• البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76125 / تحميل: 3382
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 10

مؤلف:
العربية

غفلة ساهون . إنّ أخا الحرب اليقظان ذو عقل ، و ثاب لذلّ من وادع ، و غلب المتجادلون ، و المغلوب مقهور و مسلوب .

ثمّ قال عليه السّلام : أما بعد ، فإنّ لي عليكم حقّا و إنّ لكم عليّ حقّا ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم ما صحبتكم ، و توفير فيئكم ، و تعليمكم كيما لا تجهلون ،

و تأديبكم كي تعلموا ، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة ، و النصح لي في الغيب و المشهد ، و الإجابة حين أدعوكم . و الطاعة حين آمركم ، فإن يرد اللّه بكم خيرا و ترتدعوا عمّا أكره و تراجعوا إلى ما احبّ ، تنالوا ما تطلبون و تدركوا ما تأملون.

و رواه مثله ( غارات الثقفي ) ١ باسناده عن زيد بن وهب .

و رواه ابن قتيبة ٢ مع زيادات : إلى أن قال ويحكم ما أنتم إلاّ كإبل جامحة ضلّ عنها رعاؤها ، فكلّما ضمّت من جانب انتشرت من جانب ، و اللّه لكأنّي أنظر إليكم و قد حمى الوطيس لقد انفرجتم عليّ انفراج الرأس ،

و انفراج المرأة عن قبلها . فقام إليه الأشعث فقال : فهلاّ فعلت كما فعل عثمان؟

فقال عليه السّلام له : ويلك : و كما فعل عثمان رأيتني فعلت ؟ عائذا باللّه من شر ما تقول ،

و اللّه إنّ الذي فعل عثمان لمخزاة على من لا دين له و لا حجّة معه ، فكيف و أنا على بيّنة من ربي و الحق معي ؟ و اللّه إنّ امرأ مكّن عدوّه من نفسه فنهش عظمه و سفك دمه ، لعظيم عجزه و ضعيف قلبه . أنت يا بن قيس فكن ذلك ، فأمّا أنا فو اللّه دون أن اعطي ذلك ضربا بالمشرفي يطير له فراش الرأس ، و تطيح منه الأكفّ و المعاصم و تجذبه الغلاصم ، و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء .

« افّ لكم » في ( الجمهرة ) : يقال : أتانا على افّ ذلك . أي : أبانه . و افّ لك : إذا

ــــــــــــ

( ١ ) الغارات للثقفي ١ : ٣٣ ٣٨ .

( ٢ ) خلطاء ابن قتيبة : ١٥٠ ١٥١ .

٥٢١

تضجّرت منه ، و قال أبو زيد في قولهم : اف و تف : ( اف ) الأظفار ، و ( تف ) و سخها . و في ( الصحاح ) : افا له . أي : قذرا ، و التنوين للتنكير .

« لقد سئمت » أي : مللت .

« عتابكم » أي : لومكم ، و إنّما سئم عليه السّلام من عتابهم لأنّه كان يعاتبهم مرة بعد مرة على الشخوص إلى العدوّ بعد الفراغ من الخوارج ، و في النخيلة و في الكوفة فيتقاعدون .

« أ رضيتم بالحياوة الدّنيا من الآخرة عوضا » قال تعالى : يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلاّ قليل ١ .

« و بالذل من العز خلفا » و كان أهل العراق أعزاء قبل رجوعهم من صفّين ،

و صاروا أذلاّء بعده بتركهم القتال مع أهل الشام .

« إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت في غمرة » الأصل فيه قوله تعالى : . . . فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . . . ٢ .

« و من الذهول » أي : الغفلة .

« في سكرة » فلا تعقلون ما يقال لكم .

« يرتج » من : ارتجت الباب : إذا أغلقته .

« عليكم حواري » بالكسر من المحاورة ، أي : خطابي .

« فتعمهون » أي : تتحيّرون .

ــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ٣٨ .

( ٢ ) الأحزاب : ١٩ .

٥٢٢

« فكأنّ » و في ( ابن ميثم ) ١ : « و كأن » .

« قلوبكم مألوسة » في ( الجمهرة ) : الألس و الآلاس : ذهاب العقل ، رجل مألوس : إذا كان كذلك .

« فأنتم لا تعقلون » فمن اخذ قلبه و ذهب عقله ، كيف يعقل ؟

« ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي » كناية عن الأبد ، قال الشاعر :

هنالك لا أرجو حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلا بالجرائر

و مثله سجيس الدهر ، قال :

و لو لا ظلمه مازلت أبكي

سجيس الدّهر ما طلع النجوم

قال ابن دريد يقال : لا آتيك سجيس الليالي ، كما يقال : طوال الليالي ،

و طوال الدهر .

« و ما أنتم بركن يمال بكم » قالوا في قوله تعالى : . . . أو آوي إلى ركن شديد ٢ أي عزّ و منعة . و ركن الشي‏ء جانبه الأقوى .

« و لا زوافر » أي : أسباب .

« عزّ يفتقر إليكم » لمّا كان الحجاج يقاتل شبيب الخارجي ، و أمدّه عبد الملك بسفيان بن الأبرد الكلبي قام الحجاج على المنبر و قال ، يا أهل الكوفة ، لا أعزّ اللّه من أراد بكم العزّ ، و لا نصر من أراد بكم النّصر ، أخرجوا عنّا و لا تشهدوا معنا قتال عدوّنا ، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى .

و قال أعشى همدان في انهزام أهل العراق مع ابن الأشعث :

و ينزل ذلاّ بالعراق و أهله كما

نقضوا العهد الوثيق المؤكّدا

فكيف رأيت اللّه فرّق جمعهم

و مزّقهم عرض البلاد و شرّدا

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٢ : ٧٦ .

( ٢ ) هود : ٨٠ .

٥٢٣

بما نكثوا من بيعة بعد بيعة

إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا

و ما أحدثوا من بدعة و عظيمة

من القول لم تصعد إلى اللّه مصعدا

« ما أنتم إلاّ كابل ضلّ رعاتها » الرعاة : جمع الراعي .

« فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر » و قد عرفت أنّ في رواية الثقفي:

« فما أنتم إلاّ كإبل جمّة ضل راعيها . . . » و في رواية القتيبي : « ما أنتم إلاّ كأبل جامحة ضلّ عنها رعاؤها ، فكلّما ضمت من جانب انتشرت من جانب » .

« لبئس لعمر اللّه سعّر » بالضم و التشديد ، جمع ساعر من : سعرت النار :

إذا أوقدتها ، قرى‏ء و إذا الجحيم سعّرت ١ بالتشديد و التخفيف .

و سمّي شاعر أسعر بقوله :

فلا يدعني الأقوام من آل مالك

إذا أنا لم أسعر عليهم و اثقب

« نار الحرب أنتم تكادون و لا تكيدون و تنقص » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و تنتقص ) كما في ( ابن أبي الحديد ٢ و ابن ميثم ٣ و الخطية ) .

« أطرافكم فلا تمتعضون » أي : لا يشق عليكم فتغضبون .

« لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون » أي : مساهلون .

« غلب » بالضم ، أي : يصير مغلوبا .

« و اللّه المتخاذلون . و ايم اللّه » بمعنى يمين اللّه .

« إنّي لأظنّ أن لو حمس » أي : اشتدّ .

« الوغى » أي : الحرب .

« و استحر » مثل حر ، بمعنى اشتد .

ــــــــــــ

( ١ ) التكوير : ١٢ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٩ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٢ : ٧٦ .

٥٢٤

« الموت » و المراد القتل .

« قد انفرجتم » أي : انفصلتم .

« عن ابن أبي طالب انفراج الرأس » قال الشاعر :

تفرّقت القبائل عن رباح

تفرّق بيضة عن ذي جناح

قال ابن أبي الحديد ١ : معنى انفراج الرأس : أي كما ينفلق الرأس ، فيذهب نصفه يمنة و نصفه شامة . و قال الرّاوندي : معناه انفراج من أدنى رأسه إلى غيره ثم حرف رأسه عنه . و قال ابن ميثم : انفراج الرّأس مثل ، قيل : أوّل من تكلّم به أكثم بن صيفي في وصيته لبنيه : لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرّأس ،

فإنّكم بعد ذلك لا تجتمعون على عزّ . قال ابن دريد : معناه أنّ الرّأس إذا انفرج عن البدن لا يعود إليه . و قال المفضّل : الرّأس اسم رجل ينسب إليه قرية من قرى الشام يقال لها : بيت الرّأس يباع فيه الخمر . قال حسّان :

كأن سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل و ماء

و هذا الرّجل قد انفرج عن قومه و لم يعد ، فضرب به المثل . و قيل : معناه أنّ الرّأس إذا انفرج بعض عظامه كان بعيد الالتيام . و قيل : معناه انفراج المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع ، كما في قوله عليه السّلام في موضع آخر : « انفراج المرأة عن قبلها » .

قلت : الأصح قول ابن دريد ، و أمّا ما عن المفضّل فيختلف تعريفا و تنكيرا ، و أمّا الأخير فيردّه أنّ الثقفي و القتيبي جمعا بينهما في روايتيهما .

« و اللّه إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه » أي : يأكل جميع لحمه من عظمه . و سمّي شاعر طائي عارقا بقوله :

إن لم يغير بعض ما قد صنعتم

لأنتحين للعظم ذو انا عارقه

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٩١ .

٥٢٥

« و يهشم عظمه » أي : يدقه ، من : هشم الثريد ، و منه سمّي هاشم ، و اسمه عمرو ، قال الشاعر :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

و رجال مكة مسنتون قحاف

« و يفري جلده » من : أفريت الأديم : قطعته على جهة الإفساد ، و أمّا فريته فقطعة على الإصلاح .

« لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح » جمع جانحة : الاضلاع المحيطة بالصدر .

« صدره » أي : ضعيف قلبه ، في ( عيون القتيبي ) ١ : قال الحرسي : استثرنا من مزرعة في بلاد الشام رجلين يذريان حنطة ، أحدهما أصيفر أحيمس و الآخر مثل الجمل عظما ، فقاتلنا الأصيفر بالمذري لا تدنو منه دابة إلاّ نخس أنفها و ضربها حتى شق علينا ، فقتل و لم نصل إلى الآخر حتى مات فرقا ،

فأمرت بهما فوقرت بطونهما ، فإذا فؤاد الضّخم يابس مثل الحشفة ، و فؤاد الاصيفر مثل فؤاد الجمل يتخضخض في مثل كوز من ماء .

و اخرج شبيب الخارجي من الماء بعد غرقه فشقّ بطنه و اخرج فؤاده ،

فاذا هو مثل الكوز ، فجعلوا يضربون به الأرض فينزو .

« و أنت فكن ذاك إن شئت » قد عرفت من رواية الثقفي و رواية القتيبي أنّ المخاطب له عليه السّلام بهذا الكلام : الأشعث بن قيس لمّا قام إليه في خطبته تلك و قال له : هلاّ فعلت كما فعل عثمان ؟ فزجره عليه السّلام و قال له : إنّ الذي فعل لمخزاة على من لا دين له و لا حجّة معه ، فكيف و أنا على بيّنة من ربّي و الحق معي ؟ و اللّه ان امرأ مكّن عدوّه . . . و في رواية الثاني : « أنت يابن قيس فكن ذلك » .

ــــــــــــ

( ١ ) العيون للقتيبي ١ : ١٧٢ .

٥٢٦

قال أبو عبيدة : سألت بعض بني كليب : ما أشد ما هجيتم به ؟ قال قول البعيث :

ألست كليبيا إذا سيم خطة

أقرّ كإقرار الحليلة للبعل

و كلّ كليبيّ صحيفة وجهه

أذلّ لأقدام الرّجال من النعل

« فأما أنا فو اللّه دون أن اعطي ذلك ضرب بالمشرفيّة » أي : سيوف منسوبة مشارف قرية بها تعمل السيوف .

« تطير منه فراش » أي : عظام دقاق .

« الهام » أي : الرأس ، في ( القاموس ) : لقب ناجية الجرمي : معود الفتيان لأنّه ضرب مصدق نجدة الخارجي فخرق بناجية ، فضربه بالسيف و قتله و قال :

اعوّدها الفتيان بعدي ليفعلوا

كفعلي إذا ما جار في الحكم تابع

« و تطيح » أي : تهلك و تسقط .

« السواعد » سواعد اليد .

« و الأقدام » أخذ كلامه عليه السّلام ثابت قطنة فكتب إلى يزيد بن المهلب يحرّضه على القتال :

إنّ امرأ حدبت ربيعة حوله

و الحيّ من يمن و هاب كؤدا

لضعيف ما ضمنت جوانح صدره

إن لم يلف إلى الجنود جنودا

أيزيد كن في الحرب إذ هيجتها

كأبيك لا رعشا و لا رعديدا

شاورت أكرم من تناول ماجدا

فرأيت همّك في الهموم بعيدا

ما كان في أبويك قادح هجنة

فيكون زندك في الصلود زنودا

إنّا ضاربون في حمس الوغى

رأس المتوج إذ أراد صدودا

و ترى إذا كثر العجاج ترى لنا

في كلّ معركة فوارس صيدا

٥٢٧

يا ليت اسرتك الذين تغيبوا

كانوا ليومك بالعراق شهودا

و ترى مواطنهم إذا اختلف القنا

و المشرفية يلتظين وقودا

فلمّا قر يزيد كتابه قال : إنّ ثابتا لغافل عمّا نحن فيه ، لاطيعنّه و سيرى ما يكون ١ .

في ( صفّين نصر ) ٢ : ذكر معاوية يوما صفّين بعد عام الجماعة إلى أن قال فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد : أمّا و اللّه لقد رأيت يوما من الأيام و قد غشينا ثعبان مثل الطود الأرعن قد أثار قسطلا حال بيننا و بين الأفق ، و هو على أدهم سائل يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل ، كاشرا عن أنيابه كشر الحذر الحرب . فقال معاوية : و اللّه إنّه كان يجالد و يقاتل عن ترة له و عليه ، أراه يعني عليّا .

و ممّن لم يمكن عدوّه من نفسه المختار ، ففي ( الطبري ) ٣ : أنّ المختار لمّا حوصر خرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم : أ تؤمنوني و أخرج إليكم ؟

فقالوا : لا إلاّ على الحكم . فقال : لا احكّمكم في نفسي أبدا . فضارب بسيفه حتى قتل ، و قد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه : إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلاّ ضعفا و ذلا فإن نزلتم على حكمهم و ثب أعداؤكم الذين قد وترتموهم ، فقال كلّ رجل منهم لبعضكم : هذا عنده ثأري .

فيقتل و بعضكم ينظر إلى مصارع بعض فتقولون : يا ليتنا أطعنا المختار و عملنا برأيه ، و لو أنّكم خرجتم كنتم إن أخطأتم الظفر متّم كراما ، و إن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته يكن أذلّ من على ظهر الأرض فكان كما قال

ــــــــــــ

( ١ ) الأغاني ١٤ : ٢٧٧ ٢٧٨ .

( ٢ ) صفّين لنصر بن مزاحم : ٣٨٧ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٦ : ١٠٧ .

٥٢٨

و لمّا كان الغد من قتل المختار قال بجير المسلي من أصحابه لباقيهم : يا قوم قد كان صاحبكم بالأمس أشار عليكم بالرأي فما أطعتموه ، يا قوم إنّكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم ، أخرجوا بأسيافكم حتى تموتوا كراما . فقالوا : لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا فعصيناه . فأمكنوا من أنفسهم و نزلوا إلى الحكم ، فبعث مصعب إليهم عباد الحبطي فكان هو يخرجهم مكتّفين إلى أن قال فقال بجير لمصعب : إنّ حاجتي إليك ألاّ اقتل مع هؤلاء ، إنّي أمرتهم أن يخرجوا مع أسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما فعصوني . فقدّم فقتل ، و قال مسافر بن سعيد بن نمران لمصعب لمّا أبى إلاّ قتلهم : قبّح اللّه قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكّة من هذه السكك ،

فنطردهم ثم نلحق بعشائرنا فعصوني حتى حملوني على أن أعطيت التي هي أنقص و أدنى ، و أبوا إلاّ أن يموتوا ميتة العبيد ، فأنا أسألك ألاّ تخلط دمي بدمائهم . فقدّم فقتل ناحية .

و فيه : لمّا حمل عبد الجبار الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه قال له : قتلة كريمة قد تركتها وراءك يابن اللخناء .

و فيه ١ : إنّ معديكرب بن ذي يزن لمّا استجار بكسرى لينصره حتى يخرج الحبشة من بلاده ، أمر بمن كان في سجنه فاحصوا فبلغوا ثمانمائة ،

فقوّد عليهم قائدا من أساورته يقال له : و هرز ، كان كسرى يعدله بألف أسوار،

و أمر بحملهم في ثماني سفائن في كلّ سفينة مائة ، فغرقت سفينتان و سلمت ست فخرجوا ساحل حضر موت ، و سار إليهم مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة و حمير و الأعراب ، و نزل و هرز على سيف البحر و جعل البحر وراء ظهره ، فلمّا نظر مسروق الحبشي إلى قلّتهم طمع فيهم فأرسل إلى و هرز :

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري : ١٤٠ .

٥٢٩

ما جاء بك و ليس معك إلاّ من أرى و معي من ترى ؟ لقد غررت بنفسك و أصحابك فإن أحببت أذنت لك فرجعت ، و إن أحببت ناجزتك السّاعة ، و إن أحببت أجّلتك حتى تنظر أمرك . فرأى و هرز أنّه لا طاقة له بهم فقال : بل تضرب بيني و بينك أجلا إلى أن قال فلمّا انقضى الأجل إلاّ يوما أمر بالسّفن التي كانوا فيها فاحرقت بالنار ، و أمر بما كان معهم من فضل كسوة فاحرق ، و لم يدع منه إلاّ ما كان على أجسادهم ، ثم دعا بكل زاد معهم فقال لأصحابه . كلوا هذا الزاد . فأكلوا فلمّا انتهوا أمر بفضله فالقي في البحر ، ثم قام فيهم خطيبا فقال : أمّا أن أحرقتم سفنكم فأردت أنّه لا سبيل لكم إلى بلادكم أبدا ، و أمّا أن أحرقت من ثيابكم فإنّه كان يغيظني إن ظفروا بكم أن يصير ذلك إليهم ، و أمّا ما ألقيت من زادكم في البحر فإنّي كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يوما واحدا ، فإن كنتم تقاتلون معي و تصبرون أعلمتموني ذلك ، و إن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري ، فإنّي لم أكن امكّنهم من نفسي أبدا . فقالوا : بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا أو نظفر .

فلمّا كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجل عبّأ أصحابه و جعل البحر خلفه ،

و أقبل عليهم يحضّهم على الصبر و يعلمهم أنّهم معه بين خلتين : إما ظفروا بعدوّهم و إمّا ماتوا كراما ، و أمرهم أن تكون قسيهم موترة و قال : إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقا بالبنجكان . و لم يكن أهل اليمن رأوا النشّاب قبل ذلك و أقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل ، و على رأسه تاج بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى أنّ دون الظفر شيئا ، و كان وهرز قد كلّ بصره ، فقال : أروني عظيمهم . فقالوا : هو صاحب الفيل . ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب فرسا ، فقالوا : قد ركب فرسا . فقال : ارفعوا لي حاجبي .

و كانا قد سقطا على عينيه من الكبر ، فرفعوهما بعصابة ثم أخرج نشابه

٥٣٠

فوضعها في كبد قوسه و قال : أشيروا لي إلى مسروق . فأشاروا حتى أثبته ثم قال: ارموا فرموا . و نزع في قوسه حتى إذا ملأها سرّح النشابة فأقبلت كأنها رشا حتى صكت جبهته فسقط عن دابته ، و قتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثيرة ، و انقضّ صفهم لمّا رأوا صاحبهم صريعا فلم يكن دون الهزيمة شي‏ء ،

و غنم من عسكرهم ما لا يحصى ، و جعل الأسوار يأخذ من الحبشة و من حمير و الأعراب الخمسين و الستين فيسوقهم مكتّفين .

« و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء » :

سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء اللّه ما كان جالبا

و أذهل عن داري و أجعل هدمها

لعرضي من باقي المذمة حاجبا

و يصغر في عيني تلادي إذا انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

و لابن المفرغ :

لا ذعرت السوام في فلق الصبح

مغيرا و لا دعيت يزيدا

يوم اعطي من المهانة ضيما

و المنايا يرصدنني أن أحيدا

و للعدواني :

إنّي أبيّ أبيّ ذو محافظة

و ابن أبيّ أبيّ من أبيين

و أنتم معشر زيد ما على مائة

فأجمعوا كيدكم طرا فكيدوني

هذا و مدح جريد الحجاج بقصيدة إلى أن قال :

قل للجبان إذا تأخّر سرجه

هل أنت من شرك المنية ناج

فقال له الحجاج : يابن اللخناء جرّأت عليّ الناس . فقال : ما ألقيت لها بالا إلاّ وقتي هذا .

هذا ، و قد قيل في التشجيع نظما و نثرا عربيا و فارسيا و أكثروا ، و أحسن ما قيل في ذلك أبيات الفردوسي المعروف بالفارسية التي منها :

٥٣١

اگر جز بكام من آيد جواب

من و گرز و ميدان و افراسياب

و لمّا سمعه السلطان محمود الغزنوي قال : لمن هذا البيت الذي يقطر منه ماء الشجاعة ؟ إلاّ إنّه لعمري أين ذاك البيت من كلامه عليه السّلام : « و ان امرؤ يمكّن عدوّه إلى و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء » ؟

« أيّها النّاس ان لي عليكم حقّا و لكم عليّ حقّ ، فأما حقّكم عليّ فالنصيحة لكم ،

و توفير » أي : استيفاء .

« فيئكم » أي : غنائمكم .

« عليكم ، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة و النصيحة في المشهد و المغيب » و كان عليه السّلام يؤدّي حقّهم إليهم أكثر ممّا لهم ، و كانوا يقصّرون في أداء حقّه .

و في ( الطبري ) ١ : وجّه معاوية في سنة ( ٣٩ ) عبد اللّه بن مسعدة الفزاري في ألف و سبعمائة رجل إلى تيماء ، و أمره أن يتصدّق من مرّ به من أهل البوادي ، و أن يقتل من امتنع من الإعطاء ، ثم يأتي مكة و المدينة و الحجاز يفعل ذلك و اجتمع إليه بشر كثير من قومه ، فلمّا بلغ ذلك عليّا عليه السّلام وجّه المسيّب بن نجبة الفزاري فسار حتى لحقه بتيماء ، فاقتتلوا ذلك اليوم حتى زالت الشمس ،

و حمل المسيّب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات كلّ ذلك لا يلتمس قتله ،

و يقول له : النجاء النجاء . فدخل ابن مسعدة و عامّة من معه الحصن و هرب الباقون نحو الشام ، و انتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة ،

و حصره المسيب ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب و ألقى النيران فيه حتى احترق فلمّا أحسّوا بالهلاك اشرفوا على المسيب فقالوا : يا مسيب قومك قومك . فكره هلاكهم فأمر بالنار فاطفئت ، و قال لأصحابه : قد جاءتني عيون فأخبروني أنّ جندا قد أقبل إليكم من الشام ، فانضموا في مكان واحد : فخرج

ــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٤ .

٥٣٢

ابن مسعدة في أصحابه ليلا حتى لحقوا بالشام ، فقال له عبد الرحمن بن شبيب : سر بنا في طلبهم فأبى المسيب ، فقال له : غششت أمير المؤمنين و داهنت .

٥

الخطبة ( ٢٩ ) و من خطبة له عليه السّلام :

أَيُّهَا اَلنَّاسُ اَلْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ اَلْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلاَمُكُمْ يُوهِي اَلصُّمَّ اَلصِّلاَبَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ اَلْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي اَلْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ اَلْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَ لاَ اِسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ دِفَاعَ ذِي اَلدَّيْنِ اَلْمَطُولِ لاَ يَمْنَعُ اَلضَّيْمَ اَلذَّلِيلُ وَ لاَ يُدْرَكُ اَلْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ اَلْمَغْرُورُ وَ اَللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ وَ اَللَّهِ بِالسَّهْمِ اَلْأَخْيَبِ وَ مَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ أَصْبَحْتُ وَ اَللَّهِ لاَ أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَ لاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَ لاَ أُوعِدُ اَلْعَدُوَّ بِكُمْ مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ اَلْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَ قَوْلاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ غَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ وَ طَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ قال ابن أبي الحديد ١ : روى محمد بن يعقوب الكليني : أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام استصرخ الناس عقيب غارة الضحّاك على أطراف أعماله ،

فتقاعدوا عنه فخطبهم فقال : « ما عزت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم . . . » .

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١١٧ .

٥٣٣

قلت : و في ( بيان الجاحظ ) ١ بعد ذكر خطبته عليه السّلام في غارة سفيان الغامدي على الأنبار : و له عليه السّلام خطبة اخرى بهذا الاسناد شبية بهذا المعنى ،

قام فيهم خطيبا فقال : « أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ،

كلامكم يوهي الصمّ الصلاب ، و فعلكم يطمع فيكم عدوكم ، تقولون في المجالس : كيت و كيت فاذا جاء القتال قلتم : حيدي حياد . ما عزّت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم ، أعاليل بأضاليل ، و سألتموني التأخير ،

دفاع ذي الدين المطول ، هيهات لا يمنع الضيم الذليل ، و لا يدرك الحق إلاّ بالجد .

أيّ دار بعد داركم تمنعون ؟ أم مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور من غررتموه ، و من فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت و اللّه لا اصدق قولكم ،

و لا أطمع في نصرتكم ، فرّق اللّه بيني و بينكم و أعقبني بكم من هو خير لي منكم ، و لوددت أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلا من بني فراس من غنم ، صرف الدينار بالدرهم » .

و رواه ابن عبد ربه في ( عقده ) مثل ( بيان الجاظ ) إلاّ أنّ فيه : « أعاليل بأباطيل » و فيه : « دفاع ذي الدين الممطول لا يدفع الضيم » .

و في ( مطالب سؤول ابن طلحة الشافعي ) : و من ذمّه عليه السّلام في أهل الكوفة : « أيّها الفئة المجتمعة أبدانهم ، المتفرّقة أديانهم ، إنّه و اللّه ما عزّت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم ، كلامكم يوهن الصمّ الصلاب ،

و فعلكم يطمع فيكم عدوّكم المرتاب ، إذا دعوتكم إلى أمر فيه صلاحكم و الذبّ عن حريمكم اعتراكم الفشل و جئتم بالعلل ، ثم قلتم : كيت و كيت ، و ذيت و ذيت .

أعاليل و أضاليل في أقوال الأباطيل ، ثم سألتموني دفاع ذي الدين المطول ،

هيهات هيهات ، إنّه لا يدفع الضيم الذلّ ، و لا يدرك الحقّ إلاّ الجدّ ، فخبروني يا

ــــــــــــ

( ١ ) بيان الجاحظ ٢ : ٥٤ .

٥٣٤

أهل العراق مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ أم أيّة دار تمنعون ؟ الذليل و اللّه من نصرتموه ، و المغرور من غررتموه . أصبحت لا أطمع في نصركم و لا أصدق قولكم ، فرّق اللّه بيني و بينكم ، و أبدلكم بي غيري ، و أبدلني بكم من هو خير لي منكم ، أما ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، و سيوفا قاطعة ، و اثرة قبيحة يتّخذها الظالمون عليكم سنّة ، فتبكي عيونكم و يدخل الفقر بيوتكم و قلوبكم ، و تمنون في بعض حالاتهم أنّكم رأيتموني فنصرتموني و أرقتم دماءكم دوني ، و لا يبعد اللّه إلاّ من ظلم ، يا أهل الكوفة أعظكم فلا تتعظون ، و اوقظكم فلا تستيقظون إنّ من فاز بكم فقد فاز بالخيبة ، و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناضل » .

و رواه ابن قتيبة في ( خلفائه ) ١ جزء الخطبة السابقة في النّخيلة بعد الفراغ من الخوارج و أمرهم بالخروج إلى معاوية ، فقال : قال عليه السّلام : « استعدوا للمسير إلى عدوّ جهاده القربة إلى أن قال أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ،

المختلفة أهواؤهم ، ما عزّت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم ،

كلامكم يوهي الصمّ ، و فعلكم يطمع فيكم عدوّكم ، إذا أمرتكم بالمسير قلتم :

كيت و كيت ، أعاليل بأضاليل ، هيهات لا يدرك الحق إلاّ بالجد و الصبر ، أيّ دار بعد داركم تمنعون ؟ و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور و اللّه من غررتموه و من فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، و لا اصدّق قولكم ، فرّق اللّه بيني و بينكم ، و أعقبني بكم من خير لي ، و أعقبكم بعدي من شرّ لكم مني ، أما إنّكم ستلقون بعدي ذلاّ شاملا ، و سيفا قاتلا واثرة يتخذها الظالمون بعدي عليكم سنّة ، تفرّق جماعتكم و تبكي عيونكم و تدخل الفقر بيوتكم . . . » .

ــــــــــــ

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٥٠ .

٥٣٥

و نقله ( أنساب البلاذري ) و رواه باسناده عن أبي مخنف عن الحرث بن حصيرة عن أبي صادق عن جندب الأزدي : أنّ عليّا عليه السّلام خطبهم حين استنفرهم إلى الشّام بعد النهروان فلم ينفروا ، فقال : « أيّها الناس المجتمعة أبدانهم . . . » .

و رواه ( الاحتجاج ) ١ جزء خطبته عليه السّلام في لومهم في تثاقلهم عن قتال معاوية ففيه : « أما و اللّه أيّها الشاهدة أبدانهم ، و الغائبة عنهم عقولهم ،

و المختلفة أهواؤهم ، ما أعزّ اللّه نصر من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم ،

و لا قرّت عين من آواكم ، كلامكم يوهن الصمّ الصلاب ، و فعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب ، و يحكم أيّ دار بعد داركم تمنعون ؟ و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور و اللّه من غررتموه ، و من فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ،

أصبحت لا أطمع في نصرتكم ، و لا اصدق قولكم ، فرّق اللّه بيني و بينكم . . . ».

و رواه المفيد في ( إرشاده ) ٢ فقال : و من كلامه عليه السّلام في استبطاء من قعد عن نصرته : « أيّها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب ، و فعلكم يطمع فيكم عدوّكم المرتاب ، تقولون في المجالس : كيت و كيت ، فاذا جاء القتال ، قلتم : حيدي حياد . ما عزّت دعوة من دعاكم ، و لا استراح قلب من قاساكم ، أعاليل أضاليل ، سألتموني التأخير دفاع ذي الدين المطول ، لا يمنع الضيم الذليل ، و لا يدرك الحق إلاّ بالجدّ . أيّ دار بعد داركم تمنعون ؟ أم مع أيّ إمام بعدي تقاتلون ؟ المغرور و اللّه من غررتموه ،

و من فاز بكم فاز بالسهم الأخيب ، أصبحت و اللّه لا اصدّق قولكم ، و لا أطمع في نصرتكم ، فرّق اللّه بيني و بينكم ، و أبدلني بكم من هو خير لي منكم ، و اللّه

ــــــــــــ

( ١ ) الاحتجاج : ١٧٤ .

( ٢ ) الإرشاد للمفيد : ١٤٦ .

٥٣٦

لوددت أن لي بكلّ عشرة منكم رجلا من بني فراس ابن غنم ، صرف الدينار بالدرهم » .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد ١ : خطب عليه السّلام بهذه الخطبة في غارة الضحاك بن قيس . روى غارات الثقفي ٢ : أنّ غارة الضحاك كانت بعد الحكمين و قبل النهر ، و ذلك أنّ معاوية لمّا بلغه أنّ عليّا عليه السّلام بعد واقعة الحكمين تحمّل إليه مقبلا هاله ذلك ، فخرج من دمشق معسكرا و بعث إلى كور الشام فصاح فيها :

إنّ عليّا قد سار إليكم ، و كتب إليهم نسخة واحدة فقرئت على الناس : أمّا بعد ،

فإنّا كتبنا كتابا بيننا و بين عليّ و شرطنا فيه شروطا ، و حكّمنا رجلين يحكمان عليّ و عليه بحكم الكتاب لا يعدوانه ، و جعلنا عهد اللّه و ميثاقه على من نكث العهد و لم يمض الحكم ، و إنّ حكمي الذي كنت حكّمته أثبتني ، و إنّ حكمه خلعه و قد أقبل إليكم ظالما ، تجهّزوا للحرب و أقبلوا خفافا و ثقالا . و اجتمع إليه الناس من كلّ كور و أرادوا المسير إلى صفّين ، فاستشارهم و قال : إنّ عليّا قد خرج من الكوفة و عهد العاهد به أنّه فارق النخيلة . فقال حبيب بن مسلمة : فإنّي أرى أن تخرج حتى تنزل منزلنا الذي كنّا فيه فانّه منزل مبارك . و قال عمرو بن العاص : إنّي أرى لك أن تسير بالجنود حتى توغلها في سلطانهم من أرض الجزيرة ، فإنّ ذلك أقوى لجندك و أذلّ لأهل حربك . فقال معاوية : ان جهد الناس أن يبلغوا منزلهم الذي كانوا به يعني صفّين فمكثوا يومين أو ثلاثة يجيلون الرأي حتى قدمت عليهم عيونهم و أخبروهم : أنّ عليّا عليه السّلام اختلف عليه أصحابه ، ففارقته فرقة أنكرت أمر الحكومة ، و أنّه قد رجع عنكم إليهم . فكبّر الناس سرورا لانصرافه عنهم و ما ألقى من الخلاف بينهم ، فلم يزل معاوية

ــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١١٣ .

( ٢ ) الغارات للثقفي ٢ : ٤١٦ .

٥٣٧

معسكرا في مكانه منتظرا لمّا يكون من عليّ عليه السّلام و هل يقبل بالناس أم لا؟ فما برح حتى جاء الخبر : أنّ عليّا قد قتل اولئك الخوارج و أنّه أراد بعد قتلهم أن يقبل بالناس ، و أنّهم استنظروه و دافعوه فسرّ بذلك ، فدعا الضخّاك بن قيس الفهري و قال له : سر حتى تمرّ بناحية الكوفة و ترفع عنها ما استطعت ، فمن وجدت من الأعراب في طاعة عليّ فأغر عليه ، و إن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها ، و إذا أصبحت في بلدة فأمس في اخرى ، و لا تقيمنّ لخيل بلغك أنّها قد سرّحت إليك لتلقاها فتقاتلها . فسرّحه في ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة ،

فأقبل الضحّاك فنهب الأموال و قتل من لقي من الأعراب ، حتى مرّ بالثعلبية فأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس الذهلي ابن أخي ابن مسعود ، فقتله عند القطقطانة و قتل معه ناسا من أصحابه ، فروى إبراهيم بن المبارك البجلي عن أبيه عن بكر بن عيسى عن ابن روق عن أبيه :

سمع عليّا عليه السّلام و قد خرج إلى النّاس على المنبر : يا أهل الكوفة أخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس و إلى جيوش لكم قد اصيب منهم طرف ،

أخرجوا فامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين . فردّوا عليه ردّا ضعيفا و رأى منهم عجزا و فشلا ، فقال : و اللّه لوددت أنّ لي بكلّ ثمانية منكم رجلا منهم ، ويحكم أخرجوا معي ثمّ فروّا عنّي ما بدا لكم ، فو اللّه ما أكره لقاء ربي على نيّتي و بصيرتي ، و في ذلك روح لي عظيم و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم . . . ثمّ نزل فخرج يمشي حتى بلغ الغريين ، ثمّ دعا حجر بن عدي فعقد له على أربعة آلاف ،

فخرج حجر حتى مرّ بالسماوة و هي أرض كلب فلقي بها امرأ القيس الكلبي و هم أصهار الحسين عليه السّلام فكانوا أدلاّءه في الطريق و على المياه ، فلم يزل مغذّا في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية تدمر فوافقه ، فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا و من أصحاب حجر رجلان ، و حجز الليل

٥٣٨

بينهم فمضى الضحّاك ، فلمّا أصبحوا لم يجدوا له و لأصحابه أثرا .

قلت : إنّ ابن أبي الحديد كما ترى خلط و خبط ، فقال : إنّ ( غارات الثقفي ) روى : أنّ غارة الضحّاك كانت قبل النهر . ثم نقل عن ( الغارات ) أنّ الخبر لمّا جاء معاوية : أنّ عليّا قتل اولئك الخوارج و بعد قتلهم أراد الشخوص إليه فامتنع عليه أصحابه ، دعا حينئذ الضحّاك و بعثه و وصاه بما مرّ ، و كون غارة الضحّاك بعد ممّا لا ريب فيه ، فواقعة النهروان كانت في سنة ( ٣٧ ) و جعل الطبري غارة الضحّاك في سنة ( ٣٩ ) و قال : لكنّ أكثر أهل السير ذكروها في سنة ( ٣٨ ) . . . فجعل الاختلاف في سنة غارة الضحّاك دون كونها بعد النهر .

و كيف كان ، فكون الخطبة في غارة الضحّاك كما قال غير معلوم ، إنّما كانت خطبته عليه السّلام في غارة الضحاك : « أخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس ، و إلى جيوش لكم قد اصيب منهم طرف » إلى آخره كما مرّ عن ( غارات الثقفي ) و كما صرّح به ( إرشاد المفيد ) و إنّما نسب كون العنوان في غارة الضحاك الكليني و لم نتحققه فليس في ( الكافي ) ، و قد عرفت أنّ الجاحظ و ابن قتيبة و ابن عبد ربّه و ابن طلحة منهم ، و المفيد و الطبرسي منّا رووه و لم يشر أحد منهم إلى كون الخطبة في غارة الضحاك ، بل صرّح بعضهم بكونها في غيرها على ما مرّ .

و بالجملة لا ريب في كون غارة الضحّاك أوّل غارات معاوية ، فروى الثقفي ١ : أنّه خطب على منبر الكوفة و قال : أمّا إنّي صاحبكم الذي أغرت على بلادكم ، فكنت أوّل من غزاها من الإسلام ، و شرب من ماء الثعلبية و من شاطى‏ء الفرات إلى أن قال أنا الضحاك بن قيس ، أنا أبو أنيس ، أنا قاتل عمرو بن عميس . إلاّ أنّ كون هذه الخطبة في غاراته غير معلوم ، و لم يكن غارته بتلك

ــــــــــــ

( ١ ) الغارات للثقفي ٢ : ٤٣٧ .

٥٣٩

الأهميّة ، فروى الثقفي أيضا : أنّه لمّا خطب بما مرّ قام إليه رجل و قال له : ما أعرفنا بما ذكرت و لقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا مجريا . فخزي الضحّاك ، و روى أيضا : أنّه عليه السّلام كتب إلى أخيه عقيل في جوابه في قصّة الضحّاك : « فأمّا ما ذكرت من غارة الضحّاك على أهل الحيرة ، فهو أقلّ و أذلّ من أن يلم بها أو يدنو منها ، و لكنّه قد أقبل في جريدة خيل فأخذ على السماوة ،

حتى مرّ بواقصة و شراف و القطقطانة ممّا و إلى ذلك الصقع ، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين ، فلمّا بلغه ذلك فرّ هاربا فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق و قد أمعن ، و كان ذلك حين رجعت الشمس للاياب فتناوشوا القتال ، كلاّ و لا فلم يصبر لوقع المشرفية و ولّى هاربا ، و قتل من أصحابه بضعة عشر رجلا و نجا جريضا بعد ما اخذ عنه بالمخنق » لكن يأتي في العنوان ( ١٢ ) أنّ للضحاك غارتين ، إحدهما قبل الجمل و فيه كتاب عقيل و الاخرى بعد النهروان ، و أنّ الثقفي خلط في جعل كتاب عقيل في الأخيرة .

« أيّها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم » كتب عبد اللّه بن الحسن إلى زيد بن علي لمّا أراد الخروج : يابن عمّ ، إنّ أهل الكوفة نفخ العلانية ، خور السريرة ، هرج في الرجاء ، جزع في اللقاء ، تقدمهم ألسنتهم و لا تشايعهم قلوبهم ، لا يبيتون بعدة في الأحداث ، و لا ينيؤن بدولة مرجوة .

و لمحمود الوراق :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

و مشاهدا للأمر غير مشاهد

و قد أخذ معنى كلامه عليه السّلام أبو تمام فدخل على ابن داود في مجلس حكمه و أنشد أبياتا ، فقال له : سيأتيك ثوابها . ثم اشتغل بتوقيعات في يده فأحفظ ذلك أبا تمام فقال له ، احضر أيّدك اللّه فانّك غائب ، و اجتمع فانّك متفرّق .

ثم أنشده :

٥٤٠