بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79804 / تحميل: 3780
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

4 ـ إنّه تحدّث عمّا يجب أنْ يتّصفَ به الإمام والقائد لمسيرة الاُمّة مِنْ الصفات ، وهي :

أ ـ العمل بكتاب الله.

ب ـ الأخذ بالقسط.

ج ـ الإداناة بالحقّ.

د ـ حبس النفس على ذات الله.

ولم تتوفّر هذه الصفات الرفيعة إلاّ في شخصيته الكريمة التي تحكي اتّجاهات الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونزعاته.

وتسلّم مسلم هذه الرسالة ، وقد أوصاه الإمام بتقوى الله وكتمان أمره(1) ، وغادر مسلم مكّة ليلة النصف مِنْ رمضان(2) ، وعرج في طريقه على يثرب فصلّى في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاف بضريحه ، وودّع أهله وأصحابه(3) ، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم ، واتّجه صوب العراق وكان معه قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، واستأجر مِنْ يثرب دليلين مِنْ قيس يدلاّنه على الطريق(4) .

وسارت قافلة مسلم تجذّ في السير لا تلوي على شيء ، يتقدّمها الدليلان وهما يتنكبان الطريق ؛ خوفاً مِن الطلب فضلاً عن الطريق ، ولم يهتديا له وقد أعياهما السير واشتدّ بهما العطش ، فأشارا إلى مسلم بسنن الطريق بعد

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

(2) مروج الذهب 2 / 86.

(3) تاريخ الطبري 6 / 198.

(4) الأخبار الطوال / 231 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٤١

أنْ بان لهما وتوفيا في ذلك المكان حسبما يقوله المؤرّخون(1) ، وسار مسلم مع رفقائه حتّى أفضوا إلى الطريق ووجدوا ماءً فأقاموا فيه ؛ ليستريحوا ممّا ألمَّ بهمْ مِنْ عظيم الجهد والعناء.

رسالة مسلم للحُسين (عليهما السّلام) :

ويقول المؤرّخون : إنّ مسلم تخوّف مِنْ سفره وتطيّر بعد أنْ أصابه مِن الجهد وموت الدليلين ، فرفع للإمام رسالة يرجو فيها الاستقالة مِنْ سفارته ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت مِن المدينة مع دليلين ، فجازا(2) عن الطريق فضلاّ ، واشتدّ عليهما العطش فلمْ يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلمْ ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى (المضيق) مِنْ بطن الخبث ، وقد تطيّرت مِنْ توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني مِنه وبعثت غيري ، والسّلام.

جواب الحُسين (عليه السّلام) :

وكتب الإمام الحُسين جواباً لرسالة مسلم ندد فيه بموقفه واتّهمه بالجبن ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حمَلَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء مِن الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن ، فامضِ لوجهك الذي

__________________

(1) الإرشاد / 227.

(2) جازا عن الطريق : أي تركاه خلفهما.

٣٤٢

وجّهتك فيه ، والسّلام(1) .

أضواء على الموضوع :

وأكبر الظنّ أنّ رسالة مسلم مع جواب الإمام مِن الموضوعات ، ولا نصيب لها مِن الصحة ؛ وذلك لما يلي :

1 ـ إنّ مضيق الخبث الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكّة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي(2) ، في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين مِنْ يثرب ، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان. ومِن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق ولمْ تقع ما بين مكّة والمدينة.

2 ـ إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق لمْ يذكره الحموي ، فإنّ السفر منه إلى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام ، في حين أنّ سفر مسلم مِنْ مكّة إلى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا : إنّه سافر مِنْ مكّة في اليوم الخامس عشر مِنْ رمضان وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس مِنْ شوال ، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً ، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر مِنْ مكّة إلى المدينة ؛ فإنّ المسافة بينهما تزيد على ألف وستمئة كيلو متر.

وإذا استثنينا مِنْ هذه المدّة سفر رسول مسلم مِنْ ذلك المكان ورجوعه إليه فإنّ مدّة سفره مِنْ مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ مِنْ عشرة أيّام ، ويستحيل عادة قطع تلك

__________________

(1) الإرشاد / 226 ، وفي الحدائق الوردية 1 / 117 خرج مسلم مِنْ مكّة حتّى أتى المدينة ، وأخذ منها دليلين ، فمرّا به في البريّة فأصابهما عطش فمات أحد الدليلين ، فكتب مسلم إلى الحُسين يستعفيه ، فكتب إليه الحُسين (عليه السّلام) : «أنْ امضِ إلى الكوفة».

(2) معجم البلدان 2 / 343.

٣٤٣

المسافة بهذه الفترة مِن الزمن.

3 ـ إنّ الإمام اتّهم مسلماً في رسالته بالجبن ، وهو يناقض توثيقه له مِنْ أنّه ثقته وكبير أهل بيته والمبرز بالفضل عليهم ، ومع اتّصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن؟!

4 ـ إنّ اتّهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته ؛ فقد أبدى هذا البطل العظيم مِن البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول ، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحدّه مِنْ دون أنْ يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد ، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثّفة القتل ممّا ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً ، ولمّا جيء به أسيراً إلى ابن زياد لمْ يظهر عليه أيّ ذلّ أو انكسار.

ويقول فيه البلاذري : إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم(1) ، بل هو أشجع هاشمي عرفه التاريخ بعد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام).

إنّ هذا الحديث مِن المفتريات الذي وضِعَ للحطّ مِنْ قيمة هذا القائد العظيم الذي هو مِنْ مفاخر الاُمّة العربية والإسلاميّة.

في بيت المختار :

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي(2) ، وهو مِنْ أشهر أعلام الشيعة وأحد سيوفهم ومِنْ أحبّ الناس وأنصحهم للإمام الحُسين.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) الإرشاد / 226 ، تاريخ ابن الأثير 3 / 267 ، وقيل : نزل مسلم في بيت مسلم بن عوسجة ، وقيل : نزل في بيت هانئ بن عروة ، جاء ذلك في كلّ مِن الإصابة 1 / 332 ، وتهذيب التهذيب.

٣٤٤

لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره مِنْ زعماء الشيعة ؛ وذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحُسين وتفانيه في حبّه ، كما أنّ هناك عاملاً آخر له أهمّيته ، فقد كان المختار زوجاً لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة ، ولا شك أنّ يده لنْ تمتد إلى المسلم طالماً كان مقيماً في بيت صهره المختار ، وقد دلّ ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية.

وفتح المختار أبواب داره لمسلم وقابله بمزيد مِن الحفاوة والتكريم ، ودعا الشيعة إلى مقابلته ، فأقبلوا إليه مِنْ كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة.

ابتهاج الكوفة :

وعمّت الأفراح بمقدم مسلم جميع الأوساط الشيعية في الكوفة ، وقد وجد منهم مسلم ترحيباً حارّاً وتأييداً شاملاً ، وكان يقرأ عليهم رسالة الحُسين وهم يبكون ويبدون التعطّش لقدومه والتفاني في نصرته ؛ لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وظلمهم ويعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين ، مؤسس العدالة الكبرى في الأرض ، وكان مسلم يوصيهم بتقوى الله وكتمان أمرهم حتّى يقدم إليهم الإمام الحُسين.

البيعة للحُسين (عليه السّلام) :

وانثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسويّة ، وردّ المظالم إلى

٣٤٥

أهلها ونصرة أهل البيت (عليهم السّلام) ، والمسالمة لمَنْ سالموا والمحاربة لمَنْ حربوا. وقد شبّه السيّد المقرّم هذه البيعة ببيعة الأوس والخزرج للنّبي (صلّى الله عليه وآله)(1) ، وكان حبيب بن مظاهر الأسدي يأخذ البيعة منهم للحُسين(2) .

كلمة عابس الشاكري :

وانبرى المؤمن الفذ عابس بن شبيب الشاكري فأعرب لمسلم عن ولائه الشخصي واستعداده للموت في سبيل الدعوة ، إلاّ إنّه لمْ يتعهد له بإيّ أحد مِنْ أهل مصره قائلاً : أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم. والله ، إنّي محدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي. والله ، لاُجيبنَّكم إذا دعوتم ولاُقاتلنَّ معكم عدوكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله.

وقد صدق عابس ما عاهد عليه الله ؛ فلمْ يخن ضميره ففدى بنفسه ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستشهد بين يديه في كربلاء. وانبرى حبيب ابن مظاهر فخاطب عابساً قائلاً له : رحمك الله ، فقد قضيت ما في نفسك بواجز مِنْ قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو على مثل ما أنت عليه.

واندفع سعيد الحنفي فأيّد مقالة صاحبيه(3) ، وهؤلاء الأبطال مِنْ

__________________

(1) الشهيد مسلم بن عقيل / 103.

(2) الحدائق الوردية 1 / 125 مِنْ مخطوطات مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة.

(3) تاريخ الطبري 6 / 199.

٣٤٦

أنبل مَنْ عرفهم التاريخ صدقاً ووفاءً ، فقد بذلوا أرواحهم بسخاء إلى الإمام الحُسين واستشهدوا بين يديه في كربلاء.

عدد المبايعين :

وتسابقت جماهير الكوفة إلى بيعة الحُسين على يد سفيره مسلم بن عقيل ، وقد اختلف المؤرّخون في عدد مَنْ بايعه ، وهذه بعض الأقوال :

1 ـ أربعون ألفاً(1) .

2 ـ ثلاثون ألفاً ، ومِنْ بينهم حاكم الكوفة النعمان بن بشير(2) .

3 ـ ثمانية وعشرون ألفاً(3) .

4 ـ ثمانية عشر ألفاً ، حسب ما جاء في رسالة مسلم إلى الحُسين ، يقول فيها : وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الإقبال(4) .

__________________

(1) شرح شافية أبي فراس 1 / 90 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، مثير الأحزان لابن نما / 11.

(2) دائرة معارف وجدي 3 / 444 ، حقائق الأخبار عن دول البحار ، روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان ـ محمد بن أبي بكر المتوفى سنة (730 هـ) / 67 مِنْ مصوّرات مكتبة الحكيم ، مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 13 ، وجاء فيه : أنّ النعمان قال : يا أهل الكوفة ، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحبّ إليكم مِن ابن بنت بجدل.

(3) تاريخ أبي الفداء 1 / 300.

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٧

5 ـ اثنا عشر ألفاً(1) .

رسالة مسلم للحُسين :

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل مِنْ أهل الكوفة ، فكتب للإمام يستحثّه فيها على القدوم إليهم ، وكان قد كتبها قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة(2) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(3) فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوي(4) .

لقد كتب مسلم هذه الرسالة ؛ لأنّه لمْ يرَ أيّة مقاومة لدعوته ، وإنّما رأى إجماعاً شاملاً على بيعة الإمام وتلهّفاً حارّاً لرؤيته ، وحمل الكتاب جماعة مِنْ أهل الكوفة وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري ، وقدم الوفد مكّة المكرّمة وسلّم الرسالة إلى الإمام ، وقد استحثّوه على القدوم إلى الكوفة وذكروا إجماع أهلها على بيعته وما قالاه مسلم مِن الحفاوة البالغة منهم ؛ وعند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة.

__________________

(1) مروج الذهب 3 / 4 ، الصراط السوي في مناقب آل النّبي / 86 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، تهذيب التهذيب 2 / 350 ، الإصابة 1 / 332 ، الحدائق الوردية 1 / 117.

(2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) وفي رواية البلاذري (إنّ جميع أهل الكوفة معك).

(4) تاريخ الطبري 6 / 224.

٣٤٨

موقف النعمان بن بشير :

كان موقف النعمان بن بشير(1) من الثورة موقفاً يتّسم باللين والتسامح ، وقد اتّهمه الحزب الاُموي بالضعف ، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام بسلامتها ، فأجابهم : لأنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبّ إليّ مِنْ أن أكون قويّاً في معصية الله ، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله(2) .

وقد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوّة وشجعهم على العمل ضد الحكومة علناً ، ولعلّ سبب ذلك يعود لأمرين :

1 ـ إنّ مسلم بن عقيل كان ضيفاً عند المختار ، وهو زوج ابنته عمرة ، فلم يعرض للثوار بسوء رعايةً للمختار.

__________________

(1) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي ، كان قد ولاّه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمن بن الحكم ، وكان عثماني الهوى ؛ يجاهر ببغض علي ويسيء القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصفين ، وسعى بإخلاص لتوطيد المُلْك إلى معاوية ، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابيّة على بعض المناطق العراقيّة. ويقول المحقّقون : إنّه كان ناقماً على يزيد ، ويتمنّى زوال المُلْك عنه شريطة أنْ لا تعود الخلافة لآل علي (عليه السّلام). ومِن الغريب في شأن هذا الرجل أنّ يزيد لمّا أوقع بأهل المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيّام لمْ يثأر النعمان لكرامة وطنه وقومه ، وفي الإصابة 3 / 530 إنّه لمّا هلك يزيد دعا النعمان إلى ابن الزّبير ، ثمّ دعا إلى نفسه فقاتله مروان ، فقُتل وذلك في سنة (65 هـ). وكان شاعراً مجيداً ، له ديوان شعر طُبع حديثاً.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 206.

٣٤٩

2 ـ إنّ النعمان كان ناقماً على يزيد ؛ وذلك لبغضه للأنصار. فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم ، فثار لهم النعمان كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، ولعل لهذا ولغيره لمْ يتّخذ النعمان أيّ إجراء مضاد للثورة.

خطبة النعمان :

وأعطى النعمان للشيعة قوّة في ترتيب الثورة وتنظيماً ، وهيأ لهم الفرص في أحكام قواعدها ممّا ساء الحزب الاُموي ، فأنكروا عليه ذلك وحرّضوه على ضرب الشيعة ، فخرج النعمان وصعد المنبر فأعلن للناس سياسته المتّسمة بالرفق ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال. إنّي لمْ اُقاتل مَنْ لمْ يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف(1) ولا الظنّة ولا التّهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لمْ يكن منكم ناصر. أما إنّي أرجو أنْ يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّنْ يرديه الباطل(2) .

وليس في هذا الخطاب أيّ ركون إلى وسائل العنف والشدّة ، وإنّما كان فيه تحذير مِنْ مغبّة الفتنة وحبّ للعافية ، وعدم التعرّض لمَنْ لا يثب على السلطة ، وعدم أخذ الناس بالظنّة والتّهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه

__________________

(1) القرف : التهمة.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٠

والي العراق. وعلّق أنيس زكريا على خطاب النعمان بقوله :

ولنا مِنْ خطبه ـ أيّ خطب النعمان ـ في الكوفة برهان آخر على أنّه كان يرى الفتنة يقظى ولا بد أنْ تشتعل ، وإنّه لنْ يهاجم القائمين بها قبل أنْ يهاجموه ، فجعل لأنصارها قوّة وطيدة الأركان ويداً فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الأسس المتينة(1) .

سخط الحزب الاُموي :

وأغضبت سياسة النعمان عملاء الحكم الاُموي ، فانبرى إليه عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بني اُميّة ، فأنكر خطّته قائلاً : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم(2) ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!(3) .

ودافع النعمان عن نفسه بأنّه لا يعتمد على أيّة وسيلة تبعده عن الله ، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه ، وقد استبان للحزب الاُموي ضعف النعمان وانهياره أمام الثورة.

اتصال الحزب الاُموي بدمشق :

وفزع الحزب الاُموي مِنْ تجاوب الرأي العام مع مسلم واتّساع نطاق الثورة ، في حين أنّ السلطة المحليّة أغضّت النظر عن مجريات الأحداث

__________________

(1) الدولة الاُمويّة في الشام / 41.

(2) الغشم : الظلم.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥١

وقد اتّهمتها بالضعف أو بالتواطؤ مع الثوار ، وقام الحزب الاُموي باتّصال سريع بحكومة دمشق ، وطلبوا منها اتّخاذ الإجراءات الفورية قبل أنْ يتّسع نطاق الثورة ، ويأخذ العراق استقلاله وينفصل عن التبعية لدمشق.

ومِنْ بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي ، جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحُسين بن علي ، فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف(1) .

وتدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه ، واستعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ؛ ليتمكن مِن القضاء على الثورة ، فإنّ النعمان لا يصلح للقضاء عليها. وكتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد.

فزع يزيد :

وفزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحُسين ، فراودته الهواجس وظلّ ينفق ليله ساهراً يطيل التفكير في الأمر ؛ فهو يعلم أنّ العراق مركز القوّة في العالم الإسلامي وهو يبغضه ويحقد على أبيه ، فقد أصبح موتراً منهم لما صبّوه عليه مِن الظلم والجور ، وإنّ كراهية أهل العراق ليزيد لا تقلّ عن كراهيتهم لأبيه ، كما إنّه على

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 267.

٣٥٢

يقين أنّ الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطّش لحكم الإمام الحُسين ؛ لأنّه المثل الشرعي لجدّه وأبيه ولا يرضون بغيره بديلاً.

استشارته لسرجون :

وأحاطت الهواجس بيزيد وشعر بالخطر الذي يهدّد مُلْكه فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ومِنْ أدهى الناس ، فعرض عليه الأمر ، وقال له : ما رأيك إنّ حُسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحُسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ ، فما ترى مَنْ أستعمل على الكوفة؟

وتأمّل سرجون وأخذ يطيل التفكير ، فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذاً رأيه؟ فقال يزيد : نعم. فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(1) .

أمّا دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو مِنْ أمرين :

1 ـ إنّه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنّه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره ؛ فهو الذي يتمكّن مِن القضاء على الثورة بما يملك مِنْ وسائل الإرهاب والعنف.

2 ـ إنّه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح ؛ فإنّ ابن زياد رومي.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 268.

٣٥٣

ولاية ابن زياد على الكوفة :

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد كأشدّ ما تكون النقمة ، وأراد عزله عن البصرة(1) ؛ وذلك لمعارضة أبيه في البيعة له ، إلاّ إنّه استجاب لرأي سرجون ؛ فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته ، فعهد له بولاية الكوفة والبصرة ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه هذه الرسالة : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِنْ أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام.

وأشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها مِنْ مسلم بن عقيل ، وقد شدّدت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه.

وتنصّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد : إنْ كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(2) ، وهذا ممّا ينبئ عن الخوف الذي ألمّ بيزيد مِنْ الثورة في العراق. وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة.

ويقول المؤرّخون : إنّ الباهلي كان مِنْ عيون بني اُميّة في الكوفة ومِنْ أهمّ عملائهم ، كما كان مِنْ أجلاف العرب ، وهو الذي ضنّ على مسلم أنْ يشرب جرعة مِن الماء حينما جيء به أسيراً إلى ابن زياد.

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 152.

(2) سير أعلام النبلاء 3 / 201.

٣٥٤

وتسلّم ابن زياد مِن الباهلي العهد له بولاية الكوفة وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة ، وقد سرّ ما خولته دمشق مِن الحكم المطلق على العراق.

وبما سوّغت له مِن استعمال الشدّة والقسوة وسفك الدماء لكلّ مَنْ لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأيّة مؤامرة ضدّه ، وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ممّا يتّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان مِنْ عوامل استمتاعاته النفسية حبّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردّد في سفك الدماء.

خطبة ابن زياد في البصرة :

وتهيأ ابن زياد لمغادرة البصرة والتوجّه إلى الكوفة ، وقبل مغادرته لها جمع الناس وخطب فيهم خطاباً قاسياً ، جاء فيه : إنّ أمير المؤمنين يزيد ولاّني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة. فوالله ، إنّي ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنآن ، وإنّي لنكل لمَنْ عاداني وسمّ لمَنْ حاربني ، أنصف القارة مِنْ راماها.

يا أهل البصرة ، قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف ، فوالله الذي لا إله غيره ، لئن بلغني عن رجلٍ منكم خلاف لأقتلنّه وعرينه(1) ووليّه ، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق أنا ابن زياد أشبه

__________________

(1) العرين : الجماعة.

٣٥٥

بين مَنْ وطأ الحصا ، ولمْ ينتزعني شبه خال ولا ابن عم(1) .

ما أهون سفك الدماء عند اُولئك البرابرة الوحوش مِنْ ولاة بني اُميّة! لقد تحدّث الطاغية عن نفسيته الشريرة التي توغّلت في الإثم ، فهو يأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر والأدنى بالأقصى ، ويقتل على الظنّة والتهمة كما كان يفعل أبوه زياد ، الذي أشاع القتل في ربوع العراق.

سفر الطاغية إلى الكوفة :

وسار الخبيث الدنس مِن البصرة متّجهاً إلى الكوفة ؛ ليقترف أعظم موبقة لمْ يقترفها شقي غيره ، وقد صحبه مِنْ أهل البصرة خمسمئة رجل فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور الحارثي(2) ، وهو مِنْ أخلص أصحاب الإمام الحُسين ، وقد صحب ابن زياد ليكون عيناً عليه ويتعرّف على خططه ، وقد صحب ابن زياد هذا العدد ليستعين بهم على بثّ الإرهاب وإذاعة الخوف بين الناس ، والاتصال بزعماء الكوفة لصرفهم عن الثورة.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخذ ابن زياد يجذّ في السير لا يلوي على شيء قد واصل السير إلى الكوفة مخافة أنْ يسبقه الحُسين إليها ، وقد جهد أصحابه وأعياهم المسير ، فسقط منهم جماعة منهم عبد الله بن الحارث فلمْ يعبأ.

ولمّا ورد القادسية سقط مولاه (مهران) ، فقال له ابن زياد : إنْ أمسكت على هذا الحال فتنظر إلى القصر فلك مئة ألف. فقال له مهران : لا والله لا أستطيع. ونزل الطاغية فلبس ثياباً

__________________

(1) الطبري 6 / 200.

(2) الطبري 6 / 199.

٣٥٦

يمانية وعمامة سوداء وتلثّم ؛ ليوهم مَنْ رآه أنّه الحُسين ، وسار وحده فدخل الكوفة ممّا يلي النجف(1) ، وكان قلبه كجناح طائر مِنْ شدّة الخوف ، ولو كانت عنده مسكة مِن البسالة والشجاعة لما تنكّر وغيّر بزّته وأوهم على الناس أنّه الحُسين.

وقد تذرّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه ، وتنصّ بعض المصادر أنّه حبس نفسه عن الكلام خوفاً مِنْ أنْ يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.

في قصر الإمارة :

وأسرع الخبيث نحو قصر الإمارة(2) وقد علاه الفزع وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء ؛ مِنْ تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحُسين ،

__________________

(1) مقتل الحُسين ـ المقرم / 165.

(2) قصر الإمارة : هو أقدم بناية حكومية شُيّدت في الإسلام ، بناها سعد بن أبي وقاص ، وقد اندثرت معالمه كما اندثرت جميع معالم الكوفة ما عدا الجامع. وقد اهتمت مديرية الآثار العامّة في العراق بالتعرّف عليه ؛ فكشفت في مواسم مختلفة اُسسه ، وقد أظهرت نتائج الحفائر التي اُجريت عليه أنّه يتألّف مِنْ سور خارجي يضمّ أربعة جدران ، تقريباً طولها 170 متراًً ، ومعدل سمكها 4 أمتار ، وتدعم كلّ ضلع مِنْ الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالي ، حيث يدعمها برجان فقط. والمسافة ما بين كلّ برج وآخر 24 و 60 سنتمتر ، وارتفاع هذا السور بأبراجه يصل إلى ما يقرب مِنْ عشرين متراً. وقد بُني القصر بناء محكماً ، وصُمّمت هندسته على غاية حربية ؛ ليكون في حماية آمنة مِنْ كلّ غزو خارجي ، جاء ذلك في تخطيط مدينة الكوفة للدكتور كاظم الجنابي / 135 ـ 155 =

٣٥٧

ولمّا انتهى إلى باب القصر وجده مغلقاً والنعمان بن بشير مشرف مِنْ أعلا القصر ، وكان قد توهّم أنّ القادم هو الحُسين ؛ لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته ، فانبرى يخاطبه : ما أنا بمؤدٍ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، ومالي في قتالك مِنْ إرب.

ولمس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار فصاح به بنبرات تقطر غيظاً : افتحْ لا فتحت ، فقد طال ليلك. ولمّا تكلم عرفه بعض مَنْ كان خلفه فصاح بالناس : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة!

ومِن الغريب أنّ ذلك المجتمع لمْ يُميّز بين الإمام الحُسين وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلاً منهما قد عاش فترة في ديارهم ؛ ولعلّ الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزّته ولبسه للعمامة السوداء.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الناس حينما علموا إنّه ابن زياد جفلوا وخفّوا مسرعين إلى دورهم وهم يتحدّثون عمّا عانوه مِن الظلم والجور أيّام أبيه ، وقد أوجسوا مِنْ عبيد الله الشرّ.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسّلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي ، فأخذوا يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات للقضاء عليها.

__________________

= وقد وقفت عليه غير مرّة ، وتطلّعت إلى كثير مِنْ معالمه ، ففي بعض أبوابه الرئيسة مظلاّت لحرّاس القصر قد ردمت ولمْ يبقَ منها إلاّ بعض معالمها ، وفي جانب منه بعض الغرف التي اُعدّت للسجن ، وقد صُمّمت بشكل غريب ، وفي جانب منه مطابخ القصر ـ ولم يشر الاُستاذ الجنابي إليها ـ وقد اُحكم بناء القصر حتّى كان مِن المتعذّر اقتحامه والاستيلاء عليه.

٣٥٨

خطابه في الكوفة :

وعندما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرح ابن زياد متقلداً سيفه ومعتمّاً بعمامة ، فاعتلى أعواد المنبر وخطب الناس ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البرّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد(1) .

وحفل هذا الخطاب بما يلي :

1 ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم وعزل النعمان بن بشير عنه.

2 ـ تعريفهم أنّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَنْ يتبع السلطة ولمْ يتمرّد عليها ، واستعمال الشدّة والقسوة على الخارجين عليها.

ولمْ يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحُسين وسفيره مسلم ؛ خوفاً مِن انتفاضة الجماهير عليه وهو بعدُ لمْ يحكم أمره.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 97.

٣٥٩

نشر الإرهاب :

وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صالَ وجالَ وأرعدَ وأبرقَ ، وأمسكَ جماعةً مِنْ أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(1) ، وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب وصرف الناس عن الثورة.

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة مِنْ غير عنف ولين مِنْ غير ضعف ، وأنْ أخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي.

فانبرى إليه رجل مِنْ أهل الكوفة يُقال له : أسد بن عبد الله المرّي فردّ عليه : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ‏ ، إنّما المرء بجدّه ، والسيف بحدّه ، والفرس بشدّه ، وعليك أنْ تقول وعلينا أنْ نسمع ، فلا تقدّم فينا السيئة قبل الحسنة.

وأُفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(2) .

__________________

(1) الفصول المهمة / 197 ، وسيلة المال / 186.

(2) الفتوح 5 / 67.

٣٦٠

٣

الخطبة ( ١٢٣ ) و من كلام له عليه السّلام في التّحكيم :

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ اَلرِّجَالَ وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ وَ هَذَا ؟ اَلْقُرْآنُ ؟ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ اَلدَّفَّتَيْنِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ اَلرِّجَالُ وَ لَمَّا دَعَانَا اَلْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ لَمْ نَكُنِ اَلْفَرِيقَ اَلْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ قَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ ؟ اَلرَّسُولِ ؟ ١٤ ٢٢ ٤ : ٥٩ ١ فَرَدُّهُ إِلَى اَللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَ رَدُّهُ إِلَى ؟ اَلرَّسُولِ ؟ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ اَلنَّاسِ بِهِ وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي اَلتَّحْكِيمِ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ اَلْجَاهِلُ وَ يَتَثَبَّتَ اَلْعَالِمُ وَ لَعَلَّ اَللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ اَلْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ لاَ تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ اَلْحَقِّ وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ اَلْغَيِّ إِنَّ أَفْضَلَ اَلنَّاسِ عِنْدَ اَللَّهِ مَنْ كَانَ اَلْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ أَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ اِسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ اَلْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ جُفَاةٍ عَنِ اَلْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ اَلطَّرِيقِ مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَ لاَ زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ اَلْحَرْبِ أَنْتُمْ أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ فَلاَ أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اَلنِّدَاءِ وَ لاَ إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ اَلنَّجَاءِ

ــــــــــــ

( ١ ) النساء : ٥٩ .

٣٦١

أقول : العنوان مأخوذ من كلامه عليه السّلام في ثلاثة مواضع ، فمن أوله إلى قوله : « و تنقاد لأول الغي » كلامه عليه السّلام مع الخوارج ، رواه الطبري ١ و ( إرشاد المفيد ) ٢ إلى قوله : « و لعل اللّه أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الامة » ، و من قوله : « إنّ أفضل الناس عند اللّه إلى و إن جرّ إليه فائدة و زاده » نصحه لعمرو بن العاص في حكميته ، رواه الطبري ٣ مع زيادات ، ففيه : قال أبو مخنف : قال النضر بن صالح العبسي : كنت مع شريح بن هاني في غزوة سجستان ،

فحدّثني أنّ عليّا عليه السّلام أو صاه بكلمات إلى عمرو بن العاص ، قال : قل له : إنّ عليّا يقول لك « إنّ أفضل الناس عند اللّه عز و جل : من كان العمل بالحق أحبّ إليه و ان نقصه و كرثه من الباطل و ان حن إليه و زاده . و اللّه يا عمرو انّك لتعلم أين موضع الحق ، فلم تجاهل إن اوتيت طمعا يسيرا كنت به للّه و أوليائه عدوّا ،

فكان و اللّه ما اوتيت قد زال عنك ؟ ويحك فلا تكن للخائنين خصيما ٤ و لا للظالمين ظهيرا أما إنّي أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم ، و هو يوم وفاتك ، تمنّى انّك لم تظهر للمسلم عداوة ، و لم تأخذ على حكم رشوة » قال شريح : فبلغته ذلك فتمعر وجهه ، ثم قال : متى كنت أقبل مشورة عليّ ، أو أنتهي إلى أمره ، أو أعتد برأيه ؟ فقلت له : و ما يمنعك يابن النابغة أن تقبل من مولاك و سيد المسلمين بعد نبيّهم مشورته ، فقد كان من هو خير منك أبو بكر و عمر يستشيرانه و يعملان برأيه ؟ فقال : إنّ مثلي لا يكلّم مثلك . فقلت له : و بأي أبويك ترغب عني ، أبأبيك الوشيظ ، أم بامّك النابغة ؟

و من قوله : « استعدوا للمسير . . . » حث لأصحابه لقتال معاوية بعد قتل

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٠ ٥١ .

( ٢ ) الارشاد للمفيد : ٢٧١ ، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٥ : ٦٩ .

( ٤ ) النساء : ١٠٥ .

٣٦٢

أهل النهروان ، رواه الطبري ١ أيضا ، ففيه : قال زيد بن وهب : إنّ عليّا عليه السّلام قال للناس و هو أوّل كلام قاله لهم بعد النهر : « أيّها الناس استعدوا للمسير إلى عدوّ في جهاده القربة إلى اللّه ، و درك الوسيلة عنده ، حيارى في الحق ، جفاة عن الكتاب ، نكب عن الدين ، يعمهون في الطغيان و يكبون في غمرة الضلال فأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة و من رباط الخيل ٢ ، و توكلوا على اللّه و كفى باللّه وكيلا ٣ و كفى باللّه نصيرا ٤ » قال زيد : فلا نفروا و لا تيسروا فتركهم أياما حتى إذا أيس من أن يفعلوا ، دعا رؤساءهم و وجوههم فسألهم عن رأيهم ، فمنهم المعتل و منهم المكره و أقلّهم من نشط ، فقام فيهم خطيبا فقال : عباد اللّه ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ٥ ، و بالذل و الهوان من العزّ ؟ أو كلّما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنّكم من الموت في سكرة ، و كأنّ قلوبكم مالوسة فأنتم لا تعقلون ، و كأنّ أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون ؟ للّه أنتم ما أنتم الاّ اسود الشّرى في الدّعة ، و ثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس ، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي ، ما أنتم بركب يصال بكم ، و لا ذي عز يعتصم إليه ، لعمر اللّه لبئس حشّاش الحرب أنتم تكادون و لا تكيدون ، و ينتقص أطرافكم و لا تتحاشون ، و لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون ، إنّ أخا الحرب اليقظان ،

و بات لذل من وادع ، و غلب المتخاذلون ، و المغلوب مقهور و مسلوب .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٩٠ .

( ٢ ) الأنفال : ٦٠ .

( ٣ ) النساء : ٨١ .

( ٤ ) النساء : ٤٥ .

( ٥ ) التوبة : ٣٨ .

٣٦٣

كما أنّ الصدر رواه الطبري ١ أيضا مع زيادة و نقصان ، ففيه : خرج عليّ عليه السّلام إلى الخوارج و قال : اللّهم إنّ هذا مقام من أفلح فيه كان أولى بالفلح يوم القيامة ، و من نطف فيه أو عسف فهو في الآخرة أعمى و أضلّ سبيلا ٢ . ثم قال عليه السّلام لهم : من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . فقال : فما أخرجكم علينا ؟ قالوا : حكومتكم يوم صفين . قال : أنشدكم باللّه أ تعلمون انّهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم : نجيبهم إلى كتاب اللّه ، قلت لكم : « إنّي أعلم بالقوم منكم إنّهم ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن ، إنّي صحبتهم و عرفتهم أطفالا و رجالا ، فكانوا شرّ أطفال و شرّ رجال ، امضوا على حقّكم و صدقكم ، فإنّما رفع القوم هذه المصاحف خديعة و دهنا و مكيدة » فرددتم عليّ رأيي و قلتم : لا بل نقبل منهم . فقلت لكم : « اذكروا قولي لكم و معصيتكم إياي » فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب اشترطت على الحكمين : أنّ يحييا ما أحيا القرآن ، و أن يميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ،

و إن أبيا فنحن من حكمهما براء . قالوا له : فخبّرنا أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء ؟ فقال : إنّا لسنا حكّمنا الرجال ، إنّما حكّمنا القرآن ، و هذا القرآن إنّما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق ، إنّما يتكلم به الرجال . قالوا : فخبّرنا عن الأجل ، لم جعلته في ما بينك و بينهم ؟ قال : ليعلم الجاهل و يتثبت العالم ، و لعلّ اللّه عز و جل يصلح في هذه الهدنة هذه الامة . ادخلوا مصركم رحمكم اللّه .

فدخلوا من عند آخرهم .

و حيث إنّ الكلام كلّه خطاب و عتاب للخوارج ، و لأحد الحكمين و للناس بعد قتلهم ، جمع المصنف بينها و جعلها تحت عنوان واحد ، كما هو دأبه .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ٦٥ ٦٦ .

( ٢ ) الاسراء : ٧٢ .

٣٦٤

« و من كلام له عليه السّلام في التحكيم » هكذا في ( المصرية ) ١ و ( ابن ميثم ) ٢ و ( الخطية ) و لكن في ( ابن أبي الحديد ) ٣ « و من كلام له عليه السّلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال ، و يذمّ فيه أصحابه في التحكيم » . و لا بدّ انّه حاشية خلطه ابن أبي الحديد نفسه أو كاتب نسخته بالمتن .

قوله عليه السّلام : « إنّا لم نحكم الرجال » . . . ان الحكم إلاّ للّه . . . ٤ .

« و إنّما حكمنا القرآن » كلام اللّه و كتابه .

« و هذا القرآن إنّما هو خط مستور » هكذا في ( المصرية ) ٥ و هو غلط و الصواب : ( مسطور ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٦ و غيرهما .

« بين الدفتين » قال ابن أبي الحديد ٧ : دفتا المصحف : جانباه اللذان يكتنفانه ، و كان الناس يعملانها قديما من خشب ، و يعملونها الآن من جلد .

قلت : و في ( الجمهرة ) الدف : صفحة الجنب .

« لا ينطق بلسان و لا بد له من ترجمان » ذكره ( الصحاح ) في : رجم ،

و ( القاموس ) في : ترجم ، و قال : الفعل منه ترجمه يدل على اصالة التاء ،

و الترجمان كعنفوان و زعفران مفسّر اللسان . و ذكره كتاب لغة في الأفعال ،

في الرباعي أيضا .

« و إنّما ينطق عنه الرجال » فالحاكم في الحقيقة هو ، لا الرجال ، كالمترجم عن القاضي .

ــــــــــــ

( ١ ) الطبعة المصرية ٢ : ٧ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٣ .

( ٤ ) الأنعام : ٥٧ .

( ٥ ) الطبعة المصرية ٢ : ٧ .

( ٦ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٦ .

( ٧ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٤ .

٣٦٥

« و لما دعانا القوم الى أن نحكم بيننا القرآن » و ان كانت دعوتهم مجرّد لفظ .

« لم نكن الفريق المتولي على » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عن ) كما في ( ابن ميثم ) ١ و غيره .

« كتاب اللّه » لأنّه عليه السّلام أوّل من آمن باللّه ، فكيف يعقل توليه عن كتابه ؟ « و قد قال اللّه سبحانه : فان تنازعتم في شي‏ء فردوه الى اللّه و الرسول و الآية في سورة النساء ، و قبلها : يا أيها الذين آمنوا اطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و اولي الأمر منكم . و بعدها : ان كنتم تؤمنون باللّه و اليوم الآخر . . . ٢ .

« فرده الى اللّه أن نحكم بكتابه و رده الى الرسول ان نحكم بسنته » بيان للمراد من الآية .

« فإذا حكم بالصدق في كتاب اللّه » لا كما حكم الحكمان .

« فنحن أحقّ الناس به ، و إن حكم بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فنحن أولاهم به » إلاّ انّهم أرادوا المكيدة ، لا الكتاب أرادوا و لا السنّة .

و في ( العقد ) ٣ : قالوا : إنّ عليّا عليه السّلام لما اختلف عليه أهل النهروان و أصحاب البرانس ، و نزلوا قرية يقال لها حرورا ، رجع إليهم فقال : يا هؤلاء من زعيمكم ؟ قالوا : ابن الكواء . قال : فليبرز اليّ . فخرج إليه ابن الكواء ، فقال عليه السّلام له :

ما الذي أخرجكم بعد رضاكم بالحكمين ؟ قال : قاتلت بنا عدوا لا نشكّ في جهاده ، فزعمت أنّ قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار ، فبينما نحن كذلك إذ أرسلت منافقا و حكّمت كافرا ، و كان من شكك في أمر اللّه أن قلت للقوم حين

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٢٦ .

( ٢ ) النساء : ٥٩ .

( ٣ ) العقد الفريد ٥ : ٩٩ .

٣٦٦

دعوتهم : « كتاب اللّه بيني و بينكم ، فإن قضى عليّ بايعتكم ، و إن قضى عليكم بايعتموني » فلو لا شكك لم تفعل هذا و الحق في يدك . فقال عليه السّلام : يا ابن الكواء إنّما الجواب بعد الفراغ ، أفرغت ؟ قال : نعم . قال : أمّا قتالك معي عدوا لا نشكّ في جهاده فصدقت ، و لو شككت فيهم لم اقاتلهم ، و أمّا قتلاهم و قتلانا ، فقد قال اللّه في ذلك ما يستغنى به عن قولي ، و أمّا إرسالي المنافق و تحكيمي الكافر ، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنسا و معاوية حكّم عمرا ، أتيت بأبي موسى مبرنسا فقلت : « لا نرضى إلاّ أبا موسى » فهلا قام اليّ رجل منكم ، فقال : لا نعطي هذه الدنية فإنّها ضلالة ؟ و أمّا قولي لمعاوية : إن جرني إليك كتاب اللّه تبعتك و إن جرّك اليّ تبعتني ، زعمت أنّي لم أعط ذلك إلاّ من شك ، فحدّثني ويحك عن اليهود و النصارى و مشركي العرب . أهم أقرب إلى كتاب اللّه أم معاوية و أهل الشام ؟ قال : بل معاوية و أهل الشام . قال : افالنبي صلّى اللّه عليه و آله كان أوثق بما في يده من كتاب اللّه أو أنا ؟ قال : بل النبي . قال : أفرأيت اللّه تعالى حين يقول قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما اتبعه ان كنتم صادقين ١ اما كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يعلم أنّه لا يؤتى بكتاب هو أهدى فيما في يديه ؟ قال : بلى . قال : فلم أعطى النبي صلّى اللّه عليه و آله القوم ما أعطاهم ؟ قال : انصافا و حجّة . قال : فإنّي أعطيت القوم ما أعطاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله . قال ابن الكواء : هذه واحدة ، زدني . قال : فما أعظم ما نقمتم عليّ ؟ قال : تحكيم الحكمين ، نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمهما شكا .

قال عليّ عليه السّلام : فمتى سمّي أبو موسى حكما ، حين ارسل أو حين حكم ؟ قال:

حين ارسل . قال : أ ليس قد سار و هو مسلم ، و أنت ترجو أن يحكم بما أنزل اللّه ؟

قال : نعم . قال : فلا أرى الضلال في إرساله . فقال ابن الكواء : سمّي حكما حين حكم . قال : نعم ، إذن فارساله كان عدلا ، أرأيت يابن الكواء لو أنّ النبي بعث

ــــــــــــ

( ١ ) القصص : ٤٩ .

٣٦٧

مؤمنا إلى قوم مشركين يدعوهم إلى كتاب اللّه ، فارتد على عقبه كافرا كان يضرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا ؟ قال : لا . قال عليه السّلام : فما كان ذنبي أن كان أبو موسى ضلّ ؟ هل رضيت حكومته حين حكم أو قوله إذا قال ؟ قال : لا ، و لكنك جعلت مسلما و كافرا يحكمان في كتاب اللّه . قال عليه السّلام : ويلك يابن الكواء هل بعث عمرا غير معاوية ؟ و كيف احكمه و حكمه على ضرب عنقي ؟ إنّما رضي به صاحبه كما رضيت أنت بصاحبك ، و قد يجتمع المؤمن و الكافر يحكمان في أمر اللّه ،

أرأيت لو أنّ رجلا مؤمنا تزوج يهودية أو نصرانية ، فخافا شقاق بينهما ،

فضرع الناس إلى كتاب اللّه و في كتابه : فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها ١ ، فجاء رجل من اليهود أو النصارى و رجل من المسلمين ، اليسا اللذين لهما أن يحكما كما في كتاب اللّه فحكما ؟ قال ابن الكواء : و هذه أيضا ،

أمهلنا حتى ننظر . . .

و لابن أبي الحديد هنا كلام رث لم نتعرّض له .

« و أمّا قولكم لم جعلت بينكم و بينهم أجلا في التحكيم ؟ فإنّما فعلت ذلك ليتبين الجاهل و يتثبّت العالم ، و لعلّ اللّه أن يصلح في هذه الهدنة » أي : المصالحة و المتاركة .

« أمر هذه الامة » كما في صلح الحديبية .

« و لا تؤخذ باكظامها » جمع الكظم ، أي : مخرج النفس ، يقال : أخذت بكظمه .

« فتعجل عن تبين الحق و تنقاد لأوّل الغي » إن لم يكن أجل في البين .

« إنّ أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحق أحبّ إليه و ان نقصه و كرثه » في ( الجمهرة ) : كرثني هذا الأمر كرثا : إذا ثقل عليك .

« من الباطل » متعلق بقوله : « احب » .

ــــــــــــ

( ١ ) النساء : ٣٥ .

٣٦٨

« و إن جرّ إليه فائدة و زاده » قد عرفت أنّ قوله عليه السّلام : « إنّ أفضل الناس . . . » كلامه عليه السّلام لعمرو بن العاص ، قال عليه السّلام ذلك لأنّه لازم الايمان ، فالحق و ان نقص و كرث في الدنيا يزيد في الآخرة و يسر ، و الباطل و إن جرّ فائدة في الدنيا إلاّ أنّه خسران في الآخرة .

« أين » هكذا في ( المصرية ) ١ و الصواب : ( فأين ) كما في الثلاثة ، ثم قد عرفت أنّه من هنا عتاب لأصحابه في تركهم معاودة قتال معاوية .

« يتاه بكم » أي : في أيّ مكان تذهبون متحيّرين ؟

« من » هكذا في ( المصرية ) ٢ و الصواب : ( و من ) كما في الثلاثة .

« أين أتيتم » أتاكم الشيطان ، أو أتاكم الخصم حتى صرتم هكذا بلا حمية .

« استعدوا للمسير في قوم » هكذا في ( المصرية ) ٣ ، و الصواب : ( إلى قوم ) كما في ( ابن ميثم ) و غيره .

« حيارى عن الحقّ لا يبصرونه » أي : معاوية و أهل الشام .

« و موزعين بالجور » أي : مغرون به . أوزعته بالشي‏ء ، أي : أغريته . و قول ابن أبي الحديد ٤ « أي ملهمون » غلط ، فلا معنى للالهام هنا ، كما في قوله تعالى . . . أوزعني ان أشكر نعمتك . . . ٥ .

« جفاة » أي : مرتفعين .

« عن الكتاب » الذي أنزله تعالى .

« نكب » أي : عادلين .

ــــــــــــ

( ١ ) الطبعة المصرية ٢ : ٨ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٨ .

( ٣ ) الطبعة المصرية ٢ : ٩ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ١٠٦ ١٠٧ .

( ٥ ) النمل : ١٩ .

٣٦٩

« عن الطريق » إلى اللّه تعالى .

« ما أنتم بوثيقة » أي : عروة محكمة .

« يعلق بها » فيحصل فيكم الانفصام .

« و لا زوافر » أي : أعمدة و أسباب التقوّي ، قال الحطيئة :

فان تك ذا عز حديث فإنّهم

ذوو إرث مجد لم تخنه زوافره

« عزّ يعتصم إليها » فيقدح فيكم الانهدام « لبئس حشاش » أي : موقدو :

« نار الحرب أنتم . افّ لكم » و الافّ : إظهار تضجر ، و في ( الجمهرة ) : قال أبو زيد في قولهم : اف و تف : الافّ الأظفار ، و التفّ : وسخ الأظفار .

« لقد لقيت منكم برحا » أي : شدّة شديدة ، قال جران العود :

الاقي الخنا و البرح من امّ جابر

و ما كنت ألقى من رزينة أبرح

و في ( الجمهرة ) : إذا أصاب الرامي قالوا : مرحى . و إذا أخطأ قالوا : برحى.

« يوما اناديكم و يوما اناجيكم ، فلا أحرار صدق عند النداء » أي : للحرب .

« و لا إخوان ثقة عند النجاء » مصدر ( ناجى ) كالمناجاة ، أي : لكشف المعضلات و دفع المحذورات .

٤

الخطبة ( ١٢٠ ) و من كلام له عليه السّلام قاله للخوارج و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة ، فقال عليه السّلام :

أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا ؟ صِفِّينَ ؟ فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ ؟ صِفِّينَ ؟ فِرْقَةً وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا

٣٧٠

فِرْقَةً حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ بِكَلاَمِهِ وَ نَادَى اَلنَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ اَلْكَلاَمِ وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلاَمٍ طَوِيلٍ مِنْهُ أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ اَلْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا اِسْتَقَالُونَا وَ اِسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ فَالرَّأْيُ اَلْقَبُولُ مِنْهُمْ وَ اَلتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ وَ اِلْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ وَ عَضُّوا عَلَى اَلْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ وَ لاَ تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ وَ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ اَلْفَعْلَةُ وَ قَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا وَ اَللَّهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَ لاَ حَمَّلَنِي اَللَّهُ ذَنْبَهَا وَ وَ اَللَّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ اَلَّذِي يُتَّبَعُ وَ إِنَّ اَلْكِتَابَ لَمَعِي مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ وَ إِنَّ اَلْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى اَلْآباءِ وَ اَلْأَبْنَاءِ وَ اَلْإِخْوَانِ وَ اَلْقَرَابَاتِ فَلاَ نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ إِلاَّ إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى اَلْحَقِّ وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ اَلْجِرَاحِ وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي اَلْإِسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ اَلزَّيْغِ وَ اَلاِعْوِجَاجِ وَ اَلشُّبْهَةِ وَ اَلتَّأْوِيلِ فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اَللَّهُ بِهِ شَعَثَنَا وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى اَلْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا قول المصنّف : « و من كلام له عليه السّلام قاله » ليس ( قاله ) في نسخة ابن ميثم ١ .

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

٣٧١

« للخوارج و قد خرج الى معسكرهم » أي : محل عسكرهم .

« و هم مقيمون على انكار الحكومة » ليست هذه الجملة في نسخة ابن ميثم ١.

في ( تاريخ اليعقوبي ) ٢ : صارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء ،

و بينها و بين الكوفة نصف فرسخ ، و بها سمّوا الحرورية ، و رئيسهم عبد اللّه بن وهب الراسبي و ابن الكواء و شبث بن ربعي ، فجعلوا يقولون : لا حكم إلاّ للّه .

فلمّا بلغ عليّا عليه السّلام ذلك قال : كلمة حقّ اريد بها باطل . ثم خرجوا في ثمانية آلاف و قيل في اثني عشر ألفا فوجّه عليه السّلام إليهم ابن عباس ، فكلّمهم و احتجّوا عليه ،

فخرج إليهم عليّ عليه السّلام فقال : افتشهدون عليّ بجهل ؟ قالوا : لا . قال : فتنفذون أحكامي ؟ قالوا : نعم . قال : ارجعوا إلى كوفتكم حتى نتناظر . فرجعوا من عند آخرهم ، ثمّ جعلوا يقومون فيقولون : لا حكم إلاّ للّه . فيقول عليه السّلام : حكم اللّه أنتظر فيكم .

« فقال عليه السّلام » ليست الكلمة في نسخة ابن ميثم ٣ ، و عليها يكون ( أكلكم . . . ) الخ مبتدأ لقوله : « و من كلام له » و لا يرد على المصنف ما يأتي على نقل غيره .

« أ كلّكم شهد معنا صفين ؟ قالوا : منّا من شهد و منّا من لم يشهد . قال :

فامتازوا فرقتين ، فليكن من شهد صفين فرقة ، و من لم يشهدها » و في نسخة ابن ميثم ٤ : « و من لم يشهد » .

« فرقة حتى اكلّم كلاّ » و زاد ابن أبي الحديد : « منكم » .

« بكلامه . و نادى الناس فقال : أمسكوا عن الكلام و أنصتوا » أي : اسكتوا.

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٢ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

٣٧٢

« و اقبلوا بأفئدتكم إليّ ، فمن نشدناه شهادة » ليست الكلمة في نسخة ابن ميثم ١ .

« فليقل بعلمه فيها . ثم كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل منه » هكذا في ( المصرية ) ٢ و الصواب : ما في ( ابن أبي الحديد ٣ و ابن ميثم ) ٤ : « ثم كلّمهم عليه السّلام بكلام طويل من جملته أن قال » .

و كيف كان ، ففي ( تاريخ اليعقوبي ) ٥ بعد ما مرّ : و خرجت الحرورية من الكوفة ، فوثبوا على ابن خباب فقتلوه ، فخرج عليّ عليه السّلام إليهم ، و قال لابن عباس : قل لهم : ما نقمتم على أمير المؤمنين ؟ ألم يحكم فيكم بالحق ، و يقم فيكم العدل ، و لم يبخسكم شيئا من حقوقكم ؟ فناداهم ابن عباس بذلك ، فقالت طائفة منهم : و اللّه لا نجيبه . و قالت الأخرى : و اللّه لنجيبنّه ثم لنخصمنّه ، نعم يا بن عباس ، نقمنا عليه خصالا كلّها موبقة ، و لو لم نخصمه إلاّ بخصلة خصمناه : محا اسمه من إمرة المؤمنين يوم كتب إلى معاوية ، و رجعنا عنه يوم صفين فلم يضربنا بسيفه حتى نفي‏ء إلى أمر اللّه ، و حكّم الحكمين ،

و زعم أنّه وصيّ فضيع الوصية ، و جئتنا يابن عباس في حلّة حسنة جميلة تدعونا إلى مثل ما يدعونا إليه . فقال بن عباس له عليه السّلام : قد سمعت مقالة القوم و أنت أحقّ بالجواب . فقال عليه السّلام : حججتهم و الّذي فلق الحبة و برأ النسمة ،

قل لهم : ألستم راضين بما في كتاب اللّه و بما فيه من اسوة رسول اللّه ؟ قالوا :

بلى . فقال عليه السّلام : كتب كاتب النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم الحديبية إذ كتب إلى سهيل بن

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٢٩٧ .

( ٤ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٨ .

( ٥ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ ١٩٢ .

٣٧٣

عمرو و صخر بن حرب و من قبلهما من المشركين : « من محمّد رسول اللّه » فكتبوا إليه : « لو علمنا انّك رسول اللّه ما قاتلناك ، فاكتب إلينا : من محمّد بن عبد اللّه لنجيبك » . فمحا النبي صلّى اللّه عليه و آله اسمه بيده و قال : إنّ اسمي و اسم أبي لا يذهبان بنبوّتي . فكتب : « من محمّد بن عبد اللّه » . ففي برسول اللّه اسوة حسنة . و أمّا قولكم : إنّي لم أضربكم بسيفي حتى تفيئوا إلى أمر اللّه ، فإنّ اللّه عز و جل يقول : و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ١ ، كنتم عددا جمّا و أهل بيتي في عدة يسيرة . و أمّا قولكم : إنّي حكمت الحكمين ، فإنّ اللّه عزّ و جل حكم في أرنب يباع بربع درهم فقال : يحكم به ذوا عدل منكم ٢ و لو حكم الحكمان بما في كتاب اللّه لما وسعني الخروج من حكمهما . و أمّا قولكم :

إنّي كنت وصيا فضيعت الوصيّة ، فإنّ اللّه عز و جل يقول : و للّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا و من كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين ٣ . أ فرأيتم هذا البيت لو لم يحجّ إليه أحد كان البيت يكفر ، أم لو تركه من استطاع إليه سبيلا كفر ؟ و أنتم كفرتم بترككم إياي ، لا أنا كفرت بتركي لكم . فرجع منهم ألفان .

قوله عليه السّلام : « أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة » من : « أرضعته غيلة » ، أي : على حبل ، و هو مفسد للصبي ، يقال : الارضاع غيلة كالقتل غيلة .

« و مكرا و خديعة » كلّها مفعول له لقوله : « رفعهم » .

« إخواننا » مقول قولهم .

« و أهل دعوتنا استقالونا » من القتال .

ــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ١٩٥ .

( ٢ ) المائدة : ٩٥ .

( ٣ ) آل عمران : ٩٧ .

٣٧٤

« و استراحوا الى كتاب اللّه سبحانه ، فالرأي القبول منهم و التنفيس » أي :

الترفيه .

« عنهم . فقلت لكم : هذا أمر ظاهره ايمان و باطنه عدوان ، و أوّله رحمة و آخره عداوة ، فأقيموا على شأنكم و الزموا طريقتكم » في ( الطبري ) ١ في حرب يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك أيام يزيد بن عبد الملك : دعا ابن المهلب رؤوس أصحابه ، فقال لهم : قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل ، فأبعثهم مع محمّد أخي حتى يبيّتوا مسلمة ، و يحملوا معهم البراذع و الأكف و الزبل ،

لدفن خنادقهم فنقاتلهم على خندقهم بقية ليلتهم ، فاذا أصبحت نهضت إليهم بالناس فنناجزهم . قال السميدع : إنّا قد دعوناهم إلى كتاب اللّه و سنّة نبيه ، و قد زعموا أنّهم قابلوا هذا منّا ، فليس لنا ان نمكر و لا نغدر و لا نريدهم بسوء ، حتى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه ، فقال لهم يزيد بن المهلب : ويحكم أتصدقون بني اميّة أنّهم يعملون بالكتاب و السنّة ، و قد منعوا ذلك منذ كانوا أنّهم أرادوا أن يكفوكم عنهم حتى يعملوا في المكر ؟ إنّي قد لقيت بني مروان ،

و ما لقيت رجلا هو أمكر من هذه الجرادة الصفراء يعني : مسيلمة . فقالوا : لا نرى أن نفعل ذلك حتى يردّوا علينا ما زعموا أنّهم قابلوه منّا . . . .

« و عضّوا على الجهاد بنواجذكم » النواجذ أربعة في أقصى الأسنان بعد الأرحاء .

« و لا تلتفتوا الى ناعق نعق » أي : لا تكونوا كالأغنام ، يقال : نعق الراعي بغنمه . بالكسر أي : صاح بها .

قال الأخطل لجرير :

أنعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٥٩٣ .

٣٧٥

« إن اجيب أضلّ » فنعق أهل الشام صار سببا لضلال الخوارج .

« و إن ترك ذلّ » فلو كانوا لم يمشوا بنعقهم ، لصاروا ذليلين و اسراء مقهورين.

« و قد كانت هذه الفعلة ، و قد رأيتكم أعطيتموها ، و اللّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها و لا حملني اللّه ذنبها ، و و اللّه إن جئتها إنّي للمحقّ الذي يتّبع ، و إنّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته » هذه الفقرات كلّها من قوله : « و قد كانت » إلى هنا ،

ليس منها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) أثر و لا إشارة بوجودها في نسخة أو رواية ، و نسختهما هي الصحيحة ، لا سيما الثاني الذي نسخته بخط المصنّف ، فالظّاهر أنّ بعضهم رأى هذا الكلام زائدا في كلامه عليه السّلام في موضع آخر ، فنقله حاشية ، فخلط بالمتن .

و لقد وقفت في كلامه عليه السّلام على ما يناسبه ، ففي ( الطبري ) ١ قال عليه السّلام للناس بعد التحكيم : قد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة ، و اسقطت منّة ، و أورثت و هنا و ذلّة ، و لما كنتم الأعلين و خاف عدوكم الاجتياح ، و استحر بهم القتل و وجدوا ألم الجراح ، رفعوا المصاحف و دعوكم إلى ما فيها ليفتئوكم عنهم ،

و يقطعوا الحرب في ما بينكم و بينهم ، و يتربصون ريب المنون خديعة و مكرا ،

فأعطيتموهم ما سألوا ، و أبيتم إلاّ أن تدهنوا و تخوروا ، و ايم اللّه ما أظنّكم بعدها توافقون رشدا ، و لا تصيبون باب حزم .

« فلقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ القتل ليدور على » هكذا في ( المصرية ) ٢ ،

و الصواب : ( بين ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ٣ و الخطية ) .

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠ .

( ٢ ) الطبعة المصرية ٢ : ٣ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١١٩ .

٣٧٦

« الآباء و الأبناء و الاخوان و القرابات ، فلا نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلاّ إيمانا و مضيّا على الحق ، و تسليما للأمر ، و صبرا على مضض » أي : ألم .

« الجراح » مرّ في فصل النبوّة نظير هذا الكلام من قوله : « و لقد » من العنوان ( ٥٥ ) : « و من كلام له عليه السّلام : و لقد كنّا مع رسول اللّه نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا و تسليما و مضيا على اللقم ،

و صبرا على مضض الألم ، و جدا على جهاد العدو ، و لقد كان الرجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما : أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون ؟ فمرّة لنا من عدوّنا و مرة لعدوّنا ، فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، و أنزل علينا النصر ، حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه و متبوّءا أو طانه ، و لعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، و لا أخضرّ للإيمان عود » .

مرّ ثمة أنّ نصر بن مزاحم ١ روى : أنّه عليه السّلام قال ذلك الكلام يوم صفّين،

حين أقرّ الناس بالصلح ، فالظاهر أنّ الأصل فيهما واحد .

و كيف كان فقول ابن أبي الحديد : « إنّ قوله عليه السّلام : و لقد كنّا . . . غير مربوط بسابقه ، و إنّما نقله الرضي على حسب عادته » في غير محله ، فربطه بسابقه و هو قوله : « و عضوا على الجهاد بنواجذكم إلى و إن ترك ذل » على نقله واضح ، و المراد حثّ أصحابه على التأسّي بأصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله في ثباتهم .

« و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل اخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ و الاعوجاج و الشبهة و التأويل ، فاذا طمعنا في خصلة يلم اللّه به شعثنا ، و نتدانى بها إلى البقية في ما بيننا ، رغبنا فيها ، و أمسكنا عمّا سواها » قال ابن أبي الحديد ٢ : هذا

ــــــــــــ

( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٢٠ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٢٩٩ .

٣٧٧

الكلام من قوله : « و لكننا » مخالف في الظاهر للفصل الأول ، لأنّ الأول فيه إنكار الإجابة للتحكيم و هذا يتضمن تصويبها ، و ظاهر الحال أنّه بعد كلام طويل و قد قال المصنف في أوّل الفصل : إنّه من جملة كلام طويل و أنّه لما ذكر التحكيم قال ما كان يقوله دائما ، و هو : إنّي إنّما حكمت على أن نعمل في هذه الوقعة بحكم الكتاب ، و إنّي كنت احارب قوما ادخلوا في الاسلام زيفا ،

و أحدثوا به اعوجاجا ، فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم و أبقيت عليهم ، لأنّي طمعت في أمر يلم اللّه به شعث المسلمين .

قلت : بل الظاهر أنّه حرّف عن موضعه ، و أنّه كان مقول قول الخوارج في أوّل الأمر ، لما حملوه عليه السّلام على التحكيم بعد قولهم في أوّل الفصل : « اخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا إلى كتاب اللّه سبحانه ، فالرأي القبول منهم و التنفيس عنهم » كما لا يخفى ، و إلاّ فكيف يقول عليه السّلام : أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام » ؟ و كيف يقول عليه السّلام في أول كلامه : « إنّ رفعهم المصاحف إنّما كان حيلة و غيلة و مكرا و خديعة » ، و يقول في آخر كلامه : « فاذا طمعنا في خصلة يلمّ اللّه به شعثنا . . . » ؟

و إنّما كان عليه السّلام يقول للخوارج : إنّي و ان كنت كارها للتحكيم ، إلاّ أنّه لما أكرهتموني ، عليه صرفته إلى المشروع بقبول حكم الحكم إذا كان من كتاب اللّه ، و عقد بذلك عهد يجب الجري عليه ، حتى نرى ما يحكم الحكمان .

و كيف يقول عليه السّلام : معاوية و عمرو بن العاص و أهل الشام اخواننا في الإسلام ، و طمعنا منهم في خصلة يلم اللّه به شعثنا ؟ و يقول صاحبه عمّار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : و اللّه انّ هذه الراية قد قاتلتها ثلاث مرات ،

و ما هذه بأرشدهنّ . ثم قال :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

٣٧٨

ضربا يزيل الهام عن مقيله

أو يرجع الحقّ إلى سبيله

٥

الخطبة ( ١١٩ ) و من كلام له عليه السّلام ، و قد قام إليه رجل من أصحابه ، فقال : نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها ، فلم ندر أيّ الأمرين أرشد ؟ فصفّق عليه السّلام إحدى يديه على الأخرى ، ثم قال :

هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ اَلْعُقْدَةَ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى اَلْمَكْرُوهِ اَلَّذِي يَجْعَلُ اَللَّهُ فِيهِ خَيْراً فَإِنِ اِسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَ إِنِ اِعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ اَلْوُثْقَى وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي كَنَاقِشِ اَلشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا اَللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا اَلدَّاءِ اَلدَّوِيِّ وَ كَلَّتِ اَلنَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ اَلرَّكِيِّ أَيْنَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ دُعُوا إِلَى اَلْإِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى اَلْقِتَالِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اَللِّقَاحِ إِلَى أَوْلاَدِهَا وَ سَلَبُوا اَلسُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ اَلْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا لاَ يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ وَ لاَ يُعَزَّوْنَ بِالْمَوْتَى مُرْهُ اَلْعُيُونِ مِنَ اَلْبُكَاءِ خُمْصُ اَلْبُطُونِ مِنَ اَلصِّيَامِ ذُبُلُ اَلشِّفَاهِ مِنَ اَلدُّعَاءِ صُفْرُ اَلْأَلْوَانِ مِنَ اَلسَّهَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ اَلْخَاشِعِينَ أُولَئِكَ إِخْوَانِي اَلذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَ نَعَضَّ اَلْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً وَ يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ اَلْفُرْقَةَ فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِقْبَلُوا اَلنَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ وَ اِعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

٣٧٩

أقول : رواه ابن عبد ربّه في ( عقده ) ١ مع اختلاف ، فروى عن نافع بن كليب ، قال : دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ، فإنّي لجالس تحت منبره ، و عليه عمامة سوداء و هو يقول : « انظروا هذه الحكومة ، فمن دعا إليها فاقتلوه و إن كان تحت عمامتي هذه » فقال له عدي بن حاتم : قلت لنا أمس :

من أبى عنها فاقتلوه ، و تقول لنا اليوم : من دعا إليها فاقتلوه ، و اللّه ما ندري ما نصنع بك ؟ و قام إليه رجل أحدب من أهل العراق ، فقال : أمرت بها أمس و تنهى عنها اليوم ؟ فأنت كما قال الأول : « آكلك و أنا أعلم ما أنت » فقال عليه السّلام : إليّ يقال هذا ؟ ( أصبحت اذكر أرحاما و أصره بدلت منها هوى الريح بالقصب ) أما و اللّه لو أنّي حين أمرتكم بما أمرتكم به ، و نهيتكم عمّا نهيتكم ، حملتكم على المكروه الذي جعل اللّه عاقبته خيرا ، إذن كان فيه ، و لكانت الوثقى التي لا تقلع ، و لكن بمن والى من اداويكم ؟ كأنّي و اللّه بكم كناقش الشوكة بالشوكة يا ليت لي بعض قومي ، و ليت لي من بعد خير قومي . اللهم إنّ دجلة و الفرات نهران أعجمان أصمان أبكمان ، اللهمّ سلّط عليهما بحرك ، و انزع منهما نصرك ، ويل للنزعة بأشطان الرّكي دعوا إلى الاسلام فقبلوه ، و قرؤوا القرآن فأحسنوه ،

و نطقوا بالشعر فأحكموه ، و هيّجوا إلى الجهاد فولهوا و له اللقاح أولادها ،

ضربا ضربا و زحفا زحفا ، لا يتباشرون بالحياة ، و لا يعزون على القتلى ، و لا يغيرون على العلى :

اولئك إخواني الذاهبون

فحقّ البكاء لهم أن يطيبا

رزقت حبيبا على فاقة

و فارقت بعد حبيب حبيبا

ثم نزل تدمع عيناه . فقلت : إنّا للّه و إنّا إليه راجعون على ما صرت إليه .

فقال : نعم إنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، أقوّمهم و اللّه غدوة و يرجعون إليّ عشية

ــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربّه ٤ : ١٦٢ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617