• البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76131 / تحميل: 3382
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 10

مؤلف:
العربية

أقول : رواه نصر بن مزاحم ١ إلى قوله : « و قد دعوت إلى الحرب . . . » مع اختلاف و زيادة و نقصان ، فقال في سياق كتبه عليه السّلام الى معاوية من الكوفة :

و كتب علي عليه السّلام الى معاوية : « أمّا بعد ، فإنك قد رأيت مرور الدنيا و انقضاءها و تصرّمها بأهلها ، و خير ما اكتسب من الدنيا ما أصابه العباد الصالحون منها من التقوى ، و من يقس الدنيا بالآخرة يجد بينهما بونا بعيدا ، و اعلم يا معاوية أنّك قد ادّعيت أمرا لست من أهله لا في القدم و لا في الحدث ، و لست تقول فيه بأمر بيّن تعرف لك به أثر ، و لا لك عليه شاهد من كتاب اللّه ، و لا عهد تدّعيه ،

فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد فتنت بزينتها ، و ركنت الى لذتها و خلي بينك و بين عدوك فيها ، و هو عدوّ كلب مضلّ جاهد ملح مع ما قد ثبت في نفسك من جهتها ؟ دعتك فأجبتها ، و قادتك فاتبعتها ، و أمرتك فأطعتها ، فاقعس عند هذا الأمر ، و خذ أهبة الحساب ، فإنّه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجن . و متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية أو ولاة أمر هذه الامة ، بلا قدم حسن ، و لا شرف سابق على قومكم ؟

فاستيقظ من سنتك و ارجع الى خالقك ، و شمّر لما سينزل بك ، و لا تمكّن عدوّك الشيطان من بغية فيك . مع أنّي أعرف أنّ اللّه و رسوله صادقان ، نعوذ باللّه من لزوم سابق الشقاء ، و إلا تفعل فإني أعلمك ما أغفلت من نفسك : إنّك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه فجرى منك مجرى الدم في العروق ، و لست من أئمة هذه الامة و لا من رعاتها . و اعلم أنّ هذا الأمر لو كان الى الناس أو بأيديهم ،

لحسدونا و امتنوا به علينا ، و لكنه قضاء ممّن منحناه و اختصنا به على لسان نبيّه الصادق المصدّق . لا أفلح من شك بعد العرفان و البيّنة . ربّنا احكم بيننا و بين عدوّنا بالحقّ و أنت خير الحاكمين .

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٠٨ .

٢٠١

و امّا قوله عليه السّلام : « فدع الناس جانبا الى قوله و بذلك القلب القى عدوي » فرواه المدائني مستقلاّ . و كيف يكون جزء ذاك الصدر ، و ذاك عرفت كتبه عليه السّلام من الكوفة ، و هذا قاله له في صفين كما سترى ؟

و كيف كان ، فنقل العنوان عن ( تاريخ دمشق ابن عساكر ) ١ في ترجمة معاوية عن الكلبي و لم يحقق الناقل مقداره .

قول المصنّف : « و من كتاب له عليه السّلام إليه أيضا » و الصواب : ( إلى معاوية أيضا ) كما في ( ابن ميثم ) ٢ ، و كذا في ( ابن أبي الحديد ) ٣ .

قوله عليه السّلام « و كيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب » أي : ملاحف .

« ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها و خدعت بلذتها » و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنّهم كانوا في شكّ مريب ٤ .

« دعتك فأجبتها و قادتك فاتبعتها و أمرتك فأطعتها » يوم يتذكّر الانسان ما سعى . و برّزت الجحيم لمن يرى . فأمّا من طغى . و آثر الحياة الدنيا . فإنّ الجحيم هي المأوى ٥.

« و انّه يوشك » أي : يقرب .

« أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه مجن » هكذا في ( المصرية ) ٦ ، و في ( ابن أبي الحديد ) ٧ : « منج » . و قال : و في رواية « مجن » . و الاولى أصح . و مثله

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ دمشق لابن عساكر ٢٥ : ٣٢ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٣٧٠ .

 ( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٧٩ .

 ( ٤ ) سبأ : ٥٤ .

 ( ٥ ) النازعات : ٣٥ ٣٩ .

 ( ٦ ) الطبعة المصرية ١٠ : ١٢ .

 ( ٧ ) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٧٩ .

٢٠٢

( ابن ميثم ) ١ إلاّ أنّه جعل « منج » رواية .

و كيف كان ، فالمجن هو الجنّة ، قال تعالى فليس له اليوم هاهنا حميم ٢ .

« فاقعس » أي : تأخر .

« عن هذا الأمر و خذ اهبة الحساب » أي : استعداده و تهيئته ، قال تعالى :

اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ٣ .

« و شمّر » أي : جدّ و خفّ ، كمن شمّر عن ساقه ، قال : قد شمرت عن ساق شمري.

« لما قد نزل بك » من أمر الآخرة .

« و لا تمكّن الغواة من سمعك » فكان كذلك ، فأشار عليه المغيرة باستلحاق زياد و باستخلاف يزيد ، ففعل .

« و الا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك فإنّك مترف » و قد وصف تعالى المترفين في قوله : و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال . في سموم و حميم . و ظلّ من يحموم . لا بارد و لا كريم . إنّهم كانوا قبل ذلك مترفين .

و كانوا يصرون على الحنث العظيم ٤ و اذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرّناها تدميرا ٥ .

« قد أخذ الشيطان منك مأخذه و بلغ فيك أمله » . . . إنّا جعلنا الشياطين

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٣٧٠ .

 ( ٢ ) الحاقة : ٣٥ .

 ( ٣ ) الاسراء : ١٤ .

 ( ٤ ) الواقعة : ٤١ ٤٦ .

 ( ٥ ) الاسراء : ١٦ .

٢٠٣

أولياء للذين لا يؤمنون ١ .

« و جرى منك مجرى الروح و الدّم » و كان عمر يمدحه بترفه و شيطانيته ،

ففي ( الاستيعاب ) ٢ : ذمّ معاوية عند عمر يوما فقال : دعونا من ذمّ فتى قريش،

من يضحك في الغضب ، و لا ينال ما عنده إلاّ على الرضا ، و لا يأخذ ما فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه .

« و متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية و ولاة أمر الامة بغير قدم سابق » في ( مروج المسعودي ) : حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي و ابن الكواء اليشكري و رجالا من أصحاب علي عليه السّلام مع رجال من قريش ، فقال : نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقّا و صدقا ، أيّ الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكواء : لو لا أنّك عزمت علينا ما قلنا ، لأنّك جبّار عنيد ، لا تراقب اللّه في قتل الأخيار ، و لكنّا نقول :

إنّك ما علمنا : واسع الدنيا ، ضيّق الآخرة ، قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نورا و النور ظلمات الى أن قال ثم تكلّم صعصعة فقال : تكلمت يا بن أبي سفيان فأبلغت ، و لم تقصر عمّا أردت ، و ليس الأمر على ما ذكرت . أنّى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، و دانهم كبرا و استولى بأسباب الباطل كذبا و مكرا ؟ أما و اللّه مالك في يوم بدر مضرب و لا مرمى ، و ما كنت فيه إلاّ كما قال القائل : لا حلى و لا سيرى . و لقد كنت أنت و أبوك في العير و النفير ممن أجلب على النبي صلّى اللّه عليه و آله . و انما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكم النبي ، فأنّى تصلح الخلافة لطليق ٣ ؟

و فيه أيضا : قال معاوية لصعصعة : أنت ذو معرفة بالعرب الى أن

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأعراف : ٢٧ .

 ( ٢ ) الاستيعاب ٣ : ٣٩٧ .

 ( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٥٠ .

٢٠٤

قال و اخبرني عن أهل الحجاز . قال : أسرع الناس فتنة ، و أضعفهم عنها ،

و أقلّهم غناء فيها ، غير أنّ لهم ثباتا في الدين ، و تمسّكا بعروة اليقين ، يتّبعون الأئمة الأبرار و يخلعون الفسقة الفجّار . فقال معاوية : من البررة و الفسقة ؟

فقال : يابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع . عليّ و أصحابه من الأئمة الأبرار ، و أنت و أصحابك من اولئك الفسقة الفجّار » ١ .

« و لا شرف باسق » أي : طويل . و منه قوله تعالى : و النخل باسقات . . . ٢ .

و قال الشاعر :

و اذا ما الناس عدّوا شرفا

كنتم من ذاك في مال رخي

و في ( صفين نصر ) ٣ : جمع معاوية كلّ قرشيّ بالشام و قال لهم : ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول به لسانه غدا ، فما بالكم ؟ و أين حمية قريش ؟ فغضب الوليد بن عقبة فقال : و أيّ فعال تريد ؟ و اللّه ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غنانا باللسان و لا باليد . فقال معاوية : إنّ اولئك وقوا عليّا بأنفسهم . قال الوليد : كلا بل عليّ وقاهم بنفسه . قال معاوية :

ويحكم أما منكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة أو مفاخرة ؟ فقال مروان : أما البراز فان عليّا لا يأذن لحسن و لا لحسين و لا لمحمد بنيه ، و لا لابن عباس و اخوته و يصلى هو بالحرب دونهم فلأيهم نبارز ؟ و أما المفاخرة فبماذا نفاخرهم ؟ أبا لاسلام ؟ أم بالجاهلية ؟ فإن كان بالاسلام فالفخر لهم بالنبوّة ،

و إن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن ، فإن قلنا : قريش قالت العرب . فأقرّوا لبني عبد المطلب .

ــــــــــــ

 ( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٥١ .

 ( ٢ ) ق : ١٠ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٦٢ .

٢٠٥

« و نعوذ باللّه من لزوم سوابق الشقاء » أ لم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون . قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا و كنّا قوما ضالّين . ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون . قال اخسؤا فيها و لا تكلمون ١ .

و في ( صفين نصر ) ٢ مسندا عن ابن عمر قال : أرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله الى معاوية يدعوه ، فجاء الرسول فقال : هو يأكل . فأعاد عليه الثانية و الثالثة و يقول الرسول : هو يأكل . فقال : لا أشبع اللّه بطنه . و نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله يوما إلى أبي سفيان و هو راكب و معاوية و أخوه ، أحدهما قائد و الآخر سائق ، فلما نظر إليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله قال : اللّهم العن القائد و السائق و الراكب .

« و احذرك أن تكون متماديا » أي : مادا الى المدى و الغاية .

« في غرّة الامنية » أي : الأمل و الهوى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ٣ .

« مختلف العلانية و السريرة » منافقا .

« و قد دعوت الى الحرب فدع الناس جانبا و اخرج إلي و أعف الفريقين من القتال ليعلم أينا المرين على قلبه » في ( الصحاح ) : قال أبو عبيدة في قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ٤ : أي : غلب ، و كلّ ما غلبك فقد ران بك و رانك و ران عليك .

« و المغطى على بصره » في ( صفين نصر ) ٥ : قام علي عليه السّلام بين الصفين ثم نادى يا معاوية يكررها فقال : اسألوه ما شأنه ؟ قال : أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة ، فبرز و معه عمرو بن العاص ، فلمّا قارباه لم يلتفت الى

ــــــــــــ

 ( ١ ) المؤمنون : ١٠٥ ١٠٨ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٢٠ .

 ( ٣ ) الجاثية : ٢٣ .

 ( ٤ ) المطفّفين : ١٤ .

 ( ٥ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٧٤ .

٢٠٦

عمرو و قال : ويحك علام يقتل الناس بيني و بينك ، و يضرب بعضهم بعضا ؟

ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له . فالتفت معاوية الى عمرو فقال : ما ترى ابارزه ؟ فقال عمرو : لقد أنصفك ، و إن نكلت عنه لم تزل سبّة عليك و على عقبك ما بقي عربي . فقال معاوية : ليس مثلي يخدع عن نفسه . و اللّه ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلاّ سقى الأرض من دمه . ثم انصرف راجعا حتى انتهى الى آخر الصفوف .

و فيه عن الشعبي ١ قال : أرسل علي عليه السّلام الى معاوية : أن ابرز إليّ و أعف الفريقين عن القتال ، فأيّنا قتل صاحبه كان الأمر له . قال عمرو : لقد أنصفك الرجل . فقال معاوية : إنّي لأكره أن ابارز الأهوج الشجاع . لعلّك طمعت فيها يا عمرو ؟ فقال عليّ عليه السّلام : وانفساه أيطاع معاوية و اعصى ؟ ما قاتلت امة أهل بيت نبيّها و مقرة بنيها إلاّ هذه الامة .

و ذكروا أنّ معاوية قال يوما بعد صفين لعمرو بن العاص : أيّنا أدهى ؟

قال : أنا للبديهة و أنت للروية . قال معاوية : قضيت لي على نفسك في الروية،

و أنا أدهى منك في البديهة أيضا ، قال عمرو : فأين كان دهاؤك يوم رفعت المصاحف ؟ قال معاوية : بها غلبتني ، أفلا أسألك عن شي‏ء تصدقني فيه ؟ قال عمرو : و اللّه إنّ الكذب لقبيح فاسأل عمّا بدا لك اصدقك . قال : هل غششتني منذ نصحتني ؟ قال : لا . قال : بلى و اللّه لقد غششتني . أما إني لا أقول في كلّ المواطن ،

و لكن في موطن واحد . قال : و أي موطن ؟ قال : يوم دعاني عليّ للمبارزة فأشرت عليّ بمبارزته ، و أنت تعلم من هو ، قال : إنّما دعاك رجل عظيم الشرف فكنت من مبارزته على إحدى الحسنيين . إمّا أن تقتله فتكون قد قتلت قتّال الأقران ، و تزاد به شرفا إلى شرفك و تخلو بملكك ، و إمّا ان كان قتلك فكنت

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٨٧ .

٢٠٧

تجعل الى مرافقة الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا . فقال معاوية : هذه شرّ من الاولى . و اللّه إني أعلم أن لو قتلته دخلت النار ، و لو قتلني دخلت النار .

قال عمرو : فما حملك على قتاله ؟ قال : الملك ، و الملك عقيم ، و لن يسمعها مني أحد بعدك .

و في ( المروج ) ١ : لما قتل العباس بن ربيعة الهاشمي رجلا من شجعان الشام تأسف معاوية عليه و قال : من قتل العباس فله مائة اوقية من التبر ،

و مائة اوقية من اللجين ، و مائة برد . فانتدب له لخميان و دعواه الى البراز ،

فقال علي عليه السّلام : يود معاوية أنّه ما بقى من بني هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في بطنه إطفاء لنور اللّه و يأبى اللّه إلاّ أن يتم نوره ٢ ، أما و اللّه ليملكنّهم منّا رجال يسومونهم سوء الخسف حتى تعفو الآثار . و أخذ عليه السّلام سلاح العباس و وثب على فرسه ، فلم يمهلهما أن قتلهما ، فقال معاوية : قبح اللّه اللجاج إنّه لعقور ، ما ركبته قط إلاّ خذلت . فقال عمرو : المخذول و اللّه اللخميان . فقال معاوية : اسكت أيها الرجل . فقال عمرو : و إن لم يكن رحم اللّه اللخمين ، و لا أراه يفعل . فقال معاوية : ذلك أضيق لحجتك و أخسر لصفتك . قال : قد علمت ذلك و لو لا مصر لركبت المنجاة ، فإني أعلم أنّ عليّا على الحق و أنا على الباطل .

فقال معاوية : مصر و اللّه أعمتك . و لو لا مصر لألفيتك بعيرا . ثم ضحك معاوية ضحكا ذهب به كلّ مذهب ، قال عمرو : مم تضحك ؟ قال معاوية : أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليّا و ابدائك سوأتك . أما و اللّه لقد رأيت الموت عيانا ، و لو شاء ابن أبي طالب لقتلك ، و لكنّه أبى إلاّ تكرّما . فقال عمرو : أما و اللّه إنّي لعن يمينك حين دعاك عليّ الى البراز ، فاحولت عيناك و بدا سحرك ، و بدا

ــــــــــــ

 ( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٢٨ .

 ( ٢ ) التوبة : ٣٢ .

٢٠٨

منك ما أكره ذكره ، فأضحك أو دع .

و في ( صفين نصر ) ١ : غلس علي عليه السّلام يوما بصلاة الصبح بالناس ، ثم زحف بهم الى أهل الشام . فقام أبرهة الحميري و كان من رؤساء أصحاب معاوية فقال : يا معشر أهل اليمن ، إنّي لأظن و اللّه أنّ اللّه قد أذن بفنائكم ،

و يحكم خلّوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيّهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا .

فبلغ ذلك عليّا عليه السّلام فقال : صدق أبرهة ، و و اللّه ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشدّ سرورا مني بهذه . و بلغ كلام أبرهة معاوية ، فتأخّر آخر الصفوف و قال لمن حوله : إنّي لأظن أبرهة مصابا في عقله . فأقبل أهل الشام يقولون : و اللّه لأبرهة أفضلنا رأيا و دينا ، و لكن كره معاوية مبارزة علي . و برز يومئذ عروة بن داود الدمشقي ، فقال : يا أبا الحسن ، إن كان معاوية يكره مبارزتك فهلمّ إليّ فتقدّم عليه السّلام إليه ، فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنّه ليس بخطر . فقال عليه السّلام و اللّه ما معاوية اليوم بأغلظ لي منه ، دعوني و إيّاه . ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت احداهما يمنة و الاخرى يسرة ، فارتج العسكران لهول الضربة ، ثم قال عليه السّلام : يا عروة اذهب فأخبر قومك ، أما و الذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالحق لقد عاينت النار و أصبحت من النادمين .

« فأنا أبو الحسن قاتل جدك و خالك و أخيك شدخا » في ( الصحاح ) الشدخ:

كسر الشي‏ء الأجوف .

و في ( الأساس ) : شدخ الشي‏ء الأجوف أو الرخص . اذا كسره أو غمزه .

و يقال شدخ الرأس و الحنظل . و من المجاز شدخ دماءهم تحت قدمه . أي :

أبطلها .

و منه قيل ليعمر بن الملوّح الذي حكم بين خزاعة و قصي حين اقتتلوا ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٥٧ .

٢٠٩

فأبطل دماء خزاعة ، و قضى بالبيت لقصي : الشدّاخ ، و له يقول قصي :

اذا خطرت بنو الشدّاخ حولي

و مد البحر من ليث بن بكر

« يوم بدر » أمّا أخوه حنظلة و خاله الوليد بن عقبة فقتلهما عليه السّلام منفردا،

و أمّا جدّه عتبة فقتله عليه السّلام بمشاركة عبيدة بن الحارث على الأصح ، من كون المقابل لعبيدة عتبة ، كما نقله الطبري ١ عن محمد بن إسحاق دون ما رواه الواقدي من استقلال حمزة بقتل عتبة و مشاركته عليه السّلام لعبيدة في قتل شيبة عمّ أمّه ، فكلامه عليه السّلام في هذا الكتاب و في الكتاب ( ٦٤ ) : « و عندي السيف الذي أعضضته بجدّك و خالك و أخيك في مقام واحد » يصدق الرواية الاولى .

و يشهد له أيضا قول هند في رثاء أبيها عتبة :

تداعى له رهطه غدوة

بنو هاشم و بنو المطلب

فبنو هاشم هو عليه السّلام ، و بنو المطلب عبيدة ، و لو كان حمزة قتله منفردا لما كان لبني المطلب فيه شركة .

و كيف كان ، فشيبة أيضا قتل في بدر ، قتله حمزة أو قتله عبيدة بمشاركته عليه السّلام .

و أمّا من قال مشيرا إلى هند :

فإن تفخر بحمزة يوم ولّى

مع الشهداء محتسبا شهيدا

فإنّا قد قتلنا يوم بدر

أبا جهل و عتبة و الوليدا

و شيبة قد تركنا يوم احد

على أثوابه علقا جسيدا

فوهم من قائله ، لعدم اطّلاعه بالتاريخ ، و ضلّ ابن طلحة الشافعي في ( مطالب سؤوله ) : فنسب الأبيات إليه عليه السّلام ، و لم يتفطن البحار ٢ فنقل

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٤٥ ٤٤٦ .

 ( ٢ ) البحار ٢٠ : ١١٨ ١١٩ .

٢١٠

ما فيه مقررا له .

و كيف كان فقال أسيد بن إياس في فعله عليه السّلام ببدر بهم محرّضا لهم عليه :

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جذع ابر على المذاكي القرح

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم

ذبحا و قتلا قعصة لم يذبح

أفناكم قعصا و ضربا يعتري

بالسيف يعمل حدّه لم يصفح

« و ذلك السيف معي » في ( صفين نصر ) ١ : خطب عليّ عليه السّلام في صفّين ،

فقال : و الذي نفسي بيده لنظر إليّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أضرب قدامه بسيفي ، فقال :

لا سيف إلاّ ذو الفقا

ر و لا فتى إلاّ عليّ

« و بذلك القلب القى عدوي » في ( الطبري ) ٢ : لمّا قتل عليّ عليه السّلام أصحاب الألوية في احد أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي عليه السّلام :

احمل عليهم . فحمل عليهم ففرّق جمعهم ، و قتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي ، ثم أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله جماعة من مشركي قريش ، فقال لعلي عليه السّلام : احمل عليهم .

فحمل عليهم ففرّق جماعتهم ، و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي ، فقال جبرئيل : يا رسول اللّه ، إنّ هذه للمواساة . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله : إنّه منّي و أنا منه .

فقال جبرئيل : و أنا منكما . فسمعوا صوتا :

لا سيف إلاّ ذو الفقا

ر و لا فتى إلاّ علي

« ما استبدلت دينا و لا استحدثت نبيا ، و إنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعين و دخلتم فيه مكرهين » في ( صفين نصر ) ٣ : قال عمّار : و اللّه ما أسلم

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣١٣ و ٣١٥ .

 ( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ٥١٤ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٥ .

٢١١

القوم ، و لكن استسلموا و أسرّوا الكفر ، حتّى وجدوا عليه أعوانا .

و فيه ١ : عن شاميّ قال : لمّا رأيت معاوية يبايع عند باب لد ، ذكرت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله : « شرّ خلق اللّه خمسة : إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني إسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامة يبايع على كفره عند باب لد » فلحقت بعليّ عليه السّلام فكنت معه .

و فيه ٢ : خطب عليّ عليه السّلام في صفين ، و قال : و إنّ من أعجب العجائب : أنّ معاوية و عمرو بن العاص أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما ،

و ايم اللّه ما اختلفت امّة قطّ بعد نبيّها إلاّ ظهر باطلها على أهل حقّها ، إلاّ ما شاء .

فقال عمّار : أمّا أمير المؤمنين عليه السّلام فقد أعلمكم أنّ الامّة لن تستقيم عليه . ثم تفرّق الناس و قد نفذت بصائرهم .

و فيه ٣ قيل لعلي عليه السّلام حين أراد أن يكتب الكتاب بينه و بين معاوية و أهل الشام : أتقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال : ما أقرّ لمعاوية و لا لأصحابه أنّهم مؤمنون و لا مسلمون ، و لكن يكتب ما شاء ، و يسمّي نفسه و أصحابه ما شاء .

و فيه ٤ : جاء رجل الى عليّ عليه السّلام فقال : هؤلاء الذين نقتلهم ، الدعوة واحدة فبم نسمّيهم ؟ قال عليه السّلام : بما سمّاهم اللّه في كتابه . أ ما سمعت اللّه يقول :

تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض الى و لو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٧ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٢٣ و ٢٢٤ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٠٩ .

 ( ٤ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٢٢ .

٢١٢

كفر . . . ١ فلما وقع الاختلاف كنّا نحن أولى باللّه و بالكتاب و بالنبي و بالحق،

فنحن الذين آمنوا ، و هم الذين كفروا و شاء اللّه قتالهم ، فقاتلناهم هدى بمشية اللّه ربنا و إرادته .

٤

الخطبة ( ٥١ ) و من خطبة له عليه السّلام لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على شريعة الفرات بصفّين و منعوهم من الماء :

قَدِ اِسْتَطْعَمُوكُمُ اَلْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا اَلسُّيُوفَ مِنَ اَلدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ اَلْمَاءِ فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَ اَلْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ أَلاَ وَ إِنَّ ؟ مُعَاوِيَةَ ؟ قَادَ لُمَةً مِنَ اَلْغُوَاةِ وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ اَلْمَنِيَّةِ أقول : الأصل في العنوان ما رواه نصر بن مزاحم و قد نقله ابن أبي الحديد ٢ أيضا عن عمرو بن شمر عن جابر قال : خطب علي عليه السّلام فقال : « أمّا بعد ، فانّ القوم قد بدؤكم بالظلم ، و فاتحوكم البغي ، و ابتدؤوكم بالعدوان و استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء ، فأقروا على مذلة و تأخير محلة . . . » .

قول المصنّف : « و من خطبة له عليه السّلام » هكذا في ( المصرية ) ٣ ، و الصواب :

( و من كلام له عليه السّلام ) كما ( في ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٤ و الخطية ) ، و إن عرفت من نصر انّ الكلام كان خطبة .

« لمّا غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على شريعة الفرات » قال

ــــــــــــ

 ( ١ ) البقرة : ٢٥٣ .

 ( ٢ ) شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٤ .

 ( ٣ ) الطبعة المصرية : ٩٦ الخطبة ٥١ .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٣٥ .

٢١٣

الدينوري في ( طواله ) ١ : أقبل معاوية بالخيل نحو صفين ، و على مقدّمته سفيان بن عمرو أبو الأعود السلمي ، و على ساقته بسر بن أبي أرطأة العامري و صفين قرية خراب من بناء الروم منها الى الفرات غلوة ، و على شط الفرات ممّا يليها غيضة متلفة ، فيها نزوز ، طولها نحو من فرسخين ، و ليس في ذينك الفرسخين طريق الى الفرات ، إلاّ طريق واحد مفروش بالحجارة ، و سائر ذلك خلاف و غرب ملتف لا يسلك ، و جميع الغيضة نزوز و وحل ، إلاّ ذلك الطريق الذي يأخذ من القرية الى الفرات فأقبلا حتى سبقا الى موضع القرية ، فنزلا هناك من ذلك الطريق ، و وافاهما معاوية بجميع الفيلق حتى نزل معهما ، و أمر معاوية أبا الأعور أن يقف في عشرة آلاف من أهل الشام على طريق الشريعة ،

فيمنع من أراد السلوك الى الماء من أهل العراق ، و أقبل علي عليه السّلام حتى وافى المكان ، فصادف أهل الشام احتووا على القرية و الطريق ، فأمر الناس فنزلوا بالقرب من عسكر معاوية ، و انطلق السقاؤون و الغلمان الى طريق الماء ، فحال أبو الأعور بينهم و بينه ، فاخبر علي عليه السّلام بذلك ، فقال لصعصعة : إيت معاوية فقل له : إنّا سرنا اليكم لنعذر قبل القتال ، فإن قبلتم كانت العافية أحبّ الينا ،

و أراك قد حلت بيننا و بين الماء ، فإن كان أعجب اليك أن ندع ما جئنا له ، و نذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا . فأتاه فقال له ما قاله عليه السّلام ، فقال الوليد بن عقبة لمعاوية : امنعهم الماء كما منعوه عثمان . اقتلهم عطشا ، قتلهم اللّه . فقال معاوية لعمرو بن العاص : ما ترى ؟ قال : أرى أن تخلي عن الماء ، فإنّ القوم لن يعطشوا و أنت ريّان . فقال عبد اللّه بن أبي سرح : امنعهم الماء الى اللّيل لعلّهم أن ينصرفوا الى طرف الغيضة ، فيكون انصرافهم هزيمة .

فقال صعصعة لمعاوية : ما الذي ترى ؟ قال ارجع فسيأتيكم رأيي . فانصرف

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأخبار الطوال : ١٦٧ .

٢١٤

و ظلّ أهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء ، إلاّ من كان ينصرف من الغلمان الى طرف الغيضة ، فيمشي مقدار فرسخين فيستقي ، فغمّ عليّا عليه السّلام أمر الناس غمّا شديدا ، فأتاه الأشعث فقال : أيمنعنا القوم الماء و أنت فينا و معنا سيوفنا ؟

ولّني الزحف إليه ، فو اللّه لا أرجع أو أموت ، و مر الأشتر فلينضم إليّ في خيله.

فقال له عليّ عليه السّلام : إيت في ذلك ما رأيت . فلمّا أصبح زاحف أبا الأعور فاقتتلوا ،

و صدقهم الاشتر و الأشعث حتى نفيا أبا الأعور عن الشريعة ، و صارت في أيديهما ، فقال عمرو لمعاوية : ما ظنّك بالقوم اليوم ان منعوك كما منعتهم ؟

فقال معاوية : دع ما مضى ، ما ظنّك بعليّ ؟ قال : ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استحللت منه ، لأنّه أتاك في غير أمر الماء . ثم توادع الناس . . . .

ثمّ إنّ معاوية كما تصرّف الماء في أوّل وروده ، و منع أصحابه عليه السّلام الماء ، كذلك تصرفها بحيلة بعد ذلك ، ففي ( صفين نصر ) ١ : كتب معاوية في سهم : من عبد اللّه الناصح ، فإنّي اخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم ، فخذوا حذركم . ثمّ رمى بالسهم في عسكر علي عليه السّلام ،

فوقع السهم في يدي رجل من أهل الكوفة . فقرأه ثم أقرأه صاحبه ، فلما قرأه و أقرأه الناس قالوا : هذا أخ لنا ناصح ، كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية .

فلم يزل السهم يقرأ حتى دفع الى أمير المؤمنين عليه السّلام ، و قد بعث معاوية مائتي رجل من الفعلة الى عاقول من النهر ، بأيديهم المرود و الزنبيل يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السّلام ، فقال علي عليه السّلام : ويحكم إنّ الّذي يعالج معاوية لا يستقيم له ، و إنّما يريد أن يزيلكم عن مكانكم ، فالهوا عن ذلك . فقالوا له :

هم و اللّه يحفرون الساعة . فقال : ويحكم لا تغلبوني على رأيي . فقالوا :

و اللّه لنرتحلن ، فإن شئت فارتحل و إن شئت فأقم . فارتحلوا ، و ارتحل علي عليه السّلام

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٩٠ .

٢١٥

في اخريات الناس ، و هو يقول :

و لو أنّي اطعت عصبت قومي

الى ركن اليمامة أو شآم

و لكنّي اذا أبرمت أمرا

منيت بخلف آراء الطّغام

و ارتحل معاوية حتى نزل على معسكر علي عليه السّلام الذي كان فيه .

فدعا عليّ عليه السّلام الاشتر فقال : ألم تغلبني على رأيي ، أنت و الأشعث ؟ فقال الأشعث : أنا اكفيك ، ساداوي ما أفسدت . فجمع بني كندة فقال : يا معشر كندة ،

لا تفضحوني اليوم و لا تخزوني ، إنّما اقارع بكم أهل الشام . فخرجوا معه رجالا يمشون . و بيد الأشعث رمح له يلقيه على الأرض ، و يقول :

امشوا قيس رمحي

فلم يزل يقيس لهم على الأرض برمحه ذلك ، و يمشون معه رجّالة قد كسروا جفون سيوفهم ، حتى لقوا معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء و قد جاءه أدنى عسكره ، فاقتتلوا على الماء ساعة ، و انتهى أوائل أهل العراق فنزلوا ، و أقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية ، و الأشعث يحارب في ناحية ، فردوا وجوه إبل معاوية قدر ثلاثة فراسخ ، ثم نزل و وضع أهل الشام أثقالهم ، و الأشعث يهدر و يقول : أرضيتك يا أمير المؤمنين ؟ و لما غلب علي عليه السّلام على الماء فطرد عنه أهل الشام ، بعث الى معاوية : انّا لا نكافيك بصنعك ، هلمّ الى الماء ، فنحن و أنتم سواء . فأخذ كلّ واحد منهما بالشريعة مما يليه ، و قال عليه السّلام لأصحابه : إنّ الخطب أعظم من منع الماء .

هذا ، و نظير حيلة معاوية هذه مع أصحابه عليه السّلام حيلة أبي مسلم في قتاله لعبد اللّه بن علي عم المنصور ، فأقبل أبو مسلم الى عبد اللّه و نزل ناحية لم يعرض له ، و أخذ طريق الشام و كتب الى عبد اللّه : إنّي لم اؤمر بقتالك إنّما ولاّني المنصور الشام ، و إنما اريدها . فقال من كان مع عبد اللّه من أهل الشام : كيف

٢١٦

نقيم معك ، و هذا يأتي بلادنا و فيها حرمنا ، فيقتل من قدر عليه من رجالنا ،

و يسبي ذرارينا ؟ و لكنّا نخرج الى بلادنا ، فنمنعه حرمنا و ذرارينا ، و نقاتله إن قاتلنا . فقال لهم عبد اللّه : إنّه و اللّه ما يريد الشام و ما وجّه إلاّ لقتالكم ، و لئن أقمتم ليأتينكم . فأبوا إلاّ المسير ، فأقبل أبو مسلم فعسكر قريبا ، و ارتحل عبد اللّه من معسكره نحو الشام ، فتحوّل أبو مسلم حتى نزل في موضعه ، و عور ما كان حوله من المياه ، و ألقى فيها الجيف ، فقال عبد اللّه لأصحابه : ألم أقل لكم ؟ . . . .

هذا ، و في ( القاموس ) : بليل كزبير شريعة صفين .

« بصفين » في ( فتوح البلاذري ) : بالس ، و بولس ، و قاصرين ، و عابدين ،

و صفين : قرى منسوبة الى الروم .

و في ( مصباح الفيومي ) ١ : صفين : موضع على الفرات من الجانب الغربي بطرف الشام ، مقابل قلعة نجم ، و هو فعلين من الصف ، أو فعيل من الصفون .

قلت : و حيث إنّها كانت من بناء الروم كما عرفته من الدينوري و البلاذري فلا وجه لكونه من الصف .

و قد ذكره الجوهري ٢ و الفيروز آبادي ٣ و الجزري في صفن . و قال الأخير : في اعرابه قولان ، أحدهما : أن يقرأ بالياء و فتح النون مطلقا ، و الثاني : أن يعرب بالنون.

« و منعوهم الماء » هكذا في ( المصرية ) ٤ ، و الصواب : ( من الماء ) كما في

ــــــــــــ

 ( ١ ) المصباح للفيومي ١ : ٤١٤ .

 ( ٢ ) الصحاح للجوهري ٦ : ٢١٥٢ .

 ( ٣ ) الفيروز آبادي ٤ : ٢٤٢ .

 ( ٤ ) الطبعة المصرية : ٩٦ الخطبة ٥١ .

٢١٧

( ابن أبي الحديد ١ و ابن ميثم ٢ و الخطية ) .

قوله عليه السّلام : « قد استطعموكم القتال » جعله عليه السّلام منعهم عن شرب الماء كاستطعام للقتال أحسن كناية .

و في ( صفين نصر ) ٣ : قال الأشعث لعمرو : و اللّه إن كنت لأظنّ لك رأيا ،

فاذا أنت لا عقل لك ، أترانا نخليك و الماء ؟ فقال له عمرو : كنت مقهورا على ذلك الرأي فكايدتك بالتهدد .

« فأقروا على مذلّة و تأخير محلة » بالرضا بأن تبقى الشريعة في أيديهم .

و لمّا قتل عبد اللّه بن معديكرب أراد أخوه عمرو بن معديكرب أخذ ديته و ترك ثأره ، فقالت اخته كبشة :

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فمشوا بآذان النعام المصلّم

و دع عنك عمرا إنّ عمرا مسالم

و هل بطن عمرو غير شبر لمطعم ٤

و لمّا كان أسماء بن خارجة ذهب بهاني بن عروة الى عبيد اللّه بن زياد فقتله ، قال عبد اللّه بن الزبير الأسدي مخاطبا لمذحج قوم هاني :

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغايا ارضيت بقليل ٥

« أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء » و في ( صفين نصر ) ٦ : أنّ الأشتر روّى سيفه من دماء سبعة من فرسانهم : صالح بن فيروز العكي ،

و كان مشهورا بشدّة البأس ، شد عليه بالرمح و فلق ظهره ، ثم مالك بن أدهم

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٤ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٣٥ ، و فيه : « منعوهم الماء » .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٦٩ و ١٧٠ .

 ( ٤ ) الأغاني ١٥ : ٢٣٠ .

 ( ٥ ) الأغاني لأبي الفرج ١٤ : ٢٢٩ ، و فيه أورد مطلع القصيدة .

 ( ٦ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٧٤ .

٢١٨

السلماني و كان من فرسانهم ، ثم رماح بن عتيك الغساني ، ثم إبراهيم بن وضاح الجمحي ، ثم أزمل عتيك الحزامي و كان من أصحاب ألويتهم ، ثم أجلح بن منصور الكندي و كان من أعلام العرب و فرسانها و ماتت اخته حبلة حزنا عليه ، ثم محمد بن روضة الجمحي ، خرج و هو يقول :

يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن

أضربكم و لا أرى أبا حسن

فشدّ عليه الأشتر و هو يقول :

لا يبعد اللّه سوى عثمانا

مخالف قد خالف الرحمانا

نصرتموه عابدا شيطانا

فقتله . و قال أيضا و قد كان قتل من آل ذي يزن رجلا ، و من آل ذي لقوه فارس الأردن .

اليوم يوم الحفاظ

بين الكماة الغلاظ

نحفزها و المظاظ

هذا ، و ذكر أعرابي قوما تحاربوا ، فقال : أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول ، فلما تصافحوا بالسيوف ، فغرت المنايا أفواهها .

و قال صخر أخو خنساء في أخذه ثار أخيه معاوية من بني مرّة :

و مرّة قد صبحناها المنايا

فروّينا الأسنة غير فخر ١

و في ( عيون القتيبي ) ٢ : لما صرف أهل مزة الماء عن أهل دمشق ،

و وجهوه الى الصحاري ، كتب إليهم أبو الهندام : إلى بني استها أهل مزة ليمسي الماء أو لتصبحنكم الخيل . فوافاهم الماء قبل أن يعتموا ، فقال أبو الهندام :

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأغاني لأبي الفرج ١٥ : ١٠١ .

 ( ٢ ) العيون للقتيبي ١ : ١٩٧ .

٢١٩

الصدق ينبي عنك لا الوعيد

« فالموت في حياتكم مقهورين ، و الحياة في موتكم قاهرين » هو في جمع المعنى و رفع المغزى ، كقوله تعالى : و لكم في القصاص حياة يا اولي الألباب . . . ١ .

كان عمليق الطسمي قضى على جديس : ان يذهبوا ببناتهم ليلة زفافهم قبل ازواجهم إليه فيفترعهن هو ، فذهبوا بعفيرة بنت عباد الجديسي إليه فافترعها ، فخرجت الى قومها شاقة درعها من قبل و من دبر في أقبح منظر ،

قائلة :

لا أحد أذلّ من جديس

أ هكذا يفعل بالعروس

و قالت في تحريض قومها :

فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم

و دبوا لنار الخطب بالحطب الجزل

فللبين خير من تماد على أذى

و للموت خير من مقام على الذّل

و إن أنتم لم تغضبوا بعد هذه

فكونوا نساء لا تعاب من الكحل

و دونكم طيب العروس فإنّما

خلقتم لأثواب العروس و للنسل

فصار تحريضها سببا لقتل العمليق ٢ و قال صخر أخو خنساء لمّا طال مرضه ، و سئلت امرأته عنه فقالت : لا حي فيرجى و لا ميت فينعى :

و للموت خير من حياة كأنّها

محلة يعسوب برأس سنان ٣

و تمثّل زيد بن علي يوم قتل بقول القائل :

ــــــــــــ

 ( ١ ) البقرة : ١٧٩ .

 ( ٢ ) الأغاني لأبي الفرج ١١ : ١٦٥ ١٦٦ .

 ( ٣ ) الأغاني لأبي الفرج ١٥ : ٧٩ .

٢٢٠