• البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76119 / تحميل: 3382
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 10

مؤلف:
العربية

جبريل أهدى لنا الخيرات أجمعها

آرام هاشم لا أبناء مخزوم

فقلت في نفسي : غلبني و اللّه ، ثم حملني الطمع في انقطاعه عني ، فقلت له :

بل أشعر منه الذي يقول :

أبناء مخزوم الحريق اذا

حرّكته تارة ترى ضرما

يخرج منه الشرار مع لهب

من حاد عن حدّه فقد سلما

فو اللّه ما تلعثم أن أقبل عليّ بوجهه ، فقال : يا أخا بني مخزوم ، أشعر من صاحبك و أصدق ، الذي يقول :

هاشم بحر اذا سما و طما

أخمد حر الحريق و اضطرما

و اعلم و خير القول أصدقه

بأن من رام هاشما هشما

فتمنيت و اللّه أنّ الأرض ساخت بي ، ثم تجلدت عليه ، فقلت : يا أخا بني هاشم أشعر من صاحبك ، الّذي يقول :

أبناء مخزوم أنجم طلعت

للناس تجلو بنورها الظلما

تجود بالنيل قبل تسأله

جودا هنيئا و تضرب البهما

فأقبل عليّ بأسرع من اللحظ ، ثم قال : أشعر من صاحبك و أصدق ، الذي يقول :

هاشم شمس بالسعد مطلعها

اذا بدت أخفت النجوم معا

اختارنا اللّه في النبي فمن

قارعنا بعد أحمد قرعا

فاسودّت الدنيا في عيني ، فانقطعت فلم أجد جوابا ، ثمّ قلت له : يا أخا بني هاشم إن كنت تفتخر علينا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله ، فما تسعنا مفاخرتك . فقال : كيف لا نفتخر به و لو كان منك لفخرت به عليّ ؟ فقلت : صدقت ، إنّه لموضع الفخار.

و سررت بقطعه الكلام ، ثم إنّه ابتدأ المناقضة ، ففكّر هنيئة ثم قال : قد قلت فلم أجد بدا من الاستماع . فقلت : هات . فقال :

٢٦١

نحن الذين إذا سما بفخارهم

ذو الفخر أقعده هناك القعدد

افخر بنا إن كنت يوما فاخرا

تلق الألى فخروا بفخرك افردوا

قل يا بن مخزوم لكلّ مفاخر

منّا المبارك ذو الرسالة أحمد

ماذا يقول ذوو الفخار هنا لكم

هيهات ذلك هل ينال الفرقد

فحصرت و تبلّدت ، ثم قلت له : انظرني . و أفكرت مليّا ثم أنشأت أقول :

لا فخر إلاّ قد علاه محمد

فاذا فخرت به فانّي أشهد

ان قد فخرت وفقت كلّ مفاخر

و إليك في الشرف الرفيع المقصد

و لنا دعائم قد تناهى أول

في المكرمات جرى عليها المولد

من رامها حاشى النبيّ و أهله

في الأرض غطغطه الخليج المزبد

دع و ذا و رح بفناء خود بضة

مما نطقت به و غنّى معبد

مع فتية تندى بطون أكفّهم

جودا إذا هز الزمان الأنكد

يتناولون سلافة عامية

طابت لشاربها و طاب المقعد

فو اللّه لقد أجابني بجواب كان أشدّ علي من الشعر ، فقال لي : يا أخا بني مخزوم اريك السها ، و تريني القمر . و هذا مثل ، أي : تخرج من المفاخرة الى شرب الراح الى أن قال فقلت : لا أرى شيئا أصلح من السكوت . فضحك و قام عني . قال : فضحك عبد الملك حتى استلقى ، و قال : يا بن أبي ربيعة أما علمت أنّ لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق ؟

قلت : قول عبد الملك نظير قول معاوية : « إنّا بنو عبد مناف » .

« و لمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا » قال تعالى : اذا جاء نصر اللّه و الفتح . و رأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا ١ .

« و أسلمت له هذه الامة طوعا و كرها » بعد فتح مكة .

ــــــــــــ

 ( ١ ) النصر : ١ ٢ .

٢٦٢

« كنتم ممّن دخل الدين إمّا رغبة و إما رهبة » لأنّ إسلامهم كان بعد الفتح ،

و قال صلّى اللّه عليه و آله بعد الفتح لأهل مكة كما في ( الطبري ) ١ : « اذهبوا فأنتم الطلقاء » فاعتقهم و قد كان اللّه أمكنه من رقابهم عنوة و كانوا له فيئا . و انما قوله عليه السّلام :

« إما رغبة و إمّا رهبة » نظير قوله تعالى : و إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ٢ . و إلاّ فمعلوم كون دخولهم في الدين رهبة .

« على حين فاز أهل السبق بسبقهم و ذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم » في ( الطبري ) ٣ : قال العباس لأبي سفيان قبل أن يرد النبي صلّى اللّه عليه و آله مكة : اركب عجز بغلتي لاستأمن لك النبي صلّى اللّه عليه و آله ، فو اللّه لئن ظفر ليضربن عنقك الى أن قال فلمّا رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا سفيان قال له : ويحك ألم يأن لك أن تعلم ألاّ إله إلاّ اللّه ؟

فقال : و اللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه غيره ، لقد أغنى عني شيئا . فقال : ويحك ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه ؟ فقال : أمّا هذه ففي النفس منها شي‏ء . فقال له العباس : ويلك تشهّد شهادة الحق قبل أن يضرب عنقك . فتشهد ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله للعباس : احبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي ، حتى تمرّ عليه جنود اللّه الى أن قال فقال أبو سفيان للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما . فقال له العباس : ويحك إنّها النبوّة . فقال : نعم إذن الى أن قال قال الواقدي : و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بقتل ستة نفر ، و أربع نسوة ، منهن هند ام معاوية إلى أن قال فجاءته هند متنقّبة متنكّرة ، لحدثها و ما كان من صنيعها بحمزة ،

في بيعة النساء إلى أن قال قال لهن : « و لا تسرفن » . فقالت هند : و اللّه إن كنت لاصيب من مال أبي سفيان الهنة الهنة . فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله : و إنّك لهند ؟ قالت :

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ٦١ .

 ( ٢ ) سبأ : ٢٤ .

 ( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٣ .

٢٦٣

أنا هند ، فاعف . قال : « و لا تزنين » قالت : و هل تزني الحرة ؟ فقال : « و لا تقتلن أولادكن » . فقالت : « ربيناهم صغارا و قتلتهم يوم بدر كبارا » ، فانت و هم أعلم .

فضحك عمر من قولها حتى استغرب .

« فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا و لا على نفسك سبيلا » بادّعاء الباطل ، فقد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله كما رواه ( صفّين نصر ) ١ : اذا رأيتم معاوية يخطب على منبري ، فاضربوا عنقه .

و فيه ٢ : خرج عمّار يوم الثالث ، و خرج إليه عمرو بن العاص ، فجعل عمّار يقول : يا أهل الاسلام أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى اللّه و رسوله ،

و جاهدهما و بغى على المسلمين ، و ظاهر المشركين ، فلمّا أراد اللّه أن يظهر دينه ، و ينصر رسوله أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأسلم ، و هو و اللّه ما يرى راهب غير راغب ، و قبض اللّه رسوله و إنّا و اللّه لنعرفه بعداوة المسلم ، و مودة المجرم ؟ ألا و إنّه معاوية ، فالعنوه لعنه اللّه ، و قاتلوه فإنّه ممّن يطفى‏ء نور اللّه ، و يظاهر أعداء اللّه .

و مر في ( ١١ ) فصل الإمامة العامة : أن قوما استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين و الأنصار ، و لكلّ فضل ، حتى اذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء و خصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبعين تكبيرة . . . .

٧

الخطبة ( ٥٥ ) و من كلام له عليه السّلام و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين :

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ اَلْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣١٦ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٤ .

٢٦٤

اَلْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ اَلْمَوْتُ إِلَيَّ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ ؟ اَلشَّامِ ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وَ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلاَلِهَا وَ إِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا

٢٦٥

أقول : قال ابن أبي الحديد ١ : لما ملك أمير المؤمنين عليه السّلام الماء بصفين ،

ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه ، استمالة لهم و اظهارا للمعدلة و حسن السيرة فيهم ، مكث أيّاما لا يرسل إلى معاوية و لا يأتيه من عنده أحد ، فاستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال و قالوا له عليه السّلام : خلّفنا ذرارينا و نساءنا بالكوفة و جئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ؟ ائذن لنا في القتال ، فإنّ الناس قد قالوا .

فقال عليه السّلام : ما قالوا ؟ فقيل : إنّ الناس يظنّون أنّك تكره الحرب كراهية للموت ،

و إنّ من الناس من يظن أنّك في شكّ من قتال أهل الشام . فقال عليه السّلام : و متى كنت كارها للحرب قطّ ؟ إنّ من العجب حبي لها غلاما و يافعا ، و كراهتي لها شيخا بعد نفاد العمر و قرب الموت ، و أمّا شكي في القوم فلو شككت فيهم ، لشككت في أهل البصرة ، و اللّه لقد ضربت هذا الأمر ظهرا و بطنا ، فما وجدت يسعني إلاّ القتال ، أو أن أعصي اللّه و رسوله ، و لكنّي استأني بالقوم عسى ان يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة فانّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لي يوم خيبر لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس . ثم نقل ابن أبي الحديد ٢ : رواية نصر بن مزاحم في ( صفينه ) ٣ : بعثه عليه السّلام جمعا إلى معاوية و مشى القراء بينهما إلى أن قال فقال القراء له عليه السّلام : إنّ معاوية يقول لك : إن كنت صادقا في عدم

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٣ .

 ( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٦ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٨٩ .

٢٦٦

قتلك عثمان و عدم أمرك بقتله ، فأقدنا من قتلته ، فإنّهم في عسكرك و جندك و عضدك . فقال عليه السّلام لهم : إنّ القوم تأولوا عليه القرآن و وقعت الفرقة ، فقتلوه في سلطانه ، و ليس على ضربهم قود . ثم قال ابن أبي الحديد ١ : و لا أدري لم عدل عليه السّلام عن الحجّة بما هو أوضح من هذا الكلام ؟ و هو أن يقول : إنّ الذين باشروا قتل عثمان بأيديهم كانا اثنين ، و هما قتر بن وهب و سودان بن حمران ، و كلاهما قتل يوم الدار ، قتلهما عبيد عثمان ، و الباقون الذين جندي و عضدي كما تزعمون لم يقتلوا بأيديهم و إنّما اغروا به و حصروه ،

و أجلبوا عليه و هجموا على داره ، كمحمّد بن أبي بكر و الأشتر و عمرو بن الحمق و غيرهم ، و ليس على هؤلاء قود . و قوله عليه السّلام : و ليس على ضربهم قود .

أي : على مثلهم .

قلت : هل هو أعلم بالقضية و بقضائها منه عليه السّلام ؟ و كيف أنكر تصدّي اولئك و قد طعنه عمرو بن الحمق تسع طعنات ؟ و كون عمّار من قتلته مسلم ،

فقال معاوية لجمع أرسلهم عليه السّلام إليه : ألستم تعلمون أنّ قتلة صاحبنا أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فنقتلهم به ، ثم نجيبكم إلى الطاعة . فقال له شبث :

أيسرك باللّه إن امكنت من عمّار فقتلته ؟ فقال : و اللّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان ، و لكنّي أقتله بنائل مولاه . فقال له شبث : و إله السماء ما عدلت معدلا .

كما أنّ كون محمّد بن أبي بكر من قتلته أيضا مسلّم ، ففي ( الطبري ) ٢ :

كتب معاوية إليه : سعيت عليه في الساعين و سفكت دمه في السافكين إلى أن قال و عدوك على عثمان يوم تطعن بمشاقصك بين أحشائه و أوداجه . و ما

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٥٩ .

 ( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٧٦ .

٢٦٧

ينفعه تأويله لفظ « ضربهم » ؟

و كون عثمان عنده عليه السّلام مباح الدم أمر واضح ، فلما جاء شرحبيل و معن من قبل معاوية إليه عليه السّلام و قد نقله بعد عن ( صفين نصر ) ١ قالا له عليه السّلام :

أتشهد أنّ عثمان قتل مظلوما ؟ فقال لهما : إنّي لا أقول ذلك . قالا : فمن لم يشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء . ثمّ قاما فانصرفا ، فقال علي عليه السّلام فإنّك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء اذا ولّوا مدبرين ٢ .

« أمّا قولكم أ كلّ » و في ( ابن ميثم ) ٣ : « كل » ثم الظاهر كون ( كل ) بالرفع مبتدأ . و يجوز أن يقرأ بالنصب ، لقوله بعد ( أو ) : أمّا قولكم : « شكا في أهل الشام » فيقدر له ناصب كما له .

« ذلك » أي : تأخير الحرب .

« كراهية الموت فو اللّه ما ابالي » أي : لا اكترث .

« أدخلت » هكذا في ( المصرية ) ٤ ، و الصواب : ( دخلت ) كما في ( ابن أبي الحديد ) ٥ و ( ابن ميثم ) ٦ و ( الخطية ) .

« الى الموت أو خرج الموت » لعل إلاظهار مع كون المقام مقام الإضمار ،

لتأكيد عدم مبالاته عليه السّلام بالموت .

« إليّ » فإنّه عليه السّلام كان يقول لما كانوا يقولون : سكت عن طلب الملك جزعا من الموت : و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه .

ــــــــــــ

 ( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٠١ ٢٠٢ .

 ( ٢ ) الروم : ٥٢ .

 ( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ ، و فيه : « أما قولكم : أ كلّ ذلك » .

 ( ٤ ) الطبعة المصرية : ٩٩ الخطبة ٥٥ .

 ( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٢ .

 ( ٦ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ .

٢٦٨

و في ( صفين نصر ) ١ : عن زيد بن وهب قال مر علي عليه السّلام يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة ، و إنّي لأرى النبل يمرّ بين عاتقه و منكبيه ، ثم إنّ أهل الشام دنوا منه ، و اللّه ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه ، فقال له الحسن عليه السّلام : ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين صبروا لعدوّك من أصحابك ؟

فقال : يا بني لأبيك يوم لن يعدوه ، و لا يبطي به عنه السعي ، و لا يعجل به إليه المشي . إنّ أباك و اللّه ما يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه .

و عن ٢ عبد الرحمن بن حاطب : كان عليّ عليه السّلام اذا أراد القتال هلّل و كبّر ،

ثمّ قال :

أي يوميّ من الموت أفر

يوم ما قدر أم يوم قدر

« و أمّا قولكم : شكا في أهل الشام ، فو اللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي » ممّن لحق به عليه السّلام ابن عم لعمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ٣ : أنّ ابن عمّ لعمرو قال له : إنّك ان لم ترد معاوية ، لم يردك ،

و لكنك تريد دنياه و يريد دينك . فبلغ معاوية قوله ، فطلبه فلحق بعلي عليه السّلام ،

فحدّثه بأمر عمرو و معاوية ، فسرّ ذلك عليّا عليه السّلام و قرّبه .

و لحق به عليه السّلام ابن اخت لشرحبيل بن السمط ، ففي ( صفين نصر ) ٤ : لمّا كتب جرير إلى شرحبيل ينصحه ، ذعر و فكر فلفف له معاوية الرجال يعظّمون عنده قتل عثمان ، و يرمون به عليا عليه السّلام ، و يقيمون الشهادة الباطلة ، و الكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه . فقال ابن اخت له من بارق و كان لحق أهل الشام :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٩ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٩٥ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٢ .

 ( ٤ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٩ ٥٠ .

٢٦٩

فقال شرحبيل : و اللّه لأسيرن إلى صاحب هذا الشعر ، أو ليفوتني . فهرب الفتى إلى الكوفة و كان أصله منها . و كاد أهل الشام أن يرتابوا . . .

و لحق به عليه السّلام صديق لعمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ١ : ذكروا أنّه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة ، و قال معاوية : هذا أول الظفر . فقام إليه رجل يقال له ابن الأقبل و كان ناسكا ، و كان له في ما يذكر همدان لسان ، و كان صديقا لعمرو فقال له : أما تعلم ان فيهم العبد و الأمة و الأجير و الضعيف ، و من لا ذنب له ؟ هذا و اللّه أوّل الجور ، لقد شجّعت الجبان ،

و بصّرت المرتاب ، و حملت من لا يريد قتالك على كتفيك . فأغلظ له ، فقال الرجل أبياتا : و لحق في سواد الليل بعلي عليه السّلام .

و لحق به عليه السّلام شامي سمع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في معاوية ، لمّا رأى بيعة أهل الشام معه ، ففي ( صفين نصر ) ٢ : عن أبي حرب بن الأسود عن رجل من أهل الشام عن أبيه ، قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول : « شرّ خلق اللّه خمسة:

إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني إسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لد » . قال الرجل :

فلمّا رأيت معاوية يبايع عند باب لد ذكرت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله ، فلحقت بعلي عليه السّلام فكنت معه .

و لحق به شمر بن أبرهة الحميري ، و جمع من القرّاء ، ففي ( صفين نصر ) ٣ : عن الزهري قال : خرج في اليوم الخامس من صفر شمر بن ابرهة الحميري في ناس من قرّاء أهل الشام ، فلحق بعلي عليه السّلام ، ففت ذلك في عضد

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٦٣ ١٦٤ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٧ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٢٢ .

٢٧٠

معاوية و عمرو بن العاص ، فقال عمرو لمعوية : إنّك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد قرابة قريبة ، و رحم ماسة ، و قدم في الاسلام لا يعتد أحد بمثله ، و نجدة في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمّد ، و إنّه قد سار إليك بأصحاب محمّد المعدودين ، و فرسانهم و قرّائهم ، و أشرافهم و قدمائهم في الاسلام ، و لهم في النفوس مهابة ، فبادر بأهل الشام محاش الوعر ، و مضائق الغيض ، و آتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم ، فيحدث عندهم طول المقام مللا ،

فيظهر فيهم كآبة الخذلان ، و مهما نسيت فلا تنس أنّك على باطل و أنّه على الحق .

و لحق به عليه السّلام عبد اللّه بن عمر العنسي لسماع ذي الكلاع حديث : ( قتل الفئة الباغية لعمّار ) في أيام عمر من عمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ١ ،

عن الإفريقي بن أنعم قال : قال أبو نوح الحميري : كنت في خيل علي عليه السّلام ، اذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري ؟ قلت : أيّهم تريد ؟ قال : أبو نوح . قلت : قد وجدته ، فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سرّ إليّ . فقلت : معاذ اللّه أن أسير إليك إلاّ في كتيبة . قال : سرّ فلك ذمّة اللّه و ذمّة رسوله و ذمّة ذي الكلاع ،

حتى ترجع إلى خيلك ، فإنّما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه . فسارا حتى التقيا ، فقال له ذو الكلاع : إنّما دعوتك احدّثك حديثا حدّثنا به عمرو بن العاص أيام إمارة عمر : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال : « يلتقي أهل الشام و أهل العراق ،

و في احدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمّار بن ياسر » . فقال له : إنّ عمّارا و اللّه لفينا . قال : أجادّ هو في قتالنا ؟ قال : نعم و ربّ الكعبة ، هو أشد على قتالكم منّي ، و لوددت أنّكم خلق واحد فذبحته ، و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي . قال : ويلك علام تتمنى ذلك منّي ؟ و اللّه ما قطعتك في ما بيني و بينك ، و إنّ

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٣٢ ٣٣٩ .

٢٧١

رحمك لقريبة ، و ما يسرّني أنّي أقتلك . قال أبو نوح : إنّ اللّه قد قطع بالإسلام أرحاما قريبة ، و وصل به أرحاما متباعدة ، و أنّى يكون بيننا وصل و نحن على الحق ، و أنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر و رؤوس الأحزاب ؟ فقال ذو الكلاع هل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام ، فانا جار لك منهم ، حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بجدّ عمّار في قتالنا ؟ إلى أن قال ثم سار أبو نوح حتى أتى عمرا ، و هو عند معاوية ، فقال ذو الكلاع لعمرو : هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار لا يكذبك ؟ قال عمرو : و من هو ؟ قال : ابن عمي هذا ، و هو من أهل الكوفة . فقال عمرو لأبي نوح : إنّي لأرى عليك سيماء أبي تراب . قال أبو نوح : علي عليه السّلام عليه سيماء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه ، و عليك سيماء أبي جهل و سيماء فرعون إلى أن قال بين ذكر جمعه بين عمّار و عمرو فقال عمّار لعمرو : ألست تعلم أيها الأبتر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه إلى أن قال فقال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال عمّار : فتح لكم باب كلّ سوء .

قال عمرو : فعليّ قتله ؟ قال عمّار : بل اللّه ربّ علي قتله ، و علي معه . قال عمرو:

أكنت في من قتله ؟ قال : كنت مع من قتله ؟ و أنا اليوم أقاتل معهم . قال عمرو :

فلم قتلتموه ؟ قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه إلى أن قال و مشى عبد اللّه بن سويد سيد جرش إلى ذي الكلاع فقال له : لم جمعت بين الرجلين ؟ قال :

لحديث سمعته من عمرو ، ذكر أنّه سمعه من النبي صلّى اللّه عليه و آله ، و هو يقول لعمّار :

« تقتلك الفئة الباغية » فخرج عبد اللّه بن عمر العنسي و كان من عبّاد أهل زمانه ليلا فأصبح في عسكر علي عليه السّلام ، و قال لذي الكلاع :

و الراقصات بركب عامدين له

إنّ الذي جاء من عمرو لمأثور

قد كنت اسمع و الأنباء شائعة

هذا الحديث فقلت الكذب و الزور

٢٧٢

حتى تلقيته من أهل عيبته

فاليوم أرجع و المغرور مغرور

و اليوم أبرأ من عمرو و شيعته

و من معاوية المحدو به العير

لا ، لا اقاتل عمّارا على طمع

بعد الرواية حتى ينفخ الصور

تركت عمرا و أشياعا له نكدا

إنّي بتركهم يا صاح معذور

يا ذا الكلاع فدع له معشرا كفروا

أو لا فدينك عين فيه تغرير

ما في مقال رسول اللّه في رجل

شكّ و لا في مقال الرسل تحيير

فلمّا سمع معاوية بهذا الشعر بعث إلى عمرو : أن أفسدت عليّ أهل الشام ، أكلّ ما سمعته من النبي صلّى اللّه عليه و آله تقوله ؟ فقال عمرو : قلتها و لست أعلم الغيب ، و لا أدري أنّ صفين تكون ، و قد رويت أنت في عمّار مثل الذي رويت .

كما أنّ جمعا من أصحابه عليه السّلام الذين كانوا حريصين على الدنيا لحقوا بمعويه لغلبة الشقاوة عليهم ، منهم بشر بن عصمة المزني ، و قيس بن قرّة التميمي ، كما في ( الطبري ) ١ . و ذو نواس بن هذيم العبدي ، و قيس بن زبد الكندي ، كما في ( صفين نصر ) ٢ .

« و تعشو إلى ضوئي » في ( الصحاح ) : عشوت إلى النار : اذا استدللت عليها ببصر ضعيف ، قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

قلت : و الأصحّ ما في ( الجمهرة ) من أنّ العشو : القصد بالليل لا ببصر ضعيف . فقال : العشو مصدر عشوت إلى ضوئك : اذا قصدته بليل ، ثم صار كلّ قاصد شيئا عاشيا ، ثم ذكر بيت الحطيئة .

و إنما قال عليه السّلام ذلك ، لأنّ معاوية لبس الأمر على أهل الشام ، ففي ( صفّين

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٢٨ ٢٩ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٧٠ و ٢٨٥ .

٢٧٣

نصر ) ١ : مضى هاشم المرقال في عصابة من القرّاء ، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان

و الدائن اليوم بدين عثمان

أنبانا أقواما بما كان

ان عليّا قتل ابن عفان

ثمّ شدّ ، فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثمّ يلعن و يشتم و يكثر الكلام ، فقال له المرقال : انّ هذا الكلام بعده الخصام ، و إنّ هذا القتال بعده الحساب ، فاتّق اللّه فانّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف . قال : فإنّي اقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي ، و أنّكم لا تصلّون ، و اقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا ،

و أنتم وازرتموه على قتله . فقال له هاشم : و ما أنت و ابن عفان ؟ إنّما قتله أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله ، و قرّاء الناس حين أحدث أحداثا و خالف حكم الكتاب ،

و إنّ أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله هم أصحاب الدين و أولى بالنظر في امور المسلمين .

و أمّا قولك : إنّ صاحبنا لا يصلّي ، فهو أوّل الناس من صلّى للّه مع النبي صلّى اللّه عليه و آله ،

و أفقه الناس في دين اللّه ، و أولاهم برسوله ، و أمّا من ترى معه فكلّهم قارى‏ء لكتاب اللّه لا ينامون الليل تهجّدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون .

فقال الفتى لهاشم : انّي لأظنّك امرأ صالحا ، هل تجد لي من توبة ؟ قال : نعم ، تب إلى اللّه إنّه يتوب عليك ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات ٢ و يحبّ التوّابين و يحبّ المتطهّرين ٣ . فذهب الفتى راجعا ، فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي . قال : لا ، و لكن نصحني .

« و ذلك » و في ( ابن ميثم ) ٤ : ( فهو ) .

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٥٤ ، ٣٥٥ .

 ( ٢ ) الشورى : ٢٥ .

 ( ٣ ) البقرة : ٢٢٢ .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ .

٢٧٤

« أحبّ إليّ من أن اقتلها على ضلالها و ان كانت تبوء » أي : ترجع .

« بآثامها » في ( الطبري ) ١ : مكث الناس في صفين حتى اذا دنا انسلاخ المحرم ، أمر علي عليه السّلام مرثد بن الحارث الجشمي ، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس : ألا انّ أمير المؤمنين يقول لكم : انّي قد استدمتكم لتراجعوا الحق و تنيبوا إليه ، و احتججت عليكم بكتاب اللّه عز و جلّ فدعوتكم إليه ، فلم تناهوا عن طغيان ، و لم تجيبوا إلى حق . و إنّي قد نبذت إليكم على سواء إنّ اللّه لا يحبّ الخائنين ٢ .

و روى الطبري ٣ : أنّه ابتدى‏ء بالقتال في أوّل يوم من صفر ، و كان يوم الأربعاء فخرج الأشتر من أصحابه عليه السّلام ، و خرج في مقابله أبو الأعور ، و خرج اليوم الثالث عمّار ، و خرج في مقابله عمرو بن العاص ، و خرج اليوم الرابع محمد ابن الحنفية ، و خرج في مقابله عبيد اللّه بن عمرو ، و خرج في اليوم الخامس ابن عباس ، و خرج في مقابله الوليد بن عقبة ، و خرج في اليوم السادس قيس بن سعد ابن عبادة ، و خرج في مقابله ابن ذي الكلاع ، و خرج في اليوم السابع أيضا الأشتر و حبيب بن مسلمة . فخطب عليه السّلام عشية الثلاثاء بعد العصر فقال : حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ؟ و قال : الحمد للّه الذي لا يبرم ما نقض ، و ما أبرم لا ينقضه الناقضون ، و لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه ، و لا تنازعت الامّة في شي‏ء من أمره ، و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله . و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار ، فلفّت بيننا في هذا المكان ، نحن من ربّنا بمرأى و مسمع ، فلو شاء عجّل النقمة و كان منه التغيير ، و لكن جعل الدنيا

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ١٠ .

 ( ٢ ) الأنفال : ٥٨ .

 ( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ٧ ٩ .

٢٧٥

دار الأعمال ، و جعل دار الآخرة عنده هي دار القرار ، ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى ١ . ألا إنّكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة القيام ، و أكثروا تلاوة القرآن ، و سلوا اللّه الصبر و النصر ،

و القوهم بالجدّ و الحزم ، و كونوا صادقين . و عبّأ عليه السّلام الناس ليلته كلّها ، و خرج إليهم غداة الأربعاء فاستقبلهم ، و قال : اللّهم ربّ السقف المرفوع المحفوظ المكفوف ، الذي جعلته مغيضا لليل و النهار ، و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر و منازل النجوم ، و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة ، و ربّ هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و الأنعام ،

و ما لا يحصى مما يرى و ما لا يرى من خلقك العظيم ، و ربّ الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، و ربّ السحاب المسخّر بين السماء و الأرض ، و ربّ البحر المسجور المحيط بالعالم ، و ربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا ، و للخلق متاعا ، إن أظهرتنا على عدوّنا فجنبنا البغي ، و سدّدنا للحق ،

و إن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة ، و اعصم بقية أصحابي من الفتنة .

و ازدلف الناس يوم الأربعاء ، و اقتتلوا أشدّ قتال حتى الليل ، لا ينصرف أحد إلاّ للصلاة و كثرت القتلى ، فأصبحوا من الغد فصلّى عليه السّلام بهم غداة الخميس ،

فغلس بالصلاة أشدّ التغليس ، و أقبل و على ميمنته ابن بديل ، و على ميسرته ابن عباس ، و هو عليه السّلام في القلب في أهل المدينة ، بين أهل الكوفة و أهل البصرة ، و رفع معاوية قبّة عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس ، و بايعه معظمهم على الموت ، و أحاطت خيل دمشق بقبّته ، فزحف ابن بديل في ميمنته عليه السّلام ، و قال : قد قاتلناهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّة ، و هذه ثانية ، و اللّه ما هم في هذه بأتقى و لا أزكى و لا أرشد . فلم يزل يكشف خيل حبيب بن مسلمة من

ــــــــــــ

 ( ١ ) النجم : ٣١ .

٢٧٦

الميسرة ، حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية .

٨

الخطبة ( ٢٤ ) و من خطبة له عليه السّلام :

وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ اَلْحَقَّ وَ خَابَطَ اَلْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لاَ إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ اِمْضُوا فِي اَلَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ ؟ فَعَلِيٌّ ؟ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً أقول : يمكن أن يكون قاله عليه السّلام ، لما أراد المسير إلى معاوية ابتداء أو ثانيا ، و يمكن الاستيناس للأوّل بما في ( صفين نصر ) ١ : أنّ عليّا عليه السّلام لما أراد المسير إلى الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين و الأنصار ، فحمد اللّه و أثنى عليه و قال : إنّكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل و الأمر . و قد أردنا المسير إلى عدوّنا و عدوّكم فأشيروا علينا برأيكم .

فقام هاشم بن عتبة و قال : أنا بالقوم جد خبير ، إنّهم لك و لأشياعك أعداء ، و لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، و هم مقاتلوك و مجاهدوك لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، و ضنّا بما في أيديهم منها ، و ليس لهم إربة غيرها إلاّ ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان . و قام عمّار و قال له عليه السّلام : إن استطعت الاّ تقيم يوما واحدا ، فاشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، و اجتماع رأيهم على الصدود و الفرقة ، و ادعهم إلى رشدهم . و قام قيس بن سعد بن عبادة و قال له :

انكمش بنا إلى عدونا ، و لا تعرج ، فو اللّه لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك و الروم ، لإدهانهم في دين اللّه ، و استذلالهم أولياء اللّه من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله ،

من المهاجرين و الأنصار و التابعين باحسان ، فإذا غضبوا على رجل حبسوه ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٩٢ .

٢٧٧

أو ضربوه ، أو حرموه ، أو سيّروه ، و فيئنا لهم حلال ، و نحن لهم في ما يزعمون قطين . يعني : رقيق .

و يمكن الاستيناس للثاني بما في ( خلفاء ابن قتيبة ) ١ : أنّه عليه السّلام لما آيس من رجوع الخوارج ، رأى أن يدعهم و يمضي بالناس إلى معاوية ، فقام خطيبا و قال : أما بعد ، فإنّ من ترك الجهاد ، و داهن في أمر اللّه ، كان على شفا هلكة ، إلاّ أن يتداركه اللّه برحمته ، فاتّقوا اللّه عباد اللّه . قاتلوا من حادّ اللّه و حاول أن يطفى‏ء نور اللّه ، قاتلوا الخاطئين القاتلين لأولياء اللّه ، المحرّفين لدين اللّه ، الذين ليسوا بقرّاء الكتاب ، و لا فقهاء في الدين ، و لا علماء بالتأويل ، و لا لهذا الأمر بأهل في دين ، و لا سابقة . في الاسلام و اللّه لو ولوا عليكم ، لعملوا فيكم بعمل كسرى و قيصر .

« و لعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق » كائنا من كان ، و لو كان قريبه أو صديقه .

« و خابط » في ( الصحاح ) : خبط البعير الأرض بيده : ضربها ، و منه قيل :

خبط عشواء ، و هي التي في بصرها ضعف ، تخبط اذا مشت لا تتوقى شيئا .

« الغي من إدهان » أي : مصانعة ، قال تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله : ودوا لو تدهن فيدهنون ٢ .

« و لا إيهان » أي : تضعيف ، من : و هن بالكسر أي : ضعف .

« فاتقوا اللّه عباد اللّه » اقتصر في ( المصرية ) ٣ على الكلام ، و فيها سقط ،

و الأصل : « فاتقوا اللّه عباد اللّه و فروا إلى اللّه من اللّه » كما يشهد له ( ابن أبي

ــــــــــــ

 ( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٤٤ .

 ( ٢ ) القلم : ٩ .

 ( ٣ ) الطبعة المصرية : ٥٩ الخطبة ٢٤ .

٢٧٨

الحديد ) ١ و ( ابن ميثم ) ٢ و ( الخطية ) . و معنى الفرار إليه منه : أنّه لا ملجأ منه إلاّ إليه ، بمعنى انّه لا يتصور الفرار منه تعالى ، و الفرار منه هو الفرار إليه .

« و امضوا في الذي نهجه » أي : في الطريق الذي أوضحه .

« لكم » و كان أعداؤه مقرين بذلك ، فكان عمر يقول : لو ولى الخلافة علي ،

ليحملنّ الناس على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم .

« و قوموا بما عصبه » أي : شدّه .

« بكم » من جهاد أعداء اللّه .

« فعلي ضامن لفلجكم » أي : ظفركم و فوزكم و فلاحكم .

« آجلا » في الآخرة .

« إن لم تمنحوه » أي : تعطوه .

« عاجلا » أي : في الدنيا ، فشيعته هم الفائزون في الآخرة . رواه سبط ابن الجوزي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله .

٩

الخطبة ( ١٠٥ ) و من كلام له عليه السّلام :

وَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ وَ اِنْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ تَحُوزُكُمُ اَلْجُفَاةُ اَلطَّغَامُ وَ أَعْرَابُ أَهْلِ ؟ اَلشَّامِ ؟ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ اَلْعَرَبِ وَ يَآفِيخُ اَلشَّرَفِ وَ اَلْأَنْفُ اَلْمُقَدَّمُ وَ اَلسَّنَامُ اَلْأَعْظَمُ وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ حَسّاً بِالنِّضَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ تَرْكَبُ أُوْلاَهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ اَلْهِيمِ

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٣١ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤ ، و فيه : « فاتقوا اللّه عباد اللّه » .

٢٧٩

اَلْمَطْرُودَةِ تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا أقول : رواه الطبري ١ و ( صفّين نصر ) ٢ و ( الكافي ) ٣ . و ننقل الأوّل أخيرا .

قول المصنّف : « و من كلام له عليه السّلام » هكذا في ( المصرية ) ٤ و فيه تحريف و سقط ، و الصواب : ( و من خطبة له عليه السّلام في بعض أيام صفين ) كما في ( ابن أبي الحديد ) ٥ و ( ابن ميثم ) ٦ و ( الخطية ) .

« و قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم تحوزكم الجفاة » جمع الجافي .

« الطغام » أي : الأرذال و الأوغاد .

« و أعراب أهل الشام » قال عليه السّلام ذلك لأصحابه لمّا هزمهم في الميمنة أصحاب معاوية ففي ( الطبري ) ٧ : أقبل الذين تبايعوا من أهل الشام على الموت إلى معاوية ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة و بعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة : يحمل بمن كان معه على الميمنة ، فانكشف أهل العراق من قبل الميمنة ، حتى لم يبق منهم إلاّ ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء ، قد أسند بعضهم ظهره إلى بعض ، فأمر علي عليه السّلام سهل بن حنيف ،

فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة ، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى أن قال لما انهزمت ميمنة

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٥٦ .

 ( ٣ ) الكافي ٥ : ٤٠ ح ٤ .

 ( ٤ ) الطبعة المصرية : ٢٠٥ الخطبة ١٠٥ .

 ( ٥ ) شرح ابن ابي الحديد ٧ : ١٧٩ .

 ( ٦ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٣٧ ، و فيه : « من خطبة له عليه السّلام » .

 ( ٧ ) تاريخ الطبري ٥ : ١٨ .

٢٨٠