بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79852 / تحميل: 3783
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

حكومةُ يزيد

٢٤١
٢٤٢

وتسلّم يزيد بعد هلاك أبيه قيادة الدولة الإسلاميّة وهو في غضارة العمر ، لمْ تهذّبه الأيام ولمْ تصقله التجارب ، وإنّما كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ موفور الرغبة في اللّهو والقنص ، والخمر والنساء وكلاب الصيد ، ومُمْعناً كلّ الإمعان في اقتراف المنكر والفحشاء ، ولم يكن حين هلاك أبيه في دمشق ، وإنّما كان في رحلات الصيد في حوارين الثنية(1) ، فأرسل إليه الضحّاك بن قيس رسالة يعزّيه فيها بوفاة معاوية ويهنئه بالخلافة ، ويطلب منه الإسراع إلى دمشق ليتولّى أزمّة الحكم ، وحينما قرأ الرسالة اتّجه فوراً نحو عاصمته في ركب مِنْ أخواله ، وكان ضخماً كثير الشعر ، وقد شعث في الطريق وليس عليه عمامة ولا متقلّداً بسيف ، فأقبل الناس يسلّمون عليه ويعزّونه ، وقد عابوا عليه ما هو فيه وراحوا يقولون : هذا الأعرابي الذي ولاّه معاوية أمر الناس ، والله سائله عنه(2) .

واتّجه نحو قبر أبيه فجلس عنده وهو باك العين ، وأنشأ يقول :

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخبُّ بهِ

فأوجسَ القلبُ مِنْ قرطاسهِ فزعا

قلنا لكَ الويلُ ماذا في كتابكُمُ

قالَ الخليفة أمسى مدنفاً وجعا(3)

ثمّ سار متّجها نحو القبّة الخضراء في موكب رسمي تحفّ به علوج أهل الشام وأخواله وسائر بني أُميّة.

__________________

(1) الفتوح 4 / 265.

(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 267.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 261.

٢٤٣

خطاب العرش :

واتّجه يزيد نحو منصّة الخطابة ليعلن للناس سياسته ومخطّطات حكومته ، فلمّا استوى عليها ارتجّ عليه ولمْ يطق الكلام ، فقام إليه الضحّاك بن قيس فصاح به يزيد ما جاء بك؟ قال له الضحّاك : كلّم الناس وخذ عليهم ، فأمره بالجلوس(1) ، وانبرى خطيباً فقال : الحمد لله الذي ما شاء صنع ومَنْ شاء منع ، ومَنْ شاء خفض ومَنْ شاء رفع ، إنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ كان حبلاً مِنْ حبال الله مدّه ما شاء أنْ يمدّه ، ثمّ قطعه حين أراد أنْ يقطعه ، وكان دون مَنْ قبله وخيراً ممّا يأتي بعده ، ولا اُزكّيه عند ربّه وقد صار إليه ؛ فإنْ يعفُ عنه فبرحمته ، وإنْ يعاقبه فبذنبه. وقد وُلّيت بعده الأمر ولست اعتذر مِنْ جهل ولا آتي على طلب علم ، وعلى رسلكم : إذا كره الله شيئاً غيّره ، وإذا أحبّ شيئاً يسّره(2) .

ولم يعرض يزيد في هذا الخطاب لسياسة دولته ، ولمْ يدلِِ بأيّ شيء ممّا تحتاج إليه الأُمّة في مجالاتهم الاقتصادية والاجتماعية ، ومن المقطوع به أنّ ذلك ممّا لمْ يفكّر به ، وإنّما عرض لطيشه وجبروته واستهانته بالأُمّة ، فهو لا يعتذر إليها مِنْ أيّ جهل يرتكبه ولا مِنْ سيئة يقترفها ، وإنّما على الأُمّة الإذعان والرضا لظلمه وبطشه.

__________________

(1) تاريخ الخلفاء ، نشر أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي.

(2) العقد الفريد 4 / 153 ، عيون الأخبار 2 / 239.

٢٤٤

خطابُهُ في أهل الشام :

وخطب في أهل الشام خطاباً أعلن فيه عن عزمه وتصميمه على الخوض في حرب مدمّرة مع أهل العراق ، وهذا نصه : يا أهل الشام ، فإنّ الخير لمْ يزل فيكم وسيكون بيني وبين أهل العراق حرب شديد ، وقد رأيت في منامي كأنّ نهراً يجري بيني وبينهم دماً عبيطاً ، وجعلت أجهد في منامي أنْ أجوز ذلك النهر فلمْ أقدر على ذلك حتى جاءني عبيد الله بن زياد فجازه بين يدي وأنا أنظر إليه.

وانبرى أهل الشام فأعلنوا تأييدهم ودعمهم الكامل له ، قائلين : يا أمير المؤمنين ، امضِ بنا حيث شئت واقدم بنا على مَنْ أحببت ، فنحن بين يديك وسيوفنا تعرفها أهل العراق في يوم صفين.

فشكرهم يزيد وأثنى على إخلاصهم وولائهم له(1) ، وقد بات من المقطوع به عند أوساط الشام أنّ يزيد سيعلن الحرب على أهل العراق لكراهتهم لبيعته وتجاوبهم مع الإمام الحُسين.

مع المعارضة في يثرب :

ولم يرق ليزيد أنْ يرى جبهة معارضة لا تخضع لسلطانه ولا تدين بالولاء لحكومته ، وقد عزم على التنكيل بها بغير هوادة ، فقد استتبت له الأمور وخضعت له الرقاب وصارت أجهزة الدولة كلّها بيده ، فما الذي يمنعه من إرغام أعدائه ومناوئيه؟

وأهم ما كان يفكّر به من المعارضين الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ لأنّه يتمتّع

__________________

(1) الفتوح 5 / 6.

٢٤٥

بنفوذ واسع النّطاق ومكانة مرموقة بين المسلمين ، فهو حفيد صاحب الرسالة وسيد شباب أهل الجنّة ، أمّا ابن الزّبير فلمْ تكن له تلك الأهميّة البالغة في نفسه.

الأوامرُ المشدّدة إلى الوليد :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى عامله على يثرب الوليد بن عتبة بإرغام المعارضين له على البيعة ، وقد كتب إليه رسالتين :

الأولى : وقد رويت بصورتين وهما :

1 ـ رواها الخوارزمي وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية كان عبداً مِنْ عباد الله أكرمه واستخلصه ومكّن له ، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته.

عاش بقدر ومات بأجل ، وقد كان عهد إليّ وأوصاني أنّ الله تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان بآل أبي سفيان ؛ لأنّهم أنصار الحقّ وطلاّب العدل ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة(1) .

وقد احتوت هذه الرسالة على ما يلي :

1 ـ نعي معاوية إلى الوليد.

2 ـ تخوّف يزيد مِن الأُسرة النبوية ؛ لأنّه قد عهد إليه أبوه بالحذر منها ، وهذا يتنافى مع تلك الوصية المزعومة لمعاوية التي جاء فيها اهتمامه بشأن الحُسين (عليه السّلام) ، وإلزام ولده بتكريمه ورعاية مقامه.

3 ـ الإسراع في أخذ البيعة من أهل المدينة.

2 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً من عباد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله

__________________

(1) مقتل الحسين (عليه السّلام) للخوازمي 1 / 178.

٢٤٦

ومكّن له ، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمة الله عليه ، فقد عاش محموداً ومات برّاً تقيّاً ، والسّلام(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الرواية هي الصحيحة ؛ لأنّها قد اقتصرت على نعي معاوية إلى الوليد من دون أنْ تعرض إلى أخذ البيعة من الحُسين وغيره مِن المعارضين ، أمّا على الرواية الأولى فإنّه يصبح ذكر الرسالة التالية ـ التي بعثها يزيد إلى الوليد لإرغام الحُسين على البيعة ـ لغواً.

الثانية : رسالة صغيرة وصِفَت كأنّها أُذن فأرة ، وقد رويت بثلاث صور :

1 ـ رواها الطبري والبلاذري ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فخذ حُسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا ، والسّلام(2) .

2 ـ رواها اليعقوبي ، وهذا نصها : إذا أتاك كتابي فاحضر الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير فخُذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما ، وخُذ الناس بالبيعة فمَنْ امتنع فانفذ فيه الحكم ، وفي الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير ، والسّلام(3) .

وليس في الرواية الثانية ذكرٌ لعبد الله بن عمر ، وأكبر الظن أنّه أُضيف اسمه إلى الحُسين وابن الزّبير لإلحاقه بالجبهة المعارضة وتبريره من التأييد السافر لبيعة يزيد.

3 ـ رواها الحافظ ابن عساكر ، وهذا نصها : أن ادعُ الناس

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 124.

(2) تاريخ الطبري 6 / 84 ، أنساب الأشراف 1 ق 1 / 124.

(3) تاريخ اليعقوبي 2 / 215.

٢٤٧

فبايعهم وابدأ بوجوه قريش ، وليكن أوّل مَنْ تبدأ به الحُسين بن علي ؛ فإنّ أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ عهد إليّ في أمره الرفق واستصلاحه(1) .

وليس في هذه الرواية ذكر لابن الزّبير وابن عمر ، إذ لمْ تكن لهما أيّة أهميّة في نظر يزيد ، إلاّ إنّا نشك فيما جاء في آخر هذه الرسالة مِنْ أنّ معاوية قد عهد إلى يزيد الرفق بالحُسين واستصلاحه ؛ فإنّ معاوية قد وقف موقفاً [سلبياً] يتّسم بالعداء والكراهية لعموم أهل البيت (عليهم السّلام) ، واتّخذ ضدّهم جميع الإجراءات القاسية كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، وأكبر الظنّ أنّ هذه الجملة قد أُضيفت إليها لتبرير معاوية ونفي المسؤولية عنه فيما ارتكبه ولده مِن الجرائم ضدّ العترة الطاهرة.

بقي هنا شيء وهو أنّ هذه الرسالة قد وصفها المؤرّخون كأنّها أُذن فأرة لصغرها ، ولعلّ السبب في إرسالها بهذا الحجم هو أنّ يزيد قد حسِبَ أنّ الوليد سينفّذ ما عهد إليه مِنْ قتل الحُسين وابن الزّبير.

ومِن الطبيعي أنّ لذاك كثيراً مِن المضاعفات السيئة ، ومِنْ أهمها ما يلحقه مِن التذمّر والسّخط الشامل بين المسلمين ، فأراد أنْ يجعل التبعة على الوليد وأنّه لمْ يعهد إليه بقتلهما ، وأنّه لو أمره بذلك لأصدر مرسوماً خاصاً مطوّلاً به.

وحمل الرسالتين زُريق مولاه ، فأخذ يجذ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى يثرب(2) ، وكان معه عبد الله بن سعد بن أبي سرح متلثّماً لا يبدو منه إلاّ عيناه ، فصادفه عبد الله بن الزّبير فأخذ بيده وجعل

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 13 / 68.

(2) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 269 ، تاريخ خليفة بن خيّاط 1 / 222 ، وجاء في تاريخ ابن عساكر 13 / 68 وكتب يزيد مع عبد الله بن عمر ، وابن إدريس العامري عامر بن لؤي هذه الرسالة.

٢٤٨

يسأله عن معاوية وهو لا يجيبه ، فقال له : أمات معاوية؟ فلمْ يكلّمه بشيء فاعتقد بموت معاوية ، وقفل مسرعاً إلى الحُسين وأخبره الخبر(1) ، فقال له الحُسين : «إنّي أظنّ أنّ معاوية قد مات ، فقد رأيت البارحة في منامي كأن منبر معاوية منكوساً ، ورأيت داره تشتعل ناراً ، فأوّلت ذلك في نفسي بموته»(2) .

وأقبل زُريق إلى دار الوليد فقال للحاجب : استاذن لي ، فقال : قد دخل ولا سبيل إليه ، فصاح به زُريق : إنّي جئته بأمر ، فدخل الحاجب وأخبره بالأمر فأذن له ، وكان جالساً على سرير فلمّا قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية جزع جزعاً شديداً ، وجعل يقوم على رجليه ويرمي بنفسه على فراشه(3) .

فزع الوليد :

وفزع الوليد ممّا عهد إليه يزيد مِن التنكيل بالمعارضين ؛ فقد كان على يقين من أنّ أخذ البيعة من هؤلاء النفر ليس بالأمر السّهل حتّى يقابلهم بالعنف ، أو يضرب أعناقهم كما أمره يزيد.

إنّ هؤلاء النفر لمْ يستطع معاوية مع ما يتمتّع به مِن القابليات الدبلوماسية أنْ يُخضعهم لبيعة يزيد ، فكيف يصنع الوليد أمراً عجز عنه معاوية؟

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 2 / 115.

(2) الفتوح 5 / 14.

(3) تاريخ خليفة بن خيّاط 1 / 222.

٢٤٩

استشارته لمروان :

وحار الوليد في أمره فرأى أنّه في حاجة إلى مشورة مروان عميد الأُسرة الاُمويّة فبعث خلفه ، فأقبل مروان وعليه قميص أبيض وملأة مورّدة(1) فنعى إليه معاوية فجزع مروان وعرض عليه ما أمره يزيد مِنْ إرغام المعارضين على البيعة له وإذا أصرّوا على الامتناع فيضرب أعناقهم ، وطلب مِنْ مروان أنْ يمنحه النّصيحة ويخلص له في الرأي.

رأي مروان :

وأشار مروان على الوليد فقال له : ابعث إليهم في هذه الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فإنْ فعلوا قبلت ذلك منهم وإنْ أبَوا قدّمهم واضرب أعناقهم قبل أنْ يدروا بموت معاوية ؛ فإنّهم إنْ علموا ذلك وثب كلّ رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه ، فعند ذلك أخاف أنْ يأتيك مِنْ قِبَلِهم ما لا قِبَلَ لك به ، إلاّ عبد الله بن عمر فإنّه لا ينازع في هذا الأمر أحداً مع إنّي أعلم أنّ الحُسين بن علي لا يجيبك إلى بيعة يزيد ولا يرى له عليه طاعة ، ووالله ، لو كنت في وضعك لمْ اُراجع الحُسين بكلمة واحدة حتى أضرب رقبته كان في ذلك ما كان.

وعظُمَ ذلك على الوليد وهو أحنك بني أُميّة وأملكهم لعقله ورشده ، فقال لمروان : يا ليت الوليد لمْ يولد ولمْ يك شيئاً مذكوراً.

__________________

(1) تاريخ الإسلام ـ الذهبي 1 / 269.

٢٥٠

فسخر منه مروان وراح يندّد به قائلاً : لا تجزع ممّا قلت لك! فإنّ آل أبي تراب هم الأعداء مِنْ قديم الدهر ولم يزالوا ، وهم الدين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ثمّ ساروا إلى أمير المؤمنين ـ يعني معاوية ـ فحاربوه.

ونهره الوليد فقال له : ويحك يا مروان عن كلامك هذا! وأحسِن القول في ابن فاطمة ، فإنّه بقيّة النّبوة(1) . واتّفق رأيهم على استدعاء القوم وعرض الأمر عليهم ؛ للوقوف على مدى تجاوبهم مع السلطة في هذا الأمر.

أضواءُ على موقف مروان :

لقد حرّض مروان الوليد على التنكيل بالمعارضين ، واستهدف بالذات الإمام الحُسين ، فألحّ بالفتك به إنْ امتنع من البيعة ، وفيما أحسب أنّه إنّما دعاه لذلك ما يلي :

1 ـ أنّ مروان كان يحقد على الوليد ، وكانت بينهما عداوة متأصّلة وهو على يقين أنّ الوليد يحبّ العافية ولا ينفّذ ما عهد إليه في شأن الإمام الحُسين ، فاستغلّ الموقف وراح يشدّد عليه في اتّخاذ الإجراءات الصارمة ضدّ الإمام ؛ ليسبتين لطاغية الشام موقفه فيسلب ثقته عنه ويقصيه عن ولاية يثرب ، وفعلاً قد تحقّق ذلك ، فإنّ يزيد حينما علم بموقف الوليد مع الحُسين (عليه السّلام) غضب عليه وأقصاه عن منصبه.

__________________

(1) الفتوح 5 / 12 ـ 13.

٢٥١

2 ـ أنّ مروان كان ناقماً على معاوية حينما عهد بالخلافة لولده ولمْ يرشحّه لها ؛ لأنّه شيخ الاُمويِّين وأكبرهم سناً ، فأراد أنْ يورّط يزيد في قتل الإمام ؛ ليكون به زوال ملكه.

3 ـ كان مروان من الحاقدين على الحُسين ؛ لأنّه سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي حصد رؤوس بني أُميّة ونفى أباه الحكم عن يثرب ، وقد لعنه ولعن مَنْ تناسل منه ، وقد بلغ الحقد بمروان للأُسرة النّبوية أنّه منع مِنْ دفن جنازة الحسن (عليه السّلام) مع جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويقول المؤرّخون : إنّه كان يبغض أبا هريرة ؛ لأنّه يروي ما سمعه مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في فضل سبطيه وريحانتيه ، وقد دخل على أبي هريرة عائداً له فقال له : يا أبا هريرة ، ما وجدت عليك في شيء منذ اصطحبنا إلاّ في حبّك الحسن والحُسين.

فأجابه أبو هريرة : أشهد لقد خرجنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسمع الحسن والحُسين يبكيان ، فقال : «ما شأن ابني؟» فقالت فاطمة : «العطش» ، يا مروان كيف لا أحبّ هذين وقد رأيت مِنْ رسول الله ما رأيت؟!(1)

لقد دفع مروان الوليد إلى الفتك بالحُسين لعله يستجيب له فيروي بذلك نفسه المترعة بالحقد والكراهية لعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله).

4 ـ كان مروان على يقين أنّه سيلي الخلافة ، فقد أخبره الإمام أمير المؤمنين وصي النّبي (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه حينما تشفّع الحسنان به بعد واقعة الجمل ، فقال : «إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه» ، وقد اعتقد بذلك مروان ، وقد حرّض الوليد على الفتك بالحُسين ؛ ليكون

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 208.

٢٥٢

ذلك سبباً لزوال مُلْكِ بني سفيان ورجوع الخلافة إليه.

هذه بعض الأسباب التي حفّزت مروان إلى الإشارة على الوليد بقتل الإمام الحُسين ، وإنّه لمْ يكن بذلك مشفوعاً بالولاء والإخلاص إلى يزيد.

استدعاءُ الحُسين (عليه السّلام) :

وأرسل الوليد في منتصف الليل(1) عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو غلام حدث خلف الحُسين وابن الزّبير ، وإنّما بعثه في هذا الوقت لعلّه يحصل على الوفاق من الحُسين ولو سرّاً على البيعة ليزيد ، وهو يعلم أنّه إذا أعطاه ذلك فلن يخيس بعهده ولن يتخلّف عن قوله.

ومضى الفتى يدعو الحُسين وابن الزّبير للحضور عند الوليد فوجدهما في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فدعاهما إلى ذلك فاستجابا له وأمراه بالانصراف ، وذعر ابن الزّبير ، فقال للإمام :

ـ ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟

ـ «أظنّ أنّ طاغيتهم ـ يعني معاوية ـ قد هلك ، فبعث إلينا بالبيعة قبل أنْ يفشو بالناس الخبر».

ـ وأنا ما أظن غيره ، فما تريد أنْ تصنع؟

ـ «أجمع فتياني السّاعة ثم أسير إليه ، وأجلسهم على الباب».

ـ إنّي أخاف عليك إذا دخلت.

ـ «لا آتيه إلاّ وأنا قادر على الامتناع»(2) .

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 160.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

٢٥٣

وانصرف أبيّ الضيم إلى منزله فاغتسل وصلّى ودعا الله(1) ، وأمر أهل بيته بلبس السّلاح والخروج معه ، فخفّوا محدقين به ، فأمرهم بالجلوس على باب الدار ، وقال لهم : «إنّي داخل فإذا دعوتكم ، أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليّ بأجمعكم». ودخل الإمام على الوليد فرأى مروان عنده وكانت بينهما قطيعة ، فأمرهما الإمام بالتقارب والإصلاح وترك الأحقاد ، وكانت سجية الإمام (عليه السّلام) التي طُبِعَ عليها الإصلاح حتّى مع أعدائه وخصومه.

فقال (عليه السّلام) لهما : «الصلة خير من القطيعة ، والصلح خير مِن الفساد ، وقد آن لكما أنْ تجتمعا ، أصلح الله ذات بينكما»(2) .

ولمْ يجيباه بشيء فقد علاهما صمت رهيب ، والتفت الإمام إلى الوليد فقال له : «هل أتاك مِنْ معاوية خبر ، فإنّه كان عليلاً وقد طالت علّته ، فكيف حاله الآن؟».

فقال الوليد بصوت خافت ، حزين النّبرات : آجرك الله في معاوية ، فقد كان لك عمّ صدوق ، وقد ذاق الموت ، وهذا كناب أمير المؤمنين يزيد.

فاسترجع الحُسين (عليه السّلام) ، وقال له : «لماذا دعوتني؟».

دعوتك للبيعة(3) .

فقال (عليه السّلام) : «إنّ مثلي لا يبايع سرّاً ولا يُجتزئ بها منّي سرّاً ، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم ، وكان الأمر واحداً».

__________________

(1) الدر النظيم / 162.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

(3) الفتوح 5 / 17.

٢٥٤

لقد طلب الإمام تأجيل الأمر إلى الصباح ؛ حتّى يعقد اجتماعاً جماهيرياً فيدلي برأيه في شجب البيعة ليزيد ، ويستنهض همم المسلمين على الثورة والإطاحة بحكمه ، وكان الوليد ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يحبّ العافية ويكره الفتنة ، فشكر الإمام على مقالته وسمح له بالانصراف إلى داره.

وانبرى الوغد الخبيث مروان بن الحكم وهو مغيظ محنق فصاح بالوليد : لئن فارقك السّاعة ولمْ يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه ، احبسه فإنْ بايع وإلاّ ضربت عنقه.

ووثب أبيّ الضيم إلى الوزغ بن الوزغ ، فقال له : «يابن الزرقاء ، أأنت تقتلني أمْ هو؟ كذبت والله ولؤمت»(1) .

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفض البيعة ليزيد قائلاً : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ومحل الرّحمة ، بنا فتح الله وبنا يختم. ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون أينا أحقّ بالخلافة والبيعة؟»(2) .

وكان هذا أوّل إعلان له على الصعيد الرسمي بعد هلاك معاوية في رفض البيعة ليزيد ، وقد أعلن ذلك في بيت الإمارة ورواق السلطة بدون مبالاة ولا خوف ولا ذعر.

لقد جاء تصريحه بالرفض لبيعة يزيد معبّراً عن تصميمه ، وتوطين نفسه حتّى النّهاية على التضحية عن سموّ مبدئه وشرف عقيدته ، فهو بحكم مواريثه الروحية ، وبحكم بيئته التي كانت ملتقى لجميع الكمالات الإنسانية

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 264.

(2) الفتوح 5 / 18.

٢٥٥

كيف يبايع يزيد الذي هو مِنْ عناصر الفسق والفجور؟ ولو أقرّه إماماً على المسلمين لساق الحياة الإسلاميّة إلى الانهيار والدمار ، وعصف بالعقيدة الدينية في متاهات سحيقة مِن مجاهل هذه الحياة.

وكانت كلمة الحقّ الصارخة التي أعلنها أبو الأحرار قد أحدثت استياءً في نفس مروان ، فاندفع يعنّف الوليد ويلومه على إطلاق سراحه قائلاً : عصيتني! لا والله ، لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

وتأثّر الوليد مِنْ منطق الإمام وتيقّظ ضميره ، فاندفع يردّ أباطيل مروان قائلاً : ويحك! إنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي. والله ، ما أحبّ أنْ أملك الدنيا بأسرها ، وإنّي قتلت حُسيناً. سُبحان الله! أأقتل حُسيناً إنْ قال لا أُبايع؟! والله ، ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحُسين إلاّ وهو خفيف الميزان ، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكّيه وله عذاب أليم.

وسخر منه مروان وطفق يقول : إذا كان هذا رأيك فقد أصبت(1) .

وعزم الحُسين على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكّة ؛ ليلوذ بالبيت الحرام ويكون بمأمن مِنْ شرور الاُمويِّين واعتدائهم.

الحسينُ (عليه السّلام) مع مروان :

والتقى أبيّ الضيم في أثناء الطريق بمروان بن الحكم في صبيحة تلك الليلة التي أعلن فيها رفضه لبيعة يزيد ، فبادره مروان قائلاً :

__________________

(1) الطبري.

٢٥٦

«إنّي ناصح ، فأطعني ترشد وتسدّد ..».

«وما ذاك يا مروان؟».

«إنّي آمرك ببيعة أمير المؤمنين يزيد ؛ فإنّه خير لك في دينك ودنياك».

والتاع كأشدّ ما تكون اللوعة واسترجع ، وأخذ يردّ على مقالة مروان ببليغ منطقه قائلاً : «على الإسلام السّلام ، إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد. ويحك يا مروان! أتأمرني ببيعة يزيد وهو رجل فاسق؟! لقد قلت شططاً من القول. لا ألومك على قولك ؛ لأنّك اللعين الذي لعنك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنت في صلب أبيك الحكم بن أبي العاص».

وأضاف الإمام يقول : «إليك عنّي يا عدو الله! فإنّا أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والحقّ فينا ، وبالحقّ تنطق ألسنتنا ، وقد سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان ، وعلى الطلقاء وأبناء الطلقاء. وقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. فوالله ، لقد رآه أهل المدينة على منبر جدّي فلم يفعلوا ما أُمروا به».

وتميّز الخبيث الدنس مروان غيظاً وغضباً ، واندفع يصيح : والله ، لا تفارقني أو تبايع ليزيد صاغراً ؛ فإنّكم آل أبي تراب قد أُشربتم بغض آل أبي سفيان ، وحقّ عليكم أن تبغضوهم وحقّ عليهم أن يبغضوكم.

وصاح به الإمام : «إليك عنّي فإنّك رجس ، وأنا مِنْ أهل بيت الطهارة الذين أنزل الله فيهم على نبيه (صلّى الله عليه وآله) : إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً».

ولمْ يطق مروان الكلام وقد تحرّق ألماً وحزناً ، فقال له الإمام : «أبشرْ يابن الزرقاء بكلّ ما تكره من الرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم تقْدِم

٢٥٧

على ربّك فيسألك جدّي عن حقّي وحقّ يزيد».

وانصرف مروان مسرعاً إلى الوليد فأخبره بمقالة الحُسين له(1) .

اتصالُ الوليد بدمشق :

وأحاط الوليدُ يزيدَ علماً بالأوضاع الراهنة في يثرب ، وعرّفه بامتناع الحُسين (عليه السّلام) من البيعة ، وأنّه لا يرى له طاعة عليه ، ولمّا فهم يزيد بذلك تميّز غيظاً وغضباً.

الأوامر المشدّدة مِن دمشق :

وأصدر يزيد أوامره المشدّدة إلى الوليد بأخذ البيعة مِنْ أهل المدينة ثانياً ، وقتل الحُسين (عليه السّلام) وإرسال رأسه إليه.

وهذا نص كتابه : من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة ، أمّا بعد ، فإذا ورد عليك كتابنا هذا فخذ البيعة ثانياً على أهل المدينة بتوكيد منك عليهم وذر عبد الله بن الزّبير ؛ فإنّه لن يفوت أبداً مادام حيّاً ، وليكن مع جوابك إليّ برأس الحُسين بن علي ، فإنْ فعلت ذلك فقد جعلت لك أعنّة الخيل ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر والنّعمة ، والسّلام.

رفض الوليد :

ورفض الوليد رسميّاً ما عهد إليه يزيد من قتل الحُسين ، وقال : لا والله ، لا يراني الله قاتلَ الحُسين بن علي. لا أقتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)

__________________

(1) الفتوح 5 / 24.

٢٥٨

ولو أعطاني يزيد الدنيا بحذافيرها(1) ، وقد جاءته هذه الرسالة بعد مغادرة الإمام يثرب إلى مكّة.

وداع الحُسين (عليه السّلام) لقبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وخفّ الحُسين (عليه السّلام) في الليلة الثانية إلى قبر جدّه (صلّى الله عليه وآله) وهو حزين كئيب ؛ ليشكو إليه ظلم الظالمين له ، ووقف أمام القبر الشريف بعد أنْ صلّى ركعتين وقد ثارت مشاعره وعواطفه ، فاندفع يشكو إلى الله ما ألمّ به من المحن والخطوب قائلاً : «اللّهم ، إنّ هذا قبرَ نبيّك محمّدٌ وأنا ابن بنت محمّد ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهم ، إنّي اُحبّ المعروف واُنكر المُنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى».

رؤيا الحُسين (عليه السّلام) لجدّه (صلّى الله عليه وآله) :

وأخذ الحُسين يطيل النظر إلى قبر جدّه وقد وثقت نفسه أنّه لا يتمتّع برؤيته وانفجر بالبكاء ، وقبل أنْ يندلعَ نور الفجر غلبه النوم فرأى جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أقبلَ في كتيبة مِن الملائكة ، فضمّ الحُسين إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وهو يقول له : «يا بُني ، كأنّي عن قريب أراك مقتولاً مذبوحاً بأرض كربٍ وبلاء ، بين عصابة مِنْ أُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن

__________________

(1) الفتوح 5 / 26 ـ 27.

٢٥٩

لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي يوم القيامة! فما لهم عند الله مِنْ خلاق.

حبيبي يا حُسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون. إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة».

وجعل الحُسين يطيل النظر إلى جدّه (صلّى الله عليه وآله) ويذكر عطفه وحنانه عليه فازداد وجيبه. وتمثّلت أمامه المحن الكبرى التي يعانيها من الحكم الاُموي. فهو إمّا أنْ يُبايع فاجرَ بني أُميّة أو يُقتل ، وأخذ يتوسّل إلى جدّه ويتضرّع إليه قائلاً : «يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى منزلك».

والتاع النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال له : «لا بدّ لك مِن الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم ؛ فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة»(1) .

واستيقظ الحُسين فزعاً مرعوباً ، قد ألمّت به تياراتٌ من الأسى والأحزان ، وصار على يقين لا يخامره أدنى شك أنّه لا بد أنْ يُرزق الشهادة ، وجمع أهل بيته فقصّ عليهم رؤياه الحزينة ، فطافت بهم الآلام وأيقنوا بنزول الرزء القاصم.

ووصف المؤرّخون شدّة حزنهم بأنّه لمْ يكن في ذلك اليوم لا في شرق الأرض ولا في غربها أشدّ غمّاً مِنْ أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا أكثر باكية وباك منهم(2) .

__________________

(1) الفتوح 5 / 28 ـ 29.

(2) مقتل العوالم / 54.

٢٦٠

جبريل أهدى لنا الخيرات أجمعها

آرام هاشم لا أبناء مخزوم

فقلت في نفسي : غلبني و اللّه ، ثم حملني الطمع في انقطاعه عني ، فقلت له :

بل أشعر منه الذي يقول :

أبناء مخزوم الحريق اذا

حرّكته تارة ترى ضرما

يخرج منه الشرار مع لهب

من حاد عن حدّه فقد سلما

فو اللّه ما تلعثم أن أقبل عليّ بوجهه ، فقال : يا أخا بني مخزوم ، أشعر من صاحبك و أصدق ، الذي يقول :

هاشم بحر اذا سما و طما

أخمد حر الحريق و اضطرما

و اعلم و خير القول أصدقه

بأن من رام هاشما هشما

فتمنيت و اللّه أنّ الأرض ساخت بي ، ثم تجلدت عليه ، فقلت : يا أخا بني هاشم أشعر من صاحبك ، الّذي يقول :

أبناء مخزوم أنجم طلعت

للناس تجلو بنورها الظلما

تجود بالنيل قبل تسأله

جودا هنيئا و تضرب البهما

فأقبل عليّ بأسرع من اللحظ ، ثم قال : أشعر من صاحبك و أصدق ، الذي يقول :

هاشم شمس بالسعد مطلعها

اذا بدت أخفت النجوم معا

اختارنا اللّه في النبي فمن

قارعنا بعد أحمد قرعا

فاسودّت الدنيا في عيني ، فانقطعت فلم أجد جوابا ، ثمّ قلت له : يا أخا بني هاشم إن كنت تفتخر علينا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله ، فما تسعنا مفاخرتك . فقال : كيف لا نفتخر به و لو كان منك لفخرت به عليّ ؟ فقلت : صدقت ، إنّه لموضع الفخار.

و سررت بقطعه الكلام ، ثم إنّه ابتدأ المناقضة ، ففكّر هنيئة ثم قال : قد قلت فلم أجد بدا من الاستماع . فقلت : هات . فقال :

٢٦١

نحن الذين إذا سما بفخارهم

ذو الفخر أقعده هناك القعدد

افخر بنا إن كنت يوما فاخرا

تلق الألى فخروا بفخرك افردوا

قل يا بن مخزوم لكلّ مفاخر

منّا المبارك ذو الرسالة أحمد

ماذا يقول ذوو الفخار هنا لكم

هيهات ذلك هل ينال الفرقد

فحصرت و تبلّدت ، ثم قلت له : انظرني . و أفكرت مليّا ثم أنشأت أقول :

لا فخر إلاّ قد علاه محمد

فاذا فخرت به فانّي أشهد

ان قد فخرت وفقت كلّ مفاخر

و إليك في الشرف الرفيع المقصد

و لنا دعائم قد تناهى أول

في المكرمات جرى عليها المولد

من رامها حاشى النبيّ و أهله

في الأرض غطغطه الخليج المزبد

دع و ذا و رح بفناء خود بضة

مما نطقت به و غنّى معبد

مع فتية تندى بطون أكفّهم

جودا إذا هز الزمان الأنكد

يتناولون سلافة عامية

طابت لشاربها و طاب المقعد

فو اللّه لقد أجابني بجواب كان أشدّ علي من الشعر ، فقال لي : يا أخا بني مخزوم اريك السها ، و تريني القمر . و هذا مثل ، أي : تخرج من المفاخرة الى شرب الراح الى أن قال فقلت : لا أرى شيئا أصلح من السكوت . فضحك و قام عني . قال : فضحك عبد الملك حتى استلقى ، و قال : يا بن أبي ربيعة أما علمت أنّ لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق ؟

قلت : قول عبد الملك نظير قول معاوية : « إنّا بنو عبد مناف » .

« و لمّا أدخل اللّه العرب في دينه أفواجا » قال تعالى : اذا جاء نصر اللّه و الفتح . و رأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا ١ .

« و أسلمت له هذه الامة طوعا و كرها » بعد فتح مكة .

ــــــــــــ

 ( ١ ) النصر : ١ ٢ .

٢٦٢

« كنتم ممّن دخل الدين إمّا رغبة و إما رهبة » لأنّ إسلامهم كان بعد الفتح ،

و قال صلّى اللّه عليه و آله بعد الفتح لأهل مكة كما في ( الطبري ) ١ : « اذهبوا فأنتم الطلقاء » فاعتقهم و قد كان اللّه أمكنه من رقابهم عنوة و كانوا له فيئا . و انما قوله عليه السّلام :

« إما رغبة و إمّا رهبة » نظير قوله تعالى : و إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ٢ . و إلاّ فمعلوم كون دخولهم في الدين رهبة .

« على حين فاز أهل السبق بسبقهم و ذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم » في ( الطبري ) ٣ : قال العباس لأبي سفيان قبل أن يرد النبي صلّى اللّه عليه و آله مكة : اركب عجز بغلتي لاستأمن لك النبي صلّى اللّه عليه و آله ، فو اللّه لئن ظفر ليضربن عنقك الى أن قال فلمّا رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا سفيان قال له : ويحك ألم يأن لك أن تعلم ألاّ إله إلاّ اللّه ؟

فقال : و اللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه غيره ، لقد أغنى عني شيئا . فقال : ويحك ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه ؟ فقال : أمّا هذه ففي النفس منها شي‏ء . فقال له العباس : ويلك تشهّد شهادة الحق قبل أن يضرب عنقك . فتشهد ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله للعباس : احبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي ، حتى تمرّ عليه جنود اللّه الى أن قال فقال أبو سفيان للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما . فقال له العباس : ويحك إنّها النبوّة . فقال : نعم إذن الى أن قال قال الواقدي : و أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله بقتل ستة نفر ، و أربع نسوة ، منهن هند ام معاوية إلى أن قال فجاءته هند متنقّبة متنكّرة ، لحدثها و ما كان من صنيعها بحمزة ،

في بيعة النساء إلى أن قال قال لهن : « و لا تسرفن » . فقالت هند : و اللّه إن كنت لاصيب من مال أبي سفيان الهنة الهنة . فقال لها النبي صلّى اللّه عليه و آله : و إنّك لهند ؟ قالت :

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ٦١ .

 ( ٢ ) سبأ : ٢٤ .

 ( ٣ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٣ .

٢٦٣

أنا هند ، فاعف . قال : « و لا تزنين » قالت : و هل تزني الحرة ؟ فقال : « و لا تقتلن أولادكن » . فقالت : « ربيناهم صغارا و قتلتهم يوم بدر كبارا » ، فانت و هم أعلم .

فضحك عمر من قولها حتى استغرب .

« فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا و لا على نفسك سبيلا » بادّعاء الباطل ، فقد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله كما رواه ( صفّين نصر ) ١ : اذا رأيتم معاوية يخطب على منبري ، فاضربوا عنقه .

و فيه ٢ : خرج عمّار يوم الثالث ، و خرج إليه عمرو بن العاص ، فجعل عمّار يقول : يا أهل الاسلام أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى اللّه و رسوله ،

و جاهدهما و بغى على المسلمين ، و ظاهر المشركين ، فلمّا أراد اللّه أن يظهر دينه ، و ينصر رسوله أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأسلم ، و هو و اللّه ما يرى راهب غير راغب ، و قبض اللّه رسوله و إنّا و اللّه لنعرفه بعداوة المسلم ، و مودة المجرم ؟ ألا و إنّه معاوية ، فالعنوه لعنه اللّه ، و قاتلوه فإنّه ممّن يطفى‏ء نور اللّه ، و يظاهر أعداء اللّه .

و مر في ( ١١ ) فصل الإمامة العامة : أن قوما استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين و الأنصار ، و لكلّ فضل ، حتى اذا استشهد شهيدنا قيل : سيد الشهداء و خصّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بسبعين تكبيرة . . . .

٧

الخطبة ( ٥٥ ) و من كلام له عليه السّلام و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين :

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ اَلْمَوْتِ فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣١٦ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٤ .

٢٦٤

اَلْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ اَلْمَوْتُ إِلَيَّ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ ؟ اَلشَّامِ ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وَ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلاَلِهَا وَ إِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا

٢٦٥

أقول : قال ابن أبي الحديد ١ : لما ملك أمير المؤمنين عليه السّلام الماء بصفين ،

ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه ، استمالة لهم و اظهارا للمعدلة و حسن السيرة فيهم ، مكث أيّاما لا يرسل إلى معاوية و لا يأتيه من عنده أحد ، فاستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال و قالوا له عليه السّلام : خلّفنا ذرارينا و نساءنا بالكوفة و جئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا ؟ ائذن لنا في القتال ، فإنّ الناس قد قالوا .

فقال عليه السّلام : ما قالوا ؟ فقيل : إنّ الناس يظنّون أنّك تكره الحرب كراهية للموت ،

و إنّ من الناس من يظن أنّك في شكّ من قتال أهل الشام . فقال عليه السّلام : و متى كنت كارها للحرب قطّ ؟ إنّ من العجب حبي لها غلاما و يافعا ، و كراهتي لها شيخا بعد نفاد العمر و قرب الموت ، و أمّا شكي في القوم فلو شككت فيهم ، لشككت في أهل البصرة ، و اللّه لقد ضربت هذا الأمر ظهرا و بطنا ، فما وجدت يسعني إلاّ القتال ، أو أن أعصي اللّه و رسوله ، و لكنّي استأني بالقوم عسى ان يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة فانّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لي يوم خيبر لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس . ثم نقل ابن أبي الحديد ٢ : رواية نصر بن مزاحم في ( صفينه ) ٣ : بعثه عليه السّلام جمعا إلى معاوية و مشى القراء بينهما إلى أن قال فقال القراء له عليه السّلام : إنّ معاوية يقول لك : إن كنت صادقا في عدم

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٣ .

 ( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٦ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٨٩ .

٢٦٦

قتلك عثمان و عدم أمرك بقتله ، فأقدنا من قتلته ، فإنّهم في عسكرك و جندك و عضدك . فقال عليه السّلام لهم : إنّ القوم تأولوا عليه القرآن و وقعت الفرقة ، فقتلوه في سلطانه ، و ليس على ضربهم قود . ثم قال ابن أبي الحديد ١ : و لا أدري لم عدل عليه السّلام عن الحجّة بما هو أوضح من هذا الكلام ؟ و هو أن يقول : إنّ الذين باشروا قتل عثمان بأيديهم كانا اثنين ، و هما قتر بن وهب و سودان بن حمران ، و كلاهما قتل يوم الدار ، قتلهما عبيد عثمان ، و الباقون الذين جندي و عضدي كما تزعمون لم يقتلوا بأيديهم و إنّما اغروا به و حصروه ،

و أجلبوا عليه و هجموا على داره ، كمحمّد بن أبي بكر و الأشتر و عمرو بن الحمق و غيرهم ، و ليس على هؤلاء قود . و قوله عليه السّلام : و ليس على ضربهم قود .

أي : على مثلهم .

قلت : هل هو أعلم بالقضية و بقضائها منه عليه السّلام ؟ و كيف أنكر تصدّي اولئك و قد طعنه عمرو بن الحمق تسع طعنات ؟ و كون عمّار من قتلته مسلم ،

فقال معاوية لجمع أرسلهم عليه السّلام إليه : ألستم تعلمون أنّ قتلة صاحبنا أصحاب صاحبكم ؟ فليدفعهم إلينا فنقتلهم به ، ثم نجيبكم إلى الطاعة . فقال له شبث :

أيسرك باللّه إن امكنت من عمّار فقتلته ؟ فقال : و اللّه لو أمكنني صاحبكم من ابن سميّة ما قتلته بعثمان ، و لكنّي أقتله بنائل مولاه . فقال له شبث : و إله السماء ما عدلت معدلا .

كما أنّ كون محمّد بن أبي بكر من قتلته أيضا مسلّم ، ففي ( الطبري ) ٢ :

كتب معاوية إليه : سعيت عليه في الساعين و سفكت دمه في السافكين إلى أن قال و عدوك على عثمان يوم تطعن بمشاقصك بين أحشائه و أوداجه . و ما

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٥٩ .

 ( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٧٦ .

٢٦٧

ينفعه تأويله لفظ « ضربهم » ؟

و كون عثمان عنده عليه السّلام مباح الدم أمر واضح ، فلما جاء شرحبيل و معن من قبل معاوية إليه عليه السّلام و قد نقله بعد عن ( صفين نصر ) ١ قالا له عليه السّلام :

أتشهد أنّ عثمان قتل مظلوما ؟ فقال لهما : إنّي لا أقول ذلك . قالا : فمن لم يشهد أنّ عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء . ثمّ قاما فانصرفا ، فقال علي عليه السّلام فإنّك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء اذا ولّوا مدبرين ٢ .

« أمّا قولكم أ كلّ » و في ( ابن ميثم ) ٣ : « كل » ثم الظاهر كون ( كل ) بالرفع مبتدأ . و يجوز أن يقرأ بالنصب ، لقوله بعد ( أو ) : أمّا قولكم : « شكا في أهل الشام » فيقدر له ناصب كما له .

« ذلك » أي : تأخير الحرب .

« كراهية الموت فو اللّه ما ابالي » أي : لا اكترث .

« أدخلت » هكذا في ( المصرية ) ٤ ، و الصواب : ( دخلت ) كما في ( ابن أبي الحديد ) ٥ و ( ابن ميثم ) ٦ و ( الخطية ) .

« الى الموت أو خرج الموت » لعل إلاظهار مع كون المقام مقام الإضمار ،

لتأكيد عدم مبالاته عليه السّلام بالموت .

« إليّ » فإنّه عليه السّلام كان يقول لما كانوا يقولون : سكت عن طلب الملك جزعا من الموت : و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امه .

ــــــــــــ

 ( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٠١ ٢٠٢ .

 ( ٢ ) الروم : ٥٢ .

 ( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ ، و فيه : « أما قولكم : أ كلّ ذلك » .

 ( ٤ ) الطبعة المصرية : ٩٩ الخطبة ٥٥ .

 ( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ١٢ .

 ( ٦ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ .

٢٦٨

و في ( صفين نصر ) ١ : عن زيد بن وهب قال مر علي عليه السّلام يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة ، و إنّي لأرى النبل يمرّ بين عاتقه و منكبيه ، ثم إنّ أهل الشام دنوا منه ، و اللّه ما يزيده قربهم منه سرعة في مشيه ، فقال له الحسن عليه السّلام : ما ضرّك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين صبروا لعدوّك من أصحابك ؟

فقال : يا بني لأبيك يوم لن يعدوه ، و لا يبطي به عنه السعي ، و لا يعجل به إليه المشي . إنّ أباك و اللّه ما يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه .

و عن ٢ عبد الرحمن بن حاطب : كان عليّ عليه السّلام اذا أراد القتال هلّل و كبّر ،

ثمّ قال :

أي يوميّ من الموت أفر

يوم ما قدر أم يوم قدر

« و أمّا قولكم : شكا في أهل الشام ، فو اللّه ما دفعت الحرب يوما إلاّ و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي » ممّن لحق به عليه السّلام ابن عم لعمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ٣ : أنّ ابن عمّ لعمرو قال له : إنّك ان لم ترد معاوية ، لم يردك ،

و لكنك تريد دنياه و يريد دينك . فبلغ معاوية قوله ، فطلبه فلحق بعلي عليه السّلام ،

فحدّثه بأمر عمرو و معاوية ، فسرّ ذلك عليّا عليه السّلام و قرّبه .

و لحق به عليه السّلام ابن اخت لشرحبيل بن السمط ، ففي ( صفين نصر ) ٤ : لمّا كتب جرير إلى شرحبيل ينصحه ، ذعر و فكر فلفف له معاوية الرجال يعظّمون عنده قتل عثمان ، و يرمون به عليا عليه السّلام ، و يقيمون الشهادة الباطلة ، و الكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه . فقال ابن اخت له من بارق و كان لحق أهل الشام :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شرحبيل بالسهم الذي هو قاتله

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٩ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٩٥ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٢ .

 ( ٤ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٤٩ ٥٠ .

٢٦٩

فقال شرحبيل : و اللّه لأسيرن إلى صاحب هذا الشعر ، أو ليفوتني . فهرب الفتى إلى الكوفة و كان أصله منها . و كاد أهل الشام أن يرتابوا . . .

و لحق به عليه السّلام صديق لعمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ١ : ذكروا أنّه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة ، و قال معاوية : هذا أول الظفر . فقام إليه رجل يقال له ابن الأقبل و كان ناسكا ، و كان له في ما يذكر همدان لسان ، و كان صديقا لعمرو فقال له : أما تعلم ان فيهم العبد و الأمة و الأجير و الضعيف ، و من لا ذنب له ؟ هذا و اللّه أوّل الجور ، لقد شجّعت الجبان ،

و بصّرت المرتاب ، و حملت من لا يريد قتالك على كتفيك . فأغلظ له ، فقال الرجل أبياتا : و لحق في سواد الليل بعلي عليه السّلام .

و لحق به عليه السّلام شامي سمع قول النبي صلّى اللّه عليه و آله في معاوية ، لمّا رأى بيعة أهل الشام معه ، ففي ( صفين نصر ) ٢ : عن أبي حرب بن الأسود عن رجل من أهل الشام عن أبيه ، قال : سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله يقول : « شرّ خلق اللّه خمسة:

إبليس ، و ابن آدم الذي قتل أخاه ، و فرعون ذو الأوتاد ، و رجل من بني إسرائيل ردّهم عن دينهم ، و رجل من هذه الامّة يبايع على كفره عند باب لد » . قال الرجل :

فلمّا رأيت معاوية يبايع عند باب لد ذكرت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله ، فلحقت بعلي عليه السّلام فكنت معه .

و لحق به شمر بن أبرهة الحميري ، و جمع من القرّاء ، ففي ( صفين نصر ) ٣ : عن الزهري قال : خرج في اليوم الخامس من صفر شمر بن ابرهة الحميري في ناس من قرّاء أهل الشام ، فلحق بعلي عليه السّلام ، ففت ذلك في عضد

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٦٣ ١٦٤ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢١٧ .

 ( ٣ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٢٢ .

٢٧٠

معاوية و عمرو بن العاص ، فقال عمرو لمعوية : إنّك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد قرابة قريبة ، و رحم ماسة ، و قدم في الاسلام لا يعتد أحد بمثله ، و نجدة في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمّد ، و إنّه قد سار إليك بأصحاب محمّد المعدودين ، و فرسانهم و قرّائهم ، و أشرافهم و قدمائهم في الاسلام ، و لهم في النفوس مهابة ، فبادر بأهل الشام محاش الوعر ، و مضائق الغيض ، و آتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم ، فيحدث عندهم طول المقام مللا ،

فيظهر فيهم كآبة الخذلان ، و مهما نسيت فلا تنس أنّك على باطل و أنّه على الحق .

و لحق به عليه السّلام عبد اللّه بن عمر العنسي لسماع ذي الكلاع حديث : ( قتل الفئة الباغية لعمّار ) في أيام عمر من عمرو بن العاص ، ففي ( صفين نصر ) ١ ،

عن الإفريقي بن أنعم قال : قال أبو نوح الحميري : كنت في خيل علي عليه السّلام ، اذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري ؟ قلت : أيّهم تريد ؟ قال : أبو نوح . قلت : قد وجدته ، فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع ، سرّ إليّ . فقلت : معاذ اللّه أن أسير إليك إلاّ في كتيبة . قال : سرّ فلك ذمّة اللّه و ذمّة رسوله و ذمّة ذي الكلاع ،

حتى ترجع إلى خيلك ، فإنّما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه . فسارا حتى التقيا ، فقال له ذو الكلاع : إنّما دعوتك احدّثك حديثا حدّثنا به عمرو بن العاص أيام إمارة عمر : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال : « يلتقي أهل الشام و أهل العراق ،

و في احدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمّار بن ياسر » . فقال له : إنّ عمّارا و اللّه لفينا . قال : أجادّ هو في قتالنا ؟ قال : نعم و ربّ الكعبة ، هو أشد على قتالكم منّي ، و لوددت أنّكم خلق واحد فذبحته ، و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي . قال : ويلك علام تتمنى ذلك منّي ؟ و اللّه ما قطعتك في ما بيني و بينك ، و إنّ

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٣٢ ٣٣٩ .

٢٧١

رحمك لقريبة ، و ما يسرّني أنّي أقتلك . قال أبو نوح : إنّ اللّه قد قطع بالإسلام أرحاما قريبة ، و وصل به أرحاما متباعدة ، و أنّى يكون بيننا وصل و نحن على الحق ، و أنتم على الباطل مقيمون مع أئمة الكفر و رؤوس الأحزاب ؟ فقال ذو الكلاع هل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام ، فانا جار لك منهم ، حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بجدّ عمّار في قتالنا ؟ إلى أن قال ثم سار أبو نوح حتى أتى عمرا ، و هو عند معاوية ، فقال ذو الكلاع لعمرو : هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار لا يكذبك ؟ قال عمرو : و من هو ؟ قال : ابن عمي هذا ، و هو من أهل الكوفة . فقال عمرو لأبي نوح : إنّي لأرى عليك سيماء أبي تراب . قال أبو نوح : علي عليه السّلام عليه سيماء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه ، و عليك سيماء أبي جهل و سيماء فرعون إلى أن قال بين ذكر جمعه بين عمّار و عمرو فقال عمّار لعمرو : ألست تعلم أيها الأبتر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه إلى أن قال فقال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال عمّار : فتح لكم باب كلّ سوء .

قال عمرو : فعليّ قتله ؟ قال عمّار : بل اللّه ربّ علي قتله ، و علي معه . قال عمرو:

أكنت في من قتله ؟ قال : كنت مع من قتله ؟ و أنا اليوم أقاتل معهم . قال عمرو :

فلم قتلتموه ؟ قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه إلى أن قال و مشى عبد اللّه بن سويد سيد جرش إلى ذي الكلاع فقال له : لم جمعت بين الرجلين ؟ قال :

لحديث سمعته من عمرو ، ذكر أنّه سمعه من النبي صلّى اللّه عليه و آله ، و هو يقول لعمّار :

« تقتلك الفئة الباغية » فخرج عبد اللّه بن عمر العنسي و كان من عبّاد أهل زمانه ليلا فأصبح في عسكر علي عليه السّلام ، و قال لذي الكلاع :

و الراقصات بركب عامدين له

إنّ الذي جاء من عمرو لمأثور

قد كنت اسمع و الأنباء شائعة

هذا الحديث فقلت الكذب و الزور

٢٧٢

حتى تلقيته من أهل عيبته

فاليوم أرجع و المغرور مغرور

و اليوم أبرأ من عمرو و شيعته

و من معاوية المحدو به العير

لا ، لا اقاتل عمّارا على طمع

بعد الرواية حتى ينفخ الصور

تركت عمرا و أشياعا له نكدا

إنّي بتركهم يا صاح معذور

يا ذا الكلاع فدع له معشرا كفروا

أو لا فدينك عين فيه تغرير

ما في مقال رسول اللّه في رجل

شكّ و لا في مقال الرسل تحيير

فلمّا سمع معاوية بهذا الشعر بعث إلى عمرو : أن أفسدت عليّ أهل الشام ، أكلّ ما سمعته من النبي صلّى اللّه عليه و آله تقوله ؟ فقال عمرو : قلتها و لست أعلم الغيب ، و لا أدري أنّ صفين تكون ، و قد رويت أنت في عمّار مثل الذي رويت .

كما أنّ جمعا من أصحابه عليه السّلام الذين كانوا حريصين على الدنيا لحقوا بمعويه لغلبة الشقاوة عليهم ، منهم بشر بن عصمة المزني ، و قيس بن قرّة التميمي ، كما في ( الطبري ) ١ . و ذو نواس بن هذيم العبدي ، و قيس بن زبد الكندي ، كما في ( صفين نصر ) ٢ .

« و تعشو إلى ضوئي » في ( الصحاح ) : عشوت إلى النار : اذا استدللت عليها ببصر ضعيف ، قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

قلت : و الأصحّ ما في ( الجمهرة ) من أنّ العشو : القصد بالليل لا ببصر ضعيف . فقال : العشو مصدر عشوت إلى ضوئك : اذا قصدته بليل ، ثم صار كلّ قاصد شيئا عاشيا ، ثم ذكر بيت الحطيئة .

و إنما قال عليه السّلام ذلك ، لأنّ معاوية لبس الأمر على أهل الشام ، ففي ( صفّين

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٢٨ ٢٩ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٧٠ و ٢٨٥ .

٢٧٣

نصر ) ١ : مضى هاشم المرقال في عصابة من القرّاء ، إذ خرج عليهم فتى شاب يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان

و الدائن اليوم بدين عثمان

أنبانا أقواما بما كان

ان عليّا قتل ابن عفان

ثمّ شدّ ، فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثمّ يلعن و يشتم و يكثر الكلام ، فقال له المرقال : انّ هذا الكلام بعده الخصام ، و إنّ هذا القتال بعده الحساب ، فاتّق اللّه فانّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف . قال : فإنّي اقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلّي كما ذكر لي ، و أنّكم لا تصلّون ، و اقاتلكم لأنّ صاحبكم قتل خليفتنا ،

و أنتم وازرتموه على قتله . فقال له هاشم : و ما أنت و ابن عفان ؟ إنّما قتله أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله ، و قرّاء الناس حين أحدث أحداثا و خالف حكم الكتاب ،

و إنّ أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله هم أصحاب الدين و أولى بالنظر في امور المسلمين .

و أمّا قولك : إنّ صاحبنا لا يصلّي ، فهو أوّل الناس من صلّى للّه مع النبي صلّى اللّه عليه و آله ،

و أفقه الناس في دين اللّه ، و أولاهم برسوله ، و أمّا من ترى معه فكلّهم قارى‏ء لكتاب اللّه لا ينامون الليل تهجّدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون .

فقال الفتى لهاشم : انّي لأظنّك امرأ صالحا ، هل تجد لي من توبة ؟ قال : نعم ، تب إلى اللّه إنّه يتوب عليك ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيّئات ٢ و يحبّ التوّابين و يحبّ المتطهّرين ٣ . فذهب الفتى راجعا ، فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقي . قال : لا ، و لكن نصحني .

« و ذلك » و في ( ابن ميثم ) ٤ : ( فهو ) .

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٣٥٤ ، ٣٥٥ .

 ( ٢ ) الشورى : ٢٥ .

 ( ٣ ) البقرة : ٢٢٢ .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤٥ .

٢٧٤

« أحبّ إليّ من أن اقتلها على ضلالها و ان كانت تبوء » أي : ترجع .

« بآثامها » في ( الطبري ) ١ : مكث الناس في صفين حتى اذا دنا انسلاخ المحرم ، أمر علي عليه السّلام مرثد بن الحارث الجشمي ، فنادى أهل الشام عند غروب الشمس : ألا انّ أمير المؤمنين يقول لكم : انّي قد استدمتكم لتراجعوا الحق و تنيبوا إليه ، و احتججت عليكم بكتاب اللّه عز و جلّ فدعوتكم إليه ، فلم تناهوا عن طغيان ، و لم تجيبوا إلى حق . و إنّي قد نبذت إليكم على سواء إنّ اللّه لا يحبّ الخائنين ٢ .

و روى الطبري ٣ : أنّه ابتدى‏ء بالقتال في أوّل يوم من صفر ، و كان يوم الأربعاء فخرج الأشتر من أصحابه عليه السّلام ، و خرج في مقابله أبو الأعور ، و خرج اليوم الثالث عمّار ، و خرج في مقابله عمرو بن العاص ، و خرج اليوم الرابع محمد ابن الحنفية ، و خرج في مقابله عبيد اللّه بن عمرو ، و خرج في اليوم الخامس ابن عباس ، و خرج في مقابله الوليد بن عقبة ، و خرج في اليوم السادس قيس بن سعد ابن عبادة ، و خرج في مقابله ابن ذي الكلاع ، و خرج في اليوم السابع أيضا الأشتر و حبيب بن مسلمة . فخطب عليه السّلام عشية الثلاثاء بعد العصر فقال : حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا ؟ و قال : الحمد للّه الذي لا يبرم ما نقض ، و ما أبرم لا ينقضه الناقضون ، و لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه ، و لا تنازعت الامّة في شي‏ء من أمره ، و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله . و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار ، فلفّت بيننا في هذا المكان ، نحن من ربّنا بمرأى و مسمع ، فلو شاء عجّل النقمة و كان منه التغيير ، و لكن جعل الدنيا

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ١٠ .

 ( ٢ ) الأنفال : ٥٨ .

 ( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ٧ ٩ .

٢٧٥

دار الأعمال ، و جعل دار الآخرة عنده هي دار القرار ، ليجزي الذين اساؤوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى ١ . ألا إنّكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة القيام ، و أكثروا تلاوة القرآن ، و سلوا اللّه الصبر و النصر ،

و القوهم بالجدّ و الحزم ، و كونوا صادقين . و عبّأ عليه السّلام الناس ليلته كلّها ، و خرج إليهم غداة الأربعاء فاستقبلهم ، و قال : اللّهم ربّ السقف المرفوع المحفوظ المكفوف ، الذي جعلته مغيضا لليل و النهار ، و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر و منازل النجوم ، و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة ، و ربّ هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و الأنعام ،

و ما لا يحصى مما يرى و ما لا يرى من خلقك العظيم ، و ربّ الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، و ربّ السحاب المسخّر بين السماء و الأرض ، و ربّ البحر المسجور المحيط بالعالم ، و ربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا ، و للخلق متاعا ، إن أظهرتنا على عدوّنا فجنبنا البغي ، و سدّدنا للحق ،

و إن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة ، و اعصم بقية أصحابي من الفتنة .

و ازدلف الناس يوم الأربعاء ، و اقتتلوا أشدّ قتال حتى الليل ، لا ينصرف أحد إلاّ للصلاة و كثرت القتلى ، فأصبحوا من الغد فصلّى عليه السّلام بهم غداة الخميس ،

فغلس بالصلاة أشدّ التغليس ، و أقبل و على ميمنته ابن بديل ، و على ميسرته ابن عباس ، و هو عليه السّلام في القلب في أهل المدينة ، بين أهل الكوفة و أهل البصرة ، و رفع معاوية قبّة عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس ، و بايعه معظمهم على الموت ، و أحاطت خيل دمشق بقبّته ، فزحف ابن بديل في ميمنته عليه السّلام ، و قال : قد قاتلناهم مع النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّة ، و هذه ثانية ، و اللّه ما هم في هذه بأتقى و لا أزكى و لا أرشد . فلم يزل يكشف خيل حبيب بن مسلمة من

ــــــــــــ

 ( ١ ) النجم : ٣١ .

٢٧٦

الميسرة ، حتى اضطرّهم إلى قبّة معاوية .

٨

الخطبة ( ٢٤ ) و من خطبة له عليه السّلام :

وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ اَلْحَقَّ وَ خَابَطَ اَلْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لاَ إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ اِمْضُوا فِي اَلَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ ؟ فَعَلِيٌّ ؟ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً أقول : يمكن أن يكون قاله عليه السّلام ، لما أراد المسير إلى معاوية ابتداء أو ثانيا ، و يمكن الاستيناس للأوّل بما في ( صفين نصر ) ١ : أنّ عليّا عليه السّلام لما أراد المسير إلى الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين و الأنصار ، فحمد اللّه و أثنى عليه و قال : إنّكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل و الأمر . و قد أردنا المسير إلى عدوّنا و عدوّكم فأشيروا علينا برأيكم .

فقام هاشم بن عتبة و قال : أنا بالقوم جد خبير ، إنّهم لك و لأشياعك أعداء ، و لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، و هم مقاتلوك و مجاهدوك لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، و ضنّا بما في أيديهم منها ، و ليس لهم إربة غيرها إلاّ ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان . و قام عمّار و قال له عليه السّلام : إن استطعت الاّ تقيم يوما واحدا ، فاشخص بنا قبل استعار نار الفجرة ، و اجتماع رأيهم على الصدود و الفرقة ، و ادعهم إلى رشدهم . و قام قيس بن سعد بن عبادة و قال له :

انكمش بنا إلى عدونا ، و لا تعرج ، فو اللّه لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك و الروم ، لإدهانهم في دين اللّه ، و استذلالهم أولياء اللّه من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله ،

من المهاجرين و الأنصار و التابعين باحسان ، فإذا غضبوا على رجل حبسوه ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٩٢ .

٢٧٧

أو ضربوه ، أو حرموه ، أو سيّروه ، و فيئنا لهم حلال ، و نحن لهم في ما يزعمون قطين . يعني : رقيق .

و يمكن الاستيناس للثاني بما في ( خلفاء ابن قتيبة ) ١ : أنّه عليه السّلام لما آيس من رجوع الخوارج ، رأى أن يدعهم و يمضي بالناس إلى معاوية ، فقام خطيبا و قال : أما بعد ، فإنّ من ترك الجهاد ، و داهن في أمر اللّه ، كان على شفا هلكة ، إلاّ أن يتداركه اللّه برحمته ، فاتّقوا اللّه عباد اللّه . قاتلوا من حادّ اللّه و حاول أن يطفى‏ء نور اللّه ، قاتلوا الخاطئين القاتلين لأولياء اللّه ، المحرّفين لدين اللّه ، الذين ليسوا بقرّاء الكتاب ، و لا فقهاء في الدين ، و لا علماء بالتأويل ، و لا لهذا الأمر بأهل في دين ، و لا سابقة . في الاسلام و اللّه لو ولوا عليكم ، لعملوا فيكم بعمل كسرى و قيصر .

« و لعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق » كائنا من كان ، و لو كان قريبه أو صديقه .

« و خابط » في ( الصحاح ) : خبط البعير الأرض بيده : ضربها ، و منه قيل :

خبط عشواء ، و هي التي في بصرها ضعف ، تخبط اذا مشت لا تتوقى شيئا .

« الغي من إدهان » أي : مصانعة ، قال تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله : ودوا لو تدهن فيدهنون ٢ .

« و لا إيهان » أي : تضعيف ، من : و هن بالكسر أي : ضعف .

« فاتقوا اللّه عباد اللّه » اقتصر في ( المصرية ) ٣ على الكلام ، و فيها سقط ،

و الأصل : « فاتقوا اللّه عباد اللّه و فروا إلى اللّه من اللّه » كما يشهد له ( ابن أبي

ــــــــــــ

 ( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٤٤ .

 ( ٢ ) القلم : ٩ .

 ( ٣ ) الطبعة المصرية : ٥٩ الخطبة ٢٤ .

٢٧٨

الحديد ) ١ و ( ابن ميثم ) ٢ و ( الخطية ) . و معنى الفرار إليه منه : أنّه لا ملجأ منه إلاّ إليه ، بمعنى انّه لا يتصور الفرار منه تعالى ، و الفرار منه هو الفرار إليه .

« و امضوا في الذي نهجه » أي : في الطريق الذي أوضحه .

« لكم » و كان أعداؤه مقرين بذلك ، فكان عمر يقول : لو ولى الخلافة علي ،

ليحملنّ الناس على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم .

« و قوموا بما عصبه » أي : شدّه .

« بكم » من جهاد أعداء اللّه .

« فعلي ضامن لفلجكم » أي : ظفركم و فوزكم و فلاحكم .

« آجلا » في الآخرة .

« إن لم تمنحوه » أي : تعطوه .

« عاجلا » أي : في الدنيا ، فشيعته هم الفائزون في الآخرة . رواه سبط ابن الجوزي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله .

٩

الخطبة ( ١٠٥ ) و من كلام له عليه السّلام :

وَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ وَ اِنْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ تَحُوزُكُمُ اَلْجُفَاةُ اَلطَّغَامُ وَ أَعْرَابُ أَهْلِ ؟ اَلشَّامِ ؟ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ اَلْعَرَبِ وَ يَآفِيخُ اَلشَّرَفِ وَ اَلْأَنْفُ اَلْمُقَدَّمُ وَ اَلسَّنَامُ اَلْأَعْظَمُ وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ حَسّاً بِالنِّضَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ تَرْكَبُ أُوْلاَهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ اَلْهِيمِ

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٣٣١ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ١٤ ، و فيه : « فاتقوا اللّه عباد اللّه » .

٢٧٩

اَلْمَطْرُودَةِ تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا أقول : رواه الطبري ١ و ( صفّين نصر ) ٢ و ( الكافي ) ٣ . و ننقل الأوّل أخيرا .

قول المصنّف : « و من كلام له عليه السّلام » هكذا في ( المصرية ) ٤ و فيه تحريف و سقط ، و الصواب : ( و من خطبة له عليه السّلام في بعض أيام صفين ) كما في ( ابن أبي الحديد ) ٥ و ( ابن ميثم ) ٦ و ( الخطية ) .

« و قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم تحوزكم الجفاة » جمع الجافي .

« الطغام » أي : الأرذال و الأوغاد .

« و أعراب أهل الشام » قال عليه السّلام ذلك لأصحابه لمّا هزمهم في الميمنة أصحاب معاوية ففي ( الطبري ) ٧ : أقبل الذين تبايعوا من أهل الشام على الموت إلى معاوية ، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة و بعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة : يحمل بمن كان معه على الميمنة ، فانكشف أهل العراق من قبل الميمنة ، حتى لم يبق منهم إلاّ ابن بديل في مائتين أو ثلاثمائة من القرّاء ، قد أسند بعضهم ظهره إلى بعض ، فأمر علي عليه السّلام سهل بن حنيف ،

فاستقدم في من كان معه من أهل المدينة ، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة إلى أن قال لما انهزمت ميمنة

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٢٥٦ .

 ( ٣ ) الكافي ٥ : ٤٠ ح ٤ .

 ( ٤ ) الطبعة المصرية : ٢٠٥ الخطبة ١٠٥ .

 ( ٥ ) شرح ابن ابي الحديد ٧ : ١٧٩ .

 ( ٦ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٣٧ ، و فيه : « من خطبة له عليه السّلام » .

 ( ٧ ) تاريخ الطبري ٥ : ١٨ .

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617