الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 453
المشاهدات: 119344
تحميل: 5562


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119344 / تحميل: 5562
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 15

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنكارهم له أو شكّهم فيه في الآيات التالية.

و قيل: المراد ببدء الخلق ثمّ إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثمّ إهلاكه و إيجاد نظيره بعده و بالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد أنّ المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتجّ به عليهم. هذا و هو بعيد من ظاهر الآية.

و ما تتضمّنه الآية من لطائف الحقائق القرآنيّة يفيد أن لا بطلان في الوجود مطلقاً بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالإعادة و ما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منّا له بعد وجدانه.

و أمّا ما أجمع عليه المتكلّمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالأعراض و اختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرّره الآية، فإنّ البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتّى يمتنع بامتناع إعادته لو امتنعت بل البعث عود الخلق و رجوعه و هو خلق من غير بطلان إلى ربّه المبدئ له.

و قوله:( وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إشارة إلى ما وقع من تدبيره لأمرهم بين البدء و العود و هو رزقهم بأسباب سماوية كالأمطار و أسبابها و الأرضيّة كعامّة ما يتغذّى به الإنسان من الأرضيّات.

و قوله:( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) لما ذكر سبحانه فصولاً مشتملة على عامّة الخلق و التدبير مع الإشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض و ارتباط الجميع إلى الخلق و عاد الخلق و التدبير بذلك أمراً واحداً منتسباً إليه قائماً به تعالى و ثبت بذلك أنّه تعالى هو ربّ كلّ شي‏ء وحده لا شريك له و كان لازم ذلك إبطال اُلوهيّة الآلهة الّتي يدعونها من دون الله.

و ذلك أنّ الاُلوهيّة و هي استحقاق العبادة تتبع الربوبيّة الّتي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إمّا لتكون شكراً للنعمة أو اتّقاء للنقمة و على أيّ حال ترتبط بالتدبير الّذي هو من شؤون الربوبيّة.

و كان إبطال اُلوهيّة الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه

٤٢١

الآيات كما يدلّ على ذلك قوله بعد إيراد كلّ واحد من الفصول:( أَ إِلهٌ مَعَ اللهِ ) .

أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) أن يطالبهم بالبرهان على ما يدّعونه من اُلوهيّة آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنّهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلّوا على اُلوهيّتها بشي‏ء كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئاً من تدبير العالم و الحال أنّ جميع الخلق و التدبير له تعالى وحده.

قوله تعالى: ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) لما أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إبطال اُلوهيّة آلهتهم بانتساب الخلق و التدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدّعونه أمره ثانياً أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان اُلوهيّة آلهتهم و هو عدم علمهم بالغيب و عدم شعورهم بالساعة و أنّهم أيّان يبعثون مع أنّه لا يعلم أحد ممّن في السماوات و الأرض و منهم آلهتهم الّذين هم الملائكة و الجنّ و قدّيسوا البشر - الغيب و ما يشعرون أيّان يبعثون، و لو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - و من التدبير الجزاء يوم البعث لعلموا بالساعة.

و قد ظهر بهذا البيان أنّ قوله:( لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ) برهان مستقلّ على بطلان اُلوهيّة آلهتهم و اختصاص الاُلوهيّة به تعالى وحده و أنّ قوله:( وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) من عطف أوضح أفراد الغيب عليه و أهمّها علماً بالنسبة إلى أمر التدبير.

و ظهر أيضاً أنّ ضميري الجمع في( وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه.

فقول بعضهم: إنّ الضمير للمشركين و إن كان عدم الشعور بما ذكر عامّاً لئلّا يلزم التفكيك بينه و بين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعاً.

فيه أنّه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدّمنا الإشارة إليه و التفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به.

قوله تعالى: ( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها

٤٢٢

عَمُونَ ) ادّارك في الأصل تدارك و التدارك تتابع أجزاء الشي‏ء بعضها بعد بعض حتّى تنقطع و لا يبقى منها شي‏ء، و معنى تدارك علمهم في الآخرة أنّهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتّى نفد علمهم فلم يبق منه شي‏ء يدركون به أمر الآخرة على حدّ قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠ و( عَمُونَ ) جمع عمي.

لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث و تبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذكّره أنّهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شي‏ء عن اُمور الآخرة فضلاً عن وقت قيام الساعة و ذلك أنّهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى اُمور الآخرة بل هم في شكّ من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنيّة على الاستبعاد بل هم منها عمون و الله أعمى قلوبهم عن التصديق بها و الاعتقاد بوجودها.

و قد ظهر بهذا البيان أنّ تكرّر كلمة الإضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة و أنّهم في أعلاها، فقوله:( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) أي لا علم لهم بها كأنّها لم تقرع سمعهم، و قوله:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها ) أي أنّه قرع سمعهم خبرها و ورد قلوبهم لكنّهم ارتابوا و لم يصدّقوا بها، و قوله:( بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ) أي إنّهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم و باختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئاً.

و قيل: المراد بتدارك علمهم تكامله و بلوغه حدّ اليقين لتكامل الحجج الدالّة على حقّيّة البعث و الجملة مسوقة للتهكّم، و فيه أنّه لا يلائم ما يتبعه من الإضراب بالشكّ و العمى.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ - إلى قوله -الْأَوَّلِينَ ) حكاية حجّة منهم لنفي البعث مبنيّة على الاستبعاد أي كيف

٤٢٣

يمكن أن نخرج من الأرض بشراً تامين كما نحن اليوم و قد متناً و كنّا تراباً نحن و آباؤنا كذلك؟.

و قوله:( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ) حجّة اُخرى منهم مبنيّة على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا و هو البعث بعد الموت نحن و آباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبيّ و الّذين وعدوا قبلاً هم الأنبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به و لو كان خبراً صادقاً و وعداً حقّاً لوقع إلى هذا اليوم و إذ لم يقع فهو من الخرافات الّتي اختلقها الأوّلون و كانوا مولعين باختلاق الأوهام و الخرافات و الإصغاء إليها.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) إنذار و تخويف لهم على إنكارهم وعد الأنبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذّبين للأنبياء المنذرين لهم بالبعث فإنّ في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدلّ عليه مساكنهم الخربة و ديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من اُولي الأبصار، و في التعبير عن المكذّبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم. كذا قيل.

و يمكن أن تقرّر الآية حجّة تدلّ على المعاد و تقريبها أنّ انتهاء عاقبة أمر المجرمين إلى عذاب الاستئصال دليل على أنّ الاجرام و الظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه و أنّ العمل إحساناً كان أو إجراماً محفوظ على عامله سيحاسب عليه و إذ لم تقع عامّة هذا الحساب و الجزاء - و خاصّة على الأعمال الصالحة - في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة اُخرى و هي الدار الآخرة.

فتكون الآية في معنى قوله تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨، و يؤيّد هذا التقرير قوله:( عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) و لو كان المراد تهديد مكذّبي الرسل و تخويفهم كان الأنسب أن يقال: عاقبة المكذّبين، كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) أي لا يحزنك

٤٢٤

إصرارهم على الكفر و الجحود و لا يضق صدرك من مكرهم لإبطال دعوتك و صدّهم الناس عن سبيل الله فإنّهم بعين الله و ليسوا بمعجزيه و سيجزيهم بأعمالهم.

فالآية مسوقة لتطييب نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ ) إلخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الظاهر أنّ المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعمّ من الدنيا و الآخرة، و السياق يؤيّد ذلك و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) قالوا: إنّ اللّام في( رَدِفَ لَكُمْ ) مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله:( وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة: ١٩٨، و المعنى تبعكم و لحق بكم، و قيل: إنّ ردف مضمّن معنى فعل يعدّي باللّام.

و المراد ببعض الّذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنّهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، و هو ملازم لعذابهم، و عذابهم في الدنيا بعض العذاب الّذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، و لعلّ مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل.

قالوا: إنّ( عسى و لعل) من الله تعالى واجب لأنّ حقيقة الترجّي مبنيّة على الجهل و لا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله:( عَسى‏ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) سيردفكم و يأتيكم العذاب محقّقاً.

و فيه أنّ معنى الترجّي و التمنّي و نحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلّم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما و هو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلّم من المقام و غيره و ما في الآية من الجواب لما اُرجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائماً بنفسه الشريفة و المعنى: قل أرجو أن يكون ردف لكم العذاب.

و في تفسير أبي السعود:، و عسى و لعلّ و سوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم

٤٢٥

بها، و إنّما يطلقونها إظهاراً للوقار، و إشعاراً بأنّ الرمز من أمثالهم كالتصريح ممّن عداهم و على ذلك مجرى وعد الله تعالى و وعيده انتهى و هو وجه وجيه.

و معنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الّذي تستعجلونه و هو عذاب الدنيا الّذي يقرّبكم من عذاب الآخرة و يؤدّيكم إليه، و في التعبير بقوله:( رَدِفَ لَكُمْ ) إيماء إلى قربه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) معنى الآية في نفسها ظاهر و وقوعها في سياق التهديد و التخويف يفيد أنّ تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنّما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنّهم لا يشكرونه و يسألون تعجيله.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ ) أي إنّ تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم و ما يستحقّونه بالكفر و الجحود فإنّه يعلم ما تستره و تخفيه صدورهم و ما يظهرونه.

ثمّ أكّد ذلك بأنّ كلّ غائبة - و هي ما من شأنه أن يغيب و يخفى في أيّ جهة من جهات العالم كان - مكتوب محفوظ عنده تعالى و هو قوله:( وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ - إلى قوله -الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تمهيد لما سيذكره من حقّيّة دعوته و تقوية لإيمان المؤمنين به، و بهذا الوجه يتّصل بقوله قبلاً:( وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) إلخ المشعر بحقّيّة دعوته.

فقوله:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يشير إلى ما يقصّه القرآن من قصص الأنبياء و يبيّن الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمرهم و منه أمر المسيحعليه‌السلام و يبيّن الحقّ فيما اختلفوا فيه من المعارف و الأحكام.

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يشير إلى أنّه يهدي المؤمنين بما قصّه

٤٢٦

على بني إسرائيل إلى الحقّ و أنّه رحمة لهم تطمئنّ به قلوبهم و يثبت الإيمان بذلك في نفوسهم.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) إشارة إلى أنّ القضاء بينهم إلى الله فهو ربّه العزيز الّذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل و لا يخطئ في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بربّه العزيز العليم قاضياً حكماً و لترجع الأمر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حقّ المشركين و لا تحزن عليهم و لا تكون في ضيق ممّا يمكرون.

قوله تعالى: ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين و اختلاف بني إسرائيل أي إنّ أمرهم جميعاً إلى الله لا إليك فاتّخذه وكيلاً فهو كافيك و لا تخافنّ شيئاً إنّك في أمن من الحقّ.

قوله تعالى: ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى -‏ إلى قوله -فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) تعليل للأمر بالتوكّل أي إنّما أمرناك بالتوكّل على الله في أمر إيمانهم و كفرهم لأنّهم موتى و ليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك و إنّهم صمّ لا يسمعون و عمي ضالّون لا تقدر على إسماع الصمّ إذا ولّوا مدبرين - و لعلّه قيّد عدم إسماع الصمّ بقوله:( إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) لأنّهم لو لم يكونوا مدبرين لأمكن تفهيمهم بنوع من الإشارة - و لا على هداية العمي عن ضلالتهم، و إنّما الّذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالّة علينا و تهديهم فإنّهم لإذعانهم بتلك الحجج الحقّة مسلمون لنا مصدّقون بما تدلّ عليه.

و قد تبيّن بهذا البيان أوّلاً أنّ المراد بالإسماع الهداية.

و ثانياً: أنّ المراد بالآيات الحجج الدالّة على التوحيد و ما يتبعه من المعارف الحقّة.

و ثالثاً: أنّ من تعقّل الحجج الحقّة من آيات الآفاق و الأنفس بسلامة من العقل ثمّ استسلم لها بالإيمان و الانقياد ليس هو من الموتى و لا ممّن ختم الله على سمعه و بصره.

٤٢٧

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ سَلامٌ عَلى‏ عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى‏ ) قال: هم آل محمّدعليه‌السلام .

أقول: و رواه أيضاً في جمع الجوامع، عنهمعليه‌السلام مرسلاً مضمراً، و قد عرفت فيما تقدّم من البيان في ذيل الآية أنّ الّذي يعطيه السياق أنّ المراد بهم بحسب مورد الآية الأنبياء المنعّمون بنعمة الاصطفاء و قد قصّ الله قصص جمع منهم فقولهعليه‌السلام - لو صحّت الرواية - هم آل محمّدعليهم‌السلام من قبيل الجري و الانطباق.

و نظيرها ما رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الكتب عن ابن عبّاس: في الآية قال: هم أصحاب محمّد فهو - لو صحّت الرواية - إجراء منه و تطبيق.

و منه يظهر ما فيما رواه أيضاً عن عبد بن حميد و ابن جرير عن سفيان الثوريّ: في الآية قال: نزلت في أصحاب محمّد خاصّة، فلا نزول و لا اختصاص.

و في تفسير القمّيّ، أيضاً: في قوله تعالى:( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) قال: عن الحقّ.

و فيه في قوله تعالى:( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ ) الآية حدّثني أبي عن الحسن بن عليّ بن فضّال عن صالح بن عقبة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت في القائم من آل محمّدعليهم‌السلام هو و الله المضطرّ إذا صلّى في المقام ركعتين و دعا إلى الله عزّوجلّ فأجابه و يكشف السوء و يجعله خليفة في الأرض.

أقول: و الرواية أيضاً من الجري و الآية عامّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ عن سعد بن جنادة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لأنّ الله تعالى يقول:( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) فالخلافة من الله عزّوجلّ فإن كان خيراً فهو يذهب به و إن كان شرّاً فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به.

أقول: الرواية لا تخلو من شي‏ء فقد تقدّم أنّ المراد بالخلافة في الآية - على

٤٢٨

ما يشهد به السياق - الخلافة الأرضيّة المقدّرة لكلّ إنسان و هو السلطة على ما في الأرض بأنواع التصرّف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الاُمّة بإدارة رحى مجتمعهم.

و مع الغضّ عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أنّ سلطانه على الناس بتقدير من الله و بعبارة اُخرى انتسابها التكوينيّ إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى:( أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ) البقرة: ٢٥٨، و قوله حكاية عن فرعون:( أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الزخرف: ٥١، فمن البيّن أنّ الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة و حرمة المخالفة و إلّا كان نقضاً لأصل الدعوة الدينيّة و إيجاباً لطاعة أمثال نمرود و فرعون و كم لها من نظير، و إن كان المراد به الجعل الوضعيّ الدينيّ و بعبارة اُخرى انتسابها التشريعيّ إلى الله تعالى ثمّ وجبت طاعته فيما يأمر به و إن كان معصية كان ذلك نقضاً صريحاً للأحكام، و إن كان الواجب طاعته في غير معصية الله‏ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) جازت مفارقة الجماعة في الجملة و هو يناقض صدر الرواية.

و نظير الإشكال يجري في قوله ذيلاً:( عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به) فلو كان المراد ممّا أمر الله به طاعته مقام الخلافة و إن كان في معصية كان نقضاً صريحاً لتشريع الأحكام و إن كان المراد به طاعة الله و إن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضاً لصدر الرواية.

و قد اتّضح اليوم بالأبحاث الاجتماعيّة أنّ إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدّسة الجارية لا يرضى به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرّع الدين عن ذلك، و القول بأنّ مصلحة حفظ وحدة الكلمة و اتّفاق الاُمّة أهمّ من حفظ بعض الأحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج الطيالسيّ و سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم

٤٢٩

و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن مسروق قال: كنت متّكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على الله الفرية. قلت: و ما هنّ؟ قالت: من زعم أنّ محمّداً رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية قال: و كنت متّكئا فجلست و قلت: يا اُمّ المؤمنين أنظريني و لا تعجلي عليّ أ لم يقل الله:( وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ) ( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏ ) ؟

فقالت: أنا أوّل هذه الاُمّة سأل هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: جبرئيل. لم أره على صورته الّتي خلق عليها غير هاتين المرّتين رأيته منهبطا من السماء سادّاً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض. قالت: أ لم تسمع الله عزّوجلّ يقول:( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ؟ أ و لم تسمع الله يقول:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً - إلى قوله -عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .

و من زعم أنّ محمّداً كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية و الله جل ذكره يقول:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

قالت: و من زعم أنّه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية و الله تعالى يقول:( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ) .

أقول: و في متن الرواية شي‏ء أمّا آيات الرؤية فإنّما تنفي رؤية الحسّ دون رؤية القلب و هي من الرؤية وراء الإيمان الّذي هو الاعتقاد و قد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له.

و أمّا قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنّها خاصّة غير عامّة و لو فرضت عامّة فإنّما تدلّ على أنّ كلّ ما اُنزل إليه ممّا فيه رسالة وجب عليه تبليغه و من الجائز أن ينزل إليه ما يختصّ علمه بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكتمه عن غيره.

و أمّا قوله:( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ ) فلا يدلّ إلّا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، و لا

٤٣٠

ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧، و قد حكى الله سبحانه نحواً من هذا الإخبار عن المسيحعليه‌السلام إذ قال:( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ ) آل عمران: ٤٩، و من المعلوم أنّ القائل أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له.

و قد تواترت الأخبار على تفرّقها و تنوّعها من طرق الفريقين على إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثير من الحوادث المستقبلة.

٤٣١

( سورة النمل الآيات ٨٢ - ٩٣)

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ( ٨٢ ) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ٨٣ ) حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٨٤ ) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ( ٨٥ ) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٨٦ ) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ  وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( ٨٧ ) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ  صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ  إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( ٨٨ ) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( ٨٩ ) وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٩٠ ) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ  وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٩١ ) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ  فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ  وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ( ٩٢ ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا  وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٩٣ )

٤٣٢

( بيان)

هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث و بعض ما يلحق به من الاُمور الواقعة فيه و بعض أشراطه و تختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) مقتضى السياق - بما أنّ الآية متّصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خصوص أهل مكّة من قريش و قد كانوا أشدّ الناس عداوة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته - أنّ ضمائر( عَلَيْهِمْ ) و( لَهُمْ ) و( تُكَلِّمُهُمْ ) للمشركين المحدّث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنّهم ناس معنيّون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامّة الناس من هذه الاُمّة من حيث وحدتهم فيلحق بأوّلهم من الحكم ما يلحق بآخرهم و هذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى.

و المراد بوقوع القول عليهم تحقّق مصداق القول فيهم و تعيّنهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية:( وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا ) أي حقّ عليهم العذاب، فالجملة في معنى( حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) و قد كثر وروده في كلامه تعالى، و الفرق بين التعبيرين أنّ العناية في( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) بتعيّنهم مصداقاً للقول و في( حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) باستقرار القول و ثبوته فيهم بحيث لا يزول.

و أمّا ما هو هذا القول الواقع عليهم فالّذي يصلح من كلامه تعالى لأن يفسّر به قوله:( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) حم السجدة: ٥٣، فإنّ المراد بهذه الآيات الّتي سيريهم غير الآيات السماويّة و الأرضيّة الّتي هي بمرآهم و مسمعهم دائماً قطعاً بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها و تضطرّ للإيمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشي‏ء من آيات السماء و الأرض الّتي هي تجاه أعينهم و تحت مشاهدتهم.

٤٣٣

و بهذا يظهر أنّ قوله:( أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) تعليل لوقوع القول عليهم و التقدير لأنّ الناس، و قوله:( كانُوا ) لإفادة استقرار عدم الإيقان فيهم و المراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء و الأرض غير الآيات الخارقة، و قرئ( أَنَّ ) بكسر الهمزة و هي أرجح من قراءة الفتح فيؤيّد ما ذكرناه و تكون الجملة بلفظها تعليلاً من دون تقدير اللّام.

و قوله:( أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله:( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) و في كونه وصفاً لأمر خارق للعادة دلالة على أنّ المراد بالإخراج من الأرض إمّا الإحياء و البعث بعد الموت و إمّا أمر يقرب منه، و أمّا كونها دابّة تكلّمهم فالدابّة ما يدبّ في الأرض من ذوات الحياة إنساناً كان أو حيواناً غيره فإن كان إنساناً كان تكليمه الناس على العادة و إن كان حيواناً أعجم كان تكليمه كخروجه من الأرض خرقاً للعادة.

و لا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية و أنّ هذه الدابّة الّتي سيخرجها لهم من الأرض فتكلّمهم ما هي؟ و ما صفتها؟ و كيف تخرج؟ و ما ذا تتكلّم به؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أنّ القصد إلى الإبهام فهو كلام مرموز فيه.

و محصّل المعنى: أنّه إذا آل أمر الناس - و سوف يؤل - إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم و بطل استعدادهم للإيمان بنا بالتعقّل و الاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبيّنة لهم الحقّ بحيث يضطرّون إلى الاعتراف بالحقّ فأخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلّمهم.

هذا ما يعطيه السياق و يهدي إليه التدبّر في الآية من معناها، و قد أغرب المفسّرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية و جملها و المحصّل منها و في حقيقة هذه الدابّة و صفتها و معنى تكليمها و كيفيّة خروجها و زمان خروجها و عدد خروجها و المكان الّذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معوّل فيها إلّا على التحكّم، و لذا أضربنا عن نقلها و البحث عنها، و من أراد الوقوف عليها فعليه بالمطوّلات.

٤٣٤

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) الفوج - كما ذكره الراغب - الجماعة المارّة المسرعة، و الإيزاع إيقاف القوم و حبسهم بحيث يردّ أوّلهم على آخرهم.

و قوله:( وَ يَوْمَ نَحْشُرُ ) منصوب على الظرفيّة لمقدّر و التقدير و اذكر يوم نحشر و المراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لأنّ المحشورين فوج من كلّ اُمّة و لا اجتماع لجميع الاُمم في زمان واحد و هم أحياء، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ) للتبعيض، و في قوله:( مِمَّنْ يُكَذِّبُ ) للتبيين أو للتبعيض.

و المراد بالآيات في قوله:( يُكَذِّبُ بِآياتِنا ) مطلق الآيات الدالّة على المبدإ و المعاد و منها الأنبياء و الأئمّة و الكتب السماويّة دون الساعة و ما يقع فيها و عند قيامها و دون الآيات القرآنيّة فقط لأنّ الحشر ليس مقصوراً على الاُمّة الإسلاميّة بل أفواج من اُمم شتّى.

و من العجيب إصرار بعضهم على أنّ الكلام نصّ في أنّ المراد بالآيات ههنا و في الآية التالية هي الآيات القرآنيّة قال: لأنّها هي المنطوية على دلائل الصدق الّتي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأمّلوا و يتدبّروا فيها لا مثل الساعة و ما فيها انتهى.

و فساده ظاهر لأنّ عدم كون أمثال الساعة و ما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنيّة مع ظهور أنّ المحشورين أفواج من جميع الاُمم و ليس القرآن إلّا كتاباً لفوج واحد منهم.

و ظاهر الآية أنّ هذا الحشر في غير يوم القيامة لأنّه حشر للبعض من كلّ اُمّة لا لجميعهم و قد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: ٤٧.

و قيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلّيّ الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر.

و فيه أنّه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعاً للإبهام كما في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها )

٤٣٥

حم السجدة: ٢٠ مع أنّه لم يذكر في ما بعد هذه الآية إلّا العتاب و الحكم الفصل دون العذاب و الآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلى شي‏ء يلوّح إلى هذا الحشر الخاصّ المذكور و يزيدها إطلاقاً قوله بعدها:( حَتَّى إِذا جاؤُا ) فلم يقل: حتّى إذا جاؤا العذاب أو النار أو غيرها.

و يؤيّد ذلك أيضاً وقوع الآية و الآيتين بعدها بعد نبإ دابّة الأرض و هي من أشراط الساعة و قبل قوله:( وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ) إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، و لا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه و وقوع عامّة ما يقع فيه فإنّ الترتيب الوقوعيّ يقتضي ذكر حشر فوج من كلّ اُمّة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور و إتيانهم إليه داخرين.

و قد تنبّه لهذا الإشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعلّ تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور و وقوع الواقعة للإيذان بأنّ كلّا ممّا تضمّنه هذا و ذاك من الأحوال طامّة كبري و داهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها و لو روعي الترتيب الوقوعيّ لربّما توهّم أنّ الكلّ داهية واحدة.

و أنت خبير بأنّه وجه مختلق غير مقنع، و لو كان كما ذكر لكان دفع توهّم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الإبهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهّم الّذي توهّمه.

فقد بان أنّ الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة و إن لم تكن نصّاً لا يقبل التأويل.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) المراد بالمجي‏ء - بإعانة من السياق - هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله:( قالَ أَ كَذَّبْتُمْ ) إلخ و المراد بالآيات - كما تقدّم في الآية السابقة - مطلق الآيات الدالّة على الحقّ، و قوله:( وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ) جملة حاليّة أي كذّبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لإعراضكم عنها فكيف كذّبتم بما لا تعلمون

٤٣٦

أي رميتموها بالكذب و عدم الدلالة من غير علم، و قوله:( أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي غير التكذيب.

و المعنى: حتّى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: أ كذّبتم بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أيّ شي‏ء كنتم تعملون غير التكذيب، و في ذلك عتابهم بأنّهم لم يشتغلوا بشي‏ء غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذّر.

قوله تعالى: ( وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) الباء في( بِما ظَلَمُوا ) للسببيّة و( ما ) مصدريّة أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، و قوله:( فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) تفريع على وقوع القول عليهم.

و بذلك يتأيّد أنّ المراد بالقول الّذي يقع عليهم قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الأنعام: ١٤٤، و المعنى: و لكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون.

و ربّما فسّر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم و الأنسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حقّ الظالمين في مثل قوله:( أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ) الشورى: ٤٥، و المعنى: و لكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، و الوجه السابق أوجه.

و أمّا تفسير وقوع القول بحلول العذاب و دخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله:( فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) لما وصف في الآيات السابقة أنّ كثيراً من الناس في صمم و عمي من استماع كلمة الحقّ و النظر في آيات الله و الاعتبار بهما، ثمّ ذكر دابّة الأرض و أنّه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلّمهم، ثمّ ذكر أنّه سيحشر فوجاً من كلّ اُمّة من المكذّبين فيعاتبهم فتتمّ عليهم الحجّة بقولهم بغير علم بالآيات لإعراضهم عنها وبّخهم في هذه الآية و لامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنّهم

٤٣٧

كانوا يرون الليل الّذي يسكنون فيه بالطبع و أنّ هناك نهاراً مبصراً يظهر لهم بها آيات السماء و الأرض فلم لم يتبصّروا؟.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أي في جعل الليل سكناً يسكنون فيه و النهار مبصراً يبصرون فيه آيات السماء و الأرض آيات لقوم فيهم خاصّة الإذعان و التصديق للحقّ اللائح لهم.

و المراد بالآيات العلامات و الجهات الدالّة فيهما على التوحيد و ما يتبعه من حقائق المعارف، و من جملة ذلك دلالتهما على أنّ الإنسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، و هو الليل الّذي يضرب بحجاب ظلمته على الأبصار، و يتحرّك فيما من شأنه أن يتحرّك فيه و هو النهار المبصر الّذي يظهر به الأشياء الّتي تتضمّن منافع الحياة للأبصار.

فعلى الإنسان أن يسكت عمّا حجبته عنه ظلمة الجهل و لا يقول بغير علم و لا يكذّب بما لا يحيط به علماً و أن يقول و يؤمن بما تجلّيه له بيّنات الآيات الّتي هي كالنهر المبصرة.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور و الارتحال و غير ذلك، و الفزع كما قال الراغب انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشي‏ء المخيف و هو من جنس الجزع، و الدخور الذلّة و الصغار.

قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور الّتي بها تنفخ الحياة في الأجساد فيبعثون لفصل القضاء، و يؤيّده قوله في ذيل الآية:( وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) و المراد به حضورهم عند الله سبحانه، و يؤيّده أيضاً استثناؤه( مَنْ شاءَ اللهُ ) من حكم الفزع ثمّ قوله فيمن جاء بالحسنة:( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) حيث يدلّ على أنّ الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية.

و قيل: المراد به النفخة الاُولى الّتي يموت بها الأحياء بدليل قوله:( وَ نُفِخَ

٤٣٨

فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) الزمر: ٦٨، فإنّ الصعقة من الفزع و قد رتّبت على النفخة الاُولى و على هذا يكون المراد بقوله:( وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت.

و لا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعمّ ممّا يميت أو يحيي فإنّ النفخ كيفما كان من مختصّات الساعة، و يكون ما ذكر من فزع بعضهم و أمن بعضهم من الفزع و سير الجبال من خواصّ النفخة الاُولى و ما ذكر من إتيانهم داخرين من خواصّ النفخة الثانية و يندفع بذلك ما يورد على كلّ واحد من الوجهين السابقين.

و قد استثنى سبحانه جمعاً من عباده من حكم الفزع العامّ الشامل لمن في السماوات و الأرض، و سيجي‏ء كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي:( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

و الظاهر أنّ المراد بقوله:( وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) رجوع جميع من في السماوات و الأرض حتّى المستثنين من حكم الفزع و حضورهم عنده تعالى، و أمّا قوله:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٢٧، فالظاهر أنّ المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب و السؤال لا نفي بعثهم و رجوعهم إلى الله و حضورهم عنده فآيات القيامة ناصّة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذّ منهم شاذّ.

و نسبة الدخور و الذلّة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزّة عندالله فإنّ عزّة العبد عندالله ذلّته عنده و غناه بالله فقره إليه نعم ذلّة أعدائه بما يرون لأنفسهم من العزّة الكاذبة ذلّة هوان.

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ‏ ) الآية بما أنّها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات و هو سير الجبال و قد قال

٤٣٩

تعالى في هذا المعنى أيضاً:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) النبأ: ٢٠، إلى غير ذلك.

فقوله:( وَ تَرَى الْجِبالَ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله:( وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى ) الحجّ: ٢، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها لو كنت مشاهداً، و قوله:( تَحْسَبُها جامِدَةً ) أي تظنّها الآن و لم تقم القيامة بعد جامدة غير متحرّكة، و الجملة معترضة أو حاليّة.

و قوله:( وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) حال من الجبال و عاملها( تَرَى ) أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء.

و قوله:( صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) مفعول مطلق لمقدّر أي صنعه صنعاً و في الجملة تلويح إلى أنّ هذا الصنع و الفعل منه تعالى تخريب للدنيا و هدم للعالم، لكنّه في الحقيقة تكميل لها و إتقان لنظامها لما يترتّب عليه من إنهاء كلّ شي‏ء إلى غايته و إيصاله إلى وجهته الّتي هو مولّيها من سعادة أو شقاوة لأنّ ذلك صنع الله الذي أتقن كلّ شي‏ء فهو سبحانه لا يسلب الإتقان عمّا أتقنه و لا يسلّط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة.

و قوله:( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) قيل: إنّه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور و ما بعده صنعاً محكماً له تعالى فإنّ علمه بظواهر أفعال المكلّفين و بواطنها ممّا يستدعي إظهارها و بيان كيفيّاتها على ما هي عليه من الحسن و السوء و ترتيب آثارها من الثواب و العقاب عليها بعد البعث و الحشر و تسيير الجبال.

و أنت ترى ما فيه من التكلّف و أنّ السياق بعد ذلك كلّه لا يقبله.

و قيل: إنّ قوله:( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا يكون بعد هذه القوارع؟ فقيل: إنّ الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم و فصّل بقوله:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) إلى آخر الآيتين.

٤٤٠