الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119413
تحميل: 5571


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119413 / تحميل: 5571
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من سليمان ممّن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك و العظماء على أمثالهم.

و قوله:( فلمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها ) أي لما رأت الصرح ظنّت أنّه لجّة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء و كشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلّا تبتلّ بالماء أذيالها.

و قوله:( قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ) القائل هو سليمان نبّهها أنّه ليس بلجّة بل صرح مملّس من زجاج فلمّا رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان و قد كانت رأت سابقاً ما رأت من أمر الهدهد و ردّ الهديّة و الإتيان بعرشها لم تشكّ أنّ ذلك من آيات نبوّته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير و قالت عند ذلك:( ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ]‏ إلخ.

و قوله:( قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‏ ) استغاثت أوّلاً بربّها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثمّ شهدت بالإسلام لله مع سليمان.

و في قوله:( وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ‏ ) التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة و وجهه الانتقال من إجمال الإيمان بالله إذ قالت:( ربِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي‏ ) إلى التوحيد الصريح فإنّها تشهد أنّ إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان و هو التوحيد ثمّ تؤكّد التصريح بتوصيفه تعالى بربّ العالمين فلا ربّ غيره تعالى لشي‏ء من العالمين و هو توحيد الربوبيّة المستلزم لتوحيد العبادة الّذي لا يقول به مشرك.

( كلام في قصّة سليمانعليه‌السلام )

١- ما ورد من قصصه في القرآن: لم يرد من قصصهعليه‌السلام في القرآن الكريم إلّا نبذة يسيرة غير أنّ التدبّر فيها يهدي إلى عامّة قصصه و مظاهر شخصيّته الشريفة.

منها: وراثته لأبيه داود قال تعالى:( وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ) ص: ٣٠، و قال( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) النمل: ١٦.

٤٠١

و منها: إيتاؤه الملك العظيم و تسخير الجنّ و الطير و الريح له و تعليمه منطق الطير و قد تكرّر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية ١٠٢ و الأنبياء الآية ٨١، و النمل الآية ١٦ - ١٨، و سبإ الآية ١٢ - ١٣ و ص الآية ٣٥ - ٣٩.

و منها: الإشارة إلى قصّة إلقاء جسد على كرسيّه كما في سورة ص الآية ٣٣.

و منها: الإشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص الآية ٣١ - ٣٣.

و منها: الإشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم الّتي نفشت في الحرث كما في سورة الأنبياء الآية ٧٨ - ٧٩.

و منها: الإشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية ١٨ - ١٩.

و منها: قصّة الهدهد و ما يتبعها من قصّتهعليه‌السلام مع ملكة سبإ سورة النمل الآية ٢٠ - ٤٤.

و منها: الإشارة إلى كيفيّة موتهعليه‌السلام كما في سورة سبإ الآية ١٤.

و قد أوردنا ما يخصّ بكلّ من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب.

٢- الثناء عليه في القرآن: ورد اسمهعليه‌السلام في بضعة عشر موضعاً من كلامه تعالى و قد أكثر الثناء عليه فسمّاه عبداً أوّاباً قال تعالى:( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص: ٣٠، و وصفه بالعلم و الحكم قال تعالى:( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً ) الأنبياء: ٧٩ و قال:( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً ) النمل: ١٥ و قال:( وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) النمل: ١٦، و عدّه من النبيّين المهديّين قال تعالى:( وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ ) النساء: ١٦٣، و قال:( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ) الأنعام: ٨٤.

٣- ذكره عليه‌السلام في العهد العتيق: وقعت قصّته في كتاب الملوك الأول و قد اُطيل فيه في حشمته و جلالة أمره و سعة ملكه و وفور ثروته و بلوغ حكمته غير أنّه لم يذكر فيه شي‏ء من قصصه المشار إليها في القرآن إلّا ما ذكر أنّ ملكة سبإ لما سمعت خبر سليمان و بناءه و بيت الربّ بأورشليم و ما اُوتيه من الحكمة أتت إليه

٤٠٢

و معها هدايا كثيرة فلاقته و سألته عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثمّ رجعت(١) .

و قد أساء العهد العتيق القول فيهعليه‌السلام فذكر(٢) أنّهعليه‌السلام انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام فسجد لأوثان كانت تعبدها بعض أزواجه.

و ذكر أنّ والدته كانت زوج أوريّا الحتّيّ فعشقها داودعليه‌السلام ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريّا حتّى قتل في بعض الحروب فضمّها إلى أزواجه فحبلت منه ثانياً و ولدت له سليمان.

و القرآن الكريم ينزّه ساحتهعليه‌السلام عن أوّل الرميتين بما ينزّه به ساحة جميع الأنبياء بالنصّ على هدايتهم و عصمتهم و قال فيه خاصّة:( وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) بقرة: ١٠٢.

و عن الثانية بما يحكيه من دعائهعليه‌السلام لما سمع قول النملة:( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ ) النمل: ١٩، فقد بيّنّا في تفسيره أنّ فيه دلالة على أنّ والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين.

٤- الروايات الواردة في قصصه عليه‌السلام : الأخبار المرويّة في قصصه و خاصّة في قصّة الهدهد و ما يتبعها من أخباره مع ملكة سبإ يتضمّن أكثرها اُموراً غريبة قلّما يوجد نظائرها في الأساطير الخرافيّة يأباها العقل السليم و يكذّبها التاريخ القطعيّ و أكثرها مبالغة ما روي عن أمثال كعب و وهب.

و قد بلغوا من المبالغة أن ما رووا أنّهعليه‌السلام ملك جميع الأرض، و كان ملكه سبعمائة سنة، و أنّ جميع الإنس و الجنّ و الوحش و الطير كانوا جنوده، و أنّه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستّمائة ألف كرسيّ يجلس عليها اُلوف من النبيّين و مئات الاُلوف من اُمراء الإنس و الجنّ.

____________________

(١) الإصحاح العاشر من الملوك الأوّل.

(٢) الإصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني.

٤٠٣

و أنّ ملكة سبإ كانت اُمّها من الجنّ، و كانت قدمها كحافر الحمارة و كانت تستر قدميها عن أعين النظّار حتّى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، و قد بلغ من شوكتها أنّه كان تحت يدها أربعمائة ملك كلّ ملك على كورة تحت يد كلّ ملك أربعمائة ألف مقاتل و لها ثلاثمائة وزير يدبّرون ملكها و لها اثناً عشر ألف قائد تحت يد كلّ قائد اثناً عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الأخبار الّتي لا يسعنا إلّا أن نعدّها من الإسرائيليّات و نصفح عنها(١) .

( بحث روائي)

في الاحتجاج، روى عبدالله بن الحسن بإسناده عن آبائهعليهم‌السلام : أنّه لما أجمع أبوبكر على منع فاطمةعليهما‌السلام فدك و بلغها ذلك جاءت إليه و قالت له: يا ابن أبي قحافة أ في كتاب الله أن ترث أباك و لا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّا أ فعلى عمد تركتم كتاب الله و نبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول:( وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) . الحديث.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) قال: يحبس أوّلهم على آخرهم.

و في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث قال: و الناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة أ لم تسمع إلى قوله:( فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ )

و في البصائر، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ اسم الله الأعظم على ثلاث و سبعين حرفاً و إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلّم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس ثمّ تناول السرير بيده ثمّ عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، و عندنا نحن من الاسم اثنان و سبعون حرفاً، و حرف عندالله استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و رواه في الكافي، عن جابر

____________________

(١) و على من يريد الوقوف عليها أن يراجع جوامع الأخبار كالدرّ المنثور و العرائس و البحار و مطوّلات التفاسير.

٤٠٤

عن أبي جعفر و عن النوفليّ عن أبي الحسن صاحب العسكرعليهما‌السلام .

و قوله:( إنّ الاسم الأعظم كذا حرفاً و كان عند آصف حرف تكلّم به) لا ينافي ما قدّمنا أنّ هذا الاسم ليس من قبيل الألفاظ فإنّ نفس هذا السياق يدلّ على أنّ المراد بالحرف غير الحرف اللفظيّ و التعبير به من جهة أنّ المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظيّ المؤلف من الحروف الملفوظة.

و في المجمع، في قوله تعالى:( قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) ذكر في ذلك وجوه - إلى أن قال - و الخامس أنّ الأرض طويت له: و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و ما رواه من الطيّ لا يغاير ما تقدّمت روايته من الخسف.

و الّذي نقله من الوجوه الاُخر خمسة أحدها: أنّ الملائكة حملته إليه. الثاني: أنّ الريح حملته. الثالث: أنّ الله خلق فيه حركات متوالية. الرابع: أنّه انخرق مكانه حيث هو هناك ثمّ نبع بين يدي سليمان. الخامس: أنّ الله أعدمه في موضعه و أعاده في مجلس سليمان.

و هناك وجه آخر ذكره بعضهم و هو أنّ الوجود بتجدّد الأمثال بإيجاده و قد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثمّ في الآن التالي عند سليمان. و هذه الوجوه بين ممتنع كالخامس و بين ما لا دليل عليه كالباقي.

و فيه، و روى العيّاشيّ في تفسيره، بالإسناد قال: التقى موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى و يحيى بن أكثم فسأله. قال: فدخلت على أخي عليّ بن محمّدعليه‌السلام إذ دار بيني و بينه من المواعظ حتّى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إنّ ابن أكثم سألني عن مسائل اُفتيه فيها فضحك ثمّ قال: هل أفتيته فيها قلت: لا. قال: و لم؟ قلت: لم أعرفها قال: ما هي؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجاً إلى علم آصف بن برخيا؟ ثمّ ذكرت المسائل الاُخر:

قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه:

٤٠٥

( قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ) فهو آصف بن برخيا و لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنّه أحبّ أن تعرف اُمّته من الجنّ و الإنس أنّه الحجّة من بعده و ذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلّا يختلف في إمامته و دلالته كما فهّم سليمان في حياة داود ليعرّف إمامته و نبوّته من بعده لتأكيد الحجّة على الخلق.

أقول: و أورد الرواية في روح المعاني، عن المجمع‏ ثمّ قال: و هو كما ترى انتهى و لا ترى لاعتراضه هذا وجهاً غير أنّه رأى حديث الإمامة فيها فلم يعجبه.

و في نور الثقلين، عن الكافي عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو - إلى أن قال - و خرجت ملكة سبإ فأسلمت مع سليمانعليه‌السلام .

٤٠٦

( سورة النمل الآيات ٤٥ - ٥٣)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ( ٤٥ ) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ  لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٤٦ ) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ  قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللهِ  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ( ٤٧ ) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ( ٤٨ ) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٤٩ ) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٥٠ ) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥١ ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٥٢ ) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( ٥٣ )

( بيان)

إجمال من قصّة صالح النبيّعليه‌السلام و قومه، و جانب الإنذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى‏ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً - إلى قوله -يَخْتَصِمُونَ ) الاختصام و التخاصم التنازع و توصيف التثنية بالجمع أعني قوله:( فَرِيقانِ ) بقوله:( يَخْتَصِمُونَ ) لكون المراد بالفريقين مجموع الاُمّة و( فَإِذا ) فجائيّة.

٤٠٧

و المعنى: و اُقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم و نسيبهم صالحاً و كان المرجوّ أن يجتمعوا على الإيمان لكن فاجأهم أن تفرّقوا فريقين مؤمن و كافر يختصمون و يتنازعون في الحقّ كلّ يقول: الحقّ معي، و لعلّ المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله:( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) الأعراف: ٧٦.

و من هنا يظهر أنّ أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به و الآخر المستكبرون و باقي المستضعفين ممّن اتّبعوا كبارهم.

قوله تعالى: ( قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) إلخ الاستعجال بالسيّئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة الّتي سببها الإيمان و الاستغفار.

و به يظهر أنّ صالحاًعليه‌السلام إنّما وبّخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة و قالوا له:( يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فيكون قوله:( لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) تحضيضاً إلى الإيمان و التوبة لعلّ الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعداً غير مكذوب.

قوله تعالى: ( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) إلخ التطيّر هو التشؤم، و كانوا يتشأمون كثيراً بالطير و لذا سمّوا التشؤم تطيّراً و نصيب الإنسان من الشرّ طائراً كما قيل.

فقولهم خطاباً لصالح:( اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ ) أي تشأمنا بك و بمن معك ممّن آمن بك و لزمك لما أنّ قيامك بالدعوة و إيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن و البلايا فلسنا نؤمن بك.

و قوله خطاباً للقوم:( طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) أي نصيبكم من الشرّ و هو الّذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه.

و لذا أضرب عن قوله:( طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) بقوله:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) أي تختبرون بالخير و الشرّ ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.

٤٠٨

و معنى الآية: قال القوم: تطيّرنا بك يا صالح و بمن معك فلن نؤمن و لن نستغفر قال صالح: طائركم الّذي فيه نصيبكم من الشرّ عند الله و هو كتاب أعمالكم و لست أنا و من معي ذوي أثر فيكم حتّى نسوق إليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون و تمتحنون بهذه الاُمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم و مطيعكم من عاصيكم.

و ربّما قيل: إنّ الطائر هو السبب الّذي منه يصيب الإنسان ما يصيبه من الخير و الشرّ، فإنّهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضاً يتيمّنون به و الطائر عندهم الأمر الّذي يستقبل الإنسان بالخير و الشرّ كما في قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) إسراء: ١٣، و إذ كان ما يستقبل الإنسان من خير أو شرّ هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدّر للإنسان.

و فيه أنّ ظاهر ذيل آية الإسراء أنّ المراد بالطائر هو كتاب الأعمال دون كتاب القضاء كما يدلّ عليه قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) .

و قيل: معنى( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) أي تعذّبون، و ما ذكرناه أوّلاً أنسب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ) إلخ قال الراغب: الرهط العصابة دون العشرة و قيل إلى الأربعين انتهى، و قيل: الفرق بين الرهط و النفر أنّ الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة و النفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى.

قيل: المراد بالرهط الأشخاص و لذا وقع تمييزاً للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال.

قوله تعالى: ( قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) التقاسم المشاركة في القسم، و التبييت القصد بالسوء ليلاً، و أهل الرجل من يجمعه و إيّاهم بيت أو نسب أو دين، و لعلّ المراد بأهله زوجه و ولده بقرينة قوله بعد:( ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا ) ، و قوله:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) معطوف على قوله:( ما شَهِدْنا ) فيكون من مقول القول.

و المعنى: قال الرهط المفسدون و قد تقاسموا بالله: لنقتلنّه و أهله بالليل ثمّ نقول

٤٠٩

لوليّه إذا عقّبنا و طلب الثأر: ما شهدنا هلاك أهله و إنّا لصادقون في هذا القول، و نفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الأولويّة، على ما قيل.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) حال من فاعل نقول أي نقول لوليّه كذا و الحال أنّا صادقون في هذا القول لأنّا شهدنا مهلكه و أهله جميعاً لا مهلك أهله فقط.

و لا يخفى ما فيه من التكلّف و قد وجّه بوجوه اُخر أشدّ تكلّفاً منه و لا ملزم لأصل الحاليّة.

قوله تعالى: ( وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أمّا مكرهم فهو التواطئ على تبييته و أهله و التقاسم بشهادة السياق السابق و أمّا مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعاً بشهادة السياق اللاحق.

قوله تعالى: ( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) التدمير الإهلاك، و ضمائر الجمع للرهط، و كون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم و قومهم من جهة أنّ مكرهم استدعى المكر الإلهيّ على سبيل المجازاة، و استوجب ذلك إهلاكهم و قومهم.

قوله تعالى: ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) إلخ، الخاوية الخالية من الخواء بمعنى الخلاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) فيه تبشير للمؤمنين بالإنجاء، و قد أردفه بقوله:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) إذ التقوى كالمجنّ للإيمان و قد قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) الأعراف: ١٢٨، و قال:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) طه: ١٣٢.

٤١٠

( سورة النمل الآيات ٥٤ - ٥٨)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( ٥٤ ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ٥٥ ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ  إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( ٥٦ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٥٧ ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا  فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ( ٥٨ )

( بيان)

إجمال قصّة لوطعليه‌السلام و هي كسابقتها في غلبة جانب الإنذار على جانب التبشير.

قوله تعالى: ( وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) معطوف على موضع( أَرْسَلْنا ) في القصّة السابقة بفعل مضمر و التقدير و لقد أرسلنا لوطاً. كذا قيل، و يمكن أن يكون معطوفاً على أصل القصّة بتقدير اذكر و الفاحشة هي الخصلة البالغة في الشناعة و المراد بها اللواط.

و قوله:( وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) أي و أنتم في حال يرى بعضكم بعضاً و ينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء فهو على حدّ قوله في موضع آخر:( وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) العنكبوت: ٢٩، و قيل: المراد إبصار القلب و محصّله العلم بالشناعة و هو بعيد.

قوله تعالى: ( أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) الاستفهام للإنكار، و دخول أداتي التأكيد - إنّ و اللّام - على الجملة الاستفهاميّة للدلالة على أنّ مضمون الجملة من الاستبعاد بحيث لا يصدّقه أحد و الجملة على أيّ حال في محلّ التفسير للفحشاء.

٤١١

و قوله:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) أي مستمرّون على الجهل لا فائدة في توبيخكم و الإنكار عليكم فلستم بمرتدعين، و وضع( تَجْهَلُونَ ) بصيغة الخطاب موضع( يجهلون) من وضع المسبّب موضع السبب كأنّه قيل:( بل أنتم قوم يجهلون فأنتم تجهلون) .

قوله تعالى: ( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أي يتنزّهون عن هذا العمل و هو وارد مورد الاستهزاء.

قوله تعالى: ( فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) المراد بأهله أهل بيته لقوله تعالى:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الذاريات: ٣٦، و قوله:( قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) أي جعلناها من الباقين في العذاب.

قوله تعالى: ( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) المراد بالمطر الحجارة من سجّيل لقوله تعالى:( وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) الحجر: ٧٤، فقوله:( مَطَراً ) يدلّ بتنكيره على النوعيّة أي أنزلنا عليهم مطراً له نبأ عظيم.

٤١٢

( سورة النمل الآيات ٥٩ - ٨١)

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ  آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا  أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ  بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ٦٠ ) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا  أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٦١ ) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ  أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ  قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ  أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ  تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٣ ) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ  أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ  قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٦٤ ) قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ  وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( ٦٥ ) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ  بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا  بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ( ٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ( ٦٧ ) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٦٨ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( ٦٩ ) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ

٤١٣

وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ( ٧٠ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٧١ ) قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ( ٧٢ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ( ٧٣ ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ٧٤ ) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٧٥ ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ٧٦ ) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ( ٧٧ ) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( ٧٨ ) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ  إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( ٧٩ ) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٨٠ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ  إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( ٨١ )

( بيان)

انتقال من القصص الّتي قصّها سبحانه و هي نماذج من سنّته الجارية في النوع الإنسانيّ من حيث هدايته و إراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة و إكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء و عظيم الآلاء و أخذه من أشرك به و أعرض عن ذكره و مكر به بعذاب الاستئصال و أليم النكال.

إلى حمده و السلام على عباده المصطفين و تقرير أنّه هو المستحقّ للعبوديّة دون غيره ممّا يشركون ثمّ سرد الحديث في التوحيد و إثبات المعاد و ما يناسب ذلك

٤١٤

من متفرّقات المعارف الحقّة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مرّ.

قوله تعالى: ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى‏ آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) لما قصّ من قصص الأنبياء و اُممهم ما قصّ و فيها بيان سنّته الجارية في الاُمم الماضين و ما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء و مزيد الإحسان كما في الأنبياء منهم و ما فعل بالكافرين من العذاب و التدمير - و لم يفعل إلّا الخير الجميل و لا جرت سنّته إلّا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيّه بأن يحمده و يثني عليه و أن يسلّم على المصطفين من عباده و قرّر أنّه تعالى هو المتعيّن للعبادة.

فهو انتقال من القصص إلى التحميد و التسليم و التوحيد و ليس باستنتاج و إن كان في حكمه و إلّا قيل: فقل الحمد لله إلخ أو فالله خير إلخ.

فقوله:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أمر بتحميده و فيه إرجاع كلّ حمد إليه تعالى لما تقرّر بالآيات السابقة أنّ مرجع كلّ خلق و تدبير إليه و هو المفيض كلّ خير بحكمته و الفاعل لكلّ جميل بقدرته.

و قوله:( وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) معطوف على ما قبله من مقول القول و في التسليم لاُولئك العباد المصطفين نفي كلّ ما في نفس المسلّم من جهات التمانع و التضادّ لما عندهم من الهداية الإلهيّة و آثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الأمر بالسلام أمر ضمنيّ بالتهيّؤ لقبول ما عندهم من الهدى و آثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) الأنعام: ٩٠، فافهمه.

و قوله:( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) من تمام الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الاستفهام للتقرير و محصّل المراد أنّه إذا كان الثناء كلّه لله و هو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الّذين يعبدونهم و لا خلق و لا تدبير لهم يحمدون عليه و لا خير بأيديهم يفيضونه على عبّادهم.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً )

٤١٥

إلى آخر الآية، الحدائق جمع حديقة و هي البستان المحدود المحوّط بالحيطان و ذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان: ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه و لم يقل: ذوات بهجة لأنّه أراد تأنيث الجماعة و لو أراد تأنيث الأعيان لقال: ذوات. انتهى.

و( أم ) في الآية منقطعة تفيد معنى الإضراب، و( من ) مبتدأ خبره محذوف و كذا الشقّ الآخر من الترديد و الاستفهام للتقرير و حملهم على الإقرار بالحقّ و التقدير على ما يدلّ عليه السياق بل أمن خلق السماوات و الأرض إلخ خير أم ما يشركون. و الأمر على هذا القياس في الآيات الأربع التالية.

و معنى الآية: بل أمن خلق السماوات و الأرض و أنزل لكم أي لنفعكم من السماء و هي جهة العلو ماء و هو المطر فأنبتنا به أي بذلك الماء بساتين ذات بهجة و نضارة ما كان لكم أي لا تملكون و ليس في قدرتكم أن تنبتوا شجرها أ إله آخر مع الله سبحانه و هو إنكار و توبيخ.

و في الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين و النكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضوراً فإنّ مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلّم ممّن يخاطب أحد خواصّه بحضرة من عبيده المتمرّدين المعرضين عن عبوديّته يبث إليه الشكوى و هو يسمعهم حتّى إذا تمّت الحجّة و قامت البيّنة كما في قوله:( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) هاج به الوجد و الأسف فتوجّه إليهم بعد الإعراض فأخذ في حملهم على الإقرار بالحقّ بذكر آية بعد آية و إنكار شركهم و توبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره و عدم علم أكثرهم و قلّة تذكّرهم مع تعاليه عن شركهم و عدم برهان منهم على ما يدّعون.

و قوله:( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) أي عن الحقّ إلى الباطل و عن الله سبحانه إلى غيره و قيل: أي يعدلون بالله غيره و يساوون بينهما.

و في الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين و رجوع إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الإضراب فيه لبيان أن لا جدوى للسير في حملهم على الحقّ

٤١٦

فإنّهم عادلون عنه.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ) إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القارّ المستقرّ، و الخلال جمع خلل بفتحتين و هو الفرجة بين الشيئين، و الرواسي جمع راسية و هي الثابتة و المراد بها الجبال الثابتات، و الحاجز هو المانع المتخلّل بين الشيئين.

و المعنى: بل أمن جعل الأرض مستقرّة لا تميد بكم، و جعل في فرجها الّتي في جوفها أنهاراً و جعل لها جبالاً ثابتة و جعل بين البحرين مانعاً من اختلاطهما و امتزاجهما هو خير أم ما يشركون؟ و الكلام في قوله:( أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) كالكلام في نظيره من الآية السابقة.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) المراد بإجابة المضطرّ إذا دعاه استجابة دعاء الداعين و قضاء حوائجهم و إنّما اُخذ وصف الاضطرار ليتحقّق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء و المسألة إذ ما لم يقع الإنسان في مضيقة الاضطرار و كان في مندوحة من المطلوب لم يتمحّض منه الطلب و هو ظاهر.

ثمّ قيّده بقوله:( إِذا دَعاهُ ) للدلالة على أنّ المدعوّ يجب أن يكون هو الله سبحانه و إنّما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامّة الأسباب الظاهريّة و يتعلّق قلبه بربّه وحده و أمّا من تعلّق قلبه بالأسباب الظاهريّة فقط أو بالمجموع من ربّه و منها فليس يدعو ربّه و إنّما يدعو غيره.

فإذا صدق في الدعاء و كان مدعوّه ربّه وحده فإنّه تعالى يجيبه و يكشف السوء الّذي اضطرّه إلى المسألة كما قال تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠، فلم يشترط للاستجابة إلّا أن يكون هناك دعاء حقيقة و أن يكون ذلك الدعاء متعلّقاً به وحده، و قال أيضاً:( وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦، و قد فصّلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية.

٤١٧

و بما مرّ من البيان يظهر فساد قول بعضهم: إنّ اللّام في( الْمُضْطَرَّ ) للجنس دون الاستغراق فكم من مضطرّ يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطرّ في الجملة لا بالجملة.

وجه الفساد أنّ مثل قوله:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) و قوله:( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) يأبى تخلّف الدعاء عن الاستجابة، و قوله: كم من مضطرّ يدعو فلا يجاب، غير مسلّم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدّم بيانه.

على أنّ هناك آيات كثيرة تدلّ على أنّ الإنسان يتوجّه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربّه فيدعوه بالإخلاص فيستجاب له كقوله تعالى:( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ) الآية يونس: ١٢، و قوله:( حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ - إلى قوله -وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يونس: ٢٢، و كيف يتصوّر تعلّق النفس بتوجّهها الغريزي الفطريّ بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلّا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجوديّة إلى من يوجدها و يدبّر أمرها أنّ هناك أمراً يرفع حاجتها و هو الله سبحانه.

فإن قلت: نحن كثيراً ما نتوسّل في حوائجنا من الأسباب الظاهريّة بما لا نقطع بفعليّة تأثيره في رفع حاجتنا و إنّما نتعلّق به رجاء أن ينفعنا إن نفع.

قلت: هذا توسّل فكريّ مبدؤه الطمع و الرجاء و هو غير التوسّل الغريزيّ الفطريّ نعم في ضمنه نوع من التوجّه الغريزيّ الفطريّ و هو التسبّب بمطلق السبب و مطلق السبب لا يتخلّف، فافهم.

و ظهر أيضاً فساد قول من قال: المراد بالمضطرّ إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإنّ الله يغفر له و هو إجابته.

و فيه أنّ إشكال الاستغراق بحاله فما كلّ استغفار يستتبع المغفرة و لا كلّ مستغفر يغفر له. على أنّه لا دليل على تقييد إطلاق المضطرّ بالمذنب العاصي.

٤١٨

و ذكر بعضهم: أنّ الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الإجابة بالمشيّة كما وقع ذلك في قوله تعالى:( فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) الأنعام: ٤١.

و فيه أنّ الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الإجابة في آية المضطرّ و هو قوله تعالى:( قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلّق بكشفها طلب حقيقيّ، و أمّا العذاب الإلهيّ فإن طلب كشفه بتوبة و إيمان حقيقيّ فإنّ الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس و إن لم يكن كذلك بل احتيالاً للنجاة منه فلا لعدم كونه طلباً حقيقيّاً بل مكراً في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما أدركه الغرق( قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يونس: ٩١، و حكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب:( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ ) الأنبياء: ١٥.

و بالجملة فمورد قوله:( فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) لما كان ممّا يمكن أن يكون الطلب فيه حقيقيّاً أو غير حقيقيّ كان من اللّازم تقييد الكشف و الإجابة فيه بالمشيّة فيكشف الله عنهم إن شاء و ذلك في مورد حقيقة الطلب و الإيمان و لا يكشف إن لم يشأ و هذا غير مورد آية المضطرّ و سائر آيات إجابة الدعوة الّذي يتضمّن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده.

و قوله:( وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) الّذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الأرضيّة الّتي جعلها الله للإنسان يتصرّف بها في الأرض و ما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠.

و ذلك أنّ تصرّفاته الّتي يتصرّف بها في الأرض و ما فيها بخلافته اُمور مرتبطة بحياته متعلّقة بمعاشه فالسوء الّذي يوقعه موقع الاضطرار و يسأل الله كشفه لا محالة شي‏ء من الأشياء الّتي تمنعه التصرّف أو بعض التصرّف فيها و تغلق عليه باب الحياة

٤١٩

و البقاء و ما يتعلّق بذلك أو بعض أبوابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته.

و يتّضح هذا المعنى مزيد اتّضاح لو حمل الدعاء و المسألة في قوله:( إِذا دَعاهُ ) على الأعمّ من الدعاء اللسانيّ كما هو الظاهر من قوله تعالى:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) إبراهيم: ٣٤، و قوله:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩، إذ يكون على هذا جميع ما اُوتي الإنسان و رزقه من التصرّفات من مصاديق كشف السوء عن المضطرّ المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه و كشف السوء الّذي اضطرّه عنه.

و قيل: المعنى و يجعلكم خلفاء من قبلكم من الاُمم في الأرض تسكنون مساكنهم و تتصرّفون فيها بعدهم هذا. و ما قدّمناه من المعنى أنسب منه للسياق.

و قيل: المعنى: و يجعلكم خلفاء من الكفّار بنزول بلادهم و طاعة الله تعالى بعد شركهم و عنادهم. و فيه أنّ الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس الّتي قبلها للكفّار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) خطاب توبيخيّ للكفّار و قرئ( يذكرون) بالياء للغيبة و هو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله:( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) و غيرهما، فإنّ الخطاب فيها جميعاً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الالتفات كما مرّ بيانه.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) إلخ، و المراد بظلمات البرّ و البحر ظلمات الليالي في البرّ و البحر ففيه مجاز عقليّ، و المراد بإرسال الرياح بشراً إرسالها مبشّرات بالمطر قبيل نزوله و الرحمة المطر، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لأوّل مرّة و إعادته إرجاعه إليه بالبعث و تبكيت المشركين بالبدء و الإعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، بناء على ثبوت المعاد بالأدلّة القاطعة في كلامه فاُخذ كالمسلّم ثمّ استدرك

٤٢٠