الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123887 / تحميل: 6083
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) و هي كلّ ما يدلّ عليه تعالى بوجه و من ذلك رسله الحاملون لرسالته و ما اُيّدوا به من كتاب و غيره و ما جاؤا به من شريعة لأنّ إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه و يحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه و ائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي و الرسالة.

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) و الإيمان بآياته هو الّذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإنّ الإيمان بها إيمان بالشريعة الّتي شرعت عبادته تعالى و الحجج الّتي دلّت على توحّده في ربوبيّته و اُلوهيّته.

على أنّ جميع الرسل و الأنبياءعليهم‌السلام إنّما جاؤا من قبله و إرسال الرسل لهداية الناس إلى الحقّ الّذي فيه سعادتهم من شؤون الربوبيّة، و لو كان له شريك لأرسل رسولاً، و من لطيف كلام عليّ عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربّك شريك لأتتك رسله.

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏ رَبِّهِمْ راجِعُونَ ) الوجل الخوف، و قوله:( يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل الله و قيل: المراد بإيتاء ما آتوا إتيانهم بكلّ عمل صالح، و قوله:( وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) حال من فاعل( يُؤْتُونَ ) .

و المعنى و الّذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة و الحال أنّ قلوبهم خائفة من أنّهم سيرجعون إلى ربّهم أي إنّ الباعث لهم على الإنفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربّهم على وجل منه.

و في الآية دلالة على إيمانهم باليوم الآخر و إتيانهم بصالح العمل و عند ذلك تعيّنت صفاتهم أنّهم الّذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له و برسله و باليوم الآخر و يعملون الصالحات.

ثمّ قال:( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ ) الظاهر أنّ اللّام في( لَها ) بمعنى( إلى ) و( لَها ) متعلّق بسابقون، و المعنى اُولئك الّذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الأعمال و هم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لأنّ ذلك

٤١

لازم كون كلّ منهم مريداً للسبق إليها.

فقد بيّن في الآيات أنّ الخيرات هي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحقّ الّذي عند هؤلاء المؤمنين و هم يسارعون فيها و ليست الخيرات ما عند اُولئك الكفّار و هم يعدّونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات.

قال في التفسير الكبير: و فيه يعني قوله:( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) وجهان:

أحدهما: أنّ المراد يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها لئلّا تفوت عن وقتها و لكيلا تفوتهم دون الاحترام.

و الثاني: أنّهم يتعجّلون في الدنيا أنواع النفع و وجوه الإكرام كما قال:( فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ) ( وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) لأنّهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجّلوها و هذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدّمة لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين. انتهى.

أقول: إنّ الّذي نفي عن الكفّار في الآية المتقدّمة هو مسارعة الله للكفّار في الخيرات و الّذي اُثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة المؤمنين في الخيرات، و الّذي وجهه في هذا الوجه أنّ مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبيّن الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى و تبديلها منها، و وجّهه بعضهم بأنّ تغيير الاُسلوب للإيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، و هو كما ترى.

و الظاهر أنّ هذا التبديل إنّما هو في قوله في الآية المتقدّمة:( نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ) و المراد بيان أنّهم يحسبون أنّ ما نمدّهم به من مال و بنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم و هم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثمّ نفيت بالاستفهام الإنكاريّ، و اُثبت ما يقابله على الأصل للمؤمنين.

٤٢

فمحصّل هذا النفي و الإثبات أنّ المال و البنين ليست خيرات يتسارعون إليها و لا هم مسارعون إلى الخيرات بل الأعمال الصالحة و آثارها الحسنة هي الخيرات و المؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات.

قوله تعالى: ( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الّذي يعطيه السياق أنّ في الآية ترغيباً و تحضيضاً على ما ذكره من صفات المؤمنين و دفعاً لما ربّما ينصرف الناس بتوهّمه عن التلبّس بكرامتها من وجهين أحدهما أنّ التلبّس بها أمر سهل في وسع النفوس و ليس بذاك الصعب الشاقّ الّذي يستوعره المترفون، و الثاني أنّ الله لا يضيع عملهم الصالح و لا ينسى أجرهم الجزيل.

فقوله:( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) نفي للتكليف الحرجيّ الخارج عن وسع النفوس أمّا في الاعتقاد فإنّه تعالى نصب حججاً ظاهرة و آيات باهرة تدلّ على ما يريد الإيمان به من حقائق المعارف و جهّز الإنسان بما من شأنه أن يدركها و يصدّق بها و هو العقل ثمّ راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوّة الإدراك و ضعفه فأراد من كلّ ما يناسب مقدار تحمّله و طوقه فلم يرد من العامّة ما يريده من الخاصّة و لم يسأل الأبرار عمّا سأل عنه المقرّبين و لا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين.

و أمّا في العمل فإنّما ندب الإنسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفرديّة و الاجتماعيّة الدنيويّة و سعادته في حياته الاُخرويّة، و من المعلوم أنّ خير كلّ نوع من الأنواع و منها الإنسان إنّما يكون فيما يتمّ به حياته و ينتفع به في عيشته و هو مجهّز بما يقوى على إتيانه و عمله، و ما هذا شأنه لا يكون حرجيّاً خارجاً عن الوسع و الطاقة.

فلا تكليف حرجيّاً في دين الله بمعنى الحكم الحرجيّ في تشريعه مبنيّاً على مصلحة حرجيّة، و بذلك امتنّ الله سبحانه على عباده، و طيّب نفوسهم و رغّبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين.

و الآية( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) تدلّ على ذلك و زيادة فإنّها تدلّ على

٤٣

نفي التكليف المبنيّ على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانيّة و التقرّب بذبح الأولاد مثلاً، و نفي التكليف الّذي هو في نفسه غير حرجيّ لكنّ اتّفق أن صار بعض مصاديقه حرجيّاً لخصوصيّة في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الّذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية و إن كان الامتنان و الترغيب المذكوران يتمّان بنفي القسم الأوّل.

و الدليل عليه في الآية تعلّق نفي التكليف بقوله:( نَفْساً ) و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و عليه فأيّ نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلّف إلّا وسعها و لا يتعلّق بها حكم حرجيّ سواء كان حرجيّاً من أصله أو صار حرجيّاً في خصوص المورد.

و قد ظهر أنّ في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول و رفعاً للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئاً عليه.

و قوله:( وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ترغيب لهم بتطييب نفوسهم بأنّ عملهم لا يضيع و أجرهم لا يتخلّف و المراد بنطق الكتاب إعرابه عمّا اُثبت فيه إعراباً لا لبس فيه و ذلك لأنّ أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلّا بما هو حقّ فهو مصون عن الزيادة و النقيصة و التحريف، و الحساب مبنيّ على ما اُثبت فيه كما يشير إليه قوله:( يَنْطِقُ ) و الجزاء مبنيّ على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنّهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغيّر بوجه من وجوه التغيّر.

قال الرازيّ في التفسير الكبير، فإن قيل: هؤلاء الّذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إمّا أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوّزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنّهم يصدّقونه في كلّ ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، و إن جوّزه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنّه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب.

قلنا: يفعل الله ما يشاء، و على أنّه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلّفين من

٤٤

الملائكة. انتهى.

أقول: و الّذي أجاب به مبنيّ على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى و تجويز الإرادة الجزافيّة تعالى عن ذلك، و الإشكال مطّرد في سائر شؤون يوم القيامة الّتي أخبر الله سبحانه بها كالحشر و الجمع و إشهاد الشهود و نشر الكتب و الدواوين و الصراط و الميزان و الحساب.

و الجواب عن ذلك كلّه: أنّه تعالى مثّل لنا ما يجري على الإنسان يوم القيامة في صورة القضاء و الحكم الفصل، و لا غنى للقضاء بما أنّه قضاء عن الاستناد إلى الحجج و البيّنات كالكتب و الشهود و الأمارات و الجمع بين المتخاصمين و لا يتمّ دون ذلك البتّة.

نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الإنسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه.

قوله تعالى: ( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ) المناسب لسياق الآيات أن يكون( هذا ) إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين و مسارعتهم في الخيرات، و يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيّده قوله بعد:( قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) و الغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الّذي غمرهم، و قوله:( وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ ) إلخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين و هو كناية عن أنّ لهم شاغلاً يشغلهم عن هذه الخيرات و الأعمال الصالحة و هو الأعمال الرديئة الخبيثة الّتي هم لها عاملون.

و المعنى: بل الكفّار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الّذي وصفنا به المؤمنين و لهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم و مانعتهم.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ ) الجؤار بضمّ الجيم صوت الوحش كالظباء و نحوها عند الفزع كنّي به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة و التضرّع، و قيل: المراد به ضجّتهم و جزعهم و الآيات التالية تؤيّد المعنى الأوّل.

٤٥

و إنّما جعل مترفيهم متعلّق العذاب لأنّ الكلام فيمن ذكره قبلاً بقوله:( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ ) و هم الرؤساء المتنعّمون منهم و غيرهم تابعون لهم.

قوله تعالى: ( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ) العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ و التقريع و لقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة و أيّ رجاء و أمل لهم فيها فإنّ أخبار الوسائط أنّهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه أخبار من إليه النصر نفسه.

قوله تعالى: ( قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -تَهْجُرُونَ ) النكوص: الرجوع القهقرى، و السامر من السمر و هو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد و الجمع، و قرئ( سمّرا) بضمّ السين و تشديد الميم جمع سامر و هو أرجح، و قرئ أيضاً( سُمّارا) بالضمّ و التشديد، و الهجر: الهذيان.

و الفصل في قوله:( قَدْ كانَتْ آياتِي ) إلخ، لكونه في مقام التعليل، و المعنى: إنّكم منّا لا تنصرون لأنّه قد كانت آياتي تتلى و تقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها و ترجعون إلى أعقابكم القهقرى مستكبرين بنكوصكم تحدّثون في أمره في الليل تهجرون و تهذون، و قيل: ضمير( بِهِ ) عائد إلى البيت أو الحرم و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) شروع في قطع أعذارهم في الإعراض عن القرآن النازل لهدايتهم و عدم استجابتهم للدعوة الحقّة الّتي قام بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) الاستفهام فيه للإنكار و اللّام في( الْقَوْلَ ) للعهد و المراد به القرآن المتلوّ عليهم، و الكلام متفرّع على ما تقدّمه من كونهم في غفلة منه و شغل يشغلهم عنه، و المعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبّروا هذا القول المتلوّ عليهم حتّى يعلموا أنّه حقّ من عندالله فيؤمنوا به.

و قوله:( أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) ( أَمْ ) فيه و فيما بعده منقطعة في معنى الإضراب، و المعنى: بل أ جاءهم شي‏ء لم يأت آباءهم الأوّلين فيكون بدعاً

٤٦

ينكر و يحترز منه.

و كون الشي‏ء بدعا محدثا لا يعرفه السابقون و إن لم يستلزم كونه باطلاً غير حقّ على نحو الكلّيّة لكنّ الرسالة الإلهيّة لما كانت لغرض الهداية لو صحّت وجبت في حقّ الجميع فلو لم يأت الأوّلين كان ذلك حجّة قاطعة على بطلانها.

قوله تعالى: ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) المراد بمعرفة الرسول معرفته بنسبه و حسبه و بالجملة بسجاياه الروحيّة و ملكاته النفسيّة من اكتسابيّة و موروثة حتّى يتبيّن به أنّه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيّد من عندالله و قد عرفوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوابق حاله قبل البعثة، و قد كان يتيماً فاقداً للأبوين لم يقرأ و لم يكتب و لم يأخذ أدباً من مؤدّب و لا تربية من مربّ ثمّ لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي و لا طمعاً في ملك أو حرصاً على مال أو ولعاً بجاه، و هو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح و السعادة و يندب إلى حقائق و معارف تبهر العقول و يدعو إلى شريعة تحيّر الألباب و يتلو كتاباً.

فهم قد عرفوا رسولهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنعوته الخاصّة المعجزة لغيره، و لو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذراً في إعراضهم عن دينه و استنكافهم عن الإيمان به لأنّ معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، و من المعلوم أنّ إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه ممّا لا يجوّزه العقل.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) و هذا عذر آخر لهم تشبّثوا به إذ قالوا:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦ ذكره و ردّه بلازم قوله:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ) .

فمدلول قوله:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) إضراب عن جملة محذوفة و التقدير إنّهم كاذبون في قولهم:( بِهِ جِنَّةٌ ) و اعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنّما كرهوا الإيمان به لأنّه جاء بالحقّ و أكثرهم للحقّ كارهون.

و لازمه ردّ قولهم بحجّة يلوّح إليها هذا الإضراب، و هي أنّ قولهم:( بِهِ جِنَّةٌ ) لو كان حقّاً كان كلامه مختلّ النظم غير مستقيم المعنى مدخولاً فيه كما هو

٤٧

مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلّا إلى حقّ، و لا يأتي إلّا بحقّ، و أين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد و لا يشعر بما يقول.

و إنّما نسب الكراهة إلى أكثرهم لأنّ فيهم مستضعفين لا يعبؤ بهم أرادوا أو كرهوا.

قوله تعالى: ( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) لما ذكر أنّ أكثرهم للحقّ كارهون و إنّما يكرهون الحقّ لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحقّ أي الدعوة الحقّة أن يتّبع أهواءهم و هذا ممّا لا يكون البتّة.

إذ لو اتّبع الحقّ أهواءهم فتركوا و ما يهوونه من الاعتقاد و العمل فعبدوا الأصنام و اتّخذوا الأرباب و نفوا الرسالة و المعاد و اقترفوا ما أرادوه من الفحشاء و المنكر و الفساد جاز أن يتّبعهم الحقّ في غير ذلك من الخليقة و النظام الّذي يجري فيها بالحقّ إذ ليس بين الحقّ و الحقّ فرق فاُعطي كلّ منهم ما يشتهيه من جريان النظام و فيه فساد السماوات و الأرض و من فيهنّ و اختلال النظام و انتقاض القوانين الكلّيّة الجارية في الكون فمن البيّن أنّ الهوى لا يقف على حدّ و لا يستقرّ على قرار.

و بتقرير آخر أدقّ و أوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيّم أنّ الإنسان حقيقة كونيّة مرتبطة في وجودها بالكون العامّ و له في نوعيّته غاية هي سعادته و قد خطّ له طريق إلى سعادته و كماله ينالها بطيّ الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الأنواع الموجودة، و قد جهّزه الكون العامّ و خلقته الخاصّة به من القوى و الآلات بما يناسب سعادته و الطريق المنصوب إليها و هي الاعتقاد و العمل اللّذان ينتهيان به إلى سعادته.

فالطريق الّتي تنتهي بالإنسان إلى سعادته أعني الاعتقادات و الأعمال الخاصّة المتوسّطة بينه و بين سعادته و هي الّتي تسمّى الدين و سنّة الحياة متعيّنة حسب

٤٨

اقتضاء النظام العامّ الكونيّ و النظام الخاصّ الإنسانيّ الّذي نسمّيه الفطرة و تابعة لذلك.

و هذا هو الّذي يشير تعالى إليه بقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) سورة الروم: ٣٠.

فسنّة الحياة الّتي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانيّة طريقة متعيّنة يقتضيها النظام بالحقّ و تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ، و هذا الحقّ هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة الّتي تحكم في النظام الكونيّ الّذي أحد أجزائه النظام الإنسانيّ و تدبّره و تسوقه إلى غاياته و هو الّذي قضى به الله سبحانه فكان حتماً مقضيّاً.

فلو اتّبع الحقّ أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلّا بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه و تبدّل العلل و الأسباب غيرها و تغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافيّة مختلّة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، و في ذلك فساد السماوات و الأرض و من فيهنّ في أنفسها و التدبير الجاري فيها لأنّ كينونتها و تدبيرها مختلطان غير متمايزين، و الخلق و الأمر متّصلان غير منفصلين.

و هذا هو الّذي يشير إليه قوله:( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ ) .

و قوله:( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) لا ريب أنّ المراد بالذكر هو القرآن كما قال:( وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) الأنبياء: ٥٠، و قال:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) الزخرف: ٤٤ إلى غير ذلك من الآيات، و لعلّ التعبير عنه بالذكر بعد قوله:( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) نوع مقابلة لقولهم:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦.

و كيف كان فقد سمّي ذكراً لأنّه يذكّرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح، و الثاني أوفق لصدر الآية بما تقدّم من معناه، و إنّما اُضيف إليهم لأنّ الدين أعني الدعوة الحقّة مختلفة بالنسبة إلى الناس

٤٩

بالإجمال و التفصيل و الّذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع.

و المعنى: لم يتّبع الحقّ أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكّرهم - أو يذكرون به - دينهم الّذي يختصّ بهم و يتفرّع عليه أنّهم عن دينهم الخاصّ بهم معرضون.

و قال كثير منهم إنّ إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الزخرف: ٤٤، و المعنى: بل أتيناهم بفخرهم و شرفهم الّذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم و شرفهم أنفسهم معرضون.

و فيه أنّه لا ريب في أنّ القرآن الكريم شرف للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ اُنزل عليه و لأهل بيته إذ نزل في بيتهم، و للعرب إذ نزل بلغتهم و للاُمّة إذ نزل لهدايتهم غير أنّ الإضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الاُمّة و هو الأوفق لصدر الآية بالمعنى الّذي تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ، قال في مجمع البيان: أصل الخراج و الخرج واحد و هو الغلّة الّتي يخرج على سبيل الوظيفة انتهى.

و هذا رابع الأعذار الّتي ذكرت في هذه الآيات و ردّت و وبّخوا عليها و قد ذكره الله بقوله:( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ) أي مالاً يدفعونه إليك على سبيل الرسم و الوظيفة ثمّ ذكر غنى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) أي إنّ الله هو رازقك و لا حاجة لك إلى خرجهم، و قد تكرّر الأمر بإعلامهم ذلك في الآيات( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) الأنعام: ٩٠ الشورى: ٢٣.

و قد تمّت بما ذكر في الآية أربعة من الأعذار المردودة إليهم و هي مختلفة فأوّلها( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) راجع إلى القرآن و الثاني( أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) إلى الدين الّذي إليه الدعوة، و الثالث( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) إلى نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرابع( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ) إلى سيرته.

٥٠

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) النكب و النكوب العدول عن الطريق و الميل عن الشي‏ء.

قد تقدّم في تفسير سورة الفاتحة أنّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الّذي لا يختلف و لا يتخلّف في حكمه و هو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، و هذه صفة الحقّ فإنّ الحقّ واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض و التدافع و لا يتخلّف في مطلوبه الّذي يهدي إليه فالحقّ صراط مستقيم، و إذ ذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهدي إلى الحقّ كان لازمه هذا الّذي ذكره أنّه يهدي إلى صراط مستقيم.

ثمّ إنّ الّذين كفروا لما كانوا كارهين للحقّ كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره.

و إنّما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة و اقتصر عليه لأنّ دين الحقّ مبنيّ على أساس أنّ للإنسان حياة خالدة لا تبطل بالموت و له فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحقّ و العمل الصالح و شقاوة يجب أن تجتنب و هؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحقّ و الصراط المستقيم.

و بتقرير آخر: دين الحقّ مجموع تكاليف اعتقاديّة و عمليّة و التكليف لا يتمّ إلّا بحساب و جزاء، و قد عيّن لذلك يوم القيامة، و إذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغي الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلّا الحياة الدنيا المادّيّة و لا يبقى من السعادة عندهم إلّا نيل اللذائذ المادّيّة و هو التمتّع بالبطن فما دونه، و لازم ذلك أن يكون المتّبع عندهم الهوى وافق الحقّ أو خالفه.

فمحصّل الآيتين أنّهم ليسوا بمؤمنين بك لأنّك تدعو إلى صراط مستقيم و هم لا همّ لهم إلّا العدول و الميل عنه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ - إلى قوله -وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) اللجاج التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، و العمه التردّد في الأمر من التحيّر، ذكرهما الراغب، و في المجمع: الاستكانة الخضوع و هو استفعل

٥١

من الكون، و المعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى.

و قوله:( وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ ) بيان و تأييد لنكوبهم عن الصراط بأنّا لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضرّ لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصرّوا على تمرّدهم عن الحقّ و تمادوا يتردّدون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضرّ كما لا ينفعهم تخويف بعذاب و نقمة فإنّا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربّهم و ما يتضرّعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم و لا يركبهم صراط الحقّ لا رحمة بكشف الضرّ و لا نقمة و تخويف بالأخذ بالعذاب.

و المراد بالعذاب العذاب الخفيف الّذي لا ينقطع به الإنسان عن عامّة الأسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أنّ الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار و الانقطاع عن الأسباب من غريزيّات الإنسان كما تكرّر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثمّ لا يستكينوا و لا يتضرّعوا؟.

و قوله في الآية الاُولى:( ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ) و في الثانية:( وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ) يدلّ على أنّ الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع و لما يرتفع حين نزول الآيات، و من المحتمل أنّه الجدب الّذي ابتلي به أهل مكّة و قد ورد ذكر منه في الروايات.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة و لا عذاب حتّى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد و هو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة - على ما يعطيه سياق الآيات و خاصّة الآيات الآتية - فيفاجؤهم الإبلاس و اليأس من كلّ خير.

و قد ختم هذا الفصل من الكلام أعني قوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) إلخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قوله:( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ ) إلى آخر الآيات و هو ذكر عذاب الآخرة، و سيعود إليه ثانياً.

٥٢

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - إلى قوله -يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) قال من العبادة و الطاعة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن ماجة و ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله:( وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) أ هو الرجل يزني و يسرق و يشرب الخمر و هو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا و لكنّ الرجل يصوم و يتصدّق و يصلّي و هو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبّل منه.

و في المجمع: في قوله:( وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال أبوعبداللهعليه‌السلام : معناه خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية اُخرى: أتى و هو خائف راج.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة:( حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ ) قال ذكر لنا أنّها نزلت في الّذين قتل الله يوم بدر.

أقول: و روي مثله عن النسائيّ عن ابن عبّاس و لفظه قال: هم أهل بدر، و سياق الآيات لا ينطبق على مضمون الروايتين.

و فيه، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: جاء أبوسفيان إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد اُنشدك الله و الرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله:( وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) .

أقول: و الروايات في هذا المعنى مختلفة و ما أوردناه أعدلها و هي تشير إلى جدب وقع بمكّة و حواليها بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ظاهر أكثرها أنّه كان بعد الهجرة، و لا يوافق ذلك الاعتبار.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ ) قال: الحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

٥٣

أقول: هو من البطن بالمعنى الّذي تقدّم في بحث المحكم و المتشابه و نظيره ما أورده في قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال إلى ولاية أميرالمؤمنينعليه‌السلام و كذا ما أورده في قوله:( عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) قال: عن الإمام لحادون.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) يقول: أم تسألهم أجراً فأجر ربّك خير.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) فقال: الاستكانة هي الخضوع، و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما.

و في المجمع، و روي عن مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال: أ ما تقرأ هذه الآية:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) ؟ أورده الثعلبيّ و الواحديّ في تفسيريهما.

و فيه، قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الاستكانة الدعاء، و التضرّع رفع اليدين في الصلاة.

و في الدرّ المنثور، أخرج العسكريّ في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) أي لم يتواضعوا في الدعاء و لم يخضعوا و لو خضعوا لله لاستجاب لهم.

و في المجمع: في قوله تعالى:( حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ) قال أبوجعفرعليه‌السلام هو في الرجعة.

٥٤

( سورة المؤمنون الآيات ٧٨ - ٩٨)

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٧٩ ) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٨٠ ) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ( ٨١ ) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( ٨٢ ) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٨٣ ) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ( ٨٩ ) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٩٠ ) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ  إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ٩١ ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٩٢ ) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ( ٩٣ ) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٩٤ ) وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ( ٩٥ ) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ  نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( ٩٦ ) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ( ٩٧ ) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ( ٩٨ )

٥٥

( بيان)

لما أوعدهم بعذاب شديد لا مردّ له و لا مخلص منه، و ردّ عليهم كلّ عذر يمكنهم أن يعتذروا به، و بيّن أنّ السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتّباع الهوى و كراهة اتّباع الحقّ، تمّم البيان بإقامة الحجّة على توحّده في الربوبيّة و على رجوع الخلق إليه بذكر آيات بيّنة لا سبيل للإنكار إليها.

و عقّب ذلك بأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الّذي اُوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا بهم.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) افتتح سبحانه من نعمه الّتي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان خصّ بهما جنس الحيوان خلقتاً فيه إنشاء و إبداعاً لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الأنواع البسيطة الّتي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.

و بحصول هذين الحسّين يقف الوجود المجهّز بهما موقفاً جديداً و يتّسع مجال فعّاليّته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتّساعاً لا يتقدّر بقدر فيدرك خيره و شرّه و نافعه و ضارّه و يعطي معهما الحركة الإراديّة إلى ما يريده و عمّا يكرهه، و يستقرّ في عالم حديث طريّ فيه مجالي الجمال و اللذّة و العزّة و الغلبة و المحبّة ممّا لا خبر عنه فيما قبله.

و إنّما اقتصر من الحواسّ بالسمع و البصر - قيل - لأنّ الاستدلال يتوقّف عليهما و يتمّ بهما.

ثمّ ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الّذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصّة بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجوديّة جديدة هي أرفع درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالاً من عالم الحيوان الّذي هو عالم الحواسّ فيتّسع به أوّلاً شعاع عمل الحواسّ ممّا كان عليه في عامّة الحيوان بما لا يتقدّر بقدر فإذا الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار

٥٦

الأشياء و آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.

ثمّ يرقى بفؤاده أي بتعقّله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيّات فيتعقّل الكلّيّات فيحصّل القوانين الكلّيّة، و يغور متفكّراً في العلوم النظريّة و المعارف الحقيقيّة، و ينفذ بسلطان التدبّر في أقطار السماوات و الأرض.

ففي ذلك كلّه من عجيب التدبير الإلهيّ بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا يسع الإنسان أن يستوفي شكره.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكراً قليلاً فقوله:( قَلِيلًا ) وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. و قال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرّهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. انتهى.

فالمعنى: أنّه لما جعلكم ذوي حسّ و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلّقين بها ثمّ يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) معنى الآية ظاهر، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) مترتّب بحسب المعنى على الجملة الّتي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتّى تحشروا إليه لزمت ذلك سنّة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقّف على الحياة و الحشر متوقّف على الموت.

و قوله:( وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) مترتّب على ما قبله فإنّ الحياة ثمّ الموت لا تتمّ إلّا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتّى ينقضي العمر و يحلّ الأجل المكتوب، هذا لو اُريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد منها بعد الواحد، و لو اُريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول السنة الأربعة المتفرّعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتمّ أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

٥٧

سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) حم السجدة: ١٠.

فمضامين الآيات الثلاث مترتّبة مستتبعة بعضها بعضاً فإنشاء السمع و البصر و الفؤاد و هو الحسّ و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلّقة بالمادّة و سكوناً في الأرض إلى حين، ثمّ الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتاً، و ذلك يستتبع عمراً متقضيّاً بانقضاء الزمان و رزقاً يرتزق به.

فالآيات الثلاث تتضمّن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربّه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأنّ هذا التدبير تدبير تكوينيّ لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربّهم المدبّر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله:( أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) توبيخ لهم و حثّ على التنبّه فالإيمان.

قوله تعالى: ( بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ) إضراب عن نفي سابق يدلّ عليه الاستفهام المتقدّم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.

و في تشبيه قولهم بقول الأوّلين إشارة إلى أنّ تقليد الآباء منعهم عن اتّباع الحقّ و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و الانغمار في المادّيّات سنّة جارية فيهم في آخريهم و أوّليهم.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) بيان لقوله:( قالُوا ) في الآية السابقة و الكلام مبنيّ على الاستبعاد.

قوله تعالى: ( لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافيّة و هي جمع اُسطورة كأكاذيب جمع اُكذوبة و أعاجيب جمع اُعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنّه مجموع عدات كلّ واحد منها اُسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنّة و النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) ، متعلّق بقوله:( وُعِدْنا ) على ما يعطيه سياق الجملة.

٥٨

و المعنى: أنّ وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و آباؤنا ليس البعث الموعود إلّا أحاديث خرافيّة وضعها و نظمها الأناسيّ الأوّلون في صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنّة و النار و الثواب و العقاب.

و الدليل على كونها أساطير أنّ الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و يخوّفوننا بقيام الساعة و لو كان حقّاً غير خرافيّ لوقع.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قولهم:( مِنْ قَبْلُ ) لتمهيد الحجّة على قولهم بعده( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

و ثانياً: أنّ الكلام مسوق للترقّي فالآية السابقة:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) مبنيّة على الاستبعاد و هذه الآية متضمّنة للإنكار مبنيّاً على حجّة واهية.

قوله تعالى: ( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) لما ذكر استبعادهم للبعث ثمّ إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبيّة و السلطنة، و وجه الكلام إلى الوثنيّين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنّه الموجد للعالم و ربّ الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده تعالى مسلّماً في ضمن الحجّة.

فقوله:( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من اُولي العقل من هو؟ و معلوم أنّ السؤال إنّما هو عن الملك الحقيقيّ الّذي هو قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقلّ الشي‏ء المملوك عن مالكه بأيّ وجه فرض دون الملك الاعتباريّ الّذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع و هو يقبل الصحّة و الفساد و يقع مورداً للبيع و الشري، و ذلك لأنّ الكلام مسوق لإثبات صحّة جميع التصرّفات التكوينيّة و ملاكها الملك التكوينيّ الحقيقيّ دون التشريعيّ الاعتباريّ.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) إخبار عن جوابهم و هو أنّ الأرض و من فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإنّ

٥٩

هذا النوع من الملك لا يقوم إلّا بالعلّة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياماً لا يستقلّ عنها بوجه من الوجوه، و العلّة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتّى باعتراف الوثنيّين.

و قوله:( قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبّخهم على عدم تذكّرهم بالحجّة الدالّة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الأرض و من فيها لم لا تتذكّرون أنّ له - لمكان مالكيّته - أن يتصرّف في أهلها بالإحياء بعد الإماتة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) أمره ثانياً أن يسألهم عن ربّ السماوات السبع و ربّ العرش العظيم من هو؟.

و المراد بالعرش هو المقام الّذي يجتمع فيه أزمّة الاُمور و يصدر عنه كلّ تدبير، و تكرار لفظ الربّ في قوله:( وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) للإشارة إلى أهميّة أمره و رفعة محلّه كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدّم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب.

ذكروا أنّ قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من ربّ السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار و من ربّ الدار فقوله تعالى:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ) ؟ سؤال عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله:( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) على المعنى و لو أنّه اُجيب عنه فقيل:( الله ) كما في القراءة الاُخرى كان جواباً على اللفظ.

و فيه أنّ الّذي ثبت في اللغة أنّ ربّ الشي‏ء هو مالكه المدبّر لأمره بالتصرّف فيه فيكون الربوبيّة أخصّ من الملك، و لو كان الربّ مرادفاً للمالك لم يستقم ترتّب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها - إلى قوله -سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) إذ كان معنى السؤال: من ربّ الأرض و من فيها، و من المعلوم أنّهم كانوا قائلين بربوبيّة آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات الربوبيّة لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المسألة الواحدة والعشرون

حكم قطع أعضاء الحيّ

والبحث فيه من نواح:

١ - حكم أصل القطع.

٢ - المنقول منه.

٣ - الأعضاء المنقولة.

٤ - المنقول إليه.

٥ - الغاية من النقل.

٦ - كيفيّة النقل ووسيلته.

أمّا الناحية الأُولى، فلقائِلٍ أنْ يقول بحرمة قطع الحيّ بعض أعضاء بدنه للغير ؛ فإنّه إضرار بالنفس والبدن، والإضرار حرام في الشريعة، سواء بنفسه أو بغيره، وسواء انجرّ إلى تلف النفس أم لم ينجر.

ووجوب حفظ النفس المحترمة كفاية إنّما هو بالطرق المتعارفة، لا بقطع أعضاء بدن المكلّفين وزرعها في بدن المضطرّ، فإنّ هذا النحو من الحفظ لم يذكره الفقهاء، فضلاً عن وروده في الكتاب والسنّة.

أقول : الإضرار بالنفس على ثلاثة أوجه:

الأوّل : إلقاء النفس إلى التهلكة بأيّ وجهٍ كان، وهذا حرام منصوص لا إشكال فيه.

الثاني : إتلاف الأعضاء المهمّة كقطع اليد أو الرجل واللسان، أو قلع

١٨١

العين، ونظائر ذلك ممّا يعلم بعدم رضى الشارع به، ومثله التسبيب لابتلاء النفس بالأمراض الخطيرة: كالسلّ والسرطان والإيدز والجذام وأمثالها، ودليل الحرمة هو العلم المذكور سواءٌ وُجد دليل لفظي عليها، أم لا وهذه الحرمة في بعض الموارد: كقلع عينٍ واحدةٍ لزرعها في رأس عالم جليل ذي مكانةٍ دينيّةٍ أعمى - مثلاً - مبنيّة على الاحتياط.

الثالث : الإضرار بأدون من الوجهين المذكورين، وهذا غير محرّم لعدم الدليل عليه، فإنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار )(١) ، لا يدلّ على حرمة الإضرار بالنفس ظاهراً(٢) ، والرجوع إلى أصالة البراءة، بل إلى بناء العقلاء على تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم يعطي الجواز، وترى العقلاء يقدمون على بعض الأضرار بمشيٍ زائدٍ، أو أكلٍ زائدٍ، أو عملٍ شاقٍّ، ولا يذمّ أحدٌ أحداً على ذلك، ولاحظ المسألة الخامسة والعشرين.

لا يجوز مساعدة المحتاج على الوجه الأوّل، بلا إشكالٍ حتّى إذا فرضنا علم المساعد بموته بعد دقائق، فإنّه لا يجوز إتلاف نفسه في هذه الدقائق اليسيرة.

وهل تجوز بالوجه الثاني، بدعوى أنّ حرمته إنّما هي إذا كان الإتلاف لغرضٍ عقلائي، فيجوز قطع أحد يديه لتُزرع في بدن مقطوع اليدين، أو قلع عينه لزرعها في رأس الأعمى، وإن لم يجز قطع اليدين وقلع العينين معاً ؟ فيه بحث واحتمالات.

وأمّا مساعدة الغير بالوجه الثالث فهي راجحة ولا إشكال فيها، وإذا توقّف حياة أحد عليها تجب.

___________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و٢٩٢. نسخة الكومبيوتر.

(٢) لاحظ بحثه في الجزء الثاني، في كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها، ص٤٠٤ إلى ص٤١٥.

١٨٢

وعدم ورده في الفقه، إنّما هو لعدم إمكان هذه الأقسام من المساعدات الطبّيّة في الزمان السابق، لا لعدم وجوبها، فلاحظ.

لكنّ لأحدٍ أنْ يمنع الوجوب، لعدم دليل لفظي يتمسّك بإطلاقه في مثل المقام - كما أشرنا إليه سابقاً - والدليل اللّبّي لا يشمل ما شكّ في شموله له، بل يقتصر فيه على القدر المتيقَّن.

فإنْ قلت: إنّ إهداء كليةٍ واحدةٍ برعاية الطبيب الماهر، وإن لم يستلزم ضرراً لصاحبها بالفعل، لكنّه يخاف على نفسه إذا ابتليت كليته الأُخرى بالنقص والمرض في المستقبل، فلم تقدر على دفع سموم الدم إلى المثانة، ولم يجد من يعطيه الكلية بلا عوض، ولم يقدر هو على عوضها.

قلت : يمكن الاعتماد على استصحاب سلامتها من الأمراض، أو استصحاب عدم حدوث المرض عليها في المستقبل. لكنّ الاستصحاب المذكور لا يدفع احتمال الضرر والخوف منه ؛ فلا يجوز له إهدائها دفعاً للضرر، حتّى إذا كان هذا الغير ابنه وكان مرضه حرجيّاً للوالد، فإنّ قاعدة لا حرج معارضة أو مزاحمة بقاعدة حرمة الإضرار بالنفس.

وإن شئت فقل: يشكل إجراء قاعدة لا حرج في مثل المقام، كما أشرنا إليه في أوائل الكتاب.

إلاّ أن يُدّعى أنّ احتمال مثل هذا الضرر في المستقبل ضعيف، ولا يوجب العقلاء دفعه، فلاحظ.

وأمّا الناحية الثانية: فالمنقول منه قد يكون غير بالغ، أو مجنوناً، وقد يكون ميّتاً، وقد يكون رشيداً بالغاً، وقد يكون جنيناً أو سقطاً، وقد يكون حيواناً، وقد يكون غير محترم النفس.

أمّا الثالث: فقد مرّ حكمه، وأمّا الأوّلان فلا يجوز قطع أعضائهما لعدم ولاية الولي عليهما بهذا الحدّ، إلاّ أنْ يفرض توقّف نفقتهما على هذا العمل

١٨٣

وبدونه تقع سلامتهما في خطر مهم، وأمّا الرابع فله ذلك بمقدار مأذون له شرعاً كما عرفت.

ولا يجوز الأخذ من الجنين بوجه، وأمّا الذي سقط تلقائيّاً، أو أجهض في الموارد المرخّص فيها ذلك - كما سبق بيانه - فلا مانع لزرع بعض أعضائه في الغير ؛ إذا رضي الوالدان به، بعد إتيان ما يجب من تجهيزه إنْ أمكن وإلاّ قبله.

إذا كان ترك العمليّة يوجب تلف النفس المحترمة، أو مشقّة شديدة لوالدي السقط - كما إذا كان المريض من أقربائهما مثلاً - وفي غير الفرضين المذكورين ؛ يشكل ترك واجب لأجل تحصيل مالٍ غير محتاجٍ إليه.

وأمّا الحيوان فإن كان ممّا يؤكل لحمه وأخذ العضو بعد ذبحه فلا كلام، وإنْ كان غير مأكول اللحم، فإن زرع عضوه في البطن فلا إشكال فيه قبل التذكية أو بعدها، وإن زرع في الظاهر بعد تذكيته، فقد ورد في موثّقة زرارة أنّه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ الصلاة في وبر كلّ شيءٍ حرام أكله، فالصلاة في: وبره، وشعره، وجلده، وبوله، وروثه، وكلّ شيءٍ منه، فاسد ؛ لا تُقبل تلك الصلاة حتّى يُصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله... )(١) .

وإنْ أخذ قبل تذكيته، أو أخذ من حيوانٍ نجسٍ العين، كالكلب والخنزير، فمضافاً إلى هذا الإشكال تزيد مشكلة النجاسة المُبْطلة للصلاة، بل للغسل، بل الوضوء إذا زُرع في محلّ أعضاء الوضوء، وكذا إذا أخذ من الكافر غير الكتابي.

___________________

(١) ص٣٤٥ ج٤ الوسائل نسخة الكومبيوتر نقلاً عن الكافي.

١٨٤

وأجاب عنه بعض الفقهاء الأجلاّء: أنّه بعد الزرع يصبح جزءً من بدن الإنسان، ومحكوماً بحكمه فلا يجري عليه حكم غير المذكّى، وحكم الكلب والخنزير والكافر، أي هو يصير طاهراً بعد الزرع بالتّبع. وأنا فيه متوقّف، والله العالم.

وأمّا الأخير فإن كان حربيّاً، أو مرتدّاً سواء كان حيّاً، أم ميّتاً فيجوز أخذ العضو منه لمسلم رضي أم لا، بعوض أم بغير عوض، وأمّا المحكوم بالإعدام حدّاً فلا يجوز ذلك في حقّه، وإنّما يجب قتله حسب ما عيّنه الشرع، وقطع العضو أمر زائد لا دليل عليه، فهو ظلمٌ محرّم.

وأمّا المحكوم بالإعدام قصاصاً فهو - أيضاً - كذلك قبل القصاص وبعده، إلاّ إذا صولح على ذلك ورضي به.

وأما الناحية الثالثة: فقد تبيّن ممّا تقدّم حول الضرر الضابطة في جواز ما يُنقل من الأعضاء وما لا يُنقل.

وعلى كلٍّ، لا شبهة في جواز نقل الدم إلى الغير بعوض أو بغير عوض، وقد صرّح بعض فقهائنا بصحّة بيعه(١) .

وأمّا الناحية الرابعة: فان كان المنقول إليه مسلماً فلا إشكال فيه، وإما إذا كان كافراً فهل يجوز للمؤمن أنْ يعطيه عضوه ؟ فيه تردد. وأمّا إذا دفع إليه بعوض، وكان في أشدّ الحاجة إليه، فالظاهر أنّه جائز، لكنّ الأحوط بل الأقوى: عدم جواز دفعه إلى الناصبي والمبتدع، ومَن يُريد تخريب الدين، وتضعيف المؤمنين، في غير فرض الاضطرار إلى ماله بخصوصه.

وقد يكون المنقول منه والمنقول إليه شخصاً واحداً. ولا بأس حينئذٍ في النقل إذا كان

___________________

(١) وهو سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره .

١٨٥

الفرض حفظ العضو الأهم، وقد يكون العضو بلاستيكيّاً، وهذا لا إشكال في زرعه إذا لم يكن غصبيّاً.

وأمّا الناحية الخامسة: فالغاية قد تكون حفظ النفس من التلف، وقد تكون رفع الحرج الشديد، وقد تكون مجرّد أخذ المال، أمّا مع الحاجة الشديدة إليه، أو لا معها، بل لجمع المال فقط، كما أنّ الغاية للمنتقل إليه قد تكون حفظ نفسه، وقد تكون رفع الحرج عنها، وقد تكون أغراضاً تجمّليّة بحتة، وربما تختلف الأحكام المتعلّقة بالقطع والمقطوع منه بالنسبة إلى بعض هذه الغايات حسب الفتاوى، فلابُدّ للمكلّفين من الرجوع إلى مقلَّديهم ( بفتح اللام ) في ذلك.

وأمّا الناحية السادسة: فالعمليّة قد تقترن بعدّة أُمورٍ محرّمةٍ، أو غير جائزة بعنوانها الأوّلي، ونذكر بعضها من باب المثال:

١ - ٢ - نظر الأجنبي إلى بدن الأجنبيّة وبالعكس، أو نظر أحدهما إلى عورة الآخر، ولو كان الطبيب والمريض من جنسٍ واحدٍ.

٣ - ٤ - لمس الأجنبي بدن الأجنبيّة أو بالعكس، أو لمس العورة ولو بين المثلين.

٥ - الاضطرار إلى أكل طعام وشراب نجسين ك ،ما في مستشفيات البلاد الغربيّة وغير الإسلاميّة، أيّام العمليّة حتّى حصول القدرة، وكذا عند الفحوص الطبيّة قبل العمليّة.

٦ - الاضطرار إلى أداء الصلاة في لباسٍ نجسٍ، أو بدن نجس كذلك.

٧ - الصلاة عن جلوس أو عن استلقاء أو اضطجاع لا عن قيام، حتّى يقدر عليه.

ثمّ الأربعة الأُولى متعلّقة بالمنقول منه، والمنقول إليه والطبيب ومساعديه المراقبين للمرضى في المستشفيات جميعاً.

١٨٦

أقول : إذا أُجريت العمليّة لحفظ النفس أو لرفع مرض حرجي لا شبهة في جواز كلّ الأُمور السبعة للمريض، والأُمور الأربعة للطبيب، إذا لم يمكن الاجتناب عن بعضها: كلبس شيءٍ مانعٍ عن المسّ بالبدن ونحو ذلك.

وأمّا إذا أُجريت للتجمّل فقط فلا ترتفع حرمة المحرّمات، ولا لزوم الواجبات في حقّهما.

وأمّا المنقول منه فإن قصد حفظ النفس المحترمة ؛ فيجوز له كلّ ذلك، كما يجوز للمنقول إليه، وإن قصد رفع المرض الحرجي، فإن كان حرجيّاً له أيضاً لمكان علاقته بالمريض، فالحكم هو الجواز لنفي الحرج، وإن لم يكن له حرجيّاً فربّما يشكل إقدامه على العمليّة وإن كان قطع العضو جائزاً لمكان تلك المحرّمات والواجبات الضمنيّة، وجريان قاعدة نفي الحرج في حقّ المنقول إليه لا يكفي للمنقول منه، وكفايته للطبيب إنّما هي بدليلٍ خاصٍّ مرّ في المسألة الثانية، إلاّ أنْ يدّعى القطع بعدم الفرق بينهما، فتأمّل.

وإنْ قصد المال لحاجةٍ شديدةٍ إليه، فالظاهر جواز الأُمور المذكورة ؛ لقاعدة نفي الحرج والضرر، وإن قصد جمع المال فقط فيشكل الأمر، حتّى في فرض حفظ حياة المنقول إليه إذا لم يقصده، فضلاً عن فرض التجمّل، بل الظاهر عدم رفع الحرمة والوجوب في حقّه، فلاحظ وتأمّل.

١٨٧

المسألة الثانية والعشرون

أحكام متعلّقة باللّمس والنظر وتشريح الميّت وغير ذلك

١ - هل ترتفع حرمة النظر والمسّ المحرّمين للطلاب والطالبات في كلّيّة الطبّ في مقام تعلّمهم - فإنّه واجب كفائي - وهل يفرق الحكم الشرعي بالنسبة إلى الأحياء والأموات ؟

( ج ) : أمّا المسّ فالظاهر عدم الاحتياج إليه غالباً ؛ لإمكان لبس ما يمنع مسّ البدن باليد، فلا مجوّز لرفع حرمته أصلاً، وأمّا النظر إلى الوجه والكفّين، فلا بأس به مطلقاً بغير قصد الشهوة واللّذة، وكذا إلى الكافرات بمقدار ما تعارف عدم حجابهن، بل وكذا إلى المبتذلات اللاّئي إذا نُهين لا ينتهين، وأمّا إلى بدن المسلمات غير المبتذلات فلا.

وأمّا السؤال عن جواز إلباس المساعدة للطبيب لباسه، أو نزعه، ممّا يستلزم المسّ المحرّم، وأنّه عادة رسميّة رائجة حين العمليّة، أو الفراغ منها ؟

فجوابه : أنّ حرمة المسّ لا تزول بهذه العادات غير الإسلامية.

٢ - هل يجوز الرجوع للتداوي والعمليّة إلى الجنس المخالف، إذا استلزم النظر والمسّ المحرّمين، مع إمكان الرجوع إلى المماثل أو لا يجوز ؟

( ج ) : لا يجوز الرجوع إلى الجنس المخالف، إلاّ مع تعذّر المماثل الصالح للعلاج والتشخيص، وحينئذٍ يجوز النظر والمسّ للطبيب - أيضاً - كما مرّ دليله في المسألة الثانية، ويقدّم المحارم على غيرهم، ووجهه واضح في النظر إلى غير العورة، ومسه، فإنّه يجوز لهم، وأمّا في مسّ العورة والنظر إليها

١٨٨

فليس حكمه بواضح، فهو أحوط.

٣ - هل يجوز النظر إلى العورة ومسّها في مقام التداوي مطلقاً أو بشرط ؟

( ج ) : يجوز بشرط تداوي المرض الحرجي للمريض، ويزيد للمخالف شرط فقد المماثل أيضاً.

وربّما قيل بتقديم المحارم على غيرهم، وهو أحوط، كما أشرنا إليه آنفاً.

٤ - هل يجب على مَن يتعلّم الطبّ الغسل بمسّ بدن الميّت، مع أنّه يتكرّر في كثيرٍ من الأيّام، بل ربّما في كلّ يومٍ مرّاتٍ ؟

( ج ) : نعم يجب الغسل عند الصلاة، وطريق التخلّص عن الغسل لبس سترٍ يمنع عن مسّ اليد ببدن الميّت مباشرةً، وهو أمرٌ سهلٌ.

وأمّا إذا مسّ القطعة المبانة منه، فعند بعض الفقهاء المعاصرين أنّه لا يجب على الماسّ الغسل(١) ، وعند المشهور وجوبه بمسّها إذا اشتملت على العظم دون المجرّد عنه كاللحم فإنّه لا يجب(٢) بمسه، وأمّا مسّ العظم المجرّد ففي وجوب الغسل به، أقوال أربعة.

هذا كلّه إذا لم يغسّل الميّت، وأمّا إذا غُسّل الميّت أو جاؤا به من مقابر المسلمين، فلا يجب الغسل بمسّه، فإنّ وجوب الغسل بمسّ الميّت إنّما هو بمسّه بعد البرودة، وقبل غسله، وبدون حائل.

٥ - إذا لم يمكن تعلّم الطبّ إلاّ بالنظر واللّمس المحرّمين فما هو الحكم ؟

( ج ) : يقول بعض الفقهاء المعاصرين: إنّه إذا توقف بقاء حياة

___________________

(١) وهو السيّد السيستاني ( طال عمره ) وهو من المراجع المشهورين اليوم.

(٢) لاحظ كتاب الطهارة من جواهر الكلام.

١٨٩

المسلمين - ولو في الزمان المستقبل على تعلّم الطبّ المتوقّف على النظر والمسّ المحرّمين، جازا مع الاقتصار على مقدار الضرورة، بشرط عدم التلذّذ والريبة.

٦ - هل يجوز للذكور تعلّم الأمراض النسائيّة، بحيث يصبحوا أخصّائيّين ( اختصاصيّين ) فيبتلون بالمسّ والنظر في أيّام التعلّم ؟

( ج ) : أمّا نفس التعلّم، فلا شكّ في جوازه، لجواز النظر والمسّ حين المعالجة والعمليّة بشرطٍ سبق، وأمّا النظر والمسّ في أيّام التعلّم ففي جوازهما نظر، إلاّ إذا توقّفت حياة المسلمين في المستقبل على تعلّمه الطبّ، فيجوزان.

وإذا علم أو أحتمل قيام إناث بمقدار الحاجة لتعلّم الطبّ ( قسم الأمراض النسائيّة ) فيشكل أو يحرم عليهم المسّ والنظر.

٧ - هل يجوز إجبار المتعلّمات على تعلّم الأمراض النسائيّة بمقدار حاجة النساء في هذا العصر، حتّى لا يفتقرن إلى الرجال ولا إلى إرائة أبدانهنّ لهم ؟

( ج ) : والأظهر عندي جوازه بل لزومه على الحكومة الإسلاميّة، ويمكن أنْ نسنده إلى الفهم من مذاق الشرع.

هذا إذا لم يكتف بمَن اشتغلن برضاهنّ بتعلّم الطبّ لمقدار الحاجة، وإلاّ فلا معنى للإجبار.

وعلى كلٍّ، لا يدفع وجوب الإجبار المذكور بقيام السيرة من صدر الإسلام إلى اليوم على عدمه، فإنّ الشرائط الحاضرة لم تكن متوفّرة في السابق، ومع هذا التفاوت الوسيع بين الحال والماضي لا مجال للتمسك بالسيرة، فلاحظ.

٨ - المعتدّة التي يحرم خروجها من بيتها، هل يجوز خروجها للعلاج ؟

( ج ) : المعتدّة المريضة يجوز خروجها للتداوي والعلاج ؛ لنفي الحرج

١٩٠

والضرر، وأمّا الطبيبة المعتدّة، فلا يجوز خروجها لعلاج المرضى إذا وجد غيرها لعلاجهم، ومع عدمه إنّما يجوز الخروج إذا لم يمكن العلاج في بيتها، واستلزم عدم خروجها تلف النفس، أو كان مرض المريض حرجيّاً لها لمكان قرابته منها مثلاً، وأمّا إذا كان المرض حرجيّاً للمريض فقط، ولم يوجد غيرها للتداوي ففي جواز خروجها من بيتها وجهان.

نعم، إذا أوجب عدم خروجها من بيتها فقدان مؤنتها المحتاج إليها بالفعل، أو عزلها من قبل إدارة المستشفى، وكان حرجيّاً لها لضيق معيشتها ؛ جاز لها الخروج بقدر الضرورة. وهذا لا يخصّ الطبيبة بل هو - كنظائره - عام.

٩ - ما معنى الضرورة المجوّزة للنظر والمسّ المحرّمين، حتّى مسّ العورة للمريض والطبيب ؟

( ج ) : للضرورة هنا معنيان: حفظ النفس من التلف، وكون تحمل المرض حرجياً للمريض، وأمّا إذا لم يبلغ المرض حدّ الحرج والضرر، فلا يبيح ما هو محرّم في نفسه للمريض والطبيب والمضمّد.

١٠ - هل يجوز للمرأة الطبيبة، أو المساعدة للطبيب أنْ تكشف عن ذراعيها في المختبر، أو محلّ العمليّة إذا ألزمها القانون بذلك ؟

( ج ) : لا يجوز لها ذلك، ولا حرمة للقوانين المخالفة لقوانين الإسلام.

١١ - أصبحت المصافحة مع الأجانب والأجنبيّات في بيئة الجامعات والكليّات والمختبرات من الواجبات العرفيّة وتاركها يوهن، فتكون له مشقّة نفسيّة، فهل ترخصونها لهنّ ؟

( ج ) : كلاّ، هي حرام في غير المحارم، إلاّ إذا كانت من وراء ساتر.

١٢ - هل يجوز تقطيع أعضاء الميّت للتشريح والتعلّم، أو للزراعة ؟

١٩١

( ج ) : أمّا حكم النزع للترقيع والزراعة فقد تقدّم، وأمّا التشريح فلا يجوز بميّت مسلم، ويجوز تقطيع أعضاء الميّت غير المسلم أو مَن شكّ في إسلامه.

ويقول السيّد الأُستاذ الخوئيرضي‌الله‌عنه : نعم إذا توقّف حياة مسلمٍ حيٍّ على تشريح بدن مسلم ميّتٍ، جاز ولكن يجب على مَن يقطعه الديّة(١) .

أقول : في كلّ بلد يوجد جثّة غير مسلم فيكتفي بها لقضاء الحاجة، وأمّا إذا فرضنا عدم وجود ذلك، ولم يتيسّر لهم إلاّ الميّت المسلم، وفرضنا توقّف حياة المسلمين - ولو في المستقبل على وجود الأخصائيّين الذين لا يتيسّر لهم العلم إلاّ بالتشريح لا يبعد جواز تقطيع الميت المسلم، وهل يكون ذلك بعد الصلاة عليه أو بعد دفنه؟ فيه وجهان.

١٣ - قد تدّعي المريضة مرضاً في بدنها أو في عورتها، ولا يعلم الطبيب أنّ المرض مهمٌ أو غير مهم، يمكن تحمّله لها بلا مشقّة، أو يعلم أنّه غير حرجي، فهل يجوز له النظر أو المسّ لتشخيص المرض على نحو الدقّة ؟ وكذا الحال في المريض والطبيبة ؟

( ج ) : إذا كان المرض حرجيّاً للمريض والمريضة ؛ جاز النظر واللمس في فرض فقدان المماثل، وإذا لم يكن حرجيّاً لا يجوزان للمخالف والمماثل، وعند شكّ الطبيب في بلوغ المرض درجة الحرج، لا يبعد الاعتماد على قول المريض والمريضة في فرض عدم اتّهامهما.

١٤ - قد يشكّ الطبيب في تحقّق الضرورة المجوِّزة لمس المرأة والنظر إليها ؛ لأنّه يحتمل وجود المماثلة لها، أو يعلم بوجودها، ولكن المريضة

___________________

(١) توضيح المسائل، وغيره من كتبهقدس‌سره .

١٩٢

تدّعي أنّها راجعتها ولم تنتفع بعلاجها، فهل يكفي هذا الادّعاء للطبيب لجواز علاجها حتّى يمسّ عورتها، وكذا الكلام في حقّ الطبيبة والمريض ؟

( ج ) : أفتى بعض الفقهاء بجواز الاعتماد على قول المريض بامتناع المراجعة إلى المحرم والمماثل، والظاهر عدم الفرق بينه وبين قوله بعدم انتفاعه من المحرم أو المماثل.

وعلى كلٍّ، إذا علم بوجود المماثل ؛ لا يجوز للطبيب النظر والمس في فرض سكوت المريض.

١٩٣

المسألة الثالثة والعشرون

حول إفشاء الأسرار

( البحث الأوّل ) في نقل بعض الأحاديث:

١ - في الحديث الصحيح عن الباقرعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المجالس بالأمانة )(١) .

أقول : قضيّة الإطلاق عدم جواز إفشاء ما لا يرضى به أهل المجلس ؛ بل الأصل عدم الجواز إلاّ إذا أُحرز رضاهم بالإفشاء، ومع ذكر عدم الإفشاء يصير عدم الجواز آكد، وأخذ الميثاق يصير أشدّ تأكيداً.

والظاهر عدم خصوصيّة للمجلس، فيشمل الحكم المكالمات الهاتفيّة والمكاتبة وأمثالها.

نعم في شمول الحديث لغير المسلمين نظر، لاحتمال الانصراف، أو لما يُفهم من مذاق الشرع في غير أهل الذمّة.

٢ - وفي صحيح ابن سنان قال: قلت له: ( أي الإمام الصادق -عليه‌السلام - ) عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال: ( نعم. قلت: يعني سفلتيه ؟ قال: ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه)(٢) .

أقول : فمَن لا يرضى بإذاعة صلاة ليله مثلاً، يشكل أو يحرم إذاعته ،

___________________

(١) ص٤٧١ ج٨ الوسائل، وفي الباب روايات، لكن ليس فيها ما يُعتبر سنداً، إلاّ ما ذكرناه هنا.

(٢) ص٢٩٤ ج١٢ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

١٩٤

فضلاً عن حرمة إذاعة ما يضرّ بماله وعرضه ونفسه(١) .

٣ - وفي معتبرة معلّى بن خنيس.. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قال الله عزّ وجلّ: قد نابذني من أذّل عبدي المؤمن )(٢) .

٤ - وفي صحيح ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال:

( قال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله -: ألا أُنبئكم بشراركم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعائب )(٣) .

والمستفاد من هذه الأحاديث الأربعة حرمة إفشاء ما في المجالس، وحرمة إذاعة أسرار المؤمن، وحرمة إذلال المؤمن، والنميمة، والتّفريق بين الأحبّة، وطلب العيب للبراء.

وأمّا حرمة الغيبة، وحرمة سوء الظن، وحرمة التجسّس، فيدلّ عليها قوله تبارك وتعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) ( الحجرات ٢ ).

وقد استُثني من حرمة الغيبة ما إذا كانت مصلحة الغيبة أقوى من تركها، وما إذا كان المغتاب ( بالفتح ) متجاهراً بالفسق، وفرض تظلّم المظلوم بإظهار ما فعل به الظالم ؛ لقوله تعالى:( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (٤) ، وفي جرح الرواة، وجرح الشهود، وغير ذلك كما فُصِّل في الكتب الفقهيّة(٥) .

___________________

(١) لاحظ ص٢٢٦ ج١ من كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها.

(٢) لاحظ بقيّة الأحاديث في ذلك في ص٢٢٩ ج١ حدود الشريعة.

(٣) ص٦١٦ ج٨ الوسائل.

(٤) النساء آية ١٤٨.

(٥) لاحظ ص٧٥ إلى ص٨٣ ج٢ حدود الشريعة.

١٩٥

والجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أمرين:

١ - من جملة ما استثناه شيخنا الأنصاريقدس‌سره في مكاسبه المحرّمة من حرمة الغيبة قصد ردع المغتاب من المنكَر(١) ولكنّ سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره ناقشه نقاشاً متيناً(٢) .

٢ - ومن جملة ما استثناه الشيخ المذكور نصح المستشير(٣) ، فإنّ النصيحة واجبةٌ للمستشير.

أقول : أمّا وجوب النصح فيدلّ عليه صحيح معاوية بن وهب، عن الصادقعليه‌السلام :

( يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب ). ومثله صحيح الحذّاء(٤) .

لكنّ النسبة بينه وبين حرمة الغيبة هي العموم من وجه، ففي مورد الاجتماع تقع المزاحمة فلابُدّ من الأخذ بالأهمّ، وهو يختلف باختلاف الموارد والحالات.

واعلم أنّه يجب حفظ الأيمان، ويحرم الحنث كتاباً وسنةً وهذا ممّا لا إشكال فيه ؛ لكن قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما رواه الشيعة(٥) وأهل السنّة: ( إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها ) وهذا استثناء من وجوب حفظ الأيمان وحرمة الحنث، وهو أصلٌ مهمٌ.

___________________

(١) لاحظ المكاسب المحرَّمة.

(٢) مصباح الفقاهة بحث الغيبة.

(٣) المكاسب المحرَّمة.

(٤) ص٥٩٤ ج١١ الوسائل.

(٥) ص١٧٥ ج١٦ وسائل الشيعة.

١٩٦

أصلٌ مفيدٌ

لا يجب إعلام مَن أخطأ في الموضوعات، كمَن صلّى إلى غير جهة القبلة وهو يزعم أنّها القبلة، أو يفطر يوماً من رمضان وهو يزعم أنّه يوم عيد، وهكذا. نعم، إذا علم الحكم والموضوع ثمّ خالف ؛ يجب على الإنسان أمر المتخلِّف بالمعروف أو نهيه عن المنكر، وإذا جهل الحكم فيجب على الإنسان إرشاد الجاهل، وأمّا إذا علم الحكم وجهل الموضوع فلا يجب على المكلَّفين تنبيهه.

نعم، استثنوا منه النفوس والأعراض، بل بعضهم الأموال الخطيرة، فمَن زعم أنّ زيداً كافرٌ مهدور الدم، وقصد بالفعل قتله يجب على الغير بيان الواقع وأنّه غير مهدور الدم، بل وردْعه ودفْعه عنه أيضاً، أو اعتقد امرأةً أجنبيّةً زوجته فأراد مباشرتها، يجب على الغير إعلامه وردْعه، يُفهم ذلك من مذاق الشرع.

إذا تقرّرت هذه الأحكام الفقهيّة العامّة لجميع المسلمين، بل المكلّفين من غير اختصاص الأطبّاء، وإن كان الأطبّاء وموظفو الأمن العام أكثر الناس ابتلاء ببعض هذه المسائل، نذكر في كتابنا هذا عدّةً من الموارد، التي هي محلّ ابتلاء الأطبّاء المتديّنين المقيّدين بأحكام دينهم - وقليلاً ما هم - والله الموفق -.

١ - إذا علم الطبيب بعد الفحوصات الطبّيّة أنّ الرجل لن يستطيع الإنجاب، وذلك لعدم وجود حيوانات منويّة في منيّه، ثمّ يأتي بعد ذلك ويخبر الطبيب أنّه بعد العلاج استطاع أن ينجب طفلاً، فهل يجوز أو يجب

١٩٧

على الطبيب أن يخبره عن استحالة الإنجاب في حقّه أم لا يجوز ؟

يحتمل جواز أخبار الطبيب للزوج بأنّه لم يكن قابلاً للإنجاب، فانّ مجرّد هذا لا يدلّ على اتّهام الزوجة بالزنا المحرّم، لاحتمال انتقال النطفة إلى رحمها من الأرض ونحوها كما قد يتّفق، أو بطريقٍ طبّيٍّ على غفلةٍ منها مثلا، أو أنّها أُكرهت على الزنا، فإخبار الطبيب لا يستلزم سوء ظنٍّ بها، لكن إذا علم أو احتمل الطبيب إقدام الزوج على قتلها وإفضاحها وهتك شرفها، لا يجوز الإخبار ظاهرا ؛ لما عرفت من حرمة إذلال المؤمن مؤكّدة، بناءً على عدم الفرق بين المباشرة والتسبّب، وهذه الحرمة ثابتة في حقّه، حتّى وإن فرضنا حلفه في أوّل شغله على عدم إخفاء الحال على المريض، فإنّ الحرمة المذكورة تمنع عن العمل بالحلف ؛ كما عرفت من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمّا إذا علم أنّه لا يترتّب على إخباره إلا طلاقها فيحتمل الجواز ؛ لأنّ الطلاق غير محرم.

ثمّ إنّه إذا علم الطبيب بإقرارها، أو غيره أنّها زنت ؛ يجب عليه أن ينهاها عن نسبة الولد إلى زوجها، من باب النهي عن المنكر.

وعلى كلٍّ، إذا جاز الإخبار للطبيب فإنّما هو جائزٌ غير واجب، وله أن لا يخبر الزوج أصلا ولكن لا يدلّسه إذا سأله.

٢ - لا يجوز إخبار الطبيب السلطة أو الزوج بزنى الزوجة ؛ لحرمة الغيبة، وحرمة الإذلال، وحرمة إذاعة السرّ، كما أنّه لا يجوز للطبيب وغيره عند سؤال الزوج عن فجور زوجته أن يكذب، بل إمّا يسكت أو يتورّى.

٣ - إذا تبيّن بالفحوص الطبيّة أنّ أحد الشخصين المقبلَين على الزواج اللذين طلبا فحص ما قبل الزواج، لا ينجب أو ينجب طفلا مشوّهاً إذا ما تمّ ذلك الزواج، فهل يقوم الطبيب بإخطار الفرد الآخر منهما، أم أن النقص

١٩٨

المذكور يعتبر سرّاً من الأسرار التي لا يجوز إفشاءها، أو يعلّق الجواز والمنع على طلب الآخر معرفة النتيجة وعدم طلبه.

أقول : للمورد صور، فإن أقبلا على الطبيب بشرط أن يبيّن حقيقة حال كلٍّ منهما للآخر، كما لعلّه الغالب، فالظاهر وجوب إخبارهما بالحقيقة ؛ لانعقاد الإجارة مشروطة بذلك، ويقول الله تعالى:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، ولو لم يبيّن لا يستحقّ الأُجرة، وقَسَمُ الطبيب على عدم إفشاء السرّ لا يشمل المورد جزماً.

وإن أراد منه الفحص وإعلان النتيجة لكلٍّ منهما منفردا، فلا يجوز له إخبار الغير لحرمة إذاعة السرّ وللقسم - إن حلف أوّلاً على عدم إفشاء حال المرضى -.

وأمّا إذا أطلقا الطلب ولم يبيّنا أحد القسمين السابقين، فالمتبادَر من الإطلاق هو القسم الأوّل، لاسيّما مع السؤال عن النتيجة.

٤ - إذا علم الطبيب أنّ مريضه مدمن خمرٍ، وهو سائق أو طيّار، فهل يجب عليه الإبلاغ أو يحرم ؟

أقول : يجب على الطبيب، من باب النهي عن المنكر، أن ينهى المريض عن شرب الخمر أوّلاً، وعن السياقة في حال السكر ثانياً، فان لم يرتدع، أو علم الطبيب من أوّل أنّه لا يرتدع ؛ وجب عليه إبلاغ الجهات المسؤولة الحكوميّة لما مرّ ذيل عنوان ( أصل مفيد ) عن قريب، ويجوز إعلام مَن يريد السفر مع المدمن المذكور بالحال.

وبالجملة : حفظ النفوس أهمّ من حفظ عرض واحد مقصر.

٥ - إذا علم الطبيب باجتهاده، أو بإقرار المريض أنّه مبتلى بالزنا، أو

___________________

(١) المائدة آية ١.

١٩٩

باللّواط، أو بالمساحقة، أو بالسرقة، أو بقتل شخص أو أشخاص، مثلاً، فما هو وظيفته في الإبلاغ والسكوت ؟

وكذا غير الطبيب - إلاّ مَن كان وليّ القتيل، أو مالك المال المسروق ونحو ذلك، فيجوز له الرجوع إلى الجهات المسؤولة للقصاص وتحصيل حقّه، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

أقول : لا يجوز له الإبلاغ لما مرّ، وإنّما يجب عليه نهي المتخلّف عن المعاصي، نعم إذا علم أنّه يريد قتل شخص آخر، أو أنّه مفسد يريد إدامة فساده ؛ يجب عليه إبلاغ الحكومة لما مرّ في الأصل المفيد.

٦ - إذا علم الطبيب عن مريضته: أنّها قامت بترك وليدها غير الشرعيّ في الطريق العام تفاديا للفضيحة، فهل يسكت أو يبلّغ السلطات ؟

( ج ) : لا يجوز له ولغيره افضاح المرأة لما مرّ، وإنّما يجب عليه وعلى جميع المسلمين كفاية حفظ اللقيطة من التلف، ولو بردّها إلى أُمّها، وإذا فُرض عدم حفظه إلا بأُمّه، جاز بل وجب إبلاغ السلطات والتعريف بأُمّه.

٧ - إذا علم الطبيب أنّ المرأة المزوّجة تخون زوجها، لا يجوز له إبلاغ الزوج أو الحكومة، ولو قذفها ولم يقدر على إثبات الزنا يُجْلَد ثمانين جلدةً وهو حدّ القذف.وإذا سأله زوجها عن سبب مرضها النفسي، فهل له أن يخبره بأنّه خوف خيانتها بك ؟

لا يجوز له الكذب ولا الصدق !

٨ - إذا علم الطبيب أنّ السائق يضعف نور عينه، والسياقة خطر له وللناس، فقد مرّ حكم الطبيب المذكور، في جواب السؤال الرابع.

٩ - شخص أحد عينيه لا يبصر، وهو يطلب من الطبيب كتمانه، لئلاّ تفارقه زوجته أو خطيبته، وتطلب هي منه حال عينه، فما هو حكمه ؟ وكذا في عكس المفروض.

( ج ) : لايجوز إفشاء عيبه حتّى لزوجته بوجهٍ، بل الأظهر عدم جوازه

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453