أصله الرجوع ثمّ استعمل في رجوع الإنسان إلى مسكنه و مقرّه، و آواه إلى مكان كذا أي جعله مسكنا له و الربوة المكان المرتفع المستوي الواسع، و المعين الماء الجاري.

و المعنى: و جعلنا عيسى بن مريم و اُمّه مريم آية دالّة على ربوبيّتنا و أسكنّاهما في مكان مرتفع مستو وسيع فيه قرار و ماء جار.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) خطاب لعامّة الرسل بأكل الطيّبات و كانّ المراد بالأكل منها الارتزاق بها بالتصرّف فيها سواء كان بأكل أو غيره و هو استعمال شائع.

و السياق يشهد بأنّ في قوله:( كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) امتناناً منه تعالى عليهم، ففي قوله عقيبه:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً ) أمر بمقابلة المنّة بصالح العمل و هو شكر للنعمة و في تعليله بقوله:( إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) تحذير لهم من مخالفة أمره و بعث إلى ملازمة التقوى.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) تقدّم تفسير نظيره الآية في سورة الأنبياء.

قوله تعالى: ( فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) في المجمع، أنّ التقطّع و التقطيع بمعنى واحد، و الزبر بضمّتين جمع زبور و هو الكتاب، و الكلام متفرّع على ما تقدّمه، و المعنى أنّ الله أرسل إليهم رسله تترا و الجميع اُمّة واحدة لهم ربّ واحد دعاهم إلى تقواه لكنّهم لم يأتمروا بأمره و

٣٥

قطّعوا أمرهم بينهم قطعاً و جعلوه كتباً اختصّ بكلّ كتاب حزب و كلّ حزب بما لديهم فرحون.

و في قراءة ابن عامر( زُبُراً ) بفتح الباء و هو جمع زبرة و هي الفرقة، و المعنى و تفرّقوا في أمرهم جماعات و أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون، و هي أرجح.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) قال في المفردات: الغمرة معظم الماء الساترة لمقرّها و جعل مثلاً للجهالة الّتي يغمر صاحبها، انتهى. و في الآية تهديد بالعذاب، و قد تقدّمت إشارة إلى أنّ من سنّته تعالى المجازاة بالعذاب بعد تكذيب الرسالة، و في تنكير( حِينٍ ) إشارة إلى إتيان العذاب الموعود بغتة.

( بحث روائي)

في نهج البلاغة: يا أيّها الناس إنّ الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جلّ من قائل:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً ) الغثاء اليابس الهامد من نبات الأرض.

و فيه في قوله تعالى:( إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قال: الربوة الحيرة و ذات قرار و معين الكوفة.

و في المجمع:( وَ آوَيْناهُما إِلى‏ رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ ) قيل: حيرة الكوفة و سوادها، و القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات: عن أبي جعفر و أبي عبد اللهعليهما‌السلام .‏

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الربوة هي دمشق الشام‏، و روي أيضاً عن ابن عساكر و غيره عن مرّة البهزيّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّها الرملة، و الروايات جميعاً لا تخلو من الضعف.

و في المجمع:( يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّباً و أنّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:( يا

٣٦

أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ) و قال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن أحمد و مسلم و الترمذيّ و غيرهم عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أُمَّةً واحِدَةً ) قال على مذهب واحد.

و فيه في قوله:( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) قال: كلّ من اختار لنفسه ديناً فهو فرح به.

٣٧

( سورة المؤمنون الآيات ٥٥ - ٧٧)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( ٥٥ ) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ  بَل لَّا يَشْعُرُونَ ( ٥٦ ) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( ٥٧ ) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ٥٨ ) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( ٦٠ ) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ( ٦١ ) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ  وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٦٢ ) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ( ٦٣ ) حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ( ٦٤ ) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ  إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ( ٦٥ ) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ( ٦٦ ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ( ٦٧ ) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ( ٦٨ ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( ٦٩ ) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ  بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( ٧٠ ) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ  بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ( ٧١ ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ  وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ٧٢ ) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ

٣٨

مُّسْتَقِيمٍ ( ٧٣ ) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ( ٧٤ ) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٥ ) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( ٧٦ ) حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( ٧٧ )

( بيان‏)

الآيات متّصلة بقوله السابق:( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ) فإنّه لما عقّب قصص الرسل باختلاف الناس في أمر الدين و تحزّبهم أحزاباً كلّ حزب بما لديهم فرحون أوعدهم بعذاب مؤجّل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاؤا فسيغشاهم العذاب و لا محالة.

فنبّههم في هذه الآيات أنّ توهّمهم أنّ ما مدّهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفّق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة و ما يترتّب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون إليها فيسارع لهم فيها.

فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجّة تامّة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبّر القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنوناً مختلّ القول أو سؤاله منهم خرجاً بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحقّ حتّى يأتيهم عذاب لا مردّ له.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏ ) ( نُمِدُّهُمْ ) بضمّ النون من الإمداد و المدّ و الإمداد بمعنى واحد و هو تتميم نقص الشي‏ء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل

٣٩

الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه، فقوله( نُمِدُّهُمْ ) من الإمداد المستعمل في المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون الخيرات على ظنّهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.

و المعنى: أ يظنّ هؤلاء أنّ ما نعطيهم في مدّة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع لهم فيها لرضانا عنهم أو حبّنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟

لا، بل لا يشعرون أي إنّ الأمر على خلاف ما يظنّون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو أنّ ذلك إملاء منّا و استدراج و إنّما نمدّهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) إلى آخر الآيات الخمس، يبيّن تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدّم أنّ الّذي يظنّ هؤلاء الكفّار أنّ المال و البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شي‏ء بل استدراج و إملاء و إنّما الخيرات الّتي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم الآخر الصالحين في أعمالهم.

فأفصح تعالى عن وصفهم فقال:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) ، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الآية تصفهم بأنّهم اتّخذوا الله سبحانه ربّاً يملكهم و يدبّر أمرهم، و لازم ذلك أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبّونه و هو نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الّذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته و عبادته، و قد ظهر بما مرّ من المعنى أنّ الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق ليس تكراراً مستدركاً.

٤٠

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453