بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79792 / تحميل: 3778
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وعبيد الله بن العباس ، ولمّا مثلا عندها ذكّراها بما أمرها الله أنْ تقرّ في بيتها ، وأنْ لا تسفك دماء المسلمين ، وبالغا في نصيحتها ، ولو أنّها وعت نصيحتهما لعادت على الناس بالخير العميم ، وجنّبتهم كثيراً مِن المشاكل والفتن ، إلاّ أنّها جعلت كلامهما دبر أذنيها ، وراحت تقول لهم : إنّي لا أردّ على ابن أبي طالب بالكلام ؛ لأنّي لا أبلغه في الحِجاح(1) .

وبذل الإمام (عليه السّلام) قصارى جهوده في الدعوة إلى السّلم وعدم إراقة الدماء ، إلاّ أنّ هناك بعض العناصر لمْ ترق لها هذه الدعوى ، وراحت تسعى لإشعال نار الحرب وتقويض دعائم السّلم.

الدعوة إلى القرآن :

ولمّا باءت بالفشل جميع الجهود التي بذلها الإمام (عليه السّلام) مِن أجل حقن الدماء ، ندب الإمام (عليه السّلام) أصحابه لرفع كتاب الله العظيم ودعوة القوم إلى العمل بما فيه ، وأخبرهم أنّ مَنْ يقوم بهذه المهمة فهو مقتول ، فلمْ يستجب له أحد سوى فتى نبيل مِن أهل الكوفة ، فانبرى إلى الإمام (عليه السّلام) وقال : أنا له يا أمير المؤمنين.

فأشاح الإمام (عليه السّلام) بوجهه عنه ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لهذه المهمة فلمْ يستجب له أحد سوى ذلك الفتى ، فناوله الإمام (عليه السّلام) المصحف ، فانطلق الفتى مزهوّاً لمْ يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يلوح بالكتاب أمام عسكر عائشة قد رفع صوته بالدعوة إلى العمل بما فيه ، ولكنّ القوم قد دفعتهم الأنانية إلى الفتك به فقطعوا يمينه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يناديهم بالدعوة إلى العمل بما فيه ، فاعتدوا عليه وقطعوا يساره ، فأخذ المصحف

__________________

(1) الفتوح 2 / 306.

٤١

بأسنانه وقد نزف دمه ، وراح يدعوهم إلى السّلم وحقن الدماء قائلاً : الله في دمائنا ودمائكم.

وانثالوا عليه يرشقونه بنبالهم فوقع على الأرض جثة هامدة ، فانطلقت إليه اُمّه تبكيه وترثيه بذوب روحها قائلة :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهُمْ

يتلو كتاب الله لا يخشاهُمْ

فخضّبوا مِن دمه لحاهُمْ

واُمّهم قائمةٌ تراهُمْ

ورأى الإمام (عليه السّلام) بعد هذا الإعذار أنْ لا وسيلة له سوى الحرب ، فقال لأصحابه : «الآن حلّ قتالهم ، وطاب لكم الضراب»(1) . ودعا الإمام (عليه السّلام) حضين بن المنذر وكان شاباً ، فقال له : «يا حضين ، دونك هذه الراية ، فو الله ما خفقت قط فيما مضى ، ولا تخفق فيما بقي راية أهدى منها إلاّ راية خفقت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».

وفي ذلك يقول الشاعر :

لمَنْ رايةٌ سوداء يخفُقُ ظلُّها

إذا قيل قدِّمها حُضينٌ تقدّما

يُقدّمها للموت حتّى يزيرها

حِياض المنايا تَقطرُ الموتَ والدما(2)

الحربُ العامة :

ولمّا استيأس الإمام (عليه السّلام) مِن السّلم عبّأ جيشه تعبئة عامّة ، وكذلك فعل أصحاب عائشة وقد حملوها على جملها (عسكر) ، واُدخلت هودجها المصفّح بالدروع ، والتحم الجيشان التحاماً رهيباً. يقول بعض المؤرّخين : إنّ

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 246.

(2) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180.

٤٢

الإمام الحُسين (عليه السّلام) قد تولّى قيادة فرقة مِنْ فرق الجيش ، وإنّه كان على الميسرة ، وخاض المعركة ببسالة وصمود(1) . وكان جمل عائشة فيما يقول بعض مَنْ شهد المعركة هو راية أهل البصرة ، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم ، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) عليهم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر في يمينه ذا الفقار الذي طالما ذبّ به عن دين الله ، وحارب به المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله). واقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ضراوة ، يريد أصحاب عائشة أنْ يحرزوا النصر ويحموا أُمّهم ، ويريد أصحاب علي (عليه السّلام) أنْ يحموا إمامهم ويموتوا دونه.

مصرعُ الزبير :

وكان الزبير رقيق القلب ، شديد الحرص على مكانته مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّ حبّ المُلْك هو الذي أغراه ودفعه إلى الخروج على الإمام (عليه السّلام) ؛ يضاف إلى ذلك ولده عبد الله فهو الذي زجّ به في هذه المهالك ، وباعد ما بينه وبين دينه ، وقد عرف الإمام (عليه السّلام) رقّة طبع الزبير ، فخرج إلى ميدان القتال ورفع صوته :

«أين الزبير؟».

فخرج الزبير وهو شاك في سلاحه ، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) بادر إليه واعتنقه ، وقال له بناعم القول : «يا أبا عبد الله ، ما جاء بك ها هنا؟».

ـ جئت أطلب دم عثمّان.

فرمقه الإمام (عليه السّلام) بطرفه وقال له :

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 193.

٤٣

«تطلب دم عثمّان!».

ـ نعم.

ـ «قتل الله مَنْ قتل عثمّان».

وأقبل عليه يحدّثه برفق ، قائلاً : «أنشدك الله يا زبير ، هل تعلم أنّك مررت بي وأنت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو متكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثمّ التفت إليك فقال لك : يا زبير ، إنّك تقاتل عليّاً وأنت له ظالم».

وتذكّر الزبير ذلك ، وقد ذهبت نفسه أسىً وحسرات ، وندم أشدّ ما يكون النّدم على موقفه هذا ، والتفت إلى الإمام (عليه السّلام) وهو يصدّق مقالته : اللّهم نعم.

ـ «فعلامَ تقاتلني؟».

ـ نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك(1) .

ـ «ارجع».

ـ كيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان؟! هذا والله العار الذي لا يُغسل.

ـ «ارجع قبل أنْ تجمع العار والنار».

وألوى عنان فرسه ، وقد ملكت الحيرة والقلق أهابه ، وراح يقول :

فاخترتُ عاراً على نارٍ مؤجّجةٍ

ما إنْ يقوم لها خلقٌ من الطينِ

نادى عليٌّ بأمرٍ لستُ أجهلُهُ

عارٍ لَعمرُك في الدنيا وفي الدينِ

فقلتُ حسبُك مِن عذلٍ أبا حسنٍ

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني(2)

وقفل الإمام (عليه السّلام) راجعاً إلى أصحابه ، فقالوا له : تبرز إلى زبير حاسراً

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 73.

(2) مروج الذهب 2 / 247. على أنّ الأبيات وردت على غير هذا النسق ، وما أثبتناه فهو من بعض المصادر الاُخرى. (موقع معهد الإمامين الحَسنَين)

٤٤

وهو شاك السّلاح ، وأنت تعرف شجاعته! فقال (عليه السّلام) :

«إنّه ليس بقاتلي ، إنّما يقتلني رجل خامل الذكر ، ضئيل النسب ، غيلة في غير ماقط(1) حرب ولا معركة رجال. ويل أُمّه أشقى البشر! ليودّ أنّ أُمّه هبلت به. أما أنّه وأحمر ثمّود لمقرونان في قرن ...»(2) .

واستجاب الزبير لنداء الإمام (عليه السّلام) فاتّجه صوب عائشة ، فقال لها : يا أُمّ المؤمنين ، إنّي والله ما وقفت موقفاً قط إلاّ عرفت أين أضع قدمي فيه إلاّ هذا الموقف ؛ فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر؟!

وعرفت عائشة تغيير فكرته وعزمه على الانسحاب مِنْ حومة الحرب ، فقالت له باستهزاء وسخرية مثيرة عواطفه : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟! وعاثت هذه السخرية في نفسه ، فالتفت إليه ولده عبد الله فعيّره بالجبن قائلاً : إنّك خرجت على بصيرة ، ولكنّك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أنّ تحتها الموت فجبنت.

إنّه لمْ يخرج على بصيرة ولا بيّنة مِنْ أمره ، وإنّما خرج مِنْ أجل المُلْك والسلطان.

والتاع الزبير مِنْ حديث ولده ، فقال له : ويحك! إنّي قد حلفت له أنْ لا اُقاتله. [فقال له ابنه :] كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس. فأعتق غلامه وراح يجول في ميدان الحرب ليُري ولده شجاعته ، ويوضّح له أنّه إنّما فرّ بدينه لا جبناً ولا خوراً ، ومضى منصرفاً على وجهه حتّى أتى وادي السّباع. وكان الأحنف بن قيس مع قومه مقيمين هناك ،

__________________

(1) الماقط : ساحة القتال.

(2) شرح نهج البلاغة 1 / 135.

٤٥

فتبعه ابن جرموز فأجهز عليه وقتله غيلة ، وحمل مقتله إلى الإمام (عليه السّلام) فحزن عليه كأشدّ ما يكون الحزن ، ويقول الرواة : إنّه أخذ سيفه وهو يقول : «سيف طالما جلا الكروب عن وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وعلى أي حالٍ ، لقد كانت النهاية الأخيرة للزبير تدعو إلى الأسف والأسى ؛ فقد تمرّد على الحقّ ، وأعلن الحرب على وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

مصرعُ طلحة :

وخاض طلحة المعركة وهو يحرّض جيشه على الحرب ، فبصر به مروان بن الحكم فرماه بسهم ؛ طلباً بثار عثمّان ، فوقع على الأرض يتخبّط بدمه. وكان مروان يقول لبعض ولد عثمّان : لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة. وأمر طلحة مولاه أنْ يأوي به إلى مكان ينزل فيه ، فأوى به بعد مشقّة إلى دار خربة مِنْ دور البصرة فهلك فيها بعد ساعة.

قيادةُ عائشة للجيش :

وتولّت عائشة قيادة الجيش بعد هلاك الزبير وطلحة ، وقد تفانت بنو ضبّة والأزد وبنو ناجية في حمايتها. ويقول المؤرّخون : إنّهم هاموا بحبّها ، فكانوا يأخذون بعر جملها ويشمّونه ، ويقولون : بعر جمل أُمّنا ريحه ريح المسك. وكانوا محدقين به لا يريدون فوزاً ولا انتصاراً سوى حمايتها ، وإنّ راجزهم يرتجز :

يا معشرَ الأزد عليكُمْ أُمّكمْ

فإنّها صلاتُكُم وصومكُمْ

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 97.

٤٦

والحرمةُ العظمى التي تعمّكُمْ

فأحضروها جدكُمْ وحزمكُمْ

لا يغلبنْ سمّ العدو سمّكُمْ

إنّ العدوَّ إنْ علاكُمْ زمّكُمْ

وخصّكُم بجورهِ وعمّكُمْ

لا تفضحوا اليوم فداكُم قومكُمْ(1)

وكانت تحرّض على الحرب كلّ مَنْ كان على يمينها ، ومَنْ كان على شمالها ، ومَنْ كان أمامها قائلة : إنّما يصبر الأحرار. وكان أصحاب الإمام (عليه السّلام) يلحّون على أصحاب عائشة بالتخلّي عنها ، وراجزهم يرتجز :

يا أُمَّنا أعقّ اُمٍّ نعلمُ

والأُمُّ تغذو وُلدها وترحمُ

أما ترينَ كم شُجاعٍ يُكلمُ

وتختلي منه يدٌ ومِعصمُ

وكان أصحاب عائشة يردّون عليهم ويقولون :

نحن بني ضبّة أصحابَ الجملْ

ننازلُ القرن إذا القرن نزلْ

والقتلُ أشهى عندنا مِن العسلْ

نبغي ابن عفّان بأطراف الأسلْ

ردّوا علينا شيخَنا ثمّ بجلْ

واشتدّ القتال كأشد وأعنف ما يكون القتال ، وكثرت الجرحى ، وملئت أشلاء القتلى وجه الأرض.

عقرُ الجمل :

ورأى الإمام (عليه السّلام) أنّ الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجوداً ، فصاح (عليه السّلام) بأصحابه : «اعقروا الجمل ؛ فإنّ في بقائه فناء العرب». وانعطف عليه الحسن (عليه السّلام) فقطع يده اليمنى ، وشدّ عليه الحُسين (عليه السّلام) فقطع يده اليسرى(2) ، فهوى إلى جنبه وله عجيج منكر لمْ يسمع مثله ، وفرّ حماة الجمل في البيداء ؛ فقد تحطّم صنمهم

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 81.

(2) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا / 44.

٤٧

الذي قدّموا له هذه القرابين ، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وتذرية رماده في الهواء ؛ لئلاّ تبقى منه بقية يُفتتن بها السذّج والبسطاء.

وبعد الفراغ مِنْ ذلك ، قال : «لعنه الله مِنْ دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!». ومدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبه الهواء ، فتلا قوله تعالى :( وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) . وبذلك فقد وضعت الحرب أوزارها ، وكتب النصر للإمام (عليه السّلام) وأصحابه ، وباءت القوى الغادرة بالخزي والخسران.

وأوفد الإمام (عليه السّلام) للقيا عائشة الحسن والحُسين (عليهما السّلام) ومُحمّد بن أبي بكر(1) ، فانطلقوا إليها ، فمدّ مُحمّد يده في هودجها فجفلت منه ، وصاحت به : مَنْ أنت؟

ـ أبغض أهلك إليك.

ـ ابن الخثعميّة؟

ـ نعم أخوك البرّ.

ـ عقوق.

ـ هل أصابك مكروه؟

ـ سهم لمْ يضرّني.

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها وأدخلها في الهزيع الأخير مِن الليل إلى دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية بنت الحارث ، فأقامت فيه أياماً.

العفو العام :

وسار علي (عليه السّلام) في أهل البصرة سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أهل مكة

__________________

(1) وقعة الجمل / 45.

٤٨

كما قال (عليه السّلام) ، فأمِنَ الأسود والأحمر ـ على حدّ تعبير اليعقوبي(1) ـ ولمْ ينكّل بأيّ أحد مِنْ خصومه ، وجلس للناس فبايعه الصحيح منهم والجريح ، ثمّ عمد إلى بيت المال فقسّم ما وجد فيه على الناس بالسواء.

وسار (عليه السّلام) إلى عائشة فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي الذي أقامت فيه عائشة ، فاستقبلته صفية بنت الحارث شرّ لقاء ، فقالت له : يا علي ، يا قاتل الأحبّة ، أيتم الله بنيك كما أيتمت بني عبد الله! وكانوا قد قتلوا في المعركة مع عائشة ، فلمْ يجبها الإمام (عليه السّلام) ومضى حتّى دخل على عائشة ، فأمرها أنْ تغادر البصرة وتمضي إلى يثرب لتقرّ في بيتها كما أمرها الله.

ولمّا انصرف أعادت عليه صفية القول الذي استقبلته به ، فقال لها : «لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت». وهو يشير إلى أبواب الحجرات المقفلة ، وكان فيها كثير مِن الجرحى وغيرهم مِنْ أعضاء المؤامرة [الذين] آوتهم عائشة ، فسكتت صفية ، وأراد مَنْ كان مع الإمام (عليه السّلام) أنْ يبطشوا بهم ، فزجرهم زجراً عنيفاً ؛ وبذلك فقد منح العفو لأعدائه وخصومه.

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة تسريحاً جميلاً ، وأرسل معها جماعة مِنْ النساء بزي الرجال لتقرّ في بيتها حسب ما أمرها الله ، وقد رحلت عائشة مِن البصرة ، وأشاعت في بيوتها الثكل والحزن والحداد.

يقول عمير بن الأهلب الضبي ، وهو مِن أنصارها :

لقد أورثتنا حومةَ الموت اُمُّنا

فلمْ تنصرف إلاّ ونحن رواءُ

أطعنا بني تيمٍ لشقوةِ جدِّنا

وما تيمُ إلاّ أعبدٌ وإماءُ(2)

لقد أوردت أُمّ المؤمنين أبناءها حومة الموت ، فقد كان عدد الضحايا مِن المسلمين فيما يقول بعض المؤرخين عشرة آلاف ، نصفهم مِن أصحابها ،

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 159.

(2) مروج الذهب 2 / 256.

٤٩

والنصف الآخر مِنْ أصحاب الإمام (عليه السّلام)(1) . وكان مِنْ أعظم الناس حسرة الإمام (عليه السّلام) ؛ لعلمه بما تجرّ هذه الحرب مِنْ المصاعب والمشاكل.

متاركُ الحرب :

وأعقبت حرب الجمل أفدح الخسائر وأعظم الكوارث التي اُبتلي بها المسلمون ، ومِن بينها ما يلي :

1 ـ إنّها مهّدت السبيل لمعاوية لمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، والتصميم على قتاله ، فقد تبنى شعار معركة الجمل وهو المطالبة بدم عثمان ، ولولا حرب الجمل لما استطاع معاوية أنْ يعلن العصيان والتمرّد على حكم الإمام (عليه السّلام).

2 ـ إنّها أشاعت الفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد كانت روح المودّة والأُلفة سائدة فيهم قبل حرب الجمل ، وبعدها انتشرت البغضاء بين أفراد الأُسر العربية ؛ فقبائل ربيعة واليمن في البصرة أصبحت تكن أعمق البغض والكراهية لإخوانهم من ربيعة وقبائل اليمن في الكوفة ، وتطالبها بما أُريق من دماء أبنائها ، بل أصبحت الفرقة ظاهرة شائعة حتّى في البيت الواحد ؛ فبعض أبنائه كانوا شيعة لعلي والبعض الآخر كانوا شيعة لعائشة.

ويقول المؤرّخون : إنّ البصرة بقيت محتفظة بولائها لعثمان حفنة من السنين ، وإنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) إنّما لمْ ينزح إليها لما عُرِفت به من الولاء لعثمان.

3 ـ إنّها أسقطت هيبة الحكم وجرّأت على الخروج عليه ؛ فقد تشكّلت الأحزاب النفعية التي لا همّ لها إلاّ الاستيلاء على السلطة والظفر بخيرات البلاد ، حتّى كان التطاحن على الحكم من أبرز سمات ذلك العصر.

__________________

(1) تاريخ الطبري 5 / 224 ، وفي رواية أبي العلاء في أنساب الأشراف 1 ق 1 / 180 أنّ عدد الضحايا عشرون ألفاً.

٥٠

4 ـ إنّها فتحت باب الحرب بين المسلمين ، وقبلها كان المسلمون يتحرجون أشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء بعضهم بعضاً.

5 ـ إنّها عملت على تأخير الإسلام وشلّ حركته وإيقاف نموّه ، فقد انصرف الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل إلى مقاومة التمرّد والعصيان الذي أعلنه معاوية وغيره من الطامعين في الحكم ، ممّا أدّى إلى أفدح الخسائر التي مُنِيَ بها الإسلام.

يقول الفيلسوف (ولز) : إنّ الإسلام كاد أنْ يفتح العالم أجمع لو بقي سائراً سيرته الاُولى لو لمْ تنشب في وسطه مِنْ أوّل الأمر الحرب الداخلية ؛ فقد كان همّ عائشة أنْ تقهر علياً قبل كلّ شيء(1) .

6 ـ واستباحت هذه الحرب حرمة العترة الطاهرة التي قرنها النّبي (صلّى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل ، وجعلها سفن النجاة وأمن العباد ، فمنذ ذلك اليوم شُهِرَت السيوف في وجه عترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، واستحلّ الأوغاد إراقة دمائهم وسبي ذراريهم ، فلمْ يرعَ بنو اُميّة في وقعة كربلاء أي حرمة للنّبي (صلّى الله عليه وآله) في أبنائه ، وانتهكوا معهم جميع الحرمات.

هذه بعض متارك حرب الجمل التي جرّت للمسلمين أفدح الخسائر في جميع فترات التاريخ.

القاسطون :

ولمْ يكد يفرغ الإمام (عليه السّلام) من حرب الناكثين ـ كما اسماهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ حتّى جعل يتأهّب لحرب القاسطين الذين أسماهم النّبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، ورأى الإمام (عليه السّلام) أنْ يغادر البصرة إلى الكوفة ؛ ليستعدّ لحرب عدوّ عنيف هو معاوية بن أبي سفيان الذي حارب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبلى في حربه أشدّ

__________________

(1) شيخ المضيرة / 173.

٥١

البلاء وأقواه ، ولمْ يكن معاوية بأقلّ تنكّراً للإسلام وبغضاً لأهله مِنْ أبيه ، وكان المسلمون الأوّلون ينظرون إليهما نظرة ريبة وشك في إسلامهما ، وقد استطاع بمكره ودهائه أنْ يغزو قلب الخليفة الثاني ، ويحتل المكانة المرموقة في نفسه فجعله والياً على الشام ، وظلّ يبالغ في تسديده وتأييده ، وبعد وفاته أقرّه عثمان وزاد في رقعة سلطانه.

وظلّ معاوية في الشام يعمل عمل مَنْ يريد المُلْك والسلطان ، فأحاط نفسه بالقوّة واشترى الضمائر ، وسخّر اقتصاد بلاده في تدعيم سلطانه ، وبعد الأحداث التي ارتكبها عثمان علم معاوية أنّه مقتول لا محالة ، فاستغاث به عثمان حينما حوصر فأبطأ في نصره ، وظلّ متربصاً حتّى قُتِلَ ليتّخذ مِنْ قميصه ودمه وسيلة للتشبث بالمُلْك ، وقد دفعه إلى ذلك حرب الجمل التي كان شعارها المطالبة بدم عثمان ، فاتّخذه خير وسيلة للتذرّع لنيل المُلْك.

ويقول المؤرّخون : إنّه استعظم قتل عثمان وهول أمره ، وراح يبني مُلْكه على المطالبة بدمه.

وكان الإمام (عليه السّلام) محتاطاً في دينه كأشدّ ما يكون الاحتياط فلمْ يصانع ولمْ يحاب ، وإنّما سار على الطريق الواضح ، فامتنع أنْ يستعمل معاوية على الشام لحظة واحدة ؛ لأنّ في إقراره على منصبه تدعيماً للظلم وتركيزاً للجور.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام (عليه السّلام) بعد حرب الجمل قد غادر البصرة مع قواته المسلحة ، واتّجه إلى الكوفة ليتّخذها عاصمة ومقرّاً له. واتّجه فور قدومه إليها يعمل على تهيئة وسائل الحرب لمناهضة عدوّه العنيف الذي يتمتّع بقوى عسكرية هائلة أجمعت على حبّه ونصرته ، وكان الشنّي يحرّض الإمام (عليه السّلام) ويحفزّه على حرب أهل الشام بعد ما أحرزه مِن النصر في وقعة الجمل ، وقد قال له :

قل لهذا الإمام قد خبت الحر

بُ وتمّت بذلك النعماءُ

وفرغنا من حرب مَنْ نكث العهْـ

ـد وبالشام حيّةٌ صمّاءُ

٥٢

تنفث السمّ ما لمَنْ نهشته

فارمِها قبل أنْ تعض شفاءُ(1)

إيفادُ جرير :

وقبل أنْ يعلن الإمام (عليه السّلام) الحرب على غول الشام أوفد للقياه جرير بن عبد الله البجلي يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون من مبايعته ، وقد زوّده برسالة(2) دعاه فيها إلى الحقّ مِنْ أقصر سبيله ، وبأوضح أساليبه ، وفيها الحكمة الهادية لمَنْ أراد الهداية ، وشرح الله صدره ، وفجّر في فؤاده ينبوع النور. وانتهى جرير إلى معاوية فسلّمه رسالة الإمام (عليه السّلام) ، وألحّ عليه في الوعظ والنصيحة ، وكان معاوية يسمع منه ولا يقول له شيئاً ، وإنّما أخذ يطاوله ويسرف في مطاولته ، لا يجد لنفسه مهرباً سوى الإمهال والتسويف.

معاوية مع ابن العاص :

ورأى معاوية أنّه لن يستطيع التغلّب على الأحداث إلاّ إذا انضمّ إليه داهية العرب عمرو بن العاص فيستعين به على تدبير الحيل ، ووضع المخططات التي تؤدي إلى نجاحه في سياسته ، فراسله طالباً منه الحضور إلى دمشق. وكان ابن العاص فيما يقول المؤرّخون : قد وجد على عثمان حينما عزله عن مصر ، فكان يؤلّب الناس عليه ويحرّضهم على الوقيعة به ، وهو ممّن مهّد للفتنة والثورة عليه ، ولمّا أيقن بحدوث الانقلاب عليه خرج إلى أرض

__________________

(1) الأخبار الطوال / 145.

(2) الرسالة في وقعة صفّين / 34.

٥٣

كان يملكها بفلسطين فأقام فيها ، وجعل يتطلّع الأخبار عن قتله.

ولمّا انتهت رسالة معاوية إلى ابن العاص تحيّر في أمره ، فاستشار ولديه عبد الله ومُحمّداً ؛ أمّا عبد الله فكان رجل صدق وصلاح فأشار عليه أنْ يعتزل الناس ، ولا يجيب معاوية إلى شيء حتّى تجتمع الكلمة ويدخل فيما دخل فيه المسلمون ؛ وأمّا ابنه مُحمّد فقد طمع فيما يطمع فيه فتيان قريش مِن السعة والتقدّم وذيوع الاسم ، فقد أشار عليه بأنْ يلحق بمعاوية لينال من دنياه.

فقال عمرو لولده عبد الله : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في ديني. وقال لولده مُحمّد : أمّا أنت فأمرتني بما هو خير لي في دنياي. وأنفق ليله ساهراً يفكّر في الأمر هل يلتحق بعلي فيكون رجلاً كسائر المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم مِنْ دون أنْ ينال شيئاً مِنْ دنياه ، ولكنّه يضمن أمر آخرته ، أو يكون مع معاوية فيظفر بتحقيق ما يصبو إليه في الدنيا مِن الثراء العريض ، وهو لمْ ينسَ ولاية مصر فكان يحنّ إليها حنيناً متّصلاً ، وقد اُثر عنه تلك الليلة مِن الشعر ما يدلّ على الصراع النفسي الذي خامره تلك الليلة.

ولمْ يسفر الصبح حتّى آثر الدنيا على الآخرة ، فاستقرّ رأيه على الالتحاق بمعاوية ، فارتحل إلى دمشق ومعه ابناه ، فلمّا بلغها جعل يبكي أمام أهل الشام كما تبكي المرأة ، وهو يقول : وا عثماناه! أنعى الحياء والدين(1) .

قاتلك الله يابن العاص! أنت تبكي على عثمان وأنت الذي أوغرت عليه الصدور ، وأثرت عليه الأحقاد ، وكنت تلفي الراعي فتحرّضه عليه حتّى سُفك دمه! لقد بلغ التهالك على السلطة في ذلك العصر مبلغاً أنسى الناس دينهم ، فاقترفوا في سبيل ذلك كلّ ما حرّمه الله.

ولمّا التقى ابن العاص بمعاوية فتح معه الحديث في حربه مع الإمام (عليه السّلام) ، فقال ابن العاص :

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 129.

٥٤

ـ أمّا علي فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء مِن الأشياء ، وإنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحد مِنْ قريش إلاّ أنْ تظلمه.

واندفع معاوية يبيّن دوافعه في حربه للإمام قائلاً : صدقت ، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان.

واندفع ابن العاص ساخراً منه قائلاً : وا سوأتاه! إنّ أحق الناس أنْ لا يذكر عثمان أنت!

ـ ولِمَ ويحك؟!

ـ أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتّى استغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه ، وأمّا أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين(1) .

واستيقن معاوية أنّ ابن العاص لا يخلص له ، ورأى أنّ مِن الحكمة أنْ يستخلصه ويعطيه جزاءه مِن الدنيا ، فصارحه قائلاً : أتحبّني يا عمرو؟

ـ لماذا؟ للآخرة فوالله ما معك آخرة ، أم للدنيا؟ فوالله لا كان حتّى أكون شريكك فيها.

ـ أنت شريكي فيها؟

ـ اكتب لي مصر وكورها.

ـ لك ما تريد.

فسجّل له ولاية مصر ، وجعلها ثمناً لانضمامه إليه(2) في مناهضته لوصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ظفر بداهية مِنْ دواهي العرب ، وبشيخ مِنْ شيوخ قريش قد درس أحوال الناس ، وعرف كيف يتغلّب على الأحداث.

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 162.

(2) العقد الفريد 3 / 113.

٥٥

ردُّ جرير :

ولمّا اجتمع لمعاوية أمره وأحكم وضعه ردّ جرير ، وأرسل معه إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة حمّله فيها المسؤولية في إراقة دم عثمان ، وعرّفه بإجماع أهل الشام على حربه إنْ لمْ يدفع له قتلة عثمان ، ويجعل الأمر شورى بين المسلمين.

وارتحل جرير إلى الكوفة فأنبأ علياً (عليه السّلام) بامتناع معاوية عليه ، وعظم له أمر أهل الشام ، ورأى الإمام أنْ يقيم عليه الحجّة مرّة أخرى ، فبعث له سفراء آخرين يدعونه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، إلاّ أنّ ذلك لمْ يجدِ شيئاً ، فقد أصرّ معاوية على غيّه وعناده حينما أيقن أنّ له القدرة على مناجزة الإمام (عليه السّلام) ومناهضته.

قميصُ عثمان :

وألهب معاوية بمكره وخداعه قلوب السذّج والبسطاء مِنْ أهل الشام حزناً وأسىً على عثمان ، فكان ينشر قيمصه الملطخ بدمائه على المنبر فيضجون بالبكاء والعويل ، واستخدم الوعّاظ فجعلوا يهوّلون أمره ، ويدعون الناس إلى الأخذ بثأره ، وكان كلّما فتر حزنهم عليه يقول له ابن العاص بسخرية واستهزاء : حرّك لها حوارها تحنّ.

فيخرج إليهم قميص عثمان فيعود لهم حزنهم ، وقد أقسموا أنْ لا يمسّهم الماء إلاّ مِن الاحتلام ، ولا يأتون النساء ، ولا ينامون على الفراش

٥٦

حتى يقتلوا قتلة عثمان(1) ، وكانت قلوبهم تتحرّق شوقاً إلى الحرب للأخذ بثأره. وقد شحن معاوية أذهانهم بأنّ علياً هو المسؤول عن إراقة دمه ، وأنّه قد آوى قتلته ، وكانوا يستنهضون معاوية للحرب ويستعجلونه أكثر منه.

زحفُ معاوية لصفّين :

وعلم معاوية أنّه لا بدّ من الحرب ؛ لأنّ الإمام (عليه السّلام) لا يحاب ولا يداهن في دينه ، فلا يقرّه على ولاية الشام ، ولا يسند له أي منصب من مناصب الدولة ، وإنّما يقصيه عن جميع أجهزة الحكم ؛ لما يعرفه عنه من الالتواء في دينه.

وسار معاوية في جموع أهل الشام ، وقدّم بين يديه الطلائع ، وقد أنزل أصحابه أحسن منزل وأقربه إلى شريعة الفرات ، وقد احتل الفرات ، وعُدّ هذا أوّل الفتح ؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح أمرها وتنضّم قواها استعداداً للحرب.

زحفُ الإمام (عليه السّلام) للحرب :

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للحرب ، وقام الخطباء في الكوفة يحفّزون الناس للجهاد ، ويحثونهم على مناجزة معاوية بعدما أحرزوه من النصر الكبير في معركة الجمل ، وقد خطب فيهم الإمام الحسين (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومثيراً ، قال فيه بعد حمد الله والثناء عليه : «يا أهل الكوفة ، أنتم الأحبّة الكرماء ، والشعار دون الدثار ، جدّوا في

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 141.

٥٧

إطفاء ما دثر بينكم ، وتسهيل ما توعّر عليكم ؛ ألا إنّ الحرب شرّها ذريع ، وطعمها فظيع ، فمَنْ أخذ لها أهبتها ، واستعدّ لها عدّتها ، ولم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها ، ومَنْ عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك قمن ألاّ ينفع قومه ، وأن يهلك نفسه. نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة»(1) .

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى استعجال الحرب ، واستعداد الشام لها ، والإمعان في وسائلها ؛ فإنّ ذلك من موجبات النصر ، ومن وسائل التغلب على الأعداء ، وإنّ إهمال ذلك ، وعدم الاعتناء به ممّا يوجب الهزيمة والاندحار. ودلّ هذا الخطاب على خبرة الإمام (عليه السّلام) الواسعة في الشؤون العسكرية والحربية.

وتهيّأ الناس بعد خطاب سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) إلى الحرب ، وأخذوا يجدّون في تنظيم قواهم ، ولمّا تمّت عدّتهم زحف بهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لحرب ابن أبي سفيان ، وقد قدم طلائعه ، وأمرهم أنْ لا يبدؤوا أهل الشام بقتال حتّى يدركهم.

وزحفت كتائب الجيش العراقي كأنّها السيل ، وهي على يقين أنّها إنّما تحارب القوى الباغية على الإسلام ، والمعادية لأهدافه. وقد جرت في أثناء مسيرة الإمام (عليه السّلام) أحداث كثيرة لا حاجة إلى إطالة الكلام بذكرها ، فإنّا لا نقصد بهذه البحوث أن نلمّ بها ، وإنّما نشير إليها بإيجاز.

احتلالُ الفرات :

ولمْ يجد أصحاب الإمام (عليه السّلام) شريعة على الفرات يستقون منها الماء إلاّ وهي

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 3 / 186.

٥٨

محاطة بالقوى المكثفة من جيش معاوية ؛ يمنعونهم أشدّ المنع من الاستسقاء من الماء ، ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) ذلك أوفد رسله إلى معاوية يطلبون منه أنْ يخلّي بينهم وبين الماء ليشربوا منه ، فلمْ تسفر مباحثهم معه أي شيء ، وإنّما وجدوا منه إصراراً على المنع يريد أنْ يحرمهم منه ، كما حرموا عثمان مِن الماء.

وأضرّ الظمأ بأصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وانبرى الأشعث بن قيس يطلب الإذن من الإمام (عليه السّلام) أنْ يفتح باب الحرب ليقهر القوى المعادية على التخلّي عن الفرات ، فلمْ يجد الإمام (عليه السّلام) بداً من ذلك فأذن له ، فاقتتل الفريقان كأشدّ ما يكون القتال ، وكُتِبَ النصر لقوات الإمام (عليه السّلام) فاحتلّت الفرات ، وأراد أصحاب الإمام (عليه السّلام) أنْ يقابلوهم بالمثل فيحرمونهم منه ، كما صنعوا ذلك معهم ، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) لمْ يسمح لهم بذلك ، وعمل معهم عمل المحسن الكريم فخلّى بينهم وبين الماء.

لقد كان اللؤم والخبث من عناصر الاُمويِّين وذاتياتهم ، فقد أعادوا على صعيد كربلاء ما اقترفوه من الجريمة في صفّين ، فحالوا بين الإمام الحسين (عليه السّلام) وبين الماء ، وتركوا عقائل الوحي ومخدرات الرسالة ، وصبية أهل البيت (عليهم السّلام) قد صرعهم العطش ، ومزّق الظمأ قلوبهم ، فلمْ يستجيبوا لأيّة نزعة إنسانية ، ولمْ ترقّ قلوبهم فيعطفوا عليهم بقليل من الماء.

رسلُ السلام :

وكان الإمام (عليه السّلام) متحرّجاً كأشدّ ما يكون التحرّج في سفك دماء المسلمين ، فقد جهد على نشر السلام والوئام ، فأوفد إلى معاوية عدي بن حائم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة يدعونه إلى حقن دماء المسلمين ، ويذكّرونه الدار الآخرة ، ويحذّرونه أنْ ينزل به ما نزل بأصحاب الجمل ، ولكنّ ابن هند لمْ يستجب لذلك ، وأصرّ على الغي والتمرد ، وقد

٥٩

حمّل الإمام (عليه السّلام) المسؤولية في قتل عثمان بن عفان ، وقد دفعه إلى العصيان ما يتمتّع به من القوى العسكرية واتفاق كلمتها ، وإصرارها على الطلب بدم عثمان.

ورجعت رسل السّلام وقد أخفقت في سفارتها ، واستبان لها أنّ معاوية مصمّم على الحرب ، ولا رغبة له في الصلح ، وأحاطوا الإمام (عليه السّلام) علماً بذلك ، فجعل يتهيّأ للحرب ، ويدعو الناس إلى القتال.

الحربُ :

وعبّأ الإمام (عليه السّلام) أصحابه على راياتهم واستعد للقتال ، وقد أمر أصحابه أنْ لا يبدؤوهم بقتال ، كما عهد لهم في حرب الجمل ، وأنْ لا يقتلوا مدبراً ، ولا يجهزوا على جريح ، ولا يمثّلوا بقتيل ، ولا يهيجوا امرأة إلى غير ذلك من الوصايا التي تمثّل شرف القيادة العسكرية في الإسلام.

وجعلت فرق من جيش الإمام (عليه السّلام) تخرج إلى فرق من جيش معاوية فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه ، ثمّ يتحاجزان من دون أنْ تقع حرب عامة بينهما ، وقد رجا الإمام (عليه السّلام) بذلك أنْ يثوب معاوية إلى الصلح وحقن الدماء. ودام الأمر على هذا حفنة من الأيام من شهر ذي الحجّة ، فلمّا أطلّ شهر الحرام ، وهو من الأشهر التي يحرم فيها القتال في الجاهلية والإسلام توادعوا شهرهم كلّه ، واُتيح للفريقين أنْ يقتلوا آمنين ، وقد آمن بعضهم بعضاً ولمْ تقع بينهم أي حرب ، وقد سعت بينهم سفراء السلم إلاّ أنّها أخفقت في سعيها.

وقد احتدم الجدال بين الفريقين ؛ فأهل العراق يدعون أهل الشام إلى جمع الكلمة وحقن الدماء ، ومبايعة وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، والدخول فيما دخل فيه المسلمون ، وأهل الشام يدعون العراقيّين إلى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الإمام (عليه السّلام) ، وإعادة الأمر شورى بين المسلمين.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

القوم كانوا أولى بما كانوا فيه فعلام نصبك النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد حجة الوداع:

فقال « أيّها النّاس من كنت مولاه فعلي مولاه » و إن كنت أولى منهم بما كانوا فيه فعلام نتولاهم ؟ فقال يا عبد الرحمان إنّ اللّه تعالى قبض نبيه يوم قبضه و أنا يوم قبضه أولى النّاس مني بقميصي هذا ، و قد كان من النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اليّ عهد لو خزموني بأنفي لأقررت سمعا و طاعة و إنّ أوّل ما انتقصناه بعد إبطال حقّنا في الخمس فلما رقّ امرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا . فقال عبد الرحمان : أنت يا أمير المؤمنين لعمرك كما قال الأوّل :

لقد أيقظت من كان نائما و أسمعت من كانت له اذنان ١

١٥

الكتاب ( ٢٩ ) و من كتاب له عليه السّلام إلى أهل البصرة :

وَ قَدْ كَانَ مِنِ اِنْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ اَلسَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ اَلْأُمُورُ اَلْمُرْدِيَةُ وَ سَفَهُ اَلْآرَاءِ اَلْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلاَفِي فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلْتُ رِكَابِي وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى اَلْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لاَ يَكُونُ ؟ يَوْمُ اَلْجَمَلِ ؟ إِلَيْهَا إِلاَّ كَلَعْقَةِ لاَعِقٍ مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي اَلطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ وَ لِذِي اَلنَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لاَ نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ أقول : الأصل في هذا الكتاب ما رواه ابراهيم الثقفي في ( غاراته ) ٢ :

ــــــــــــ

 ( ١ ) أمالي المفيد : ٢٢٣ ٢٢٤ .

 ( ٢ ) الغارات ٢ : ٣٧٣ ٤٠٨ ، شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣٤ ٥٣ .

١٨١

كتبه عليه السّلام إليهم لمّا بعث معاوية إليهم ابن الحضرمي لأخذ البصرة و حثّ أهلها على نقض بيعته . فروى عن محمّد بن يوسف عن الحسن بن عليّ الزعفراني عن محمّد بن عبد اللّه بن عثمان عن ابن أبي سيف عن يزيد بن حارثة الأزدي عن عمرو بن محصن أنّ معاوية لمّا أصاب محمّد بن أبي بكر بمصر و ظهر عليها دعا عبد اللّه بن عامر الحضرمي فقال له : سر إلى البصرة فإن جلّ أهلها يرون رأينا في عثمان و يعظّمون قتله و قد قتلوا في الطلب بدمه فهم موتورون حنقون لما أصابهم و ودّوا لو يجدون من يدعوهم و يجمعهم و ينهض بهم في الطلب بدم عثمان ، و احذر ربيعة ، و انزل في مضر ، و تودّد الأزد فإنّ الأزد كلّهم معك إلاّ قليلا منهم و إنّهم غير مخالفيك .

فقال له ابن الحضرمي : أنا سهم في كنانتك و أنا من قد جرّبت و عدو أهل حربك و ظهيرك على قتلة عثمان فوجّهني إليهم متى شئت . فقال : اخرج غدا . فلما كان الليل جلس معاوية و أصحابه فقال لهم : في أي منزل ينزل القمر الليلة ؟ قالوا : في سعد الذابح. فأرسل إليه : لا تبرح حتّى يأتيك أمري إلى أن قال بعد ذكر كتابه إلى عمرو بن العاص مستشيرا به و تصويبه له و أمر معاوية له بالشخوص :

قال عمرو بن محصن : فكنت معه حين خرج فسنح لنا ظبي أعفر مارّا عن شمائلنا ، فنظرت إليه فو اللّه لرأيت الكراهية في وجهه ثم مضينا حتّى نزلنا البصرة في بني تميم فسمع بقدومنا أهل البصرة فجاءنا كل من يرى رأي عثمان ، فاجتمع الينا رؤوس أهلها ، و كان الأمير بالبصرة يومئذ زياد استخلفه ابن عبّاس و قدم على عليّ عليه السّلام يعزّيه عن محمّد بن أبي بكر . و أقبل النّاس إلى ابن الحضرمي و كثر تبعه ففزع لذلك زياد و هو في دار الإمارة فبعث إلى الحصين بن منذر و مالك بن مسمع و قال : إنّكم أنصار أمير المؤمنين و شيعته

١٨٢

و ثقته ، و قد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم فأجيروني حتّى يأتيني أمر أمير المؤمنين ، فأما مالك بن مسمع فقال : هذا أمر فيه نظر ارجع إلى من ورائي و استشير .

و أما الحصين فقال : نعم نحن فاعلون و لن نخذلك . فلم ير زياد ما يطمئن إليه .

فبعث إلى صبرة بن سليمان الأزدي فقال له : أنت سيّد قومك و أحد عظماء هذا المصر ، فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك ، أفلا تجيروني و تمنعني و تمنع بيت مال المسلمين فإنّما أنا أمين عليه . فقال : بلى إن تحملت حتّى تنزل داري لمنعتك . قال : إنّي فاعل . فارتحل ليلا حتّى نزل دار صبرة و كتب إلى ابن عبّاس و لم يكن معاوية ادّعى زيادا بعد إنّما ادّعاه بعد وفاة عليّ عليه السّلام للأمين عبد اللّه بن العباس من زياد بن عبيد ، سلام عليك أمّا بعد فإنّ عبد اللّه بن عامر الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتّى نزل في بني تميم و نعى ابن عفان و دعا إلى الحرب فبايعه جلّ أهل البصرة فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن سليمان و قومه لنفسي و لبيت مال المسلمين و رحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم ، فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه .

فرفع ذلك ابن عبّاس إليه فدعا عليه السّلام جارية بن قدامة و قال له : تمنع الأزد عاملي و بيت مالي و تشاقني مضر و تنابذني و بنا ابتداها اللّه بالكرامة و عرفها الهدى و تدعو إلى المعشر الذين حادّوا اللّه و رسوله و أرادوا إطفاء نور اللّه حتّى علت كلمة اللّه و هلك الكافرون . فقال : ابعثني إليهم و استعن باللّه عليهم . قال : قد بعثك و استعنت به.

قال كعب بن قعين : خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري ، و كنت شديد التشيع ،

١٨٣

فقلت لجارية : إن شئت كنت معك و إن شئت ملت إلى قومي ؟ فقال : بل معي فو اللّه لوددت أنّ الطير و البهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس .

قال كعب : إنّ عليّا عليه السّلام كتب مع جارية و قال اقرأه على أصحابك :

من عبد اللّه أمير المؤمنين إلى من قرى‏ء عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم أما بعد فإنّ اللّه حليم ذو أناة ، لا يعجل بالعقوبة قبل البينة ، و لا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة و لكنه يقبل التوبة و يستديم الإنابة و يرضى بالانابة ليكون أعظم للحجة و أبلغ في المعذرة ، و قد كان من شقاق جلّكم ، أيّها النّاس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم ، و رفعت السيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم و أخذت بيعتكم فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي و تستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب و قصد الحق ، و أقيم فيكم سبيل الهدى ، فو اللّه ما أعلم أنّ واليا بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم بذلك مني و لا أعلم بقوله مني ، أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى و لا منتقصا لأعمالهم و إن حطّت بكم الامور المردية و سفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي فها أنا ذا قرّبت جيادي و رحلت ركابي ، و ايم اللّه لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلاّ كلعقة لاعق ، و إنّي لظانّ ألاّ تجعلوا إن شاء اللّه على أنفسكم سبيلا ، و قد قدّمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم و لن أكتب إليكم من بعده كتابا إن استغششتم نصيحتي و نابذتم رسولي حتّى أكون أنا الشاخص نحوكم و السلام . فلمّا قرأ الكتاب على النّاس قام صبرة بن سليمان فقال : سمعنا و أطعنا و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب ، و لمن سالم سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك و إن أحببت أن ننصرك نصرناك . و قام وجوه النّاس فتكلّموا بمثل ذلك و نحوه فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه و مضى نحو بني تميم .

١٨٤

فقام زياد في الأزد فقال : يا معشر الأزد إنّ هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا و إنّكم كنتم حربا فأصبحتم سلما و إنّي و اللّه ما اخترتكم إلاّ على التجربة و لا أقمت فيكم إلا على الأمل فما رضيتم أن آجرتموني حتّى نصبتم منبرا و سريرا و جعلتم لي شرطا و أعوانا و مناديا و جمعة و ما فقدت بحضرتكم شيئا إلاّ هذا الدرهم لا اجيبه اليوم فإن لم اجبه اليوم اجبه غدا إن شاء اللّه .

فأما جارية فإنّه لمّا كلّم قومه فلم يجيبوه و خرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه و أسمعوه فأرسل إلى زياد و الأزد يستصرخهم و يأمرهم أن يسيروا إليه ، فسارت الأزد بزياد و خرج إليهم ابن الحضرمي و على خيله عبد اللّه بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة و أقبل شريك بن الأعور الحارثي و كان من شيعة عليّ عليه السّلام و صديقا لجارية فقال : ألا نقاتل معك عدوك ؟ فقال : بلى . فما لبثوا بني تميم أن هزموهم و اضطروهم إلى دار سنبل السعدي و حصروا مائتي رجل من بني تميم و معهم عبد اللّه بن خازم السلمي فجاءت امّه و هي سوداء حبشية ، فنادته فأشرف عليها فقالت : يا بني انزل إليّ .

فأبى . فكشفت رأسها و ألقت قناعها و سألته النزول فأبى . فقالت . و اللّه لتنزلنّ أو لأتعرّين و أهوت بيدها إلى ساقها فلما رأى ذلك نزل فذهبت به . و أحاط جارية و زياد بالدار و قال جارية : عليّ بالنار . فقالت الأزد : لسنا من الحريق بالنار في شي‏ء فهم قومك و أنت أعلم . فحرّق جارية الدار فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمان بن عمير بن عثمان القرشي ثم التميمي و سمّى جارية منذ ذلك اليوم محرّقا . و سارت الأزد بزياد حتّى أو طؤوه قصر الإمارة و معه بيت المال و كتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السّلام : أما بعد فإنّ جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمح بن الحضرمي

١٨٥

بمن نصره و أعانه من الأزد ففضّه و اضطرّه إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتّى حكم اللّه تعالى بينهما فقتل ابن الحضرمي و أصحابه منهم من احرق بالنّار و منهم من القي عليه جدار و منهم من هدم عليه البيت من أعلاه و منهم من قتل منهم بالسيف و سلم منهم نفر أنابوا ١ .

و من الغريب أن ابن أبي الحديد غفل عنه هنا و نقله في موضع آخر بلا ربط ٢ و لم يتفطن له ابن ميثم أيضا ٣ .

« و قد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه » في ( الصحاح ) :

( غبيت عن الشي‏ء و غبيته أيضا إذا لم يفطن له ) ٤ و المراد يوم الجمل .

« فعفوت عن مجرمكم » بنكث البيعة و نصب الحرب .

« و رفعت السيف عن مدبركم » فأمر عليه السّلام ذاك اليوم أن ينادى : لا يتبعنّ مولّ و لا يجهز على جريح .

« و قبلت من مقبلكم » فأمر عليه السّلام أن ينادى : من ألقى السلاح فهو آمن و من أغلق بابه فهو آمن .

« فإن خطت بكم » أي : جاوزتكم من الخطوة ما بين القدمين .

« الامور المردية » أي : المهلكة .

« و سفه الآراء الجائرة » أي : العادلة عن الحقّ .

« إلى منابذتي » أي : مكاشفتي بالحرب .

« و خلافي » أي : مخالفتي .

« فها أنا ذا قد قربت جيادي » جمع الجواد ، أي : الفرس الرائع .

ــــــــــــ

 ( ١ ) الغارات ٢ : ٣٧٣ ٤٠٨ ، شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٣٤ ٥٣ .

 ( ٢ ) نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج ٤ : ٣٤ ٥٣ .

 ( ٣ ) انظر شرح ابن ميثم على النهج ٤ : ٤٤٧ ٤٤٨ .

 ( ٤ ) الصحاح ٦ : ٢٤٤٣ ، مادة : ( غبا ) .

١٨٦

« و رحلت » من رحلت البعير إذا شددت على ظهره الرحل .

قال الأعشى :

رحلت سمية غدوة أجمالها

غضبى عليك فما تقول بدالها

و قال المثقب العبدي :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين

« ركابي » في ( الصحاح ) : الركاب الإبل التي يسار عليها ، الواحدة راحلة و لا واحد لها من لفظها ١ .

هذا و في ( المعجم ) : كتب إبراهيم بن العباس الصولي من قبل المتوكل إلى أهل حمص رسالة عجب المتوكل من حسنها و هي : أمّا بعد فإنّ الخليفة يرى من حق اللّه عليه بما قوّم به من أود و عدل به من زيغ و لمّ به من منتشر استعمال ثلاث يقدم بعضهن أمام بعض ، اولاهن ما يتقدم به من تنبيه و توقيف ثم ما يستظهر به من تحذير و تخويف ، ثم التي لا يقع حسم الداء بغيرها :

أناة فإن لم تغن عقّب بعدها

وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه ٢

« و لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقة لاعق » أي : لحس لا حس بالنسبة إلى أكل كامل .

في ( الأغاني ) : عن الشعبي أنّه أتى البصرة أيّام ابن الزبير فجلس في المسجد إلى قوم من تميم فيهم الأحنف بن قيس فتذاكروا أهل البصرة و أهل الكوفة و فاخروا بينهم ، فقال بصري : و هل أهل الكوفة إلاّ خولنا ؟

استنقذناهم من عبيدهم يعني الخوارج قال الشعبي : فهجس في صدري

ــــــــــــ

 ( ١ ) الصحاح ١ : ١٣٨ ، مادة : ( ركب ) .

 ( ٢ ) معجم الأباء لياقوت الحموي ١ : ١٨٦ ترجمة رقم ١٦ ، دار الفكر بيروت .

١٨٧

أن تمثلت قول أعشى همدان :

أ فخرتم أن قتلتم أعبدا

و هزمتم مرة آل عزل

نحن سقناهم إليكم عنوة

و جمعنا أمركم بعد شمل

فإذا فاخرتمونا فاذكروا

ما فعلنا بكم يوم الجمل

بين شيخ خاضب عثنونه

و فتى أبيض وضاح رفل

جاءنا يرفل في سابغة

فذبحناه ضحى ذبح الحمل

و عفونا فنسيتم عفونا

و كفرتم نعمة اللّه الأجل

فضحك الأحنف ، ثمّ قال : يا أهل البصرة قد فخر عليكم الشعبيّ و صدق و انتصف فأحسنوا مجالسته ١ .

« مع أنّي عارف لذي الطاعة منكم فضله و لذي النصيحة حقه » . قد عرفت أنّ في هذه المرّة كانت الأزد ذووا طاعة و رئيسهم صبرة بن سليمان الأزدي ذا نصيحة .

« غير متجاوز متّهما إلى بري‏ء و لا ناكثا إلى وفّي » فإنّ التجاوز عمل الجبابرة ، فكان زياد و ابن زياد و الحجّاج يأخذون البري‏ء بالسقيم و لا يراعون قوله تعالى : و لا تزروا وازرة وزر اخرى . . . ٢ .

و كان الحجاج أمر النّاس باللّحوق بالمهلب فقام اليشكري و قال : بي فتق رآه بشر بن مروان فعذرني . فأمر بقتله .

و مرّ في ( ١١ ) من الفصل التاسع في الملاحم قوله عليه السّلام « كنتم جند المرأة . . . » .

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأغاني ٦ : ٥٤ ٥٥ .

 ( ٢ ) فاطر : ١٨ .

١٨٨

الفصل الثاني و الثلاثون في القاسطين و ما يتعلق بصفين

١٨٩

١

الكتاب ( ٨ ) و من كتاب له عليه السّلام إلى جرير بن عبد اللّه البجليّ لمّا أرسله إلى معاوية :

أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ ؟ مُعَاوِيَةَ ؟ عَلَى اَلْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ اَلْجَزْمِ ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ فَإِنِ اِخْتَارَ اَلْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَ إِنِ اِخْتَارَ اَلسِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ اَلسَّلاَمُ أقول : رواه ( صفين نصر ) ١ و ( عقد ابن عبد ربّه ) ٢ ، و في الثاني : « و خيره بين حرب معضلة » في ( العقد ) : « مجلبه » رواه في عنوان اخبار على و معاوية .

قول المصنّف : « و من كتاب له عليه السّلام إلى جرير بن عبد اللّه البجلي » عدوه في الطوال ، ففي ( معارف ابن قتيبة ) يتفل في ذروة البعير من طوله ، و كانت

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٥ .

 ( ٢ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ٣ : ٨٠ .

١٩٠

نعله ذراعا ، و قال : اعتزل عليّا عليه السّلام و معاوية و أقام بالجزيرة و نواحيها حتى توفي بالشراة سنة ( ٥٤ ) .

« لمّا ارسله إلى معاوية » عن ( موفقيات ابن بكار ) : لمّا أرسله عليه السّلام أقام عند معاوية أربعة أشهر .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) ١ أنّ الأشتر منع عليّا عليه السّلام من إرسال جرير إلى معاوية ، و قال : هواه هواهم و نيّته نيّتهم . فقال عليه السّلام : دعه يتوجه فإن نصح كان ممّن أدّى أمانته ، و إن داهن كان عليه وزر من اؤتمن و لم يؤدّ الأمانة .

و ياويحهم مع من يميلون و يدعونني فو اللّه ما أردتهم إلاّ على إقامة الحقّ ، و لم يردهم غيري إلاّ على باطل .

هذا ، و في ( الأغاني ) ٢ : قال علي بن زيد : قال لي الحسن البصري : قول الشاعر :

لو لا جرير هلكت بجيله

نعم الفتى و بئست القبيله

أهجاه أم مدحه ؟ قلت : مدحه و هجا قومه . فقال : ما مدح من هجي قومه .

قوله عليه السّلام : « أما بعد ، فإذا اتاك كتابي ، فاحمل معاوية على الفصل و خذه بالأمر الجزم إلى قوله « فخذ بيعته » روى هذا الكتاب نصر بن مزاحم في ( صفينه ) ٣ ،

فقال : و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا : و كتب عليّ عليه السّلام إلى جرير بعد ذلك : أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فاحمل معاوية على الفصل ، و خذه بالأمر الجزم ، ثم خيّره بين حرب مجلية أو سلم محظية . فلمّا انتهى الكتاب إلى جرير ،

أتى معاوية فأقرأه الكتاب ، و قال له : إنّه لا يطبع على قلب إلاّ بذنب ، و لا ينشرح

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤ .

 ( ٢ ) الأغاني ٢١ : ٣٠٥ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٥ .

١٩١

إلاّ بتوبة ، و لا أظنّ قلبك إلاّ مطبوعا ، أراك قد وقفت بين الحق و الباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك . فقال معاوية : ألقاك بالفيصل أول مجلس . فلما بايعه أهل الشام ، قال : الحق بصاحبك . و كتب إليه بالحرب .

و قال نصر ١ أيضا : قال الشعبي إنّ عليّا عليه السّلام حين قدم من البصرة ، نزع جريرا عن همدان ، فأراد عليّ عليه السّلام أن يبعث إلى معاوية رسولا ، فقال له جرير :

ابعثني ، فإن معاوية لم يزل لي مستنصحا و وادا إلى أن قال قال عليه السّلام له : إيت معاوية بكتابي فإن دخل في ما دخل فيه المسلمون ، و إلاّ فانبذ إليه ، و اعلم أنّي لا أرضى به أميرا و أنّ العامة لا ترضى به خليفة . فانطلق حتى أتى الشام ،

و قال : يا معاوية إنّه قد اجتمع لابن عمّك أهل الحرمين ، و أهل المصرين ، و أهل الحجاز ، و أهل اليمن ، و أهل مصر ، و أهل العروض ، و عمان ، و أهل البحرين،

و اليمامة ، و لم يبق إلاّ هذه الحصون التي أنت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها إلى أن قال خطب معاوية و قال : أيها الناس قد علمتم أنّي خليفة عمر ، و أنّي خليفة عثمان ، و أنّي وليه و قد قتل مظلوما و اللّه يقول : و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليّه سلطانا فلا يسرف في القتل إنّه كان منصورا ٢ و أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان . فقاموا بأجمعهم ، و أجابوا إلى الطلب بدمه ، و بايعوه على ذلك.

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) ٣ : ذكروا أنّ معاوية قال لجرير : رأيت رأيا ، أكتب إلى علي أن يجعل لي الشام و مصر ، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة ، و أسلّم إليه هذا الأمر ، و أكتب إليه بالخلافة . قال جرير :

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٧ .

 ( ٢ ) الاسراء : ٣٣ .

 ( ٣ ) الخلفاء لابن قتيبة ١ : ٩٥ .

١٩٢

اكتب ما شئت . فكتب معاوية إليه عليه السّلام يسأله ذلك . و ذكروا أنّ عليّا عليه السّلام كتب إلى جرير . أما بعد ، فإن معاوية إنّما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة ،

و أن يختار من أمره ما أحب ، و قد كان المغيرة أشار عليّ و أنا بالمدينة أن أستعمله على الشام . فأبيت ذلك عليه ، و لم يكن اللّه ليراني أن أتخذ المضلّين عضدا ، فإن بايعك الرجل ، و إلاّ فأقبل .

ثمّ يظهر ممّا نقلنا من مستند الكتاب من خبر محمد و صالح أنّ كلمة ( هذا ) سقطت من المصنّف في قوله : « كتابي هذا » ، فالمقام يقتضيه ، و ان كلمة ( مخزية ) في كلامه مصحفة ( محظية ) و كيف تكون السلم مخزية و قد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِلم كافّة . . . ١ ؟ و في ( الصحاح ) : السلم : الصلح ، يفتح و يكسر ، و يذكر و يؤنث . و الحرب تؤنث ، و قال المبرد : قد تذكر ، و أنشد :

و هو إذا الحرب هفا عقابه

مرجم حرب تلتقي حرابه

هذا ، و مر في فصل عثمان قوله عليه السّلام : « إنّ استعدادي لحرب أهل الشام و جرير عندهم إغلاق للشام ، و صرف لأهله عن خير إن أرادوه ، و لكن قد وقت لجرير وقتا لا يقيم بعده إلاّ مخدوعا أو عاصيا ، و الرأي عندي مع الأناة ،

فارودوا و لا أكره لكم الاعداد ، و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه ، و قلّبت ظهره و بطنه ، فلم أرلي إلاّ القتال أو الكفر » مع شرحه .

٢

الخطبة ( ٤٨ ) و من خطبة له عليه السّلام عند المسير إلى الشام :

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لاَحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ

ــــــــــــ

 ( ١ ) البقرة : ٢٠٨ .

١٩٣

وَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ اَلْإِنْعَامِ وَ لاَ مُكَافَإِ اَلْإِفْضَالِ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا اَلْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ اَلنُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ مُوَطِّنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ اَلْقُوَّةِ لَكُمْ قال ١ الشريف : أقول : يعني عليه السّلام بالملطاط السمت الذي أمرهم بنزوله ،

و هو شاطى‏ء الفرات ، و يقال : ذلك الشاطى‏ء البحر ، و أصله ما استوى من الأرض .

و يعني بالنطفة ماء الفرات ، و هو من غريب العبارات و أعجبها . قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام عند المسير الى الشام » هكذا في ( المصرية ) ٢ ، و يصدقه ابن ميثم ٣ ، و لكن ابن أبي الحديد ٤ بدل « خطبة » بقوله : « كلام » و ليس بصواب ، حيث إنّه قال بعد : و هذه الخطبة خطب عليه السّلام بها و هو بالنخيلة ، خارجا من الكوفة متوجها الى صفّين ، لخمس بقين من شوال ،

ذكرها جمع من أهل السير ، و زادوا في الخطبة : « و قد أمّرت على المصر عقبة بن عمرو ، و لم آلكم و لا نفسي ، فإيّاكم و التخلّف و التربّص ، فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي ، و أمرته : ألا يترك متخلفا إلاّ لحقه بكم عاجلا .

و روى نصر بن مزاحم ٥ عوض قوله : « إلى عدوّكم » . « إلى عدوّ اللّه » .

قال نصر : فقام إليه معقل بن قيس الرياحي ، فقال له عليه السّلام : ما يتخلّف عنك إلاّ ظنين ، و لا يتربص بك إلاّ منافق ، فمر مالك بن حبيب يضرب أعناق المتخلفين .

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠١ .

 ( ٢ ) الطبعة المصرية : ٩٣ الخطبة ٤٨ .

 ( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ .

 ( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠١ .

 ( ٥ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٣٢ .

١٩٤

فقال عليه السّلام : قد أمرته بأمري و ليس بمقصر إن شاء اللّه .

قلت : المستفاد من ( صفين ١ نصر بن مزاحم ) أنّه عليه السّلام انما خطب وقت خروجه من النخيلة من العنوان بقوله : « الحمد للّه غير مفقود الانعام . . . » و أما قوله عليه السّلام في صدرها : « الحمد للّه كلّما وقب ليل و غسق ، و الحمد للّه كلّما لاح نجم و خفق » ، فكان بعد شخوصه عليه السّلام من النخيلة و نزوله على شاطى‏ء البرس،

بين حمام أبي بردة و حمام عمر بعد صلاته عليه السّلام المغرب بالناس . قال نصر:

فلما انصرف من الصلاة قال : « الحمد للّه الذي يولج الليل في النهار . و يولج النهار في الليل الحمد للّه كلّما وقب ليل و غسق ، و الحمد للّه كلّما لاح نجم و خفق » ثم أقام حتّى صلّى الغداة .

و قول ابن أبي الحديد ٢ : « لخمس بقين » مصحف : « لخمس مضين » .

فكذا في ( صفين نصر ) ٣ .

و كيف كان ، فقال نصر : لما أراد عليّ عليه السّلام الشخوص قام مالك بن حبيب و هو على شرطه فقال : أتخرج يا أمير المؤمنين بالمسلمين فتصيبوا أجر الجهاد و القتال و تخلفني في حشر الرجال ؟ فقال عليه السّلام له : إنّهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلاّ كنت شريكهم فيه ، و أنت هاهنا أعظم عناء منك عنهم لو كنت معهم . فقال : سمعا و طاعة.

قوله عليه السّلام : « الحمد للّه كلّما وقب ليل » أي : دخل .

« و غسق » أي : أظلم .

« و الحمد للّه كلّما لاح نجم » أي : طلع .

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٣١ .

 ( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠١ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٣١ .

١٩٥

« و خفق » أي : غرب ، يقال : وردت خفوق النجم . أي : وقت غروب الثريا .

قال ابن السكيت : الخافقان افقا المشرق و المغرب ، لأن الليل و النهار يخفقان فيهما .

« و الحمد للّه غير مفقود الإنعام » على كلّ أحد عامّا و خاصّا .

« و لا مكافأ الإفضال » و كيف يكافأ أي : يجازى إفضاله ، و القيام في عبادته بحوله و قوته و توفيقه و الإنفاق في سبيله من ماله ؟

« أمّا بعد فقد بعثت مقدّمتي » بعثهم عليه السّلام من النخيلة ، و هم زياد بن النضر في ستة آلاف ، و شريح بن هاني في ستة آلاف ، و قال لهما كما في ( الطوال للدينوري ) ١ : اعلما أن مقدّمة القوم عيونهم ، و عيون المقدّمة طلائعهم ،

فإياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع ، و لا تسيرا بالكتائب و القبائل من لدن مسيركما الى نزولكما إلاّ بتعبية و حذر .

« و أمرتهم بلزوم هذا الملطاط » أي : شاطى‏ء الفرات .

« حتى يأتيهم أمري » في ( الطبري ) ٢ : قد كان زياد بن النضر و شريح بن هاني و كان علي عليه السّلام سرحهما مقدّمة له أخذا على شاطى‏ء الفرات من قبل البر مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات ، فبلغهما أخذ علي عليه السّلام طريق الجزيرة ،

و على أنّ معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله ، فقالا : و اللّه ما هذا برأي أن نسير و بيننا و بين أمير المؤمنين عليه السّلام هذا البحر ، و مالنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلّة من العدد ، منقطعين عن المدد . فذهبوا ليعبروا من عانات ، فمنعهم أهلها و حبسوا عنهم السفن ، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ، و لحقوا عليّا عليه السّلام بقرية دون قرقيا ، فلمّا لحقوا عليّا عليه السّلام عجب و قال :

ــــــــــــ

 ( ١ ) الطوال للدينوري : ١٦٦ .

 ( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٦٦ .

١٩٦

مقدّمتي تأتي من ورائي فقال له زياد و شريح ما جرى ؟ فقال : قد أصبتما رشدكما . فلما عبروا الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية ، فلقيهما أبو الأعور السلمي في جنود من الشام و هو على مقدّمة معاوية ، فدعواه إليه عليه السّلام ، فأبى فكتبا إليه بذلك .

« و قد أردت » هكذا في ( المصرية ) ١ و الصواب : ( و قد رأيت ) كما في ( ابن أبي الحديد ٢ و ابن ميثم ٣ و الخطية ) .

« ان اقطع هذه النطفة » و الأصل فيها : الماء الصافي ، قلّ أو كثر ، و المراد :

ماء الفرات .

« الى شرذمة » أي : طائفة .

« منكم موطنين أكناف » أي : جوانب .

« دجلة فأنهضهم » أي : أشخصهم و أقيمهم .

« معكم الى عدوكم و أجعلهم من إمداد » بالكسر ، من : أمددت الجيش بمدد،

و أمّا الأمداد بالفتح ، فجمع المدّ بالضم : ربع الصاع . و قال ابن أبي الحديد :

و الإمداد جمع مدد . و هو كما ترى .

« القوه لكم » ثم الظاهر أنّ المراد ( بشرذمة منهم موطنين أكناف دجلة ) :

أهل المدائن ، فروى نصر بن مزاحم ٤ : أنّه عليه السّلام لما انتهى إليها ، أمر الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين صلاة العصر . فوافوه في تلك الساعة ، فقال عليه السّلام لهم : إني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم ، و انقطاعكم عن أهل مصركم ، في هذه المساكن الظالم

ــــــــــــ

 ( ١ ) الطبعة المصرية : ٩٣ الخطبة ٤٨ .

 ( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠٠ .

 ( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ ، و فيه أيضا : « و قد أردت » .

 ( ٤ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٤٣ .

١٩٧

أهلها . لا معروف تأمرون به و لا منكر تنهون عنه . فقالوا : كنّا ننتظر أمرك ،

مرنا بما أحببت . فسار و خلّف عليهم عدي بن حاتم ، فأقام عليهم ثلاثا ثم خرج إليه عليه السّلام في ثمانمائة رجل منهم ، و خلّف عدي ابنه زيدا فلحقه عليه السّلام في أربعمائة رجل منهم .

قول المصنّف : « قال الشريف » هكذا في ( المصرية ) ١ و لكن في ( ابن أبي الحديد ) : ( قال الرضي ) و في ( ابن ميثم ) ٢ : ( قال السيد ) و هذا دليل على أنّ أحدا منها ليس كلام المصنّف .

« أقول » هكذا في ( المصرية ) و هو زائد فليس في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٣ و الخطية ) .

« يعني عليه السّلام بالملطاط » هكذا في ( المصرية ) و فيها سقط ، و الاصل :

« يعني عليه السّلام بالملطاط هاهنا » كما في ابن ( أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) و انما قال : هاهنا لأنّه يأتي في بعض المواضع بمعنى جلدة الرأس . قال الراجز :

« ننتزع العينين بالملطاط »

« السمت الذي أمرهم بنزوله » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( بلزومه ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٤ و الخطية ) .

« و هو شاطى‏ء » أي : جانب .

« الفرات » و هو أحد نهري العراق .

« و يقال ذلك » أي : الملطاط .

« لشاطى‏ء البحر » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( أيضا لشاطى‏ء البحر )

ــــــــــــ

 ( ١ ) الطبعة المصرية : ٩٤ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ و ليس فيه : « هاهنا » .

 ( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ و فيه : « قال الشريف : أقول » .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ .

١٩٨

كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ١ و الخطية ) ، و المراد : أن الملطاط لا يختص بشاطى‏ء النهر ، بل يقال لشاطى‏ء البحر أيضا .

و قول ابن أبي الحديد ٢ : « لا معنى لقوله ، لأنّه لا فرق بين شاطى‏ء الفرات و شاطى‏ء البحر » بلا معنى ففرق النهر و البحر واضح ، و من الغريب أنّه عبر أولا بما في ( الصحاح ) غير ناسب إليه : الملطاط حافة الوادي و شفيره و ساحل البحر ، قال رؤبة :

نحن جمعنا الناس بالملطاط .

قال الأصمعي : يعني به ساحل البحر . و قال ابن مسعود : هذا الملطاط طريقة بقية المؤمنين هرابا من الدجال يعني به شاطى‏ء الفرات .

ثمّ اعترض على المصنّف بما مرّ ، مع أنّه عين كلام المصنّف باختلاف لفظ ، فمحصل كلام ( الصحاح ) أن الملطاط يأتي بمعنى حافة الوادي ، أي :

شاطى‏ء النهر ، و شاهده حديث ابن مسعود ، و بمعنى شاطى‏ء البحر ، و شاهده بيت رؤبة ، فاذا لم يتدبر في كلام ( الصحاح ) الذي جعله من إنشائه لا غرو ألاّ يتدبر في كلام المصنّف .

كما ان قول ابن أبي الحديد ٣ : « و كان الواجب على المصنّف أن يقول :

الملطاط السمت في الأرض ، و يقال أيضا لشاطى‏ء البحر » غلط فلم يقل أحد : إنّ الملطاط مطلق السمت .

« و أصله ما استوى من الأرض » بمعنى أنّه يجمع الشاطئين ، و في ( الجمهرة ) : « الملطاط : الغائط من الأرض المطمئن » .

« و يعني عليه السّلام بالنطفة ماء الفرات و هو من غريب العبارات و أعجبها »

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ و ليس فيه كلمة : « أيضا » .

 ( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠١ .

 ( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٠١ .

١٩٩

هكذا في ( المصرية ) ١ ، و الصواب : ( و عجيبها ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٢ و الخطية ) .

٣

الكتاب ( ١٠ ) و من كلام له عليه السّلام إليه أيضا :

وَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلاَبِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا وَ إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لاَ يُنْجِيكَ مِنْهُ مِجَنٌّ فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ وَ خُذْ أُهْبَةَ اَلْحِسَابِ وَ شَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ وَ لاَ تُمَكِّنِ اَلْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ وَ إِلاَّ تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ اَلشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجْرَى اَلرُّوحِ وَ اَلدَّمِ وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا ؟ مُعَاوِيَةُ ؟ سَاسَةَ اَلرَّعِيَّةِ وَ وُلاَةَ أَمْرِ اَلْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ اَلشَّقَاءِ وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ اَلْأُمْنِيِّةِ مُخْتَلِفَ اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى اَلْحَرْبِ فَدَعِ اَلنَّاسَ جَانِباً وَ اُخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْقِتَالِ لِيُعْلَمَ أَيُّنَا اَلْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ اَلْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا ؟ أَبُو حَسَنٍ ؟ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً ؟ يَوْمَ بَدْرٍ ؟ وَ ذَلِكَ اَلسَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ اَلْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اِسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لاَ اِسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى اَلْمِنْهَاجِ اَلَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ

ــــــــــــ

 ( ١ ) الطبعة المصرية : ٩٤ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٢٥ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617