الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130275 / تحميل: 6639
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) و هي كلّ ما يدلّ عليه تعالى بوجه و من ذلك رسله الحاملون لرسالته و ما اُيّدوا به من كتاب و غيره و ما جاؤا به من شريعة لأنّ إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه و يحملهم على إجابته إلى ما يدعوهم إليه و ائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي و الرسالة.

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ) و الإيمان بآياته هو الّذي دعاهم إلى نفي الشركاء في العبادة فإنّ الإيمان بها إيمان بالشريعة الّتي شرعت عبادته تعالى و الحجج الّتي دلّت على توحّده في ربوبيّته و اُلوهيّته.

على أنّ جميع الرسل و الأنبياءعليهم‌السلام إنّما جاؤا من قبله و إرسال الرسل لهداية الناس إلى الحقّ الّذي فيه سعادتهم من شؤون الربوبيّة، و لو كان له شريك لأرسل رسولاً، و من لطيف كلام عليّ عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربّك شريك لأتتك رسله.

ثمّ قال:( وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏ رَبِّهِمْ راجِعُونَ ) الوجل الخوف، و قوله:( يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل الله و قيل: المراد بإيتاء ما آتوا إتيانهم بكلّ عمل صالح، و قوله:( وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) حال من فاعل( يُؤْتُونَ ) .

و المعنى و الّذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة و الحال أنّ قلوبهم خائفة من أنّهم سيرجعون إلى ربّهم أي إنّ الباعث لهم على الإنفاق في سبيل الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربّهم على وجل منه.

و في الآية دلالة على إيمانهم باليوم الآخر و إتيانهم بصالح العمل و عند ذلك تعيّنت صفاتهم أنّهم الّذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له و برسله و باليوم الآخر و يعملون الصالحات.

ثمّ قال:( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ ) الظاهر أنّ اللّام في( لَها ) بمعنى( إلى ) و( لَها ) متعلّق بسابقون، و المعنى اُولئك الّذين وصفناهم هم يسارعون في الخيرات من الأعمال و هم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لأنّ ذلك

٤١

لازم كون كلّ منهم مريداً للسبق إليها.

فقد بيّن في الآيات أنّ الخيرات هي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحقّ الّذي عند هؤلاء المؤمنين و هم يسارعون فيها و ليست الخيرات ما عند اُولئك الكفّار و هم يعدّونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات.

قال في التفسير الكبير: و فيه يعني قوله:( أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) وجهان:

أحدهما: أنّ المراد يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها لئلّا تفوت عن وقتها و لكيلا تفوتهم دون الاحترام.

و الثاني: أنّهم يتعجّلون في الدنيا أنواع النفع و وجوه الإكرام كما قال:( فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ) ( وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) لأنّهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجّلوها و هذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدّمة لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين. انتهى.

أقول: إنّ الّذي نفي عن الكفّار في الآية المتقدّمة هو مسارعة الله للكفّار في الخيرات و الّذي اُثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة المؤمنين في الخيرات، و الّذي وجهه في هذا الوجه أنّ مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه فيبقى عليه أن يبيّن الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى و تبديلها منها، و وجّهه بعضهم بأنّ تغيير الاُسلوب للإيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، و هو كما ترى.

و الظاهر أنّ هذا التبديل إنّما هو في قوله في الآية المتقدّمة:( نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ) و المراد بيان أنّهم يحسبون أنّ ما نمدّهم به من مال و بنين خيرات يتسارعون إليها لكرامتهم و هم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثمّ نفيت بالاستفهام الإنكاريّ، و اُثبت ما يقابله على الأصل للمؤمنين.

٤٢

فمحصّل هذا النفي و الإثبات أنّ المال و البنين ليست خيرات يتسارعون إليها و لا هم مسارعون إلى الخيرات بل الأعمال الصالحة و آثارها الحسنة هي الخيرات و المؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات.

قوله تعالى: ( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الّذي يعطيه السياق أنّ في الآية ترغيباً و تحضيضاً على ما ذكره من صفات المؤمنين و دفعاً لما ربّما ينصرف الناس بتوهّمه عن التلبّس بكرامتها من وجهين أحدهما أنّ التلبّس بها أمر سهل في وسع النفوس و ليس بذاك الصعب الشاقّ الّذي يستوعره المترفون، و الثاني أنّ الله لا يضيع عملهم الصالح و لا ينسى أجرهم الجزيل.

فقوله:( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) نفي للتكليف الحرجيّ الخارج عن وسع النفوس أمّا في الاعتقاد فإنّه تعالى نصب حججاً ظاهرة و آيات باهرة تدلّ على ما يريد الإيمان به من حقائق المعارف و جهّز الإنسان بما من شأنه أن يدركها و يصدّق بها و هو العقل ثمّ راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوّة الإدراك و ضعفه فأراد من كلّ ما يناسب مقدار تحمّله و طوقه فلم يرد من العامّة ما يريده من الخاصّة و لم يسأل الأبرار عمّا سأل عنه المقرّبين و لا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين.

و أمّا في العمل فإنّما ندب الإنسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفرديّة و الاجتماعيّة الدنيويّة و سعادته في حياته الاُخرويّة، و من المعلوم أنّ خير كلّ نوع من الأنواع و منها الإنسان إنّما يكون فيما يتمّ به حياته و ينتفع به في عيشته و هو مجهّز بما يقوى على إتيانه و عمله، و ما هذا شأنه لا يكون حرجيّاً خارجاً عن الوسع و الطاقة.

فلا تكليف حرجيّاً في دين الله بمعنى الحكم الحرجيّ في تشريعه مبنيّاً على مصلحة حرجيّة، و بذلك امتنّ الله سبحانه على عباده، و طيّب نفوسهم و رغّبهم إلى ما وصفه من حال المؤمنين.

و الآية( وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) تدلّ على ذلك و زيادة فإنّها تدلّ على

٤٣

نفي التكليف المبنيّ على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانيّة و التقرّب بذبح الأولاد مثلاً، و نفي التكليف الّذي هو في نفسه غير حرجيّ لكنّ اتّفق أن صار بعض مصاديقه حرجيّاً لخصوصيّة في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الّذي لا يستطيعه فالجميع منفي بالآية و إن كان الامتنان و الترغيب المذكوران يتمّان بنفي القسم الأوّل.

و الدليل عليه في الآية تعلّق نفي التكليف بقوله:( نَفْساً ) و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و عليه فأيّ نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلّف إلّا وسعها و لا يتعلّق بها حكم حرجيّ سواء كان حرجيّاً من أصله أو صار حرجيّاً في خصوص المورد.

و قد ظهر أنّ في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول و رفعاً للحرج سواء كان في أصل الحكم أو طارئاً عليه.

و قوله:( وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ترغيب لهم بتطييب نفوسهم بأنّ عملهم لا يضيع و أجرهم لا يتخلّف و المراد بنطق الكتاب إعرابه عمّا اُثبت فيه إعراباً لا لبس فيه و ذلك لأنّ أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلّا بما هو حقّ فهو مصون عن الزيادة و النقيصة و التحريف، و الحساب مبنيّ على ما اُثبت فيه كما يشير إليه قوله:( يَنْطِقُ ) و الجزاء مبنيّ على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو تغييره كما أنّهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغيّر بوجه من وجوه التغيّر.

قال الرازيّ في التفسير الكبير، فإن قيل: هؤلاء الّذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إمّا أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوّزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه فإنّهم يصدّقونه في كلّ ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، و إن جوّزه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنّه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب.

قلنا: يفعل الله ما يشاء، و على أنّه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلّفين من

٤٤

الملائكة. انتهى.

أقول: و الّذي أجاب به مبنيّ على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى و تجويز الإرادة الجزافيّة تعالى عن ذلك، و الإشكال مطّرد في سائر شؤون يوم القيامة الّتي أخبر الله سبحانه بها كالحشر و الجمع و إشهاد الشهود و نشر الكتب و الدواوين و الصراط و الميزان و الحساب.

و الجواب عن ذلك كلّه: أنّه تعالى مثّل لنا ما يجري على الإنسان يوم القيامة في صورة القضاء و الحكم الفصل، و لا غنى للقضاء بما أنّه قضاء عن الاستناد إلى الحجج و البيّنات كالكتب و الشهود و الأمارات و الجمع بين المتخاصمين و لا يتمّ دون ذلك البتّة.

نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الإنسان له في مراحل رجوعه إلى الله سبحانه بإذنه، فافهمه.

قوله تعالى: ( بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ ) المناسب لسياق الآيات أن يكون( هذا ) إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال المؤمنين و مسارعتهم في الخيرات، و يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيّده قوله بعد:( قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) و الغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد الّذي غمرهم، و قوله:( وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ ) إلخ، أي من غير ما وصفناه من حال المؤمنين و هو كناية عن أنّ لهم شاغلاً يشغلهم عن هذه الخيرات و الأعمال الصالحة و هو الأعمال الرديئة الخبيثة الّتي هم لها عاملون.

و المعنى: بل الكفّار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الّذي وصفنا به المؤمنين و لهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم و مانعتهم.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ ) الجؤار بضمّ الجيم صوت الوحش كالظباء و نحوها عند الفزع كنّي به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة و التضرّع، و قيل: المراد به ضجّتهم و جزعهم و الآيات التالية تؤيّد المعنى الأوّل.

٤٥

و إنّما جعل مترفيهم متعلّق العذاب لأنّ الكلام فيمن ذكره قبلاً بقوله:( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ ) و هم الرؤساء المتنعّمون منهم و غيرهم تابعون لهم.

قوله تعالى: ( لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ ) العدول عن سياق الغيبة إلى الخطاب لتشديد التوبيخ و التقريع و لقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة و أيّ رجاء و أمل لهم فيها فإنّ أخبار الوسائط أنّهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع طمعهم في النصر كما يقطعه أخبار من إليه النصر نفسه.

قوله تعالى: ( قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -تَهْجُرُونَ ) النكوص: الرجوع القهقرى، و السامر من السمر و هو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على المفرد و الجمع، و قرئ( سمّرا) بضمّ السين و تشديد الميم جمع سامر و هو أرجح، و قرئ أيضاً( سُمّارا) بالضمّ و التشديد، و الهجر: الهذيان.

و الفصل في قوله:( قَدْ كانَتْ آياتِي ) إلخ، لكونه في مقام التعليل، و المعنى: إنّكم منّا لا تنصرون لأنّه قد كانت آياتي تتلى و تقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها و ترجعون إلى أعقابكم القهقرى مستكبرين بنكوصكم تحدّثون في أمره في الليل تهجرون و تهذون، و قيل: ضمير( بِهِ ) عائد إلى البيت أو الحرم و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) شروع في قطع أعذارهم في الإعراض عن القرآن النازل لهدايتهم و عدم استجابتهم للدعوة الحقّة الّتي قام بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) الاستفهام فيه للإنكار و اللّام في( الْقَوْلَ ) للعهد و المراد به القرآن المتلوّ عليهم، و الكلام متفرّع على ما تقدّمه من كونهم في غفلة منه و شغل يشغلهم عنه، و المعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبّروا هذا القول المتلوّ عليهم حتّى يعلموا أنّه حقّ من عندالله فيؤمنوا به.

و قوله:( أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) ( أَمْ ) فيه و فيما بعده منقطعة في معنى الإضراب، و المعنى: بل أ جاءهم شي‏ء لم يأت آباءهم الأوّلين فيكون بدعاً

٤٦

ينكر و يحترز منه.

و كون الشي‏ء بدعا محدثا لا يعرفه السابقون و إن لم يستلزم كونه باطلاً غير حقّ على نحو الكلّيّة لكنّ الرسالة الإلهيّة لما كانت لغرض الهداية لو صحّت وجبت في حقّ الجميع فلو لم يأت الأوّلين كان ذلك حجّة قاطعة على بطلانها.

قوله تعالى: ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) المراد بمعرفة الرسول معرفته بنسبه و حسبه و بالجملة بسجاياه الروحيّة و ملكاته النفسيّة من اكتسابيّة و موروثة حتّى يتبيّن به أنّه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيّد من عندالله و قد عرفوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوابق حاله قبل البعثة، و قد كان يتيماً فاقداً للأبوين لم يقرأ و لم يكتب و لم يأخذ أدباً من مؤدّب و لا تربية من مربّ ثمّ لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي و لا طمعاً في ملك أو حرصاً على مال أو ولعاً بجاه، و هو على ما هو سنين من عمره فإذا هو ينادي للفلاح و السعادة و يندب إلى حقائق و معارف تبهر العقول و يدعو إلى شريعة تحيّر الألباب و يتلو كتاباً.

فهم قد عرفوا رسولهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنعوته الخاصّة المعجزة لغيره، و لو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذراً في إعراضهم عن دينه و استنكافهم عن الإيمان به لأنّ معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه، و من المعلوم أنّ إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه ممّا لا يجوّزه العقل.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) و هذا عذر آخر لهم تشبّثوا به إذ قالوا:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦ ذكره و ردّه بلازم قوله:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ ) .

فمدلول قوله:( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) إضراب عن جملة محذوفة و التقدير إنّهم كاذبون في قولهم:( بِهِ جِنَّةٌ ) و اعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنّما كرهوا الإيمان به لأنّه جاء بالحقّ و أكثرهم للحقّ كارهون.

و لازمه ردّ قولهم بحجّة يلوّح إليها هذا الإضراب، و هي أنّ قولهم:( بِهِ جِنَّةٌ ) لو كان حقّاً كان كلامه مختلّ النظم غير مستقيم المعنى مدخولاً فيه كما هو

٤٧

مدخول في عقله، غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلّا إلى حقّ، و لا يأتي إلّا بحقّ، و أين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد و لا يشعر بما يقول.

و إنّما نسب الكراهة إلى أكثرهم لأنّ فيهم مستضعفين لا يعبؤ بهم أرادوا أو كرهوا.

قوله تعالى: ( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) لما ذكر أنّ أكثرهم للحقّ كارهون و إنّما يكرهون الحقّ لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحقّ أي الدعوة الحقّة أن يتّبع أهواءهم و هذا ممّا لا يكون البتّة.

إذ لو اتّبع الحقّ أهواءهم فتركوا و ما يهوونه من الاعتقاد و العمل فعبدوا الأصنام و اتّخذوا الأرباب و نفوا الرسالة و المعاد و اقترفوا ما أرادوه من الفحشاء و المنكر و الفساد جاز أن يتّبعهم الحقّ في غير ذلك من الخليقة و النظام الّذي يجري فيها بالحقّ إذ ليس بين الحقّ و الحقّ فرق فاُعطي كلّ منهم ما يشتهيه من جريان النظام و فيه فساد السماوات و الأرض و من فيهنّ و اختلال النظام و انتقاض القوانين الكلّيّة الجارية في الكون فمن البيّن أنّ الهوى لا يقف على حدّ و لا يستقرّ على قرار.

و بتقرير آخر أدقّ و أوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيّم أنّ الإنسان حقيقة كونيّة مرتبطة في وجودها بالكون العامّ و له في نوعيّته غاية هي سعادته و قد خطّ له طريق إلى سعادته و كماله ينالها بطيّ الطريق المنصوب إليها نظير غيره من الأنواع الموجودة، و قد جهّزه الكون العامّ و خلقته الخاصّة به من القوى و الآلات بما يناسب سعادته و الطريق المنصوب إليها و هي الاعتقاد و العمل اللّذان ينتهيان به إلى سعادته.

فالطريق الّتي تنتهي بالإنسان إلى سعادته أعني الاعتقادات و الأعمال الخاصّة المتوسّطة بينه و بين سعادته و هي الّتي تسمّى الدين و سنّة الحياة متعيّنة حسب

٤٨

اقتضاء النظام العامّ الكونيّ و النظام الخاصّ الإنسانيّ الّذي نسمّيه الفطرة و تابعة لذلك.

و هذا هو الّذي يشير تعالى إليه بقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) سورة الروم: ٣٠.

فسنّة الحياة الّتي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانيّة طريقة متعيّنة يقتضيها النظام بالحقّ و تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ، و هذا الحقّ هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة الّتي تحكم في النظام الكونيّ الّذي أحد أجزائه النظام الإنسانيّ و تدبّره و تسوقه إلى غاياته و هو الّذي قضى به الله سبحانه فكان حتماً مقضيّاً.

فلو اتّبع الحقّ أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلّا بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه و تبدّل العلل و الأسباب غيرها و تغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافيّة مختلّة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، و في ذلك فساد السماوات و الأرض و من فيهنّ في أنفسها و التدبير الجاري فيها لأنّ كينونتها و تدبيرها مختلطان غير متمايزين، و الخلق و الأمر متّصلان غير منفصلين.

و هذا هو الّذي يشير إليه قوله:( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ ) .

و قوله:( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ) لا ريب أنّ المراد بالذكر هو القرآن كما قال:( وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) الأنبياء: ٥٠، و قال:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ ) الزخرف: ٤٤ إلى غير ذلك من الآيات، و لعلّ التعبير عنه بالذكر بعد قوله:( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) نوع مقابلة لقولهم:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) الحجر: ٦.

و كيف كان فقد سمّي ذكراً لأنّه يذكّرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح، و الثاني أوفق لصدر الآية بما تقدّم من معناه، و إنّما اُضيف إليهم لأنّ الدين أعني الدعوة الحقّة مختلفة بالنسبة إلى الناس

٤٩

بالإجمال و التفصيل و الّذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع.

و المعنى: لم يتّبع الحقّ أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكّرهم - أو يذكرون به - دينهم الّذي يختصّ بهم و يتفرّع عليه أنّهم عن دينهم الخاصّ بهم معرضون.

و قال كثير منهم إنّ إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله:( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ ) الزخرف: ٤٤، و المعنى: بل أتيناهم بفخرهم و شرفهم الّذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم و شرفهم أنفسهم معرضون.

و فيه أنّه لا ريب في أنّ القرآن الكريم شرف للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ اُنزل عليه و لأهل بيته إذ نزل في بيتهم، و للعرب إذ نزل بلغتهم و للاُمّة إذ نزل لهدايتهم غير أنّ الإضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا الدين بهذه الاُمّة و هو الأوفق لصدر الآية بالمعنى الّذي تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ، قال في مجمع البيان: أصل الخراج و الخرج واحد و هو الغلّة الّتي يخرج على سبيل الوظيفة انتهى.

و هذا رابع الأعذار الّتي ذكرت في هذه الآيات و ردّت و وبّخوا عليها و قد ذكره الله بقوله:( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ) أي مالاً يدفعونه إليك على سبيل الرسم و الوظيفة ثمّ ذكر غنى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) أي إنّ الله هو رازقك و لا حاجة لك إلى خرجهم، و قد تكرّر الأمر بإعلامهم ذلك في الآيات( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) الأنعام: ٩٠ الشورى: ٢٣.

و قد تمّت بما ذكر في الآية أربعة من الأعذار المردودة إليهم و هي مختلفة فأوّلها( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) راجع إلى القرآن و الثاني( أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ) إلى الدين الّذي إليه الدعوة، و الثالث( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) إلى نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرابع( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ) إلى سيرته.

٥٠

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) النكب و النكوب العدول عن الطريق و الميل عن الشي‏ء.

قد تقدّم في تفسير سورة الفاتحة أنّ الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الّذي لا يختلف و لا يتخلّف في حكمه و هو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، و هذه صفة الحقّ فإنّ الحقّ واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض و التدافع و لا يتخلّف في مطلوبه الّذي يهدي إليه فالحقّ صراط مستقيم، و إذ ذكر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهدي إلى الحقّ كان لازمه هذا الّذي ذكره أنّه يهدي إلى صراط مستقيم.

ثمّ إنّ الّذين كفروا لما كانوا كارهين للحقّ كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي الصراط المستقيم مائلون إلى غيره.

و إنّما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة و اقتصر عليه لأنّ دين الحقّ مبنيّ على أساس أنّ للإنسان حياة خالدة لا تبطل بالموت و له فيها سعادة يجب أن تقتنى بالاعتقاد الحقّ و العمل الصالح و شقاوة يجب أن تجتنب و هؤلاء لنفيهم الحياة الآخرة يعدلون عن الحقّ و الصراط المستقيم.

و بتقرير آخر: دين الحقّ مجموع تكاليف اعتقاديّة و عمليّة و التكليف لا يتمّ إلّا بحساب و جزاء، و قد عيّن لذلك يوم القيامة، و إذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغي الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلّا الحياة الدنيا المادّيّة و لا يبقى من السعادة عندهم إلّا نيل اللذائذ المادّيّة و هو التمتّع بالبطن فما دونه، و لازم ذلك أن يكون المتّبع عندهم الهوى وافق الحقّ أو خالفه.

فمحصّل الآيتين أنّهم ليسوا بمؤمنين بك لأنّك تدعو إلى صراط مستقيم و هم لا همّ لهم إلّا العدول و الميل عنه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ - إلى قوله -وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) اللجاج التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، و العمه التردّد في الأمر من التحيّر، ذكرهما الراغب، و في المجمع: الاستكانة الخضوع و هو استفعل

٥١

من الكون، و المعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. انتهى.

و قوله:( وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ ) بيان و تأييد لنكوبهم عن الصراط بأنّا لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضرّ لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصرّوا على تمرّدهم عن الحقّ و تمادوا يتردّدون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضرّ كما لا ينفعهم تخويف بعذاب و نقمة فإنّا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربّهم و ما يتضرّعون إليه فهؤلاء لا ينفعهم و لا يركبهم صراط الحقّ لا رحمة بكشف الضرّ و لا نقمة و تخويف بالأخذ بالعذاب.

و المراد بالعذاب العذاب الخفيف الّذي لا ينقطع به الإنسان عن عامّة الأسباب بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أنّ الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار و الانقطاع عن الأسباب من غريزيّات الإنسان كما تكرّر ذكره في القرآن الكريم فكيف يمكن أن يأخذهم العذاب ثمّ لا يستكينوا و لا يتضرّعوا؟.

و قوله في الآية الاُولى:( ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ) و في الثانية:( وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ) يدلّ على أنّ الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع و لما يرتفع حين نزول الآيات، و من المحتمل أنّه الجدب الّذي ابتلي به أهل مكّة و قد ورد ذكر منه في الروايات.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) أي هم على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة و لا عذاب حتّى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد و هو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة - على ما يعطيه سياق الآيات و خاصّة الآيات الآتية - فيفاجؤهم الإبلاس و اليأس من كلّ خير.

و قد ختم هذا الفصل من الكلام أعني قوله:( أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ) إلخ بنظير ما ختم به الفصل السابق أعني قوله:( أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ ) إلى آخر الآيات و هو ذكر عذاب الآخرة، و سيعود إليه ثانياً.

٥٢

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - إلى قوله -يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) قال من العبادة و الطاعة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و أحمد و عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن ماجة و ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله قول الله:( وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) أ هو الرجل يزني و يسرق و يشرب الخمر و هو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا و لكنّ الرجل يصوم و يتصدّق و يصلّي و هو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبّل منه.

و في المجمع: في قوله:( وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ) قال أبوعبداللهعليه‌السلام : معناه خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية اُخرى: أتى و هو خائف راج.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة:( حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ ) قال ذكر لنا أنّها نزلت في الّذين قتل الله يوم بدر.

أقول: و روي مثله عن النسائيّ عن ابن عبّاس و لفظه قال: هم أهل بدر، و سياق الآيات لا ينطبق على مضمون الروايتين.

و فيه، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: جاء أبوسفيان إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد اُنشدك الله و الرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله:( وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) .

أقول: و الروايات في هذا المعنى مختلفة و ما أوردناه أعدلها و هي تشير إلى جدب وقع بمكّة و حواليها بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ظاهر أكثرها أنّه كان بعد الهجرة، و لا يوافق ذلك الاعتبار.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ ) قال: الحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

٥٣

أقول: هو من البطن بالمعنى الّذي تقدّم في بحث المحكم و المتشابه و نظيره ما أورده في قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال إلى ولاية أميرالمؤمنينعليه‌السلام و كذا ما أورده في قوله:( عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ) قال: عن الإمام لحادون.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) يقول: أم تسألهم أجراً فأجر ربّك خير.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) فقال: الاستكانة هي الخضوع، و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما.

و في المجمع، و روي عن مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال: أ ما تقرأ هذه الآية:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) ؟ أورده الثعلبيّ و الواحديّ في تفسيريهما.

و فيه، قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الاستكانة الدعاء، و التضرّع رفع اليدين في الصلاة.

و في الدرّ المنثور، أخرج العسكريّ في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ ) أي لم يتواضعوا في الدعاء و لم يخضعوا و لو خضعوا لله لاستجاب لهم.

و في المجمع: في قوله تعالى:( حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ) قال أبوجعفرعليه‌السلام هو في الرجعة.

٥٤

( سورة المؤمنون الآيات ٧٨ - ٩٨)

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ  قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( ٧٨ ) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٧٩ ) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٨٠ ) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ( ٨١ ) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( ٨٢ ) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٨٣ ) قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ  قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ( ٨٩ ) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٩٠ ) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ  إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ٩١ ) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٩٢ ) قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ( ٩٣ ) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٩٤ ) وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ( ٩٥ ) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ  نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ( ٩٦ ) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ( ٩٧ ) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ( ٩٨ )

٥٥

( بيان)

لما أوعدهم بعذاب شديد لا مردّ له و لا مخلص منه، و ردّ عليهم كلّ عذر يمكنهم أن يعتذروا به، و بيّن أنّ السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتّباع الهوى و كراهة اتّباع الحقّ، تمّم البيان بإقامة الحجّة على توحّده في الربوبيّة و على رجوع الخلق إليه بذكر آيات بيّنة لا سبيل للإنكار إليها.

و عقّب ذلك بأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الّذي اُوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا بهم.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) افتتح سبحانه من نعمه الّتي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان خصّ بهما جنس الحيوان خلقتاً فيه إنشاء و إبداعاً لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الأنواع البسيطة الّتي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.

و بحصول هذين الحسّين يقف الوجود المجهّز بهما موقفاً جديداً و يتّسع مجال فعّاليّته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتّساعاً لا يتقدّر بقدر فيدرك خيره و شرّه و نافعه و ضارّه و يعطي معهما الحركة الإراديّة إلى ما يريده و عمّا يكرهه، و يستقرّ في عالم حديث طريّ فيه مجالي الجمال و اللذّة و العزّة و الغلبة و المحبّة ممّا لا خبر عنه فيما قبله.

و إنّما اقتصر من الحواسّ بالسمع و البصر - قيل - لأنّ الاستدلال يتوقّف عليهما و يتمّ بهما.

ثمّ ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الّذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصّة بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجوديّة جديدة هي أرفع درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالاً من عالم الحيوان الّذي هو عالم الحواسّ فيتّسع به أوّلاً شعاع عمل الحواسّ ممّا كان عليه في عامّة الحيوان بما لا يتقدّر بقدر فإذا الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار

٥٦

الأشياء و آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.

ثمّ يرقى بفؤاده أي بتعقّله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيّات فيتعقّل الكلّيّات فيحصّل القوانين الكلّيّة، و يغور متفكّراً في العلوم النظريّة و المعارف الحقيقيّة، و ينفذ بسلطان التدبّر في أقطار السماوات و الأرض.

ففي ذلك كلّه من عجيب التدبير الإلهيّ بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا يسع الإنسان أن يستوفي شكره.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكراً قليلاً فقوله:( قَلِيلًا ) وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم. و قال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرّهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. انتهى.

فالمعنى: أنّه لما جعلكم ذوي حسّ و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلّقين بها ثمّ يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) معنى الآية ظاهر، و قوله:( وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) مترتّب بحسب المعنى على الجملة الّتي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتّى تحشروا إليه لزمت ذلك سنّة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقّف على الحياة و الحشر متوقّف على الموت.

و قوله:( وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) مترتّب على ما قبله فإنّ الحياة ثمّ الموت لا تتمّ إلّا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتّى ينقضي العمر و يحلّ الأجل المكتوب، هذا لو اُريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد منها بعد الواحد، و لو اُريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول السنة الأربعة المتفرّعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتمّ أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

٥٧

سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) حم السجدة: ١٠.

فمضامين الآيات الثلاث مترتّبة مستتبعة بعضها بعضاً فإنشاء السمع و البصر و الفؤاد و هو الحسّ و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلّقة بالمادّة و سكوناً في الأرض إلى حين، ثمّ الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتاً، و ذلك يستتبع عمراً متقضيّاً بانقضاء الزمان و رزقاً يرتزق به.

فالآيات الثلاث تتضمّن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربّه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأنّ هذا التدبير تدبير تكوينيّ لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربّهم المدبّر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله:( أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) توبيخ لهم و حثّ على التنبّه فالإيمان.

قوله تعالى: ( بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ) إضراب عن نفي سابق يدلّ عليه الاستفهام المتقدّم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.

و في تشبيه قولهم بقول الأوّلين إشارة إلى أنّ تقليد الآباء منعهم عن اتّباع الحقّ و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و الانغمار في المادّيّات سنّة جارية فيهم في آخريهم و أوّليهم.

قوله تعالى: ( قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) بيان لقوله:( قالُوا ) في الآية السابقة و الكلام مبنيّ على الاستبعاد.

قوله تعالى: ( لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافيّة و هي جمع اُسطورة كأكاذيب جمع اُكذوبة و أعاجيب جمع اُعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنّه مجموع عدات كلّ واحد منها اُسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنّة و النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) ، متعلّق بقوله:( وُعِدْنا ) على ما يعطيه سياق الجملة.

٥٨

و المعنى: أنّ وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و آباؤنا ليس البعث الموعود إلّا أحاديث خرافيّة وضعها و نظمها الأناسيّ الأوّلون في صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنّة و النار و الثواب و العقاب.

و الدليل على كونها أساطير أنّ الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و يخوّفوننا بقيام الساعة و لو كان حقّاً غير خرافيّ لوقع.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قولهم:( مِنْ قَبْلُ ) لتمهيد الحجّة على قولهم بعده( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

و ثانياً: أنّ الكلام مسوق للترقّي فالآية السابقة:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) مبنيّة على الاستبعاد و هذه الآية متضمّنة للإنكار مبنيّاً على حجّة واهية.

قوله تعالى: ( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) لما ذكر استبعادهم للبعث ثمّ إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبيّة و السلطنة، و وجه الكلام إلى الوثنيّين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنّه الموجد للعالم و ربّ الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده تعالى مسلّماً في ضمن الحجّة.

فقوله:( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من اُولي العقل من هو؟ و معلوم أنّ السؤال إنّما هو عن الملك الحقيقيّ الّذي هو قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقلّ الشي‏ء المملوك عن مالكه بأيّ وجه فرض دون الملك الاعتباريّ الّذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع و هو يقبل الصحّة و الفساد و يقع مورداً للبيع و الشري، و ذلك لأنّ الكلام مسوق لإثبات صحّة جميع التصرّفات التكوينيّة و ملاكها الملك التكوينيّ الحقيقيّ دون التشريعيّ الاعتباريّ.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) إخبار عن جوابهم و هو أنّ الأرض و من فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإنّ

٥٩

هذا النوع من الملك لا يقوم إلّا بالعلّة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياماً لا يستقلّ عنها بوجه من الوجوه، و العلّة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتّى باعتراف الوثنيّين.

و قوله:( قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبّخهم على عدم تذكّرهم بالحجّة الدالّة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الأرض و من فيها لم لا تتذكّرون أنّ له - لمكان مالكيّته - أن يتصرّف في أهلها بالإحياء بعد الإماتة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) أمره ثانياً أن يسألهم عن ربّ السماوات السبع و ربّ العرش العظيم من هو؟.

و المراد بالعرش هو المقام الّذي يجتمع فيه أزمّة الاُمور و يصدر عنه كلّ تدبير، و تكرار لفظ الربّ في قوله:( وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) للإشارة إلى أهميّة أمره و رفعة محلّه كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدّم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب.

ذكروا أنّ قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من ربّ السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار و من ربّ الدار فقوله تعالى:( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ) ؟ سؤال عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله:( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) على المعنى و لو أنّه اُجيب عنه فقيل:( الله ) كما في القراءة الاُخرى كان جواباً على اللفظ.

و فيه أنّ الّذي ثبت في اللغة أنّ ربّ الشي‏ء هو مالكه المدبّر لأمره بالتصرّف فيه فيكون الربوبيّة أخصّ من الملك، و لو كان الربّ مرادفاً للمالك لم يستقم ترتّب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها - إلى قوله -سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) إذ كان معنى السؤال: من ربّ الأرض و من فيها، و من المعلوم أنّهم كانوا قائلين بربوبيّة آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات الربوبيّة لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف

٦٠

السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإنّ الجواب عنه تصديقه لله لأنّهم كانوا يرون الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.

ثمّ على تقدير كون الربّ أخصّ من المالك يمكن أن يتوهّم توجّه الإشكال إلى ترتّب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ - إلى قوله -سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) فإنّ جلّ الوثنيّين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن ربّ السماوات أجابوا بإثبات الربوبيّة لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله:( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ) إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.

و الّذي يحسم أصل الإشكال أنّ البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنّهم لم يكونوا يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو اُصول منظّمة مسلّمة عند الجميع فأمثال الصابئين و البرهمائيّين و البوذيّين كانوا يقسّمون اُمور العالم إلى أنواع و أقسام كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البرّ و البحر و غير ذلك و يثبتون لكلّ منها إلهاً دون الله يعبدونه من دون الله و يعدّونه شفيعاً مقرّباً ثمّ يتّخذون له صنماً يمثّله.

و أمّا عامّتهم من الهمجيّين كأعراب الجاهليّة و القاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنيّة على قواعد مضبوطة و ربّما كانوا يرون للمعمورة من الأرض و سكّانها آلهة دون الله لها أصنام و ربّما رأوا نفس الأصنام المصنوعة آلهة، و أمّا السماوات و السماويّات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه و الله ربّها كما يلوّح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون:( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‏ إِلهِ مُوسى‏ ) المؤمن: ٣٧، فإنّ ظاهره أنّه كان يرى أنّ الّذي يدعو إليه موسى - و هو الله تعالى - إله السماء و بالجملة السماوات و ما فيهنّ و من فيهنّ من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثمّ الملائكة أرباب لما دون السماوات.

و أمّا الصابئون و من يحذو حذوهم فإنّهم - كما سمعت - يرون للسماوات و

٦١

ما فيهنّ من النجوم و الكواكب آلهة و أرباباً من دون الله و هم الملائكة و الجنّ و هم يرون الملائكة و الجنّ موجودات مجرّدة عن المادّة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما يعدّونهم ساكنين في السماوات فإنّما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماويّ العلويّ الّذي فيه تتقدّر الاُمور و منه ينزل القضاء و به تستمدّ الأسباب الطبيعيّة، و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة للعالم الحسّيّ و أرباباً لمن فيه و الله ربّ الأرباب.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن ربّ السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم أنّه الله في محلّه كما عرفت.

و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممّن يرى للسماء إلهاً دون الله كان المراد بالسماء العالم السماويّ بسكنته من الملائكة و الجنّ دون السماوات المادّيّة، و يؤيّده مقارنته بالسؤال عن ربّ العرش العظيم فإنّ العرش مقام صدور الأحكام المتعلّقة بمطلق الخلق الّذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا ربّ لمقام هذا شأنه إلّا الله إذ لا يفوقه شي‏ء دونه.

و هذا العالم العلويّ هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا ربّ له إلّا الله سبحانه فالسؤال عن ربّه و الجواب عنه باعترافهم أنّه الله في محلّه كما اُشير إليه.

فمعنى الآية - و الله أعلم - قل: من ربّ السماوات السبع الّتي منها تنزل أقدار الاُمور و أقضيتها و ربّ العرش العظيم الّذي منه يصدر الأحكام لعامّة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنّهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الّذي ملّكهم ما ملكوه.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ ) حكاية لجوابهم بالاعتراف بأنّ السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.

و المعنى: سيجيبونك بأنّها لله قل لهم تبكيتاً و توبيخاً: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتّقون

٦٢

سخطه إذ تنكرون البعث و تعدّونه من أساطير الأوّلين و تسخرون من أنبيائه الّذين وعدوكم به؟ فإنّ له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و ينزل الأمر به من السماء.

و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله:( لِلَّهِ ) فإنّ الحجّة تتمّ بالملك و إن لم يعترفوا بالربوبيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أنّ المالك هو الّذي يملك المال و الملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرّف بالحكم في المال و مالكه.

و قد فسّر تعالى ملكوته بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس ٨٣، فملكوت كلّ شي‏ء هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن و بعبارة اُخرى وجوده عن إيجاده تعالى.

فكون ملكوت كلّ شي‏ء بيده كناية استعاريّة عن اختصاص إيجاد كلّ ما يصدق عليه الشي‏ء به تعالى كما قال:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: ٦٢، فملكه تعالى محيط بكلّ شي‏ء و نفوذ أمره و مضيّ حكمه ثابت على كلّ شي‏ء.

و لما كان من الممكن أن يتوهّم أنّ عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عمّا يريده تمّم قوله:( بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) بقوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) و هو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنّه بتمام معنى الكلمة فليس لشي‏ء شي‏ء من الملك في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.

و قوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثمّ جعلوا للجوار حقّاً و هو حماية الجار لجاره عمّن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار و اشتقّ منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه

٦٣

أي منع عنه من يقصده بسوء.

و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شي‏ء يخصّه الله بعطيّة حدوثاً أو بقاء إلّا و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنّما هو بإذن منه و مشيّة فليس منعا له تعالى بل منعاً منه و تحديداً لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلاً إلّا و له تعالى أن يتصرّف فيه بما لا يريده لأنّه تعالى هو الّذي ملكه الفعل بمشيّته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.

فالمراد بقوله:( وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ ) أنّه يمنع السوء عمّن قصد به و لا يمنعه شي‏ء إذا أراد شيئاً بسوء عمّا أراد.

و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الّذي يختصّ به إيجاد كلّ شي‏ء بما له من الخواصّ و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شي‏ء إذا أراد شيئاً بسوء؟ إن كنتم تعلمون.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ) قيل: إنّ المراد بالسحر أن يخيّل الشي‏ء للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.

و المعنى: سيجيبونك أنّ الملكوت لله قل لهم تبكيتاً و توبيخاً: فإلى متى يخيّل لكم الحقّ باطلاً فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله:( كُنْ ) .

و اعلم أنّ الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحّده تعالى في الربوبيّة فإنّ الملك الحقيقيّ لا يتخلّف عن جواز التصرّفات، و المالك المتصرّف هو الربّ.

قوله تعالى: ( بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) إضراب عن النفي المفهوم من الحجج الّتي اُقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنيّة تدلّ على البعث و هم معترفون بصحّتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلاً بل جئناهم بلسان الرسل بالحقّ و إنّهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.

قوله تعالى: ( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ

٦٤

إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) إلخ، القول بالولد كان شائعاً بين الوثنيّين يعدّون الملائكة أو بعضهم و بعض الجنّ و بعض القدّيسين من البشر أولاداً لله سبحانه و تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوّة مبنيّ على اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة اللّاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمّى بالابن إلهاً مولوداً من إله.

و أمّا البنوّة الادّعائيّة بالتبنّي و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شي‏ء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و أحبّاؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مراداً لأنّ الكلام مسوق لنفي تعدّد الآلهة، و لا يستلزم هذا النوع من البنوّة اُلوهيّة و إن كان التسمّي و التسمية بها ممنوعاً.

فالمراد باتّخاذ الولد إيجاد شي‏ء بنحو التبعّض و الاشتقاق يكون مشتملاً بنحو على شي‏ء من حقيقة الموجد لا تسمية شي‏ء موجود ابناً و ولداً لغرض من الأغراض كما ذكره بعضهم.

و الولد - كما عرفت - أخصّ مصداقاً عندهم من الإله فإنّ بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله:( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ) ترقّ من نفي الأخصّ إلى نفي الأعمّ و لفظة( مِنْ ) في الجملتين زائدة للتأكيد.

و قوله:( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) حجّة على نفي التعدّد ببيان محذوره إذ لا يتصوّر تعدّد الآلهة إلّا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتّحد في معنى اُلوهيّتها و ربوبيّتها، و معنى ربوبيّة الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقلّ في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شي‏ء غير نفسه حتّى إلى من فوّض إليه الأمر، و من البيّن أيضاً أنّ المتباينين لا يترشّح منهما إلّا أمران متباينان.

و لازم ذلك أن يستقلّ كلّ من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة الاتّحاد و الاتّصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الإنسانيّ عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البرّ و البحر

٦٥

و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كلّ منها عن كلّ منها، و فيه فساد السماوات و الأرض و ما فيهنّ، و وحدة النظام الكونيّ و التئام أجزائه و اتّصال التدبير الجاري فيه يكذّبه.

و هذا هو المراد بقوله:( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشّح منه من التدبير.

و قوله:( وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) محذور آخر لازم لتعدّد الآلهة تتألّف منه حجّة اُخرى على النفي، بيانه أنّ التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضيّة كالتدبيرين الجاريين في البرّ و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و النار، و منها التدابير الطوليّة الّتي تنقسم إلى تدبير عامّ كلّي حاكم و تدبير خاصّ جزئيّ محكوم كتدبير العالم الأرضيّ و تدبير النبات الّذي فيه، و كتدبير العالم السماويّ و تدبير كوكب من الكواكب الّتي في السماء، و كتدبير العالم المادّيّ برمّته و تدبير نوع من الأنواع المادّيّة.

فبعض التدبير و هو التدبير العامّ الكلّيّ يعلو بعضاً بمعنى أنّه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقوّمه بما فوقه، كما أنّه لو لم يكن هناك عالم أرضيّ أو التدبير الّذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنسانيّ و لا التدبير الّذي يجري فيه بالخصوص.

و لازم ذلك أن يكون الإله الّذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عالياً بالنسبة إلى الإله الّذي فوّض إليه من التدبير ما هو دونه و أخصّ منه و أخسّ و استعلاء الإله على الإله محال.

لا لأنّ الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوباً لغيره أو ناقصاً في قدرته محتاجاً في تمامه إلى غيره أو محدوداً و المحدوديّة تفضي إلى التركيب، و كلّ ذلك من لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف - كما قرّره المفسّرون - فإنّ الوثنيّين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوّض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها

٦٦

و الله سبحانه ربّ الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.

بل استحالة الاستعلاء إنّما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره و تأثيره إذ لا يجامع توقّف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدّاً في تأثيره محتاجاً فيه إلى العالي فيكون سبباً من الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى تدبير ما دونه لا إلهاً مستقلّاً بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلهاً غير إله بل سبباً يدبّر به الأمر هذا خلف.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية، و للمفسّرين في تقرير حجّة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدّد الآلهة اُموراً تستلزم إمكانها و تنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شي‏ء من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرّر الآية بوجوه مؤلّفة من مقدّمات لا إشارة في الآية إلى جلّها و لا إيهام، و فرّط آخرون فصرّحوا بأنّ الملازمة المذكورة في الآية عاديّة لا عقليّة، و الدليل إقناعيّ لا قطعيّ.

ثمّ لا يشتبهنّ عليك أمر قوله:( لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) حيث نسب الخلقة إليها و قد تقدّم أنّهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأنّ بعض الخلق من التدبير فإنّ خلق جزئيّ من الجزئيّات ممّا يتمّ بوجوده النظام الكلّيّ من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله:( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ ) الصافّات: ٩٦، و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) الزخرف: ١٢.

فالقوم يرون أنّ كلّا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منّا أفعاله، و أمّا إعطاء الوجود للأشياء فممّا يختصّ بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحّد و لا وثنيّ إلّا بعض من لم يفرّق بين الفعل و الإيجاد من المتكلّمين.

و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .

قوله تعالى: ( عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) صفة لاسم الجلالة في قوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزّهه عن وصفهم

٦٧

إيّاه بالشركة - على ما يعطيه السياق - فيكون في معنى قوله:( قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس: ١٨.

و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنّه لا يعلم لنفسه شريكاً كما أنّ قوله:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) آل عمران: ١٨ احتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.

و قيل: إنّه برهان آخر راجع إلى إثبات العلوّ أو لزوم الجهل الّذي هو نقص و ضدّ العلوّ لأنّ المتعدّدين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كلّ واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور. انتهى.

و فيه أنّ ذلك كسائر ما قرّروه من البراهين ينفي تعدّد الإله الواجب الوجود بالذات، و الوثنيّون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك. على أنّ بعض مقدّمات ما قرّر من الدليل ممنوع.

و قوله:( فَتَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تفريع على جميع ما تقدّم من الحجج على نفي الشركاء.

قوله تعالى: ( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) لما فرغ من نقل ما تفوّهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و أقام الحجج على إثبات حقّيّتها رجع إلى ما تقدّم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأله أن ينجيه من العذاب الّذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.

فقوله:( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ) أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار( رَبِّ ) لتأكيد التضرّع و ما في قوله:( إِمَّا تُرِيَنِّي ) زائدة و هي المصحّحة لدخول نون التأكيد على الشرط و أصله: إن ترني. و في قوله:( ما يُوعَدُونَ ) دلالة على أنّ بعض ما تقدّم في السورة من الإيعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيويّ. و ما في قوله:( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا عَلى‏ أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ) تطييب لنفس

٦٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدرة ربّه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعلّ المراد به ما عذّبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى به غليل صدورهم.

قوله تعالى: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) أي ادفع السيّئة الّتي تتوجّه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيّئة بالحسنة الّتي هي أحسن مثل أنّه لو أساؤا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الإحسان ثمّ ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.

و قوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) نوع تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يسوءنّه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجرّيهم على ربّهم فإنّه أعلم بما يصفون.

قوله تعالى: ( وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) ، قال في مجمع البيان: الهمزة شدّة الدفع، و منه الهمزة للحرف الّذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى. و في تفسير القمّيّ، عنهعليه‌السلام : أنّه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.

و في الآيتين أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ بربّه من إغواء الشياطين و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أنّ ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.

٦٩

( سورة المؤمنون الآيات ٩٩ - ١١٨)

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( ٩٩ ) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ  كَلَّا  إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا  وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١٠٠ ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ( ١٠١ ) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ١٠٢ ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( ١٠٣ ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ( ١٠٤ ) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ( ١٠٥ ) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ( ١٠٦ ) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( ١٠٧ ) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ( ١٠٨ ) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( ١٠٩ ) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ( ١١٠ ) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ١١١ ) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ( ١١٢ ) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ( ١١٣ ) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا  لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١١٤ ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ  لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( ١١٦ ) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ  إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( ١١٧ ) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ( ١١٨ )

٧٠

( بيان‏)

الآيات تفصّل القول في عذاب الآخرة الّتي أوعدهم الله بها في طيّ الآيات السابقة و هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثمّ إلى الأبد، و تذكر أنّ الحياة الدنيا الّتي غرّتهم و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون. ثمّ تختم السورة بأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة( رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) و قد افتتحت السورة بأنّهم مفلحون وارثون للجنّة.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) ( حَتَّى ) متعلّق بما تقدّم من وصفهم له تعالى بما هو منزّه منه و شركهم به، و الآيات المتخلّلة اعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزّه منه و هم مغترّون بما نمدّهم به من مال و بنين حتّى إذا جاء أحدهم الموت.

و قوله:( قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) الظاهر أنّ الخطاب للملائكة المتصدّين لقبض روحه و( رَبِّ ) استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربّه - ارجعون.

و قيل: إنّ الخطاب للربّ تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه الله:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) .

و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدّد الخطاب، و المعنى ربّ ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله:

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

أي قف قف نبك

و في الوجهين أنّ الجمع للتعظيم إن صحّ ثبوته في اللغة العربيّة فهو شاذّ لا يحمل عليه كلامه تعالى، و أشذّ منه جمع الفعل بالمعنى الّذي ذكر.

قوله تعالى: ( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) ( لعلّ ) للترجّي و هو رجاء تعلّقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربّما ذكروا

٧١

الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم:( فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) السجدة: ١٢، و ربّما ذكروه بلفظ التمنّي كقولهم:( يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ) الأنعام: ٢٧.

و قوله:( أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) أي أعمل عملاً صالحاً فيما تركت من المال بإنفاقه في البرّ و الإحسان و كلّ ما فيه رضي الله سبحانه.

و قيل: المراد بما تركت الدنيا الّتي تركها بالموت و العمل الصالح أعمّ من العبادات الماليّة و غيرها من صلاة و صوم و حجّ و نحوها، و هو حسن غير أنّ الأوّل هو الأظهر.

و قوله:( كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) أي لا يرجع إلى الدنيا إنّ هذه الكلمة( ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلّا أنّها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله:( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) الرحمن: ٢٠، و المراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطاً بهم و سمّي وراءهم بعناية أنّه يطلبهم كما أنّ مستقبل الزمان أمام الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أنّ الزمان يطلب الإنسان ليمرّ عليه و هذا معنى قول بعضهم: إنّ في( وَراءَ ) معنى الإحاطة، قال تعالى:( وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) الكهف: ٧٩.

و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الّذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدلّ عليه آيات اُخر و تكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا من طرق أهل السنّة، و قد تقدّم البحث عنه في الجزء الأوّل من الكتاب.

و قيل: المراد بالآية أنّ بينهم و بين الدنيا حاجزاً يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم من الرجوع إليها من أصله.

و فيه أنّ ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم

٧٢

يبعثون لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أنّ الموت حاجز بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا لغي التقييد بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغويّة أصل التقييد و إن فرض أنّهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.

على أنّ قولهم: إنّه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقاً مع قولهم بأنّ عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقاً المفهوم من( كَلَّا ) بنفي الرجوع الموقّت المحدود بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فافهمه.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ) المراد به النفخة الثانية الّتي تحيا فيها الأموات دون النفخة الاُولى الّتي تموت فيها الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتّب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل الميزان و خفّته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.

و قوله:( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإنّ الّذي يستوجب حفظ الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيويّة الّتي تدعو الإنسان إلى الحياة الاجتماعيّة الّتي تبتني على تكوّن البيت، و المجتمع المنزليّ يستعقب التعارف و التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب الّتي تدوم بها العيشة الدنيويّة و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب الّتي منها الأعمال فلا موطن فيه للأسباب الدنيويّة الّتي منها الأنساب بلوازمها و خواصّها و آثارها.

و قوله:( وَ لا يَتَساءَلُونَ ) ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع المضارّ.

و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع اُخر من قوله تعالى:( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) الصافّات: ٢٧، فإنّه حكاية تساؤل أهل الجنّة بعد

٧٣

دخولها و تساؤل أهل النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) إلى آخر الآيتين. الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الّذي يوزن يومئذ، و قد تقدّم الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفّته في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ ) قال في المجمع: اللفح و النفح بمعنى إلّا أنّ اللفح أشدّ تأثيراً و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان حتّى تبدو الأسنان. انتهى.

و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتّى تتقلّص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرؤس المشويّة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون.

قوله تعالى: ( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) الشقوة و الشقاوة و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشي‏ء ما يختصّ به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و إن شئت فقل: ما يختصّ به من الشرّ.

و قوله:( غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أنّ لهم صنعاً في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد:( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياريّ لم يكن للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.

و قد عدّوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة و الشقاوة غير أنّ الشقوة غلبت فأشغلت المحلّ و كانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيّئات أعمالهم لأنّهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة

٧٤

و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنّما هي من جهة سوء اختيارهم و سيّئات أعمالهم.

و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجّة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله:( أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ ) إلخ.

ثمّ عقّبوا قولهم:( غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) بقولهم:( وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) تأكيداً لاعترافهم، و إنّما اعترفوا بالذنب ليتوسّلوا به إلى التخلّص من العذاب و الرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أنّ اعتراف العاصي المتمرّد بذنبه و ظلمه توبة منه مطهّرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكنّ ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنّهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحقّ و معاينته لاستقرار ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨ و قال:( ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ) المؤمن: ٧٤.

قوله تعالى: ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدلّ عليه آيات اُخر فهو من قبيل طلب المسبّب بطلب سببه، و مرادهم أن يعملوا صالحاً بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممّن تاب و عمل صالحاً.

قوله تعالى: ( قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ ) قال الراغب: خسأت الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى. ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعاً إلى الله كما سمّاه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة - و هي الرحمة الخاصّة بالمؤمنين البتّة - سؤالاً منهم أن يوفّقهم للسعادة فيعملوا صالحاً فيدخلوا

٧٥

الجنّة، و قد توسّلوا إليه باسمه خير الراحمين.

فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين ما قاله هؤلاء ممّا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنّما الفرق بينهما من حيث الموقف.

قوله تعالى: ( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) ضمائر الخطاب للكفّار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أنّ المراد من( ذِكْرِي ) قول المؤمنين:( رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) إلخ، و هو معنى قول الكفّار في النار.

و قوله:( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) أي أنسى اشتغالكم بسخريّة المؤمنين و الضحك منهم ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريّتهم إشارة إلى أنّه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشؤون إلّا أن يتّخذوهم سخريّاً.

قوله تعالى: ( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) المراد باليوم يوم الجزاء، و متعلّق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع سخريّتكم منهم لأجله، و قوله:( أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.

و هذه الآيات الأربع( قالَ اخْسَؤُا - إلى قوله -هُمُ الْفائِزُونَ ) إياس قطعيّ للكفّار من الفوز بسبب ما تعلّقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و محصّلها أن اقنطوا ممّا تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنّه عمل إنّما كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتّخذونه وسيلة إلى الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتّى تركتموه و بدّلتموه من سخريّتهم حتّى إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و بقيتم صفر الأكفّ تريدون أن تتوسّلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.

قوله تعالى: ( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) ممّا يسأل الله الناس عنه

٧٦

يوم القيامة مدّة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن مدّة لبثهم في القبور كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) الروم: ٥٥، و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: ٣٥، و غيرهما من الآيات، فلا محلّ لقول بعضهم : إنّ المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنّه مجموع اللبث في الدنيا و البرزخ.

قوله تعالى: ( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) ظاهر السياق أنّ المراد باليوم هو الواحد من أيّام الدنيا و قد استقلّوا اللبث في الأرض حينما قايسوه بالبقاء الأبديّ الّذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.

و يؤيّده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشيّة أو ضحاها.

و قوله:( فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الّذين يعدّونه و فسّر بالملائكة العادّين للأيّام و ليس ببعيد.

قوله تعالى: ( قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) القائل هو الله سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما يلحق به من قوله:( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) بما فيه من التمنّي.

و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلّا قليلاً فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنّكم لا تلبثون في قبوركم إلّا قليلاً ثمّ تبعثون حتّى لا تنكروا البعث و لم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمنّي في كلامه تعالى كالترجّي راجع إلى المخاطب أو المقام.

و جعل بعضهم( لَوْ ) في الآية شرطيّة و الجملة شرطاً محذوف الجزاء و تكلّف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه جعل( لو ) وصليّة مع أنّ( لو ) الوصليّة لا تجي‏ء بغير واو العطف.

قوله تعالى: ( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً - إلى قوله -رَبُّ الْعَرْشِ

٧٧

الْكَرِيمِ ) بعد ما بيّن ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثمّ اللبث في البرزخ ثمّ البعث بما فيه من الحساب و الجزاء وبّخهم على حسبانهم أنّهم لا يبعثون فإنّ فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثمّ أشار إلى برهان العبث.

فقوله:( أَ فَحَسِبْتُمْ ) إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسّركم عند معاينة الموت ثمّ اللبث في القبور ثمّ البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنّون أنّما خلقناكم عبثاً تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنّكم إلينا لا ترجعون؟.

و قوله:( فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) إشارة إلى برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنّه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنّه ملك و أنّه حقّ و أنّه لا إله إلّا هو و أنّه ربّ العرش الكريم.

فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذاً حكمه ماضياً أمره لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنّه لا يكون إلّا حقّاً فإنّه حقّ و لا يصدر عن الحقّ بما هو حقّ إلّا حقّ دون أن يكون عبثاً باطلاً ثمّ لما أمكن أن يتصوّر أنّ معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنّه لا إله - أي لا معبود - إلّا هو، و الإله معبود لربوبيّته فإذا لا إله غيره فهو ربّ العرش الكريم - عرش العالم - الّذي هو مجتمع أزمّة الاُمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.

فتلخّص أنّه هو الّذي يصدر عنه كلّ حكم و يوجد منه كلّ شي‏ء و لا يحكم إلّا بحقّ و لا يفعل إلّا حقّاً فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلّا لكانت عبثاً باطلة و لا عبث في الخلق و لا باطل في الصنع.

و الدليل على اتّصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) ، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى

٧٨

لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معاً فإنّ المشركين جلّهم أو كلّهم لا يدعون الله تعالى و إنّما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء الإثبات فإنّ إثبات إله آخر لا ينفكّ عن دعائه.

و قوله:( لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) قيد توضيحيّ لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقاً.

و قوله:( فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربّه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - و هو النار كما صرّحت به الآيات السابقة - فإنّه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و تمّمه بقوله:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) خاتمة السورة و قد أمر فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنّهم يقولونه في الدنيا و أنّ جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة:( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ ) إلخ، الآيتان ١٠٩ و ١١١ من السورة.

و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أوّل السورة:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) و قد تقدّم الكلام في معنى الآية.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : من منع قيراطاً من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى:( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) .

أقول: و روي هذا المعنى بطرق اُخر غيرها عنهعليه‌السلام و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.

و في تفسير القمّيّ: قوله عزّوجلّ:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو

٧٩

قول الصادقعليه‌السلام : و الله ما أخاف عليكم إلّا البرزخ و أمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم.

أقول: و روي الذيل في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد عنهعليه‌السلام .

و فيه، قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار.

و في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال: لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم‏

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنّة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربّنا أقم الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأوّلنا.

و فيه، بإسناده أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنّها قد أقبلت من هول عظيم ثمّ يسألونها ما فعل فلان؟ و ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيّا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.

أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة، و قد مرّ شطر منها في أبحاث متفرّقة ممّا تقدّم.

في مجمع البيان، و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ حسب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي و نسبي.

أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن المسوّر بن مخرمة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظها: أنّ الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري‏، و عن عدّة منهم عن عمر بن الخطّاب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظها: كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي و نسبي‏

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453