الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 453

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129888 / تحميل: 6631
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

و عن ابن عساكر عن ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظها: كلّ نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلّا نسبي و صهري.

و في المناقب، في حديث طاووس عن زين العابدينعليه‌السلام : خلق الله الجنّة لمن أطاع و أحسن و لو كان عبداً حبشيّاً، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولداً قرشيّاً أ ما سمعت قول الله تعالى:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ) و الله لا ينفعك غداً إلّا تقدّمة تقدّمها من عمل صالح.

أقول: سياق الآية كالآبي عن التخصيص و لعلّ من آثار نسبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوفّق ذرّيّته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.

و في تفسير القمّيّ: و قوله عزّوجلّ:( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) قال: تلهب عليهم فتحرقهم( وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ ) أي مفتوحي الفم متربّدي الوجوه.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) قال: بأعمالهم شقوا.

و في العلل، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام : يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب. قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا ابن أخ خلقنا للبقاء و كيف تفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في تفسير القمّيّ: قوله تعالى:( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ - إلى قوله -فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) قال: سل الملائكة الّذين يعدّون علينا الأيّام، و يكتبون ساعاتنا و أعمالنا الّتي اكتسبنا فيها.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعيّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله إذا أدخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار قال لأهل الجنّة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتّجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و رضواني و جنّتي اسكنوا فيها خالدين مخلّدين.

٨١

ثمّ يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتّجرتم في يوم أو بعض يوم ناري و سخطي امكثوا فيها خالدين.

أقول: و في انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق و بما تشهد به الآيات النظائر خفاء، و قد تقدّم البحث عن مدلول الآية مستمداً من الشواهد.

٨٢

( سورة النور مدنيّة و هي أربع و ستّون آية)

( سورة النور الآيات ١ - ١٠)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١ ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ  وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ  وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ  وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( ٣ ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا  وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ  إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٦ ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٧ ) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ  إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ١٠ )

٨٣

( بيان‏)

غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فهي تذكرة نبذة من الأحكام المفروضة المشرّعة ثمّ جملة من المعارف الإلهيّة تناسبها و يتذكّر بها المؤمنون.

و هي سورة مدنيّة بلا خلاف و سياق آياتها يشهد بذلك و من غرر الآيات فيها آية النور.

قوله تعالى: ( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لأجله و لذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل:( فَرَضْناها ) ، و تارة ظرفاً لبعض الآيات ظرفيّة المجموع للبعض فقيل:( أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ) و هي ممّا وضعه القرآن و سمّي به طائفة خاصّة من آياته و تكرّر استعمالها في كلامه تعالى، و كأنّه مأخوذ من سور البلد و هو الحائط الّذي يحيط به سمّيت به سورة القرآن لإحاطتها بما فيها من الآيات أو بالغرض الّذي سيقت له.

و قال الراغب: الفرض قطع الشي‏ء الصلب و التأثير فيه كفرض الحديد و فرض الزند و القوس. قال: و الفرض كالإيجاب لكنّ الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه و ثباته، و الفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها ) أي أوجبنا العمل بها عليك. قال: و كلّ موضع ورد( فرض الله عليه) ففي الإيجاب الّذي أدخله الله فيه، و ما ورد( فرض الله له) فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ) . انتهى.

فقوله:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها ) أي هذه سورة أنزلناها و أوجبنا العمل بما فيها من الأحكام فالعمل بالحكم الإيجابيّ هو الإتيان به و بالحكم التحريميّ الانتهاء عنه.

و قوله:( وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) المراد بها - بشهادة

٨٤

السياق - آية النور و ما يتلوها من الآيات المبيّنة لحقيقة الإيمان و الكفر و التوحيد و الشرك المذكرة لهذه المعارف الإلهيّة.

قوله تعالى: ( الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) الآية، الزنا المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، و الجلد هو الضرب بالسوط و الرأفة التحنّن و التعطّف و قيل: هي رحمة في توجّع، و الطائفة في الأصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: و ربّما تطلق على الاثنين و على الواحد.

و قوله:( الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي ) إلخ، أي المرأة و الرجل اللّذان تحقّق منهما الزنا فاضربوا كلّ واحد منهما مائة سوط، و هو حدّ الزنا بنصّ الآية غير أنّها مخصّصة بصور: منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصناً فالرجم و منها أن يكونا غير حرّين أو أحدهما رقّا فنصف الحدّ.

قيل: و قدّمت الزانية في الذكر على الزاني لأنّ الزنا منهنّ أشنع و لكون الشهوة فيهنّ أقوى و أكثر، و الخطاب في الأمر بالجلد متوجّه إلى عامّة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبيّ و الإمام و من ينوب منابه.

و قوله:( وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) إلخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبّب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحقّ نوعاً من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقّه من العذاب بالتخفيف فيه و ربّما أدّى إلى تركه، و لذا قيّده بقوله:( فِي دِينِ اللهِ ) أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله و شريعته.

و قيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى:( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) يوسف: ٧٦ أي في حكمه أي لا تأخذكم بهما رأفة في إنفاذ حكم الله و إقامة حدّه.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) أي إن كنتم كذا و كذا فلا تأخذكم بهما رأفة و لا تساهلوا في أمرهما و فيه تأكيد للنهي.

٨٥

و قوله:( وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي و ليحضر و لينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة.

قوله تعالى: ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ظاهر الآية و خاصّة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أنّ الّذي تشمل عليه حكم تشريعيّ تحريميّ و إن كان صدرها وارداً في صورة الخبر فإنّ المراد النهي تأكيداً للطلب و هو شائع.

و المحصّل من معناها بتفسير من السنّة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الزاني إذا اشتهر منه الزنا و اُقيم عليه الحدّ و لم تتبيّن منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية و المشركة، و الزانية إذا اشتهر منها الزنا و اُقيم عليها الحدّ و لم تتبيّن منها التوبة يحرم أن ينكحها إلّا زان أو مشرك.

فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ و لا تأويل، و تقييدها بإقامة الحدّ و تبيّن التوبة ممّا يمكن أن يستفاد من السياق فإنّ وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الأمر بإقامة الحدّ يلوح إلى أنّ المراد به الزاني و الزانية المجلودان، و كذا إطلاق الزاني و الزانية على من ابتلي بذلك ثمّ تاب توبة نصوحاً و تبيّن منه ذلك، بعيد من دأب القرآن و أدبه.

و للمفسّرين في معنى الآية تشاجرات طويلة و أقوال شتّى:

منها: أنّ الكلام مسوق للإخبار عمّا من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه و ذلك أنّ من خبثت فطرته لا يميل إلّا إلى من يشابهه في الخباثة و يجانسه في الفساد و الزاني لا يميل إلّا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء و من هو أفسد منها و هي المشركة، و الزانية كذلك لا تميل إلّا إلى مثلها و هو الزاني و من هو أفسد منه و هو المشرك فالحكم وارد مورد الأعمّ الأغلب كما قيل في قوله تعالى:( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ) الآية: ٢٦ من السورة.

و منها: أنّ المراد بالآية التقبيح، و المعنى: أنّ اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلّا زانية أو من هي دونها و هي المشركة و اللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلّا زان

٨٦

أو من هو دونه و هو المشرك، و المراد بالنكاح العقد، و قوله:( وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) معطوف على أوّل الآية، و المراد و حرّم الزنا على المؤمنين.

و فيه و في سابقه مخالفتهما لسياق الآية و خاصّة اتّصال ذيلها بصدرها كما تقدّمت الإشارة إليه.

و منها: أنّ الآية منسوخة بقوله تعالى:( وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ ) .

و فيه أنّ النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص و العامّ الوارد بعد الخاصّ لا ينسخه خلافاً لمن قال به نعم ربّما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢٢١، بدعوى أنّ الآية و إن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن و المؤمنة و المشرك و المشركة، و قد ادّعى بعضهم أنّ نكاح الكافر للمسلمة كان جائزاً إلى سنة ستّ من الهجرة ثمّ نزل التحريم فلعلّ الآية الّتي نحن فيها نزلت قبل ذلك، و نزلت آية التحريم بعدها و في الآية أقوال اُخر تركنا إيرادها لظهور فسادها.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) إلخ الرمي معروف ثمّ أستعير لنسبة أمر غير مرضيّ إلى الإنسان كالزنا و السرقة و هو القذف، و السياق يشهد أنّ المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة العفيفة، و المراد بالإتيان بأربعة شهداء و هم شهود الزنا إقامة الشهادة لإثبات ما قذف به، و قد أمر الله تعالى بإقامة الحدّ عليهم إن لم يقيموا الشهادة، و حكم بفسقهم و عدم قبول شهادتهم أبداً.

و المعنى: و الّذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثمّ لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم و هم فاسقون لا تقبلوا

٨٧

شهادتهم على شي‏ء أبداً.

و الآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر و الاُنثى و الحرّ و العبد، و بذلك تفسّرها روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة و هي قوله:( وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) لكنّها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله:( وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) - على ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبداً، و لازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معاً.

و المعنى: إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا أعمالهم فإنّ الله غفور رحيم يغفر ذنبهم و يرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق و الحكم بعدم قبول شهادتهم أبداً.

و ذكر بعضهم: أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة فحسب فلو تاب القاذف و أصلح بعد إقامة الحدّ عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبداً خلافاً لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معاً.

و الظاهر أنّ خلافهم هذا مبنيّ على المسألة الاُصوليّة المعنونة بأنّ الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعدّدة هل يتعلّق بالجميع أو بالجملة الأخيرة و الحقّ في المسألة أنّ الاستثناء في نفسه صالح للأمرين جميعاً و تعيّن أحدهما منوط بما تقتضيه قرائن الكلام، و الّذي يعطيه السياق في الآية الّتي نحن فيها تعلّق الاستثناء بالجملة الأخيرة غير أنّ إفادتها للتعليل تستلزم تقيّد الجملة السابقة أيضاً بمعناه كالأخيرة على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ - إلى قوله -مِنَ الْكاذِبِينَ ) أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحمّلوا الشهادة ثمّ يؤدّوها إلّا أنفسهم، و قوله:( فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ ) أي شهادة أحدهم يعني القاذف و هو واحد أربع شهادات متعلّقة بالله إنّه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف.

٨٨

و معنى الآيتين: و الّذين يقذفون أزواجهم و لم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا - و من طبع الأمر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فات الغرض بتفرّقهما - فالشهادة الّتي يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرّة بعد مرّة:( اُشهد الله على صدقي فيما أقذفه به) أربع مرّات و خامستها أن يشهد و يقول: لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين.

قوله تعالى: ( وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ) إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع و المراد بالعذاب حدّ الزنا، و المعنى أنّ المرأة إن شهدت خمس شهادات بإزاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حدّ الزنا، و شهاداتها أن تشهد أربع مرّات تقول فيها: أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين ثمّ تشهد خامسة فتقول: لعنة الله عليَّ إن كان من الصادقين، و هذا هو اللعان الّذي ينفصل به الزوجان.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) جواب لو لا محذوف يدلّ عليه ما اُخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله و رحمته و توبته و حكمته لحلّ بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات و الأفعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين و توبته لمذنبيكم و تشريعه الشرائع لنظم اُمور حياتكم لزمتكم الشقوة، و أهلكتكم المعصية و الخطيئة، و اختلّ نظام حياتكم بالجهالة. و الله أعلم.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و سورة النور اُنزلت بعد سورة النساء، و تصديق ذلك أنّ الله عزّوجلّ أنزل عليه في سورة النساء:( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ) و السبيل الّذي قال الله عزّوجلّ:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ

٨٩

بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما ) يقول: ضربهما( طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يجمع لهما الناس إذا جلدوا.

و في التهذيب، بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) قال: في إقامة الحدود، و في قوله تعالى:( وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الطائفة واحد.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و أنزل بالمدينة( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) فلم يسمّ الله الزاني مؤمناً و لا الزانية مؤمنة، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس يمتري فيه أهل العلم أنّه قال لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن فإنّه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص.

و فيه، بإسناده عن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال: هنّ نساء مشهورات و رجال مشهورون بالزنا شهروا به، و عرفوا به و الناس اليوم بذلك المنزل فمن اُقيم عليه حدّ الزنا أو متّهم بالزنا لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتّى يعرف منه التوبة.

أقول: و رواه أيضاً بإسناده عن أبي الصباح عنهعليه‌السلام مثله‏، و بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام و لفظه: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهورين بالزنا فنهى الله عن اُولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئاً من ذلك اُقيم عليه الحدّ فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته.

٩٠

و فيه، بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: إنّما ذلك في الجهر ثمّ قال: لو أنّ إنساناً زنا ثمّ تاب تزوّج حيث شاء.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائيّ و الحاكم و صحّحه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه و أبو داود في ناسخه عن عبدالله بن عمر قال: كانت امرأة يقال لها: اُم مهزول، و كانت تسافح الرجل و تشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزوّجها فأنزل الله:( الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) .

أقول: و روي ما يقرب منه عن عدّة من أصحاب الجوامع عن مجاهد.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها و هم بجهد إلّا قليل منهم، و المدينة غالية السعر شديدة الجهد، و في السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، و أمّا الأنصار منهنّ اُميّة وليدة عبدالله بن اُبيّ و نسيكة بنت اُميّة لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كلّ امرأة منهنّ علامة على بابها ليعرف أنّها زانية و كن من أخصب أهل المدينة و أكثره خيراً.

فرغب اُناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للّذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوّجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض أطعماتهنّ فقال بعضهم: نستأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شقّ علينا الجهد و لا نجد ما نأكل، و في السوق بغايا نساء أهل الكتاب و ولائدهنّ و ولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهنّ فيصلح لنا أن نتزوّج منهنّ فنصيب من فضول ما يكتسبن؟ فإذا وجدنا عنهنّ غنى تركناهنّ فأنزل الله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ ) الآية فحرّم على المؤمنين أن يتزوّجوا الزواني المسافحات العالنات زناهنّ.

أقول: و الروايتان إنّما تذكران سبب نزول قوله:( الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) دون قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) .

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنّه يرجع إلى الفسق خاصّة دون قوله:( وَ لا تَقْبَلُوا

٩١

لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) - إلى أن قال - و الآخر أنّ الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حدّ أم لم يحدّ عن ابن عبّاس - إلى أن قال - و قول أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و عبد بن حميد و ابن المنذر عن سعيد بن المسيّب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا و نكل زياد فحدّ عمر الثلاثة، و قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان و لم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، و كان أبو بكرة أخا زياد لاُمّه فلمّا كان من أمر زياد ما كان حلف أبوبكرة أن لا يكلّمه أبداً فلم يكلّمه حتّى مات.

و في التهذيب، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا قذف العبد الحرّ جلد ثمانين. و قال: هذا من حقوق الناس.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ - إلى قوله -إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) فإنّها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنّه لما رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلانيّ و كان من الأنصار و قال: يا رسول الله إنّ امرأتي زنى بها شريك بن السمحاء و هي منه حامل فأعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتّى فعل ذلك أربع مرّات.

فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و صلّى بالناس العصر، و قال لعويمر: ائتني بأهلك فقد أنزل الله عزّوجلّ فيكما قرآناً فجاء إليها و قال لها: رسول الله يدعوك و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلمّا دخلت المسجد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعويمر: تقدّم إلى المنبر و التعنا فقال: كيف أصنع؟ فقال: تقدّم و قل: أشهد بالله إنّي لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدّم و قالها، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعدها فأعادها حتّى فعل ذلك أربع مرّات فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثمّ

٩٢

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ اللعنة موجبة إن كنت كاذباً.

ثمّ قال له: تنحّ فتنحّى ثمّ قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلّا أقمت عليك حدّ الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا اُسوّد هذه الوجوه في هذه العشيّة فتقدّمت إلى المنبر و قالت: أشهد بالله إنّ عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعيديها فأعادتها حتّى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك إنّها موجبة إن كنت كاذبة.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزوجها: اذهب فلا تحلّ لك أبداً. قال: يا رسول الله فمالي الّذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذباً فهو أبعد لك منه، و إن كنت صادقاً فهو لها بما استحللت من فرجها. الحديث.

و في المجمع، في رواية عكرمة عن ابن عبّاس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع و قد يفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتّى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتّى يفرغ من حاجته و يذهب، و إن قلت ما رأيت إنّ في ظهري لثمانين جلدة.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر الأنصار ما تسمعون إلى ما قال سيّدكم؟ فقالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور ما تزوّج امرأة قطّ إلّا بكراً، و لا طلّق امرأة له فاجتري رجل منّا أن يتزوّجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت و اُمّي و الله إنّي لأعرف أنّها من الله و أنّها حقّ و لكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإنّ الله يأبى إلّا ذلك، فقال: صدق الله و رسوله.

فلم يلبثوا إلّا يسيراً حتّى جاء ابن عمّ له يقال له: هلال بن اُميّة من حديقة له قد رأى رجلاً مع امرأته فلمّا أصبح غدا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت معها رجلاً رأيته بعيني و سمعته بأذني، فكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إنّي لأرى الكراهة في وجهك و الله يعلم

٩٣

إنّي لصادق، و إنّي لأرجو أن يجعل الله فرجاً فهمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضربه.

قال: و اجتمعت الأنصار و قالوا: ابتلينا بما قال سعد أ يجلد هلال و يبطل شهادته؟ فنزل الوحي و أمسكوا عن الكلام حين عرفوا أنّ الوحي قد نزل فأنزل الله تعالى:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) الآيات.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشر يا هلال فإنّ الله تعالى قد جعل فرجاً فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما فلمّا انقضى اللعان فرّق بينهما و قضى أنّ الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى ولدها.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن جاءت به كذا و كذا فهو لزوجها و إن جاءت به كذا و كذا فهو للّذي قيل فيه.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الجوامع عن ابن عبّاس.

٩٤

( سورة النور الآيات ١١ - ٢٦)

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ  لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم  بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ  وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ  فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ ) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ  وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ٢٠ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ  وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ  وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم

٩٥

مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ  وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢١ ) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ  وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا  أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ  وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢ ) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ  وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ  أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ  لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٢٦ )

( بيان)

الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهل السنّة أنّ المقذوفة في قصّة الإفك هي أم المؤمنين عائشة، و روت الشيعة أنّها مارية القبطيّة اُمّ إبراهيم الّتي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كلّ من الحديثين لا يخلو عن شي‏ء على ما سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي.

فالأحرى أن نبحث عن متن الآيات في معزل من الروايتين جميعاً غير أنّ من المسلّم أنّ الإفك المذكور فيها كان راجعاً إلى بعض أهل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا زوجه و أمّا اُمّ ولده و ربّما لوّح إليه قوله تعالى:( وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) و كذا ما يستفاد من الآيات أنّ الحديث كان قد شاع بينهم و أفاضوا فيه و سائر ما يومئ إليه من الآيات.

٩٦

و المستفاد من الآيات أنّهم رموا بعض أهل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقّاه هذا من ذاك، و كان بعض المنافقين أو الّذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبّاً منهم أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا فأنزل الله الآيات و دافع عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) إلخ، الإفك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقاً و الأصل في معناه أنّه كلّ مصروف عن وجهه الّذي يحقّ أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحقّ إلى الباطل - و الفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، و القول المصروف عن الصدق إلى الكذب، و قد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني.

و ذكر أيضاً أنّ العصبة جماعة متعصّبة متعاضدة، و قيل: إنّها عشرة إلى أربعين.

و الخطاب في الآية و ما يتلوها من الآيات لعامّة المؤمنين ممّن ظاهره الإيمان أعمّ من المؤمن بحقيقة الإيمان و المنافق و من في قلبه مرض، و أمّا قول بعضهم: إنّ المخاطب بالخطابات الأربعة الاُول أو الثاني و الثالث و الرابع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المقذوفة و المقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الاُول و هي نيّف و عشرون خطاباً أكثرها لعامّة المؤمنين بلا ريب.

و أسوأ حالاً منه قول بعض آخر إنّ الخطابات الأربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنّه مضافاً إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة.

و المعنى: إنّ الّذين أتوا بهذا الكذب - و اللّام في الإفك للعهد - جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، و في ذلك إشارة إلى أنّ هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يفضحوه بين الناس.

و هذا هو فائدة الخبر في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) لا تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تسليته و تسلية من ساءه هذا الإفك كما ذكره بعضهم فإنّ

٩٧

السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) مقتضى كون الخطاب لعامّة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرّاً لهم و إثبات كونه خيراً أنّ المجتمع الصالح من سعادته أن يتميّز فيه أهل الزيغ و الفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم و ينهضوا لإصلاح ما فسد من أعضائهم، و خاصّة في مجتمع دينيّ متّصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم و يذكّرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتّى يحتاطوا لدينهم و يتفطّنوا لما يهمّهم.

و الدليل على ما ذكرنا قوله بعد:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) فإنّ الإثم هو الأثر السيّئ الّذي يبقى للإنسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أنّ أهل الإفك الجائين به يعرفون بإثمه و يتميّزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما أرادوا أن يفضحوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و أمّا قول من قال: إنّ المراد بكونه خيراً لهم أنّهم يثابون بما اتّهموهم بالإفك كما أنّ أهل الإفك يتأثّمون به فمبنيّ على كون الخطاب للمتّهمين خاصّة و قد عرفت فساده.

و قوله:( وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ) فسّروا كبره بمعنى معظمه و الضمير للإفك، و المعنى: و الّذي تولّى معظم الإفك و أصرّ على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.

قوله تعالى: ( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) توبيخ لهم إذ لم يردّوا الحديث حينما سمعوه و لم يظنّوا بمن رمي به خيراً.

و قوله:( ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ ) من وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل( ظننتم بأنفسكم) و الوجه في تبديل الضمير وصفاً الدلالة على علّة الحكم فإنّ صفة الإيمان رادعة بالطبع تردع المتلبّس بها عن الفحشاء و المنكر في القول و الفعل فعلى المتلبّس بها أن يظنّ على المتلبّسين بها خيراً، و أن يجتنب القول

٩٨

فيهم بغير علم فإنّهم جميعاً كنفس واحدة في التلبس بالإيمان و لوازمه و آثاره.

فالمعنى: و لو لا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رمي به خيراً فإنّكم جميعاً مؤمنون بعضكم من بعض و المرميّ به من أنفسكم و على المؤمن أن يظنّ بالمؤمن خيراً و لا يصفه بما لا علم له به.

و قوله:( قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) أي قال المؤمنون و المؤمنات و هم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لأنّ الخبر الّذي لا علم لمخبره به و الدعوى الّتي لا بيّنة لمدّعيها عليها محكوم شرعاً بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقاً أو كذباً، و الدليل عليه قوله في الآية التالية:( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) .

قوله تعالى: ( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) أي لو كانوا صادقين فيما يقولون و يرمون لأقاموا عليه الشهادة و هي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعاً بالكذب لأنّ الدعوى من غير بيّنة كذب و إفك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.

و قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ ) إلخ، عطف على قوله:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) إلخ، و فيه كرّة ثانية على المؤمنين، و في تقييد الفضل و الرحمة بقوله:( فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) دلالة على كون العذاب المذكور ذيلاً هو عذاب الدنيا و الآخرة.

و المعنى: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) إلخ، الظرف متعلّق بقوله:( أَفَضْتُمْ ) و تلقّي الإنسان القول أخذه القول الّذي ألقاه إليه غيره، و تقييد التلقّي بالألسنة للدلالة على أنّه كان مجرّد انتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبّت و تدبّر فيه.

و على هذا فقوله:( وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) من قبيل عطف

٩٩

التفسير، و تقييده أيضاً بقوله:( بِأَفْواهِكُمْ ) للإشارة إلى أنّ القول لم يكن عن تثبّت و تبيّن قلبيّ و لم يكن له موطن إلّا الأفواه لا يتعدّاها.

و المعنى: أفضتم و خضتم فيه إذ تأخذونه و تنقلونه لساناً عن لسان و تتلفّظون بما لا علم لكم به.

و قوله:( وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) أي تظنّون التلقّي بألسنتكم و القول بأفواهكم من غير علم سهلاً و هو عندالله عظيم لأنّه بهتان و افتراء، على أنّ الأمر مرتبط بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم و يفسد أمر الدعوة الدينيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) عطف بعد عطف على قوله:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) إلخ، و فيه كرّة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، و قوله:( سُبْحانَكَ ) اعتراض بالتنزيه لله سبحانه و هو من أدب القرآن أن ينزّه الله بالتسبيح عند تنزيه كلّ منزّه.

و البهتان الافتراء سمّي به لأنّه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتاناً عظيماً لأنّه افتراء في عرض و خاصّة إذ كان متعلّقه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إنّما كان بهتاناً لكونه إخباراً من غير علم و دعوى من غير بيّنة كما تقدّم في قوله:( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الإفك و متّصلة بما تقدّمها و موردها الرمي بالزنا بغير بيّنة كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الإفك لكونه فاحشة و إشاعته في المؤمنين حبّاً منهم لشيوع الفاحشة.

فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا و القذف و غير ذلك. و حبّ شيوعها و منها القذف في المؤمنين يستوجب عذاباً أليماً لمحبّيه في الدنيا و الآخرة.

١٠٠

و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحدّ إذ حبّ شيوع الفحشاء ليس ممّا يوجب الحدّ، نعم لو كان اللّام في( الْفاحِشَةُ ) للعهد و المراد بها القذف و كان حبّ الشيوع كناية عن قصّة الشيوع بالإفاضه و التلقّي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب على الحدّ لكنّ السياق لا يساعد عليه.

على أنّ الرمي بمجرّد تحقّقه مرّة موجب للحدّ و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا نكتة تستدعي ذلك.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و غضبه و إن جهله الناس.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) تكراراً للامتنان و معناه ظاهر.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) تقدّم تفسير الآية في الآية ٢٠٨ من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) إلى آخر الآية. رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الإفك متعلّق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ليس إلّا لكرامته على الله سبحانه.

و قد صرّح في هذه المرّة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله:( ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) و هذا ممّا يدلّ عليه العقل فإنّ مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و التعليم القرآنيّ أيضاً يعطيه كما قال تعالى:( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) آل عمران: ٢٦، و قال:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ) النساء: ٧٩.

و قوله:( وَ لكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) إضراب عمّا تقدّمه فهو تعالى يزكّي من يشاء فالأمر إلى مشيّته، و لا يشاء إلّا تزكية من استعدّ لها و سأله بلسان استعداده ذلك، و إليه يشير قوله:( وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من استعدّ لها.

١٠١

قوله تعالى: ( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و كلّ من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصّر اُولوا الفضل منكم و السعة يعني الأغنياء في إيتاء اُولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - و ليعفوا عنهم و ليصفحوا ثمّ حرّضهم بقوله:( أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و في الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتّصالها بها - دلالة على أنّ بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و حثّه على إدامة الإيتاء كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة على عظم المعصية فإنّ كلّا من الإحصان بمعنى العفّة و الغفلة و الإيمان سبب تامّ في كون الرمي ظلماً و الرامي ظالماً و المرميّة مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثمّ أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامّة و إن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصّاً.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

و المراد بقوله:( بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيّئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الأعضاء على السيّئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه بقيّة الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصّتا بالذكر.

و بالحقيقة الشاهد على كلّ فعل هو العضو الّذي صدر منه كما يشير إليه

١٠٢

قوله تعالى:( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) حم السجدة: ٢٠، و قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: ٣٦، و قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقلّ في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) المراد بالدين الجزاء كما في قوله:( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) الحمد: ٤، و توفية الشي‏ء بذله تامّاً كاملاً، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحقّ إيتاء تامّاً كاملاً و يعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين.

هذا بالنظر إلى اتّصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدّمها، و أمّا بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملّة و هو سنّة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون أكثر مناسبة لقوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .

و الآية من غرر الآيات القرآنيّة تفسّر معنى معرفة الله فإنّ قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) ينبئ أنّه تعالى هو الحقّ لا سترة عليه بوجه من الوجوه و لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيّات الّتي لا يتعلّق بها جهل لكنّ البديهيّ ربّما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الّذي ربّما يعبّر عنه بالعلم، و هذا هو الّذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين.

و إلى مثله يشير قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢.

قوله تعالى: ( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلخ ذيل الآية( أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ ) دليل على أنّ المراد بالخبيثات و الخبيثين و الطيّبات و الطيّبين نساء و رجال متلبّسون بالخباثة و الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متّصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامّة

١٠٣

لا مخصّص لها من جهة اللفظ البتّة.

فالمراد بالطيب الّذي يوجب كونهم مبرّءين ممّا يقولون على ما تدلّ عليه الآيات السابقة هو المعنى الّذي يقتضيه تلبّسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات مع الإحصان طيّبون و طيّبات يختصّ كلّ من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و الإحصان مصونون مبرّؤن شرعاً من الرمي بغير بيّنة، محكومون من جهة إيمانهم بأنّ لهم مغفرة كما قال تعالى:( وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) الأحقاف: ٣١ و لهم رزق كريم، و هو الحياة الطيّبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧.

و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة الّتي يوجبها لهم تلبّسهم بالكفر و قد خصّت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرّئين عن التلبّس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكماً بالتلبّس -.

فظهر بما تقدّم:

أوّلاً: أنّ الآية عامّة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.

و ثانياً: أنّها تدلّ على كونهم جميعاً محكومين شرعاً بالبراءة عمّا يرمون به ما لم تقم عليه بيّنة.

و ثالثاً: أنّهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كلّ ذلك حكم ظاهريّ لكرامتهم على الله بإيمانهم، و الكفّار على خلاف ذلك.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و أحمد و البخاريّ و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب عن

١٠٤

عائشة قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما نزل الحجاب و أنا اُحمل في هودجي و أنزل فيه فسّرنا حتّى إذا فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوته تلك و قفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(١) قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الّذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الّذي كنت أركب، و هم يحسبون أنّي فيه، و كانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنّ اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة(٢) من الطعام فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيمّمت منزلي الّذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت.

و كان صفوان بن المعطل السلميّ ثمّ الذكرانيّ من وراء الجيش فأدلج(٣) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمّرت وجهي بجلبابي و الله ما كلّمني كلمة واحدة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتّى أناخ راحلته فوطّئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتّى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك.

____________________

(١) ظفار كقطام بلد باليمن قرب صنعاء، و جزع ظفاري منسوب إليها و الجزع الخرز و هو الّذي فيه سواد و بياض.

(٢) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.

(٣) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه أو في آخره.

١٠٥

و كان الّذي تولّى الإفك عبدالله بن اُبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا اُشعر بشي‏ء من ذلك، و هو يريبني في وجعي أنّي لا أعرف من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللطف الّذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما يدخل عليّ فيسلّم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الّذي يريبني‏ و لا اُشعر بالشرّ حتّى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي اُمّ مسطح قبل المناصع(١) و هي متبرّزنا و كنّا لا نخرج إلّا ليلاً إلى ليل، و ذلك قبل أن نتّخذ الكنف قريباً من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا و اُمّ مسطح فأقبلت أنا و اُمّ مسطح قبل بيتي قد أشرعنا(٢) من ثيابنا فعثرت اُمّ مسطح في مرطها(٣) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أ تسبيّن رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه(٤) أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي.

فلمّا رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّم ثمّ قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي أن آتي أبويّ؟ - قالت: و أنا حينئذ اُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجئت لأبويّ فقلت لاُمّي: يا اُمّتاه ما يتحدّث الناس؟ قالت يا بنيّة هوّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها و لها ضرائر إلّا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدّث الناس بهذا؟ فبكيت تلك اللّيلة حتّى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.

و دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب و اُسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأمّا اُسامة فأشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالّذي يعلم من

____________________

(١) المناصع: المواضع يتخلّى فيها لبول أو حاجة.

(٢) أي رفعنا ثيابنا.

(٣) المرط - بالكسر - كساء واسع يؤتزر به و ربّما تلقّيه المرأة على رأسها و تتلفع به.

(٤) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.

١٠٦

براءة أهله و بالّذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلّا خيراً، و أمّا عليّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا و الّذي بعثك بالحقّ إن رأيت عليها أمراً أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستعذر يومئذ من عبدالله بن اُبيّ فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلّا خيراً، و لقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّا خيراً و ما كان يدخل على أهلي إلّا معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاريّ فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيّد الخزرج و كان قبل ذلك رجلاً صالحاً و لكن احتملته الحميّة فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر على قتله، فقام اُسيد بن حضير و هو ابن عمّ سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنّه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان: الأوس و الخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفضهم حتّى سكتوا و سكت.

فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوماً لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي.

فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جلس و لم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها و قد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشي‏ء، فتشهّد حين جلس ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا و كذا فإن

١٠٧

كنت بريئة فسيبرؤك الله، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.

فلمّا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالته قلص(١) دمعي حتّى ما اُحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: و الله ما أدري ما أقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت لاُمّي: أجيبي عنّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقلت و أنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنّي و الله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتّى استقرّ في أنفسكم و صدّقتم به فلئن قلت لكم: إنّي بريئة و الله يعلم أنّي بريئة لا تصدّقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي، و الله لا أجد لي و لكم مثلاً إلّا قول أبي يوسف: فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون.

ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أنّي بريئة و أنّ الله مبرّئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظنّ أنّ الله منزل في شأني وحياً يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى، و لكن كنت أرجو أن يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا يبرّئني الله بها.

قالت: فوالله ما رام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسه و لا خرج أحد من أهل البيت حتّى اُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتّى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الّذي اُنزل عليه فلمّا سرى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرى عنه و هو يضحك فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برأك، فقالت اُمّي: قومي إليه، فقلت: و الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلّا الله الّذي أنزل براءتي، و أنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) العشر الآيات كلها.

فلمّا أنزل الله هذا في براءتي قال أبوبكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة

____________________

(١) قلص: اجتمع و انقبض.

١٠٨

لقرابته منه و فقره: و الله لا اُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الّذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ وَ الْمَساكِينَ - إلى قوله -رَحِيمٌ ) قال أبوبكر: و الله إنّي اُحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة الّتي كان ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبداً.

قالت عائشة: فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلّا خيراً، قالت: و هي الّتي كانت تساميني من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعصمها الله بالورع، و طفقت اُختها حمنة - تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.

أقول: و الرواية مروية بطرق اُخرى عن عائشة أيضاً و عن عمر و ابن عبّاس و أبي هريرة و أبي اليسر الأنصاريّ و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف.

و فيها أنّ الّذين جاؤا بالإفك عبد الله بن اُبيّ بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان بدريّاً من السابقين الأوّلين من المهاجرين، و حسّان بن ثابت، و حمنة اُخت زينب زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدّهم جميعاً غير أنّه حدّ عبدالله بن اُبيّ حدّين و إنّما حدّه حدّين لأنّه من قذف زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليه حدّان.

و في الروايات على تقاربها في سرد القصّة إشكال من وجوه:

أحدها: أنّ المسلّم من سياقها أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقّق الإفك كما يدلّ عليه تغيّر حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيّام اشتكائها و بعدها حتّى نزلت الآيات، و يدلّ عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشّرها به: بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنّها قالت لأبيها و قد أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبشّرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الّذي أرسلك، تريد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في الرواية الاُخرى عنها: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما

١٠٩

وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شي‏ء و في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئاً، و من المعلوم أنّ هذا النوع من الخطاب المبنيّ على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر عنها لو لا أنّها وجدت النبيّ في ريب من أمرها. كلّ ذلك مضافاً إلى التصريح به في رواية عمر ففيها:( فكان في قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا قالوا) .

و بالجملة دلالة عامّة الروايات على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ريب من أمرها إلى نزول العذر ممّا لا ريب فيه، و هذا ممّا يجلّ عنه مقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف؟ و هو سبحانه يقول:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) فيوبّخ المؤمنين و المؤمنات على إساءتهم الظنّ و عدم ردّهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظنّ بالمؤمنين، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ من يتّصف بذلك و يتحرّز من سوء الظنّ الّذي من الإثم و له مقام النبوّة و العصمة الإلهيّة.

على أنّه تعالى ينصّ في كلامه على اتّصافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك إذ يقول:( وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) التوبة: ٦١.

على أنّا نقول: إنّ تسرّب الفحشاء إلى أهل النبيّ ينفّر القلوب عنه فمن الواجب أن يطهّر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلّا لغت الدعوة و تثبت بهذه الحجّة العقليّة عفّتهنّ واقعاً لا ظاهراً فحسب، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف بهذه الحجّة منّا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك.

و ثانيها: أنّ الّذي تدلّ عليه الروايات أنّ حديث الإفك كان جارياً بين الناس منذ بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدّهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم قيام الشهادة معلوماً و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعاً فما معنى توقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حدّ أصحاب الإفك هذه المدّة الطويلة و انتظاره الوحي في أمرها حتّى يشيع بين الناس و تتلقّاه الألسن و تسير به الركبان و يتّسع الخرق

١١٠

على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعيّنه آية القذف من براءة المقذوف حكماً شرعيّاً ظاهريّاً.

فإن قيل: الّذي نزل من العذر براءتها واقعاً و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا أمر لا تكفي له آية حدّ القاذف، و لعلّ صبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المدّة الطويلة إنّما كان لأجله.

قلت: لا دلالة في شي‏ء من هذه الآيات الستّ عشرة على ذلك، و إنّما تثبت بالحجّة العقليّة السابقة الدالّة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء:

أمّا الآيات العشر الاُول الّتي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على براءتها قوله تعالى:( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) و قد استدلّ فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء، و من الواضح أنّ عدم إقامة الشهادة إنّما هو دليل البراءة الظاهريّة أعني الحكم الشرعيّ بالبراءة دون البراءة الواقعيّة لوضوح عدم الملازمة.

و أمّا الآيات الستّ الأخيرة فقوله:( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلخ عامّ من غير مخصّص من جهة اللفظ فالّذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين من غير قيام بيّنة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أنّ البراءة المناسبة لهذا المعنى هي البراءة الشرعيّة.

و الحقّ أن لا مناص عن هذا الإشكال إلّا بالقول بأنّ آية القذف لم تكن نازلة قبل حديث الإفك و إنّما نزلت بعده، و إنّما كان سبب توقّفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلوّ الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماويّ.

و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة إيّاه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحدّ معلوماً لم يجب

١١١

سعد بن معاذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.

و ثالثها: أنّها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبدالله بن اُبيّ و مسطحاً و حسّاناً و حمنة ثمّ تذكر أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّ عبدالله بن اُبيّ حدّين و كلّا من مسطح و حسّان و حمنة حدّاً واحداً، ثمّ تعلّل حدّي عبدالله بن اُبيّ بأنّ من قذف أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعليّه حدّان، و هذا تناقض صريح فإنّهم جميعاً كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.

نعم تذكر الروايات أنّ عبدالله بن اُبيّ كان هو الّذي تولّى كبره منهم لكن لم يقل أحد من الاُمّة إنّ هذا الوصف يوجب حدّين. و لا أنّ المراد بالعذاب العظيم في قوله:( الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ) هو ثبوت حدّين.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) الآية فإنّ العامّة روت أنّها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة و أمّا الخاصّة فإنّهم رووا أنّها نزلت في مارية القبطيّة و ما رمتها به عائشة.

حدّثنا محمّد بن جعفر قال حدّثنا محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ بن فضّال قال: حدّثني عبدالله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزن عليه حزناً شديداً فقالت عائشة: ما الّذي يحزنك عليه؟ ما هو إلّا ابن جريح، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام و أمره بقتله.

فذهب عليّعليه‌السلام و معه السيف و كان جريح القبطيّ في حائط فضرب عليّعليه‌السلام باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلمّا رأى عليّاًعليه‌السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً و لم يفتح باب البستان فوثب عليّعليه‌السلام على الحائط و نزل إلى البستان و اتّبعه و ولّى جريح مدبّراً فلمّا خشي أن يرهقه(١) صعد في نخلة و صعد عليّعليه‌السلام في أثره فلمّا دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته

____________________

(١) أرهقه: أدركه.

١١٢

فإذا ليس له ما للرجال و لا له ما للنساء.

فانصرف عليّعليه‌السلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحميّ في الوبر أم اُثبّت؟ قال: لا بل تثبّت. قال: و الّذي بعثك بالحقّ ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الّذي صرف عنّا السوء أهل البيت.

و فيه، في رواية عبيدالله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبدالله بن بكير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل القبطيّ و قد علم أنّها كذبت عليه أو لم يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطيّ القتل بتثبيت عليّعليه‌السلام فقال: بل كان و الله علم، و لو كان عزيمة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما انصرف عليّعليه‌السلام حتّى يقتله، و لكن إنّما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتدّ عليها قتل رجل مسلم.

أقول: و هناك روايات اُخر تدلّ على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا كان خادماً خصيّاً لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أرسله معها ليخدمها.

و هذه الروايات لا تخلو من نظر:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ما فيها من القصّة لا يقبل الانطباق على الآيات و لا سيّما قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ) الآية و قوله:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) الآية، و قوله:( تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ) الآية، فمحصّل الآيات أنّه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون الحديث ليفضحوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كان الناس يتداولونه لساناً عن لسان حتّى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زماناً و هم لا يراعون حرمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.

اللّهمّ إلّا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصّة.

و أمّا ثانياً: فقد كان مقتضى القصّة و ظهور براءتها إجراء الحدّ و لم يجر،

١١٣

و لا مناص عن هذا الإشكال إلّا بالقول بنزول آية القذف بعد قصّة الإفك بزمان.

و الّذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحدّ الوارد على الصنفين من الروايات جميعاً - كما عرفت - أنّ آيات الإفك نزلت قبل آية حدّ القذف، و لم يشرّع بنزول آيات الإفك إلّا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.

و لو كان حدّ القاذف مشروعاً قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوّز لتأخيره مدّة معتدّاً بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعاً مع نزول آيات الإفك لاُشير فيها إليه، و لا أقلّ باتّصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب الكلام لا يرتاب في أنّ قوله:( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ) الآيات منقطعة عمّا قبلها.

و لو كان على من قذف أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّان لاُشير إلى ذلك في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على القاذفين.

و يتأكّد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإنّ لازمه أن يقع الابتلاء بحكم الحدّين فينزل حكم الحدّ الواحد.

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته اُذناه فهو من الّذين قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ إلى قوله وَ الْآخِرَةِ ) .

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنهعليه‌السلام و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمّد بن حمران عنهعليه‌السلام ، و المفيد في الاختصاص، عنهعليه‌السلام مرسلاً.

و فيه، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.

و في المجمع: قيل: إنّ قوله:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ ) الآية، نزلت في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من جملة البدرييّن و كان فقيراً، و كان أبوبكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلمّا

١١٤

خاض في الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبداً فلمّا نزلت الآية عاد أبوبكر إلى ما كان، و قال: و الله إنّي لاُحبّ أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبداً: عن ابن عبّاس و عائشة و ابن زيد.

و فيه: و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدّقوا على رجل تكلّم بشي‏ء من الإفك و لا يواسوهم عن ابن عبّاس و غيره.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ ) و هم قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا ) يقول: يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضاً فإذا فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عزّوجلّ:( أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و نزل بالمدينة:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فبرّأه الله ما كان مقيماً على الفرية من أن يسمّى بالإيمان، قال الله عزّوجلّ:( أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) و جعله من أولياء إبليس قال:( إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏ ) و جعله ملعوناً فقال:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا )

و في المجمع: في قوله تعالى:( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ

١١٥

وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) الآية، قيل في معناه أقوال - إلى أن قال - الثالث‏ الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء - عن أبي مسلم و الجبائيّ و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام . قالا: هي مثل قوله:( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) إلّا أنّ اُناساً همّوا أن يتزوّجوا منهنّ فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.

و في الخصال، عن عبدالله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن عليّعليه‌السلام : في حديث له مع معاوية و أصحابه و قد نالوا من عليّعليه‌السلام :( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ) هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك( وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) إلى آخر الآية، هم عليّ بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.

١١٦

( سورة النور الآيات ٢٧ - ٣٤)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ  وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا  هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ  وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ  وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ  ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ  إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( ٣٠ ) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا  وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ  وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ  وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ  وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣١ ) وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ  إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ  وَاللهُ وَاسِعٌ

١١٧

عَلِيمٌ ( ٣٢ ) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ  وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا  وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ  وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٣٤ )

( بيان)

أحكام و شرائع متناسبة و مناسبة لما تقدّم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها ) إلخ، الاُنس بالشي‏ء و إليه الاُلفة و سكون القلب إليه، و الاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدّي إليه كالاستيناس لدخول بيت بذكر الله و التنحنح و نحو ذلك ليتنبّه صاحب البيت أنّ هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربّما كان في حال لا يحبّ أن يراه عليها أحد أو يطّلع عليها مطّلع.

و منه يظهر أنّ مصلحة هذا الحكم هو الستر على عورات الناس و التحفّظ على كرامة الإيمان فإذا استأنس الداخل عند إرادة الدخول على بيت غير بيته فأخبر باستيناسه صاحب البيت بدخوله ثمّ دخل فسلّم عليه فقد أعانه على ستر عورته، و أعطاه الأمن من نفسه.

و يؤدّي الاستمرار على هذه السيرة الجميلة إلى استحكام الاُخوّة و الاُلفة و التعاون العامّ على إظهار الجميل و الستر على القبيح و إليه الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي لعلّكم بالاستمرار على هذه السيرة تتذكّرون ما يجب

١١٨

عليكم رعايته و إحياؤه من سنّة الأخوّة و تألّف القلوب الّتي تحتها كلّ سعادة اجتماعيّة.

و قيل: إنّ قوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) تعليل لمحذوف و التقدير قيل لكم كذا لعلّكم تتذكّرون مواعظ الله فتعملوا بموجبها، و لا بأس به.

و قيل: إنّ في قوله:( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا ) تقديماً و تأخيراً و الأصل حتّى تسلّموا و تستأنسوا. و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ) إلخ، أي إن علمتم بعدم وجود أحد فيها - و هو الّذي يملك الإذن - فلا تدخلوها حتّى يؤذن لكم من قبل من يملك الإذن، و ليس المراد به أن يتطّلع على البيت و ينظر فيه فإن لم ير فيه أحداً كفّ عن الدخول فإنّ السياق يشهد على أنّ المنع في الحقيقة عن النظر و الاطّلاع على عورات الناس.

و هذه الآية تبيّن حكم دخول بيت الغير و ليس فيه من يملك الإذن، و الآية السابقة تبيّن حكم الدخول و فيه من يملك الإذن و لا يمنع، و أمّا دخوله و فيه من يملك الإذن و يمنع و لا يأذن فيه فيبيّن حكمه قوله تعالى:( وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى‏ لَكُمْ وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) إلخ، ظاهر السياق كون قوله:( فِيها مَتاعٌ لَكُمْ ) صفة بعد صفة لقوله:( بُيُوتاً ) لا جملة مستأنفة معلّلة لقوله:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ، و الظاهر أنّ المتاع بمعنى الاستمتاع.

ففيه تجويز الدخول في بيوت معدّة لأنواع الاستمتاع و هي غير مسكونة بالطبع كالخانات و الحمّامات و الأرحية و نحوها فإنّ كونها موضوعة للاستمتاع إذن عامّ في دخولها.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالمتاع المعنى الاسميّ و هو الأثاث و الأشياء الموضوعة للبيع و الشري كما في بيوت التجارة و الحوانيت فإنّها مأذونة في دخولها إذنا عامّاً

١١٩

و لا يخلو من بعد لقصور اللفظ.

قوله تعالى: ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) الغضّ إطباق الجفن، على الجفن و الأبصار جمع بصر و هو العضو الناظر، و من هنا يظهر أنّ( مِنْ ) في( مِنْ أَبْصارِهِمْ ) لابتداء الغاية لا مزيدة و لا للجنس و لا للتبعيض كما قال بكلّ قائل، و المعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من أبصارهم.

فقوله:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) لما كان( يَغُضُّوا ) مترتّباً على قوله:( قُلْ ) ترتّب جواب الشرط عليه دلّ ذلك على كون القول بمعنى الأمر و المعنى مرهم يغضّوا من أبصارهم و التقدير مرهم بالغضّ إنّك إن تأمرهم به يغضّوا، و الآية أمر بغضّ الأبصار و إن شئت فقل: نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيّ و الأجنبيّة لمكان الإطلاق.

و قوله:( وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) أي و مرهم يحفظوا فروجهم، و الفرجة و الفرج الشقّ بين الشيئين، و كنّى به عن السوأة، و على ذلك جرى استعمال القرآن الملي‏ء أدباً و خلقاً ثمّ كثر استعماله فيها حتّى صار كالنصّ كما ذكره الراغب.

و المقابلة بين قوله:( يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) و( يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) يعطي أنّ المراد بحفظ الفروج سترها عن النظر لا حفظها عن الزنا و اللواطة كما قيل، و قد ورد في الرواية عن الصادقعليه‌السلام : أنّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية فهي من النظر.

و على هذا يمكن أن تتقيّد اُولى الجملتين بثانيتهما و يكون مدلول الآية هو النهي عن النظر إلى الفروج و الأمر بسترها.

ثمّ أشار إلى وجه المصلحة في الحكم و حثّهم على المراقبة في جنبه بقوله:( ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ ) إلخ، الكلام في قوله:( وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) نظير ما مرّ في قوله:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453