حقائق الاصول الجزء ١

حقائق الاصول10%

حقائق الاصول مؤلف:
تصنيف: متون أصول الفقه
الصفحات: 571

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 571 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211977 / تحميل: 5767
الحجم الحجم الحجم
حقائق الاصول

حقائق الاصول الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الاشكال بأن كون الناطق - مثلا - فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك (وفيه) أنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه اصلا بل بما له من المعنى كما لا يخفى " والتحقيق " أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي بل لازم ما هو الفصل واظهر خواصه وانما يكون فصلا مشهورا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه بل لا يكاد يعلم كما حقق في محله ولذا ربما يجعل لا زمان مكانه إذا كانا متساوييى النسبة إليه كالحساس والمتحرك بالارادة في الحيوان، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشئ في مثل الناطق فانه وان كان عرضا عاما لا فصلا مقوما للانسان الا انه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من اظهر خواصه " وبالجملة ": لا يلزم من أخذ مفهوم الشئ في معنى المشتق إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي فتدبرا جيدا

______________________________

الممكنة الخاصة وهو باطل بالضرورة (قوله: مبني على عرف) يعني أن مفهوم الناطق عند المنطقيين غير مفهومه عند اللغويين فعند الاولين تدخل فيه الذات وعند الآخرين تخرج عنه، لكن هذا لا يدفع الاشكال عن شارح المطالع لان كلامه كان في الفصل المنطقي الذي يكون معرفا، فافهم (قوله: قد اعتبر فصلا بلا) هذا غير ظاهر بل الظاهر منهم كون الفصل هو النطق وكون العرض العام والخاص هو المشي والضحك، والتعبير عنها بالمشتقات لتصحيح الحمل في التعريف حدا أو رسما مع الاشارة بها إلى مباديها التي هي اجزاء الماهية أو اعراضها في الحقيقة (قوله: كما حقق في محله) فقد ذكر الشريف نفسه في بعض حواشيه على شرح الشمسية: ان الحقائق الموجودة يتعسر الاطلاع على ذاتياتها والتمييز بينها وبين عرضياتها تعسرا تاما واصلا إلى حد التعذر (قوله: ولذا ربما يجعل) يعني مع بنائهم على امتناع فصلين لنوع واحد في عرض واحد (قوله: في مثل الناطق) الاشكال لا يختص بالناطق بل هو جار في جميع المشتقات التي لا يتميز

١٢١

ثم قال: إنه يمكن ان يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشئ والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا. انتهى، ويمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب فان المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا وان كان التقييد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون ضرورية ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذى يكون مقيدا بالنطق للانسان، وان كان المقيد بما هو مقيد على ان يكون القيد داخلا فقضية: الانسان ناطق، تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية: الانسان انسان، وهي ضرورية والاخرى قضية: الانسان له النطق، وهى ممكنة وذلك لان الاوصاف قبل العلم

______________________________

الفصل منها عن الخاصة ولا الجنس عن العرض العام فيرجع الاشكال لا على التفصيل بل على الاجمال فتأمل (قوله: ثم قال) يعني في الفصول (قوله: وليس ثبوته للموضوع) سيأتي بيانه في الايراد عليه (قوله: داخلا بما هو معنى حرفي) حمل المقيد يتصور على وجوه (احدها) ان يكون ملحوظا عبرة إلى نفس الذات فالنسبة الحملية قائمة بنفس الذات لا غير (ثانيها) أن يكون ملحوظا بما هو مضاف إلى القيد فالمحمول يكون هو الذات المضافة إلى القيد مع خروج القيد ودخول التقيد (ثالثها) ان يكون المقيد ملحوظا بنحو يكون القيد داخلا في المحمول وتتقوم به النسبة الحملية فقوله: بما هو معنى، ان كان اشارة إلى الاول فما ذكره من ان لازمه انقلاب القضية الممكنة إلى الضرورية واضح لما عرفت من أن المحمول نفس ذات الموضوع وحمل الشئ على نفسه ضروري وان كان اشارة إلى الثاني فلا يتم كما سيأتي (قوله: على أن يكون القيد داخلا) ظاهره ارادة الصورة الثالثة، وعليه تكون القضيتان المنحلة اليهما القضية الممكنة قضيتين عرضيتين موضوعهما واحد ومحمولهما متعدد، وهما المصداق المأخوذ في المشتق ونفس الوصف نظير قولنا زيد شاعر كاتب وبكر عالم عادل، لكن ظاهر قوله: لان الاوصاف... الخ

١٢٢

بها اخبار كما ان الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا، فعقد الحمل ينحل إلى القضية كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ وقضية ممكنة عند الفارابى " فتأمل " لكنه قدس سره تنظر فيما افاده بقوله: وفيه نظر

______________________________

وقوله: فعقد الحمل... الخ ارادة التصوير الثاني فتكون القضية الاولى قائمة بين الذات والوصف والاخرى قائمة بين الذات الموصوفة وذات الموضوع نظير قولنا: زيد قائم الاب، ثم انه لم يتضح إشكال المصنف (ره) على الفصول على كل من التقديرين إذ مرجع الاشكال ان كان إلى ان الانحلال لا يقول به في الفصول فهو غير ظاهر وان كان إلى انه لا يقول به احد لان الانحلال عندهم في عقد الوضع لا عقد الحمل، ففيه ان بناءهم على عدمه كان من جهة بنائهم على كون المحمول في جميع القضايا هو المفهوم لا المصداق، والكلام هنا مع الشريف بعد فرض كون المحمول هو المصداق. وكيف كان فالظاهر أن مراد الفصول هو التصوير الثاني وان الانحلال يكون إلى قضيتين إحداهما ينحل إليها نفس مفهوم المشتق نظير انحلال عقد الوضع إلى الفعلية أو الممكنة، وثانيتهما تتقوم بالنسبة التامة القائمة بين الموضوع وذات المحمول المضافة إلى الوصف بقيد كونها كذلك، وجهة القضية الثانية هي جهة فعلية القيد لذات المقيد فان كانت فعلية القيد للذات بالامكان ففعلية المقيد للذات كذلك ولا يلزم انقلاب الممكنة إلى الضرورية لان ذات زيد المقيدة بفعلية العدالة ليست عين زيد، كما أن الكلي المقيد بقيد ليس عين ذلك الكلي فالانسان المقيد بالضحك ثبوته للانسان بالامكان كثبوت نفس الضحك للانسان، وزيد المقيد بالعدالة ثبوته لزيد بالامكان كما أن ثبوت نفس العدالة له كذلك، والوجه في ذلك: ان الذات المقيدة بقيد حاكية عن فعلية المبدأ لها فإذا كانت فعلية المبدأ للذات بالامكان امتنع ثبوت الذات المقيدة بالضرورة لان ثبوتها كذلك عين فعلية المبدأ للذات بالضرورة، وهو خلف (قوله: بها أخبار) يعني تفيد فائدة الخبر (قوله: تكون اوصافا) يعني تفيد فائدة التوصيف لان

١٢٣

لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة، وإلا صدق السلب بالضرورة مثلا لا يصدق: زيد كاتب

______________________________

المحمول يصح به الاشارة إلى الموضوع كالوصف (قوله: لان الذات المأخوذة مقيدة) من المعلوم اختلاف مادة القضية واقعا باختلاف كون الوصف ملحوظا فعليا أو ملكة فيصدق قولنا: زيد كاتب بالضرورة بمعنى ان له ملكة الكتابة ولا يصدق زيد كاتب بالضرورة بمعنى ان له فعلية الكتابة، كما اشار إليه المصنف (ره) سابقا، ولاجل ذلك يصدق زيد كاتب بالامكان بالضرورة، بمعنى ان الكتابة بالامكان ضرورية الثبوت لزيد، ولا يصدق زيد كاتب بالضرورة، بمعنى ان فعلية الكتابة ضرورية لزيد فمراد الفصول، الرد على قوله سابقا: وليس ثبوته للموضوع حينئذ بالضرورة، بأنه لا يتم لو اخذ الوصف مقيدا بمادة نسبته الواقعية قيدا للذات، فان ذات الموضوع ان كانت واجدة للوصف المذكور صدق الايجاب بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة فيلزم الانقلاب الذي ذكره الشريف مثلا ذات زيد إذا كانت كاتبة بالامكان صدق زيد كاتب بالامكان ولازمه صدق قولنا: زيد الكاتب بالامكان بالضرورة، وإذا لم تكن كاتبة بالامكان لم يصدق انه كاتب بالامكان فيصدق زيد ليس بكاتب بالامكان بالضرورة وهذا معنى قوله: ان كانت مقيدة به واقعا... الخ يعني إن كانت الذات واجدة للوصف المقيد بمادته الواقعية من القوة أو الفعل صدق ايجاب الذات المقيدة بذلك الوصف بالضرورة وان كانت فاقدة له واقعا صدق السلب بالضرورة وهذا الكلام متين جدا إلا انه لا دخل له باخذ الذات في مفهوم المشتق إذ ليس انقلاب الممكنة إلى الضرورية جاء من قبل اخذ الذات في مفهوم المشتق وانما جاء من قبل تقييد الوصف بمادة نسبته واقعا، ولذا لو فرض اخلاء القضية من لفظ المشتق كان اللازم ذلك إذ كلما صدق زيد له الكتابة بالامكان يصدق زيد له الكتابة الممكنة بالضرورة واين هذا مما نحن فيه (قوله: قوة أو فعلا) قيد للوصف (قوله: لا يصدق زيد)

١٢٤

بالضرورة، لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل بالضرورة. انتهى، - ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة كما لا يكاد يضربها صدق السلب كذلك بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات

______________________________

لعدم كون فعلية الكتابة ضرورية (قوله: لكن يصدق) لكون الكتابة بالقوة أو بالفعل ضرورية لزيد (قوله: ولا يذهب عليك) قد عرفت مراد الفصول، لكن حمله المصنف (ره) على إرادة الضرورية بشرط المحمول فاورد عليه بأنه خارج عن محل البحث في المقام إذ البحث في أن اخذ الذات في مفهوم المشتق يوجب انقلاب القضية الممكنة ضرورية، والانقلاب إلى الضرورية فيما ذكره ليس من جهة أخذ الذات في مفهوم المشتق بل من جهة اخذ المحمول شرطا في الموضوع إذ لا ريب في انه يوجب انقلاب القضية ولو كانت ممكنة إلى الضرورية ولو لم يؤخذ الذات في مفهوم المشتق لان الشئ بشرط ثبوته ضروري الثبوت، كما ان أخذ عدم المحمول شرطا يوجب انقلاب كل قضية إلى السالبة الضرورية لان الشئ في ظرف عدمه ممتنع الثبوت، وكأن الباعث للمصنف (ره) على هذا الحمل قوله: إن كانت مقيدة به، إذ لو كان مراده ما ذكرنا كان المناسب أن يقول: إن كانت واجدة له... الخ، لكن قوله: (واقعا) آب عن ذلك إذ لو اراد القضية بشرط المحمول كان اللازم أن يقول ان كانت مقيدة به في القضية وكذا قوله (ره): وإلا صدق... الخ كان اللازم أن يقول بدله: وان كانت مقيدة بعدمه... الخ، وبالجملة: ظاهر اكثر فقرات العبارة - ولا سيما التمثيل ولا سيما تقييد الوصف المذكور في صدر العبارة بقوله: قوة أو فعلا - إرادة ما ذكرنا وان توجه عليه الاشكال ايضا (قوله: وذلك لوضوح) تعليل

١٢٥

ومواد القضايا انما هو بملاحظة ان نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة بأي جهة منها ومع أية منها في نفسها صادقة ؟ لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك والا كانت الجهة منحصرة بالضرورة ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب بلحاظ الثبوت وعدمه واقعا ضروريا ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول. (وبالجملة): الدعوى هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده (ره) بابطال الوجه الاول كما زعمه - قدس سره - فان لحوق مفهوم الشئ والذات لمصاديقهما انما يكون ضروريا مع اطلاقهما لا مطلقا ولا مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به ايضا وقد عرفت حال الشرط فافهم، ثم إنه

______________________________

لعدم صحة دعوى الانقلاب بمجرد أخذ المحمول شرطا في الموضوع، يعني: ان المراد من الممكنة وغيرها من القضايا المواجهة ما كانت نسبة المحمول إلى نفس الموضوع موجهة بجهتها المعينة من الامكان أو غيره من دون أخذ المحمول شرطا فيها، فأخذ المحمول شرطا يوجب خروجها عن كونها ممكنة (قوله: ومواد القضايا) المراد من مادة القضية كيفية النسبة الواقعية، ومن الجهة اللفظ الدال عليها كلفظ الضرورة والامكان وغيرهما (قوله: ثبوتها له) هذا التعبير جار على تعبير الفصول والا فالثبوت الواقعي وعدمه إنما يكونان معيارين للصدق والكذب لا لكون القضية ضرورية سلبية أو ايجابية بل المعيار في ذلك شرط الثبوت وشرط عدمه (قوله: وبلا شرط) يعني والانقلاب الذي ذكرناه انما هو بالشرط (قوله: عدم نهوض ما افاده) قال في الفصول بعد كلامه المتقدم -: ولا يذهب عليك انه يمكن التمسك بالبيان المذكور على ابطال الوجه الاول ايضا لان لحوق مفهوم الذات أو الشئ لمصاديقهما ايضا ضروري ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني. انتهى، والمصنف (ره) لما حمل عبارته المتقدمة على ارادة شرط المحمول حمل هذه العبارة ايضا على ذلك فأورد عليها بما تقدم من أن

١٢٦

لو جعل التالى في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل ضرورة أن مصداق الشئ الذي له النطق هو الانسان كان أليق بالشرطية الاولى بل كان الاولى لفساده

______________________________

الانقلاب إلى الضرورية بشرط المحمول وان كان صحيحا الا انه خارج عن محل الكلام، وحيث عرفت مراده مما سبق تعرف مراده هنا وان الانقلاب إلى الضرورية لا يختص باخذ المصداق بل يتم ولو اخذ مفهوم الشئ المقيد بالوصف المقيد بمادته الواقعية إذ يصدق الانسان شئ كاتب بالامكان بالضرورة لان الشئ الممكن له الكتابة ضروري الثبوت للانسان، لكنه سابقا ردد بين الايجاب الضروري والسلب الضروري لتردد الذات بين الواجدة للوصف الخاص والفاقدة له، وهنا عين الانقلاب إلى الايجاب الضروري لتعين كون الشئ واجدا للوصف المذكور، " وفيه " - مضافا إلى ما عرفت من خروجه عن محل الكلام - أن مفهوم الشئ مما لا يقبل الوصف المذكور فاللازم الانقلاب إلى الضرورية السالبة، اللهم إلا أن يقال: هذا الانقلاب مبني على صدق الممكنة مع أخذ الشئ في مفهوم المشتق المتوقف ذلك على البناء على اقتضاء مفهوم الشئ للكتابة بالامكان، ومنه يظهر أن أخذ مفهوم الشئ في المشتق يوجب بطلان جميع القضايا أو اكثرها إذ الاوصاف المحمولة فيها مما لا تثبت لمفهوم الشئ فتأمل جيدا (قوله: لو جعل التالي) أقول: يمكن جعل التالي في الشرطية الاولى قولنا: لزم عدم صحة التعبير عن مفهوم الناطق بموجود له النطق أو ذات لها النطق أو نحو ذلك، لمباينة هذه المفاهيم لمفهوم الشئ والتالي باطل، أو لزم دخول الامر الاعتباري في الفصل بناء على أن الشئ من المفاهيم الاعتبارية ودخول الاعتباري في الفصل أشكل من دخول العرضي فيه، أو قولنا: لكان اما داخلا في مفهوم المادة أو في مفهوم الهيئة أو في مفهوم المركب والتالي باطل باقسامه (أما الاول) فلان لازمه دخوله في مفهوم جميع المشتقات حتى الفعل والمصدر لوجود المادة فيها (وأما الثاني) فلان الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة (وأما الثالث) فلان لازمه خروجه عن كونه مشتقا بل يكون موضوعا وضع الجوامد بوضع واحد لمادته وهيئته (قوله: ضرورة أن مصداق)

١٢٧

مطلقا ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي ضرورة بطلان أخذ الشئ في لازمه وخاصته فتأمل جيدا. ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل: زيد كاتب، ولزومه من التركب وأخذ الشئ مصداقا أو مفهوما في مفهومه (إرشاد) لا يخفى أن معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا وتصورا بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد لا شيئان وان انحل بتعمل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الشجر أو الحجر إلى شئ له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما (وبالجملة): لا تنثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى وبساطة المفهوم كما لا يخفى، والى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقين بين المحدود والحد مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا فالعقل بالتعمل يحلل النوع ويفصله إلى جنس وفصل بعد ما كان أمرا واحدا ادراكا وشيئا فاردا تصورا فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق.

______________________________

*

مفهوم الشئ كمفهوم لفظ المفهوم حاك عن معنى يصدق على الكلي بعين صدقه على الجزئي ويحمل على كل منهما بالحمل الشائع فيقال: زيد شئ والانسان شئ والحيوان شئ... وهكذا، فجميع هذه الاشياء مصاديقه، فإذا جعل كناية عن المصداق فالمصداق المكنى به عنه، ان كان نفس الانسان في قولنا: الانسان ناطق، لزم دخول النوع في مفهوم الفصل، وان كان نفس الجنس لزم دخول الجنس في مفهوم الفصل، وان كان نفس الفرد الخارجي لزم دخوله في مفهوم الفصل... وهكذا، ومن هنا يظهر الاشكال في صحة الانقلاب إلى الضرورية لجواز أن يراد من المصداق غير ذات الموضوع بل مفهوم لا يأبى الاتحاد مع الذات. فتأمل جيدا (قوله: بضرورة عدم تكرار) هذه الضرورة غير ظاهرة بعد ما اشتهر وارتكز في الاذهان: أن معنى المشتق ذات لها المبدأ (قوله: البساطة بحسب المفهوم) يعني ان البساطة (تارة) تكون بحسب المفهوم فيراد بها كون حضور المفهوم حضورا لمعنى واحد في قبال المركب المفهوم

١٢٨

وهو الذي يكون حضوره حضورا للمتعدد (واخرى) تكون بحسب الحقيقة فيراد بها كون المفهوم الواحد بحيث لا ينحل إلى اثنين ولو بالتعمل العقلي ولو كانا جنسا وفصلا في قبال المركب بحسب الحقيقة وهو ما يمكن أن ينحل بنظر العقل وتعمله إلى اثنين، والبساطة بحسب الثاني أخص منها بحسب الاول فمفهوم الانسان بسيط بالمعنى الاول ومركب بالمعنى الثاني، كما أن مفهوم قولنا: حيوان ناطق، مركب بالمعنيين، ثم إن الظاهر من دليل الشريف كون مفهوم المشتق بسيطا بمعنى آخر وهو مجرد عدم دخول الذات فيه لا بالمعنى الاول والا فوضوح كونه كذلك يغني عن إقامة الدليل، وكذا ما ذكره المصنف (ره) في قوله: ويمكن ان يستدل.. الخ. فلاحظ " والذي " ينبغي ان يقال - جريا على المتفاهم عرفا من لفظ المشتق: انه مركب من مادة وهيئة فمادته المشتركة بين جميع المشتقات حاكية عن المعنى المشترك بينها المعبر عنه في لسان العرف بالعلم والضرب وغيرهما وان كان يأتي أنها ايضا مشتقات، الا أن الوجه في التعبير بها عنها كونها اقرب إلى اداء تلك المفاهيم المشتركة من عيرها من المشتقات (وهيئته) حاكية عن انتساب مادته إلى الموصوف وهذا الانتساب المحكي بالهيئة لما كان معنى حرفيا لا يتصور الا بتصور طرفيه كانت الهيئة حاكية عن الذات فالذات ليست داخلة في معنى المشتق وانما تفهم لتكون مقومة لمعناه الملحوظ تبعا لها ودلالته عليها اشبه بالدلالة الالتزامية وهذا هو المطابق للارتكاز العرفي، ومنه يظهر أن الفعل ايضا لا يخلو من الدلالة على الذات لعين الوجه المذكور وان اختلف مع المشتق في كيفية الدلالة من جهة أخرى يأتي الاشارة إليها في التنبيه الآتي انشاء الله، ثم لما كان الاحتياج إلى الذات في الدلالة من الجهة المذكورة وكان يكفي في تقوم النسبة كل أمر ولو كان مبهما لم يفهم من المشتق الا أمر مبهم فيصح ان يعبر عنه بذات لها الوصف وشئ له الوصف وغيرهما، كما اشرنا إلى ذلك سابقا والله سبحانه أعلم.

١٢٩

(الثاني)

الفرق بين المشتق ومبدئه

مفهوما أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصي عن الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد بخلاف المبدأ فانه بمعناه يأبى عن ذلك بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو، وملاك الحمل والجري انما هو نحو من الاتحاد والهوهوية، والى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أن المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط (لا) أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه: وصاحب الفصول (ره) حيث توهم ان مرادهم انما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين

______________________________

التنبيه الثاني (الفرق بين المشتق ومبدئه) (قوله: الفرق بين المشتق ومبدئه) إعلم ان هنا اشكالا وهو أن المشتق إذا كان بمادته للمبدأ وبهيئته للنسبة كيف صح حمله على الذات مع انه لا يصح حمل المبدأ عليها إذ كما لا يصح حمل المبدأ عليها ينبغي أن لا يصح حمل المبدأ المنتسب، وقد دفع المصنف (ره) الاشكال بنحو لا يخلو عن اجمال واشكال فقال: الفرق بين المبدأ والمشتق ان المبدأ مفهومه لا يقبل الحمل على الذات بل يأبى الجري عليها وليس كذلك مفهوم المشتق فانه يقبل الحمل والجري ثم بين الوجه في الفرق المذكور وهو أن مفهوم المشتق متحد مع الذات في الوجود نحوا من الاتحاد ومفهوم المبدأ ليس كذلك، وحيث ان المعيار في صحة الحمل هو الاتحاد في الوجود أمكن حمل مفهوم المشتق على الذات ولم يمكن حمل مفهوم المبدأ عليها (قوله: وصاحب الفصول) قال فيه: زعم جماعة من أهل المعقول أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشئ لا بشرط وبينه بشرط لا فحدث الضرب ان اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ الضرب وامتنع حمله على الذات الموصوفة به وان اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب وصح حمله عليها وعلى هذا القياس

١٣٠

بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك لاجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات وإن اعتبرا لا بشرط وغفل عن ان المراد ما ذكرنا كما يظهر منهم

______________________________

فجعلوا الفرق بين العرض والعرضي كالفرق بين الهيولى والجنس وبين الصورة والفصل، وهذا عندي غير مستقيم... إلى أن قال: إذا تبين عندك هذا فنقول أخذ العرض لا بشرط لا يصحح حمله على موضوعه... إلى أن قال: فيمتنع حمل العلم والحركة عليه وان اعتبرا لا بشرط. انتهى (قوله: بلحاظ الطوارئ والعوارض) اعتبارات الماهية الثلاثة اعني لا بشرط وبشرط شئ وبشرط لا (تارة) تكون بلحاظ الخارج كما يقال: الماء لا بشرط أو بشرط البرودة أو بشرط عدم الحرارة رافع للعطش (وأخرى) تكون بلحاظ الاعتبار فيكون معنى بشرط شئ: الشئ الملحوظ معه شئ، ومعنى بشرط لا الشئ الملحوظ وحده، ومعنى لا بشرط: الشئ الملحوظ مع تجويز كونه وحده ولا وحده، قال الشيخ الرئيس: إن الماهية قد تؤخذ بشرط لا شئ بأن يتصور معناها بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بحيث يكون كل ما قارنه زائدا عليه فيكون جزءا لذلك المجموع مادة له متقدما عليه في الوجودين فيمتنع حمله على المجموع لانتقاء شرط الحمل وهو الاتحاد في الوجود، وقد تؤخذ لا بشرط بأن يتصور معناها مع تجويز كونه وحده وكونه لا وحده بأن يقترن مع شئ آخر فيحمل على المجموع وعلى نفسه وحده... الخ " وحاصل " اشكال المصنف (ره) على الفصول: ان المراد من لا بشرط وبشرط لا المذكورين في الفرق بين المشتق ومبدئه ليس معناهما الجاري على الاصطلاح الاول ولا الاصطلاح الثاني بل المراد منهما الاشارة إلى اختلاف نفس المفهومين بنحو يكون أحدهما متحدا مع الذات وصالحا للحمل عليها والآخر ليس كذلك (أقول): هذا خلاف ظاهر العبارة المحكية عنهم (قوله: مع حفظ مفهوم واحد) يعني مع كون مرادهم أن

١٣١

من بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادة والصورة فراجع. (الثالث): ملاك الحمل كما أشرنا إليه

______________________________

المفهوم متعدد من غير جهة الاعتبارين (قوله: من بيان الفرق بين الجنس.. الخ) حيث فرقوا بين الجنس والمادة بأن الجنس كالحيوان مأخوذ لا بشرط فصح حمله، والمادة مأخوذة بشرط لا فلا يصح حملها، وكذا الفصل والصورة (اقول) الظاهر من من كلماتهم هو ما فهمه في الفصول قال المحقق السبزواري في شرح قوله:

جنس وفصل لا بشرط حملا

فمدة وصورة بشرط لا

: وفيه اشارة إلى أن كلا من هاتين مع كل من هذين متحد ذاتا مختلف اعتبارا، (وقال) القوشجي في كلام له في الفرق بين الاصطلاحين: ولذلك يقال: الجنس بشرط شئ هو عين النوع فالحيوان بشرط الناطق هو عين الانسان وبشرط الصاهل عين الفرس وهكذا وليس معنى اخذه هاهنا بشرط لا شئ أن يكون مجردا عن كل شئ على ما ذكر في الماهية المجردة بل معناه أن يؤخذ من حيث أنه قد انضم إليه شئ خارج عنه وقد حصل منهما أمر ثالث وبهذا الاعتبار يكون كل واحد منهما جزءا له وجزء الشئ من حيث هو جزء له لا يكون محمولا عليه مواطاة إذ لا يصح أن يقال: هذا الكل هو هذا الجزء فلذلك قيل: الحيوان بشرط لا شئ جزء ومادة لما تركب منه وغير محمول عليه... إلى أن قال: أما اخذ الحيوان لا بشرط شئ فهو أن يعتبر من حيث هو من غير أن يتعرض لشئ آخر أي لا يؤخذ معه شئ من حيث هو داخل فيه ولا من حيث انه خارج عنه ينضم إليه بل يؤخذ من حيث هو فيكون صالحا لكل واحد من الاعتبارين ويكون محمولا على الانواع المندرجة تحته، وقس على ذلك حال الناطق وكذا حال غيرهما من الاجزاء المحمولة على الماهيات. انتهى، فان ظاهر هذين الكلامين - مضافا إلى المحكي عن الشيخ سابقا - يعطى ما ذكره في الفصول لا غيره " وكيف كان " فالظاهر أن الفارق بين المشتق ومبدئه أن المبدأ حاك عن المعنى المنحاز عن الذات في مقام اللحاظ الذي لو نسب إلى الذات كانت نسبته إليها نسبة الصادر إلى المصدور عنه والمضاف

١٣٢

هو الهوهوية والاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر كما يكون بين المشتقات والذوات ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين واعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحدا،

______________________________

إلى المضاف إليه والمشتق بهيئته يحكي عن مبدأ منتسب إلى الذات نسبة العنوان إلى المعنون بحيث يكون للذات نحو جلوة في مقام اللحاظ يرى بها المبدأ طورا من اطوارها فيكون مؤدى المشتق ذاتا لها القيام لا قيام صادر عن الذات فيرجع حمل المشتق على الذات إلى حمل الذات على الذات لا حمل العرض على معروضه هذا هو المطابق للمرتكزات العرفية والله سبحانه أعلم التنبيه

الثالث

(قوله: هو الهوهوية والاتحاد) إذ مع الاتحاد من جميع الجهات لا اثنينية ليصح الحمل الذي هو نسبة بين شيئين كما انه مع المغايرة من جميع الجهات يكون الحمل بينهما حكما بوحدة الاثنين ومنه يظهر ان هذا مختص بالحمل الايجابي أما السلبي فلا مانع من مغايرة طرفيه من جميع الجهات (قوله: كما يكون بين المشتقات) قد عرفت المصحح لحمل المشتقات على الذوات الموجب لاتحاد مؤدياتها مع الموضوعات في ظرف الحمل واوضح منه حمل النوع على افراده كحمل الانسان على زيد وحمل كل من الجنس والفصل على النوع وان كان منشأ اعتبار احدهما غير منشأ اعتبار الآخر واقعا كما ان منشأ اعتبار تحصص الحصص الافرادية غير منشأ اعتبار الكلي إلا انه لما لم يمنع ذلك من كون المحمول فيها عنوانا للموضوع صح الحمل (قوله: ولا يعتبر معه ملاحظة) قال في الفصول بعد تحقيق ما يعتبر في صحة حمل المتغايرات: فقد تحقق مما قررنا ان حمل احد المتغايرين بالوجود على الآخر بالقياس إلى ظرف التغاير لا يصح الا بشروط ثلاثة، أخذ المجموع من حيث المجموع واخذ الاجزاء لا بشرط، واعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع، إذا تبين عندك هذا فنقول: اخذ العرض لا بشرط لا يصحح حمله على موضوعه ما لم يعتبر المجموع المركب منهما شيئا واحدا ويعتبر الحمل بالقياس إليه،

١٣٣

ولا خفاء في أنا إذا قلنا: زيد عالم أو متحرك لم نرد بزيد المركب من الذات وصفة العلم أو الحركة وانما نريد به الذات وحدها فيمتنع حمل العلم والحركة عليه وان اعتبر لا بشرط بل التحقيق ان مفاد الهيئة مفاد (ذو) ولا فرق بين قولنا: ذو بياض وقولنا: ذو مال، فكما ان المال إن اعتبر لا بشرط لا يصح حمله على صاحبه كذلك البياض... الخ وقد اورد المصنف (ره) عليه بانه مع تحقق الاتحاد من وجه لا يعتبر في صحة الحمل ملاحظة المجموع امرا واحدا مع ان ذلك يوجب المغايرة بين الموضوع والمحمول بالكلية والجزئية لان الكلية قائمة بالمجموع فيكون الحمل حملا للجزء على الكل مضافا إلى صحة الحمل في القضايا الحملية مع عدم ملاحظة المجموع فيها امرا واحدا فان الموضوع في قولنا: زيد قائم، نفس زيد بلا ملاحظة المجموع منه ومن القيام (اقول): ظاهر كلام المصنف (ره) لا يخلو من اشكال من جهة ان ما ذكره في الفصول من التحقيق إنما كان في تحقيق الاتحاد المعتبر في صحة حمل المتغايرات وجودا بعضها على بعض لا في مطلق الحمل زائدا على اعتبار الاتحاد ومنه يظهر انه لا مجال للاشكال عليه بعدم ملاحظة التركيب في التحديدات وسائر القضايا العرفية فان الحمل فيها ليس من حمل احد المتغايرين على الاخر، واما لزوم المغايرة بالكلية والجزئية فهو غير ظاهر أيضا إذ هو انما يتم لو اخذ الجزء بشرط لا لا ما لو اخذ لا بشرط فان الجزء لا بشرط عين الكل وقد صرح في الفصول أيضا باعتبار لا بشرط في الجزء المحمول. نعم يمكن الاشكال عليه بأنه يكفي في صحة الحمل بين المتغايرين ملاحظة كل منهما لا بشرط ولا يحتاج إلى ملاحظة التركيب في الموضوع الراجع إلى ملاحظته بشرط الآخر مثلا كل من زيد وعمرو إذا كان بشرط لا الاعتباري امتنع حمله على الآخر لمباينته له خارجا وإذا لوحظ كل منهما مع الآخر صح الحمل بينهما لتحقق الاتحاد إذ زيد وعمرو عمرو وزيد بالضرورة فإذا لوحظ احدهما لا بشرط صح حمله على الآخر بشرط كما ذكره في الفصول وتقدم في كلام الشيخ الرئيس لان بشرط شئ اخص من لا بشرط وصحة حمل الاخص تستدعي صحة حمل الاعم في الجملة ولازم دلك جواز حمل كل منهما على الآخر أيضا لو اخذا

١٣٤

بل يكون لحاظ ذلك مخلا لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية، ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ بنحو الاتحاد بين الموضوع والمحمول مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات بل لا يلحظ في طرفها الا نفس معانيها كما هو الحال في طرف المحمولات ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار، فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام، وفى كلامه موارد للنظر تظهر بالتأمل وإمعان النظر

______________________________

معا لا بشرط والمتحصل من ذلك ان صحة حمل احد المتغايرين على الآخر تتوقف على عدم اعتبار احدهما بشرط لا لا غير، ثم انه ينبغي ان يراد من المتغايرين في الخارج ما يعم مثل زيد وعمرو ومثل نقطتين من خط واحد فانه لا يجوز حمل احداهما على الاخرى الا مع عدم ملاحظتهما بشرط لا والله سبحانه اعلم (قوله: لاستلزامه المغايرة) يعنى والمغايرة كذلك مانعة من صحة الحمل (قوله: بنحو الاتحاد) يعني في الظرف الذي يكون الحمل بالقياس إليه من ذهن أو خارج كما في الفصول (قوله: لحاظ ذلك) يعني ملاحظة المجموع امرا واحدا (قوله: في التحديدات) يعني التعريفات مثل الانسان حيوان ناطق (قوله: في طرف) متعلق بلحاظ (قوله: المحمولات) يعني مع اعتراف الفصول بعدم ملاحظة التركيب فيها (قوله: موارد للنظر) لعل (أحدها) جعله الناطق والحساس من قبيل المتغايرين اعتبارا المتحدين حقيقة مع ان التغاير بينهما بحسب المفهوم فتأمل (وثانيها) جعله حمل كل واحد من الاجراء على الكل من الحمل بين المتغايرين حقيقة المتحدين اعتبارا مع أنهما من المتحدين حقيقة ايضا بالتقريب الذي ذكره (وثالثها) دعواه كون الانسان مركبا من البدن والنفس وقد قيل انه لم يتوهمه احد فتأمل (ورابعها) ما يظهر من كلامه من عدم الفرق بين الجسم والبدن، وبين النفس والناطق، الا باعتبار لا بشرط، وبشرط لا مع أن الاوليين اعم من الاخرين مفهوما فتأمل

١٣٥

(الرابع)

لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجرى المشتق عليه مفهوما وان اتحدا عينا وخارجا فصدق الصفات مثل العالم والقادر والرحيم والكريم... إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال عليه تعالى على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته يكون على الحقيقة فان المبدأ فيها وان كان عين ذاته تعالى خارجا الا انه غير ذاته تعالى مفهوما (ومنه) قد انقدح ما في الفصول من الالتزام بالنقل أو التجوز في الفاظ الصفات الجارية عليه تعالى - بناء على الحق من العينية - لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ولا اتفاق على اعتبار غيرها ان لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره كما لا يخفى وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات

______________________________

*

التنبيه الرابع (قوله: في كفاية مغايرة) يعني في صحة الجري. ثم الظاهر من كلمات الاشاعرة ابتناء اعتبار المغايرة خارجا بين المبدأ والذات على اعتبار قيام المبدأ في صدق المشتق فانهم استنتجوا امورا منها زيادة الصفات على الذات فكان الانسب جعل هذا التنبيه من متعلقات التنبيه الآتي ومما ذكرنا يظهر عدم تأتي دعوى الاتفاق على عدم اعتبار المغايرة عينا كما قد يشعر به قوله: ان لم نقل بحصول الاتفاق... الخ (قوله: من عينية صفاته) بحيث تكون ذاته المقدسة بما هي مصداق لكل واحدة من الصفات بلا تعدد ولو بالحيثية (قوله: المعتبرة بالاتفاق) قال في الفصول: إذ الظاهر اطباق الفريقين على ان المبدأ لابد ان يكون مغايرا لذي المبدأ وانما اختلفوا في وجوب قيامه به وعدمه، فالوجه التزام وقوع النقل في تلك الالفاظ بالنسبة إليه تعالى.

١٣٦

(الخامس)

انه وقع الخلاف - وبعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجرى عليه المشتق - في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة وقد استدل من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والالم بالمضروب والمؤلم - بالفتح - والتحقيق أنه لا ينبغى أن يرتاب من كان من أولي الالباب في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها من التلبس بالمبدأ بنحو خاص على اختلاف انحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة واختلاف الهيئات أخرى من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه أو انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا كما في صفاته تعالى - على ما أشرنا إليه آنفا - أو مع عدم تحقق الا للمنتزع عنه كما في الاضافات والاعتبارات التى لا تحقق لها ولا يكون بحذائها في الخارج شئ وتكون من الخارج المحمول لا المحمول بالضميمة، ففى صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما وقائما به عينا لكنه بنحو من القيام لا بأن يكون هناك اثنينية وكان ما بحذائه غير الذات بل بنحو الاتحاد والعينية وكان ما بحذائه عين الذات (وعدم) اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الامور الخفية (لا يضر) بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ولو بتأمل وتعمل من العقل (والعرف) إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها و (بالجملة) يكون مثل العالم والعادل وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد وان اختلفا فيما

______________________________

التنبيه الخامس (قوله: اختلاف المواد) كضارب وجائع (قوله: واختلاف الهيئات) مثل ذاهب ومذهب وضارب ومضروب (قوله: في الاضافات والاعتبارات) كالزوجية والملكية (قوله: مثل هذا التلبس) يعني الذي هو بنحو العينية

١٣٧

يعتبر في الجري من الاتحاد وكيفية التلبس بالمبدأ حيث انه بنحو العينية فيه تعالى وبنحو الحلول أو الصدور في غيره (فلا وجه) لما التزم به في الفصول من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى كما لا يخفى كيف ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة لسان والفاظ بلا معنى، فان غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها ففى مثل مااذا قلنا: انه تعالى عالم، إما أن يعني أنه من ينكشف لديه الشئ فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك المعنى فتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإما أن لا يعني شيئا فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة وكونها بلا معنى كما لا يخفى (والعجب) أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره وهو كما ترى وبالتأمل فيما ذكرنا ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين

______________________________

*

فان عدم احاطة العرف به الموجب لعدم تطبيق المشتق بلحاظ لا يقدح في كون التطبيق بلحاظه حقيقيا واقعا لان المعيار في الحقيقة كون الصدق ولو عقليا بلحاظ مفهوم اللفظ عرفا فالعرف مرجع في تحديد المفهوم لا في تحديد المصداق (قوله: صرف لقلقة) هذا انما يلزم لو كان مراد الفصول التصرف في المادة بالنقل أو التجوز أما لو كان بالهيئة لا غير فلا يلزم ذلك ولا يظن من الفصول احتمال التصرف في المادة فضلا عن دعواه فلتلحظ عبارته السابقة (قوله: فهو ذلك المعنى العام) يعني فيكون حقيقة بلا نقل ولا تجوز لكن عرفت ان المراد من العالم مثلا من ينكشف لديه الشئ انكشافا بعين ذاته لا بغيره كما هو المفهوم عرفا فلا يكون حقيقة (قوله: انه جعل) حيث قال بعد كلامه المتقدم: ولهذا لا تصدق في حق غيره، لكن مراده انها لا تصدق في حق غيره بالنحو الذي تصدق به في حقه سبحانه (قوله: كما ترى) يعني لوضوح انها تصدق في حق غيره أيضا

١٣٨

والمحاكمة بين الطرفين فتأمل

(السادس)

الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض كما في الماء الجارى، بل يكفى التلبس به ولو مجازا ومع هذه الواسطة كما في الميزاب الجارى فاسناد الجريان إلى الميزاب وان كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز إلا أنه في الاسناد لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازى ولا منافاة بينهما اصلا كما لا يخفى، ولكن ظاهر الفصول بل صريحه اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة

______________________________

التنبيه السادس (قوله: والمحاكمة بين) يعني إن اراد من يدعي اعتبار قيام المبدأ بالذات ما يعم القيام بنحو العينية فهو في محله وإن اراد ما لا يعمه ففيه المنع (قوله: لا يعتبر في صدق المشتق) لفظ المشتق تارة يستعمل في المفهوم واخرى في المصداق كقولك جاءني عالم تريد زيدا (والاول) تارة يكون موضوعا كقولنا العالم من تلبس بالعلم واخرى محمولا كما يقال زيد عالم ثم إن الذات المجرى عليها المشتق في الاول والمحمول عليها في الثاني ان كانت متلبسة بالمبدأ حقيقة فلا اشكال في كون استعمال المشتق حقيقة وان لم تكن متلبسة به حقيقة فاجراء المشتق أو حمله عليها بما له من المعنى الحقيقي لا يمكن ان يكون حقيقة بل لا بد من التصرف في لفظه بأن يراد منه معنى مجازي أو في اسناده بادعاء كون الذات مصداقا لمفهومه كما يراه السكاكي في باب الاستعارة وحينئذ فيصح أن يقال لا يعتبر في استعمال لفظ المشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدأ حقيقة لامكان استعماله حقيقة مع التصرف في جريه وحمله وهذا ظاهر جدا (قوله: في الميزاب الجاري) إذ الجريان ليس قائما بالميزاب بل بالماء لكن في كون الماء من الواسطة في العروض تأملا عرفته سابقا (قوله: ولا منافاة)

١٣٩

وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة. قد انتهى هاهنا محل الكلام بين الاعلام والحمد لله وهو خير ختام المقصد الاول في الاوامر وفيه فصول (الاول) فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات وهي عديدة (الاولى) أنه قد ذكر للفظ الامر معاني متعددة، منها (الطلب) كما يقال: أمره بكذا، ومنها " الشأن " كما يقال: شغله أمر كذا، ومنها " الفعل " كما في قوله تعال: (وما أمر فرعون برشيد) ومنها " الفعل العجيب " كما في قوله تعالى: " فلما جاء أمرنا " ومنها " الشئ " كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا، ومنها " الحادثة " ومنها " الغرض " كما تقول: جاء زيد لامر كذا، ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم

______________________________

إذ قد عرفت ان الاستعارة عند السكاكي من هذا القبيل (قوله: وكأنه من باب الخلط) هذا يتم لو اراد الفصول من صدق المشتق استعمال لفظه اما لو اراد حمله وجريه كما هو الظاهر منه فلا اشكال عليه ولا خلط منه بل ينبغى توجه الاشكال على المصنف (ره) حيث صدر العنوان بقوله: لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات... الخ فان التزامه (ره) بكون التجوز في الاسناد في المثال المذكور لا في الكلمة التزام منه باعتبار التلبس حقيقة في كون الجري حقيقة فلاحظ والحمد لله رب العالمين كما هو اهله

المقصد الاول في الاوامر

(قوله: منها الطلب) الطلب عرفا هو السعي نحو الشئ كما يظهر من ملاحظة موارد استعماله مثل طلب الماء والغريم والضالة، وقوله عليه السلام اطلبوا العلم ولو بالصين، ونحوها قول الشريف الرضي (ره):

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )(٢) ، كما نصّ عليه في كتابه ، ولا خالق سواه

ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب والمعاصي ، ويلوم العباد بالكسب الذميم ، وهو يخلق الأشياء ، والله يخلق الإعراض ، ولكنّ العبد مباشر للإعراض فهو معرض ، والمعرض من يباشر الفعل لا من يخلق ، وكذا المنع(٣) .

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٢.

(٣) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦٩ ـ ٩١ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ـ ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٦ ـ ٩٣ ، المسائل الخمسون : ٥٩ ـ ٦١ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ـ ١٣٩.

٣٤١

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وارد في مقامين من الكتاب المجيد

الأوّل : قوله تعالى في سورة الأنعام : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ )(١) .

وهو ظاهر في غير أفعال العباد ؛ لأنّه سبحانه قد جعل الأمر بعبادته واستحقاقه لها فرعا عن وحدانيّته وخلقه للكائنات.

ومن الواضح أنّ تفريع الأمر بالعبادة على خلق الكائنات إنّما يتمّ إذا كانت العبادة فعلا للعبد ، إذ لا معنى لقولنا : لا إله إلّا هو خالق عبادتكم وغيرها فاعبدوه.

الثاني : قوله تعالى في سورة الرعد : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ )(٢) .

وقد استدلّ المجبّرة بهذه الآية على مذهبهم من حيث اشتمالها على العموم ، وعلى إنكار من يخلق كخلقه(٣) .

وأجيب بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار ، فلو أريد بها العموم

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ١٠٢.

(٢) سورة الرعد ١٣ : ١٦.

(٣) تمهيد الأوائل : ٣٤٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٣٨.

٣٤٢

لأفعال العباد لانقلبت الحجّة بها للكفّار ؛ لأنّه إذا كان هو الخالق لشركهم لمّا صلح الإنكار عليهم به ، وكان لهم أن يقولوا : إذا كنت قد فعلت ذلك بنا فلم تنكر علينا بفعل فعلته فينا ونحن لا أثر لنا فيه أصلا؟!

مضافا إلى أنّ المراد الإنكار عليهم في جعل آلهة لا يمكن الاشتباه بإلهيّتهم ، إذ لم يجعلوا لله تعالى شركاء لهم خلق يشبه خلقه حتّى يحصل به الالتباس في الإلهية.

وهذا إنّما يراد به المخلوقات المناسبة للإلهية كالسماوات والأرض والأجسام والأعراض ، فيكون عموم قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) إنّما هو بالنسبة إلى تلك المخلوقات ، لا مثل الشرك والإلحاد والظلم والفساد ونحوها ، ممّا يصدر من البشر ويتنزّه عنه خالق العجائب وعظام الأمور وبديع السماوات والأرضين.

ولو أعرضنا عن ذلك كلّه فالعموم مخصّص بالأدلّة العقلية والنقلية ، الكتابية وغيرها ، الدالّة على إنّ العباد هم الفاعلون لأفعالهم ، كما ستعرف إن شاء الله.

وأمّا قوله : « ويعاقب الناس على كسبهم ومباشرتهم الذنوب ».

ففيه : إنّ الكسب إن كان من فعلهم فقد خرج عن مذهبه ، وإن كان من فعل الله تعالى فالإشكال بحاله ؛ إذ كيف يعاقبهم على فعله؟!

وأمّا قوله : « والمعرض من يباشر الإعراض لا من يخلق ».

ففيه : إنّ المصنّف لم يدّع صدق المعرض على الله تعالى بناء على مذهبهم حتّى يجيبه بذلك ، بل يقول في تقرير مذهبهم : إنّه سبحانه يخلق الإعراض في الناس ، وينكر على المعرض أي المحلّ الذي يخلق فيه الإعراض ، كما هو مراد الخصم بمباشر الإعراض.

٣٤٣

وبالضرورة أنّ الإنكار على المحلّ الذي لا أثر له بوجه أصلا جزاف لا يرتضيه العقل ، وإنّما حقّ الإنكار أن يقع على الفاعل المؤثّر.

ومثله الكلام في قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا )(١) ؛ إذ كيف ينكر عليهم وهو الذي منعهم؟!

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩٤.

٣٤٤

قال المصنّف ـ عطّر الله ثراه ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله تعالى لم يفعل شيئا عبثا ، بل إنّما يفعل لغرض ومصلحة ، وإنّما يمرض لمصالح العباد ، ويعوّض الثواب ، بحيث ينتفي العبث والظلم(٢) .

وقالت الأشاعرة : لا يجوز أن يفعل الله تعالى شيئا لغرض من الأغراض ، ولا لمصلحة ، ويؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض(٣) .

بل يجوز أن يخلق خلقا في النار مخلّدين فيها من غير أن يكونوا قد عصوا أو لا(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٨ وما بعدها ، تقريب المعارف : ١١٤ وما بعدها ، قواعد المرام في علم الكلام : ١١٠ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٨.

(٣) الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٤ ، تفسير الفخر الرازي ٢٨ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

(٤) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٧ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٢ ـ ٣٨٦ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

٣٤٥

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال الله تعالى ليست معلّلة بالأغراض.

وقالوا : لا يجوز تعليل أفعاله تعالى بشيء من الأغراض(٢) ـ كما سيجيء بعد هذا ـ ، ووافقهم في ذلك جماهير الحكماء والإلهيّين.

وهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، إن أراد تخليد عباده في النار فهو المطاع والحاكم ، ولا تأثير للعصيان في أفعاله ، بل هو المؤثّر المطلق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٤.

(٢) المسائل الخمسون : ٦٢ المسألة ٣٧ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، طوالع الأنوار : ٢٠٣ المسألة ٥ ، المواقف : ٣٣١ المقصد ٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٣٤٦

وأقول :

ليس في كلامه إلّا ما يتضمّن تصديق المصنّف بما حكاه عنهم والالتزام بنسبتهم إلى العدل الرحمن ما لا يرضى بنسبته إليه ذو وجدان ، فإنّهم إذا أجازوا عليه سبحانه إيلام عبيده بلا غرض ولا مصلحة ، وتخليد عباده بالنار بلا غرض ولا غاية ، فقد أجازوا أن يكون من العابثين وأظلم الظالمين.

وليت شعري ما الذي حسّن لهم تلك المقالات الجائرة الفاجرة في حقّ خالقهم تبعا لإنسان خطأه أكثر من صوابه؟!

وما زعمه من موافقة الفلاسفة محلّ نظر ؛ إذ لا يبعد أنّ الفلاسفة إنّما ينفون الغرض الذي به الاستكمال دون كلّيّ الغرض(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر مثلا : تهافت التهافت : ٤٩١ ، شرح التجريد : ٤٤٣.

٣٤٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وقالت الإمامية : لا يحسن في حكمة الله تعالى أن يظهر المعجزات على يد الكذّابين ، ولا يصدّق المبطلين ، ولا يرسل السفهاء والفسّاق والعصاة(٢) .

وقالت الأشاعرة : يحسن كلّ ذلك(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٤.

(٢) النكت الاعتقادية : ٣٧ ، تنزيه الأنبياء ـ للشريف المرتضى ـ : ١٧ ـ ١٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

(٣) مقالات الإسلاميّين : ٢٢٦ ، المواقف : ٣٤١ و ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ و ٢٦٥ و ٢٨١.

٣٤٨

وقال الفضل(١) :

لا حسن ولا قبح بالعقل عند الأشاعرة ، بل جرى عادة الله تعالى بعدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ، لا لقبحه في العقل ، وهو يرسل الرسل ، وهم الصادقون.

ولو شاء الله أن يبعث من يريد من خلقه ، فهو الحاكم في خلقه ، ولا يجب عليه شيء ، ولا شيء منه قبيح ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٦.

٣٤٩

وأقول :

لا يخفى أنّ تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب ـ عقلا ـ مناف لما يذكرونه عند الكلام في عصمة الأنبياء ، من دلالة المعجزة عقلا على عصمتهم عن الكذب ، في دعوى الرسالة وما يبلّغونه عن الله تعالى.

ولكن إذا كان الكلام تبعا للهوى ومبنيّا على شفا جرف هار ، يجوز الاختلاف فيه بمثل ذلك.

وأمّا دعوى جريان العادة بعدم إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فمحتاجة إلى دعوى علم الغيب ممّن لم يقبح عقله إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإنّه لم يعرف كلّ كاذب ، ولم يطّلع على أحوالهم ، فلعلّ بعض من يعتقد نبوّته لظهور المعجزة على يده كان كاذبا ، ولا يمكن العلم بعدم المعجزة لكلّ كاذب من إخبار نبيّنا ٦ ـ إذ لعلّه لم يكن نبيّا ـ وإن تواتر ظهور المعجزات على يده ، على إنّه لم يثبت عنه ذلك الإخبار.

ولو ثبت مع نبوّته فخبره لا يفيد العلم ، لتجويز الأشاعرة الكذب في مثل ذلك على الأنبياء سهوا ، بل عمدا(١) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا تجويزهم أن يرسل الله السفهاء والفسّاق ، فأفظع من ذلك ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٢٨٤ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠.

٣٥٠

قال المصنّف ـ أعلى الله منزلته ـ(١) :

وقالت الإمامية : إنّ الله سبحانه لم يكلّف أحدا فوق طاقته(٢) .

وقالت الأشاعرة : لم يكلّف الله أحدا إلّا فوق طاقته ، وما لا يتمكّن من تركه وفعله ، ولامهم على ترك ما لم يعطهم القدرة على فعله.

وجوّزوا أن يكلّف الله مقطوع اليد الكتابة ، ومن لا مال له الزكاة ، ومن لا يقدر على المشي للزمانة الطيران إلى السماء ، وأن يكلّف العاطل الزمن المفلوج خلق الأجسام ، وأن يجعل القديم محدثا والمحدث قديما.

وجوّزوا أن يرسل رسولا إلى عباده بالمعجزات ليأمرهم بأن يجعلوا الجسم الأسود أبيض دفعة واحدة ، ويأمرهم بالكتابة الحسنة ، ولا يخلق لهم الأيدي والآلات ، وأن يكتبوا في الهواء بغير دواة ولا مداد ولا قلم ولا يد ما يقرأه كلّ أحد(٣) .

وقالت الإمامية : ربّنا أعدل وأحكم من ذلك(٤) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ رقم ٢٦ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٠٠ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٩٨ ـ ١٠٠ و ١١٢ ، تمهيد الأوائل : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ و ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠.

(٤) النكت الاعتقادية : ٣٢ ، أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٧ رقم ٢٤ و ٢٦.

٣٥١

وقال الفضل(١) :

تكليف ما لا يطاق جائز عند الأشاعرة ؛ لأنّه لا يجب على الله شيء ، ولا يقبح منه فعل ، إذ يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ومنعه المعتزلة لقبحه عقلا(٢) .

والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبرهم بعدم إيمان أبي لهب وكلّفه الإيمان ، فهذا تكليف ما لا يطاق ؛ لأنّ إيمانه محال وفوق طاقته ؛ لأنّه إن آمن لزم الكذب في خبر الله تعالى ، وهو محال اتّفاقا.

وهذا شيء يلزم المعتزلة القول بتكليف ما لا يطاق.

ثمّ ما لا يطاق على مراتب : أوسطها ما لا يتعلّق به القدرة الحادثة عادة ، سواء امتنع تعلّقها به لا لنفس مفهومة كخلق الأجسام أم لا ، بأن يكون من جنس ما يتعلّق به ، كحمل الجبل ، والطيران إلى السماء ، والأمثلة التي ذكرها الرجل الطامّاتي فهذا شيء يجوّزه الأشاعرة ، وإن لم يقع بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٣) .

وقد عرّفناك معنى هذا التجويز في ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٨٧.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ و ٢٩٥ ، المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٢

وأقول :

لا أدري كيف يقع الكلام مع هؤلاء القوم؟! فإنّ النزاع ينقطع إذا بلغ إلى مقدّمات ضرورية ، وهؤلاء جعلوا نزاعهم في الضروريات!

ليت شعري إذا لم يحكم العقل بامتناع التكليف بما لا يطاق وجوّز أن ينهى الله العبد عن الفعل ، ويخلقه فيه اضطرارا ، ويعاقبه عليه ، فقل لي أيّ أمر يدركه العقل؟!

قيل : اجتمع النظّام والنجّار للمناظرة ، فقال له النجّار : لم يدفع أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون؟!

فسكت النظّام ، فقيل له : لم سكتّ؟!

قال : كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف ما لا يطاق ، فإذا التزمه ولم يستح فبم ألزمه؟!(١) .

وجلّ مسائل هذا الكتاب من هذا الباب كما رأيت وترى إن شاء الله تعالى.

وكفاك إنكارهم أن يجب على الله شيء ، فإنّه إذا لم يجب عليه شيء بعدله وحكمته ورحمته ، فأيّ إله يكون؟! وكيف يكون حال الدنيا والآخرة؟!

ومثله تجويز أن يفعل ما يشاء ممّا لا غرض فيه ولا غاية ولا حكمة ولا عدل ، كتكليف ما لا يطاق ؛ تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) انظر مضمونه في : شرح الأصول الخمسة : ٤٠٠.

٣٥٣

وأمّا قوله : « والحال : إنّه لا بدّ لهم أن يقولوا به ، فإنّ الله أخبر بعدم إيمان أبي لهب »

فمدفوع بأنّه تعالى إنّما أخبر بأنّه سيصلى نارا ، وهو لا يستلزم الكفر ؛ لجواز تعذيب المسلم الفاسق

والأولى أن يقول : إنّ الله سبحانه أخبر نبيّه ٦ ، بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )(١) ونحوه في القرآن كثير ، ومع ذلك كلّف الناس جميعا بالإيمان ، وأخبر بصدور المعاصي من الناس وكلّفهم بالطاعة.

والجواب : إنّ الإخبار بعدم الإيمان مثلا لا يستوجب امتناعه ، بل غاية ما يقتضيه صدور ما أخبر به على ما هو عليه في نفسه من الإمكان ، والممكن مطاق في نفسه ، يصحّ التكليف به أو بخلافه ، وإن علم بعدم وقوعه من المكلّف لاختياره العدم.

فيكون صدق الخبر تابعا لوقوع المخبر به على ما هو عليه في نفسه لا العكس ، نظير تبعية العلم للمعلوم ، فإنّ علمه تعالى بالممكنات لا يجعل خلاف ما علمه ممتنعا ، بل هو تابع للمعلوم ؛ لأنّه عبارة عن انكشاف المعلوم على ما هو عليه.

ولو كان المعلوم تابعا للعلم لما صحّ التكليف أصلا ؛ لصيرورة كلّ مكلّف به ، إمّا واجبا حيث يعلم بوقوعه ، أو ممتنعا حيث يعلم بعدم وقوعه ، ولا يقوله عارف.

وأمّا ما ذكره من أنّ ما لا يطاق على مراتب ، أوسطها إلى قوله :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ١٠٣.

٣٥٤

« هذا شيء نجوّزه » فهو مشعر بأنّهم لا يجوّزون التكليف بالرتبة العليا ، وهي ما يمتنع لنفس مفهومه ، كالجمع بين الضدّين وإعدام الواجب.

والظاهر أنّه من باب تقليل الشناعة ، وإلّا فالمناط عندهم في جواز التكليف بالرتبة الوسطى والسفلى ، هو أنّه تعالى لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء ، وهو يقتضي صحّة التكليف بالرتبة العليا ـ كما ستعرفه وتعرف تمام الكلام فيه في المطلب الثامن ـ ، وكلام القوم في المقام مضطرب ؛ ولذا جعل الخصم أمثلة المصنّف من الوسطى ، والحال أنّ بعضها من العليا ، كجعل القديم محدثا.

ثمّ إنّ الخصم ذكر عدم وقوع التكليف بما لا يطاق بالاستقراء ولقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(١) ، وهو مناف لقوله سابقا بتكليف أبي لهب بالإيمان وأنّه فوق طاقته.

ومن المضحك وصفه للمصنّف رحمه الله تعالى بالطامّاتي ، والحال أنّ الطامّات هي أقوالهم ، وقد اعترف بها ، وليس للمصنّف إلّا النقل عنهم!

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

٣٥٥

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

وقالت الإمامية : ما أضلّ الله أحدا من عباده عن الدين ، ولم يرسل رسولا إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة(٢) .

وقالت الأشاعرة : قد أضلّ الله كثيرا من عباده عن الدين ، ولبّس عليهم ، وأغواهم ، وأنّه يجوز أن يرسل رسولا إلى قوم ولا يأمرهم إلّا بسبّه ومدح إبليس.

فيكون من سبّ الله تعالى ومدح الشيطان ، واعتقد التثليث والإلحاد وأنواع الشرك مستحقّا للثواب والتعظيم.

ويكون من مدح الله تعالى طول عمره ، وعبده بمقتضى أوامره ، وذمّ إبليس دائما ، في العقاب المخلّد واللعن المؤبّد.

وجوّزوا أن يكون في من سلف من الأنبياء ممّن لم يبلغنا خبره من لم تكن شريعته إلّا هذا(٣) .

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم ـ ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ ، وانظر مؤدّى ذلك في : الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٦٩ ، الاقتصاد في ما يتعلّق بالاعتقاد : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٧٣ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٢ و ٢١١ و ٢١٢.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٦ ـ ٣٤٩ ، المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٣٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢.

٣٥٦

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ الله خالق كلّ شيء ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ، بل يقولون : هو الهادي وهو المضلّ ، كما نصّ عليه في كتابه المجيد : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(٢) ، وهو تعالى يرسل الرسل ويأمرهم بإرشاد الخلائق.

وما ذكره الرجل الطامّاتي من جواز إرسال الرسل بغير هذه الهداية ، فقد علمت معنى هذا التجويز ، وأنّ المراد من هذا التجويز نفي وجوب شيء عليه.

وهذه الطامّات المميلة لقلوب العوامّ لا تنفع ذلك الرجل ، وكلّ ما بثّه من الطامّات افتراء ، بل هم أهل السنّة والجماعة والهداية.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٩١.

(٢) سورة النحل ١٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

٣٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ قوله : « لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء » من كلام أبي إسحاق الأسفراييني الشافعي(١) عندما دخل القاضي عبد الجبّار المعتزلي(٢) دار الصاحب بن عبّاد(٣) فرأى أبا إسحاق جالسا ، فقال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء! ـ تعريضا بأبي إسحاق بأنّه من الأشاعرة الّذين ينسبون الفحشاء إلى الله تعالى ـ فقال أبو إسحاق : سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء(٤) .

__________________

(١) تقدّمت ترجمته في صفحة ٥٩ من هذا الجزء.

(٢) هو : أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار بن أحمد الهمداني المعتزلي ، أحد كبار متكلّمي المعتزلة ، ولد سنة ٣٥٩ ه‍ ، كان ينتحل مذهب الشافعية في الفروع ، وهو من كبار فقهائهم ، ولّي القضاء بالريّ ، وله تصانيف كثيرة منها : المغني في علم الكلام ، شرح الأصول الخمسة ، طبقات المعتزلة ، وغيرها ، توفّى بالريّ سنة ٤١٥ ه‍.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ١١٣ ـ ١١٥ رقم ٥٨٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ رقم ١٥٠ ، لسان الميزان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧ رقم ١٥٣٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

(٣) هو : أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عبّاد بن العبّاس الطالقاني ، كان نادرة الدهر في فضائله ومكارمه وكرمه ، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي ـ صاحب كتاب « المجمل في اللغة » ـ وكذا عن ابن العميد ، وغيرهما.

كان مولده سنة ٣٢٠ ه‍ بإصطخر ، وقيل بالطالقان ، وتوفّي ليلة الرابع والعشرين من صفر سنة ٣٨٥ ه‍ بالريّ ، ثمّ نقل إلى أصبهان ودفن هناك.

انظر : معجم الأدباء ٢ / ٢١٣ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٢٨ رقم ٩٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٥١١ رقم ٣٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ١١٣.

(٤) شرح المقاصد ٤ / ٢٧٥ ، شرح العقائد النسفية : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد : ٤٢.

٣٥٨

وحاصله : إنّ كلّ ما يجري في ملكه من أنواع الفواحش ، والفجور ، والكفر ، والإلحاد ، والكذب ، والظلم ، والغواية ، ونحوها ، إنّما هو بإساءته ومن فعله!

فيا ليت شعري كيف يصلح مع هذا الزعم أن يسبّحه وينزّهه؟!

وأمّا قوله : « ولا يجوّزون وجود الآلهة في الخلق كالمجوس ».

فهو تعريض بأهل العدل حيث ينسبون تلك الأفعال الشنيعة والأحوال الفظيعة إلى العباد ، وينزّهون الله سبحانه عنها.

ومن المعلوم أنّ ذلك لا يستدعي القول بالشركة ، فإنّهم إنّما يرون أنّه تعالى أقدرهم على أفعالهم بلا حاجة منه إليهم ، ففعلوها بتمكينه لهم ، فلا استقلال لهم حتّى يكونوا آلهة ، فكيف يشبهون المجوس؟! وإنّما الذي يشبههم من يقول بزيادة صفاته على ذاته ، وقدمها مثله ، وحاجته إليها في الخلق ، بحيث لولاها لما خلق شيئا فهي شريكته في الإلهية ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا ما استدلّ به من قوله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ )(١) .

ففيه : إنّ استدلاله موقوف على أن يراد بالإضلال : خلق الضلال ، وبالهداية : خلق الهدى ؛ وهو ممنوع ؛ لجواز أن يراد بالإضلال : الخذلان والإضاعة ، وبالهداية : التوفيق ، كما قال ٧ : «تطاع بتوفيقك وتجحد بخذلانك »(٢) .

__________________

(١) سورة النحل ٦ : ٩٣ ، سورة فاطر ٣٥ : ٨.

(٢) إقبال الأعمال ١ / ٢٩٩ ب‍ ٢٠ دعاء الليلة ١٦ ، وفيه « تعبد » بدل « تطاع ».

٣٥٩

فإنّ الإنسان إذا اجتهد بفعل الخير كان محلّا للتوفيق ، وإذا أصرّ على الشرّ كان أهلا للخذلان ، وآل أمره إلى النفاق والكفر ، كما قال تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً )(١) وقال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ )(٢) ، ولا قرينة على إنّ المراد بالإضلال والهداية في الآية ما ادّعاه ، بل القرينة على خلافه عقلا ونقلا

أمّا العقل : فلأنّ ذلك يستلزم إبطال الثواب والعقاب ، ونفي العدل ، وفائدة الرسل والكتب ، والأوامر والنواهي ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ ، ولأنّه لا يحسن لمن ينهى عن شيء أن يفعله ، ولذا قال شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ )(٣)

وقال الشاعر :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم(٤)

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى )(٥) ، ومن عليه الهدى كيف يتركه ويخلق الضلال؟!

وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى )(٦) .

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٧.

(٢) سورة الروم ٣٠ : ١٠.

(٣) سورة هود ١١ : ٨٨.

(٤) البيت من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي ، مطلعها :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

انظر : ديوان أبي الأسود الدؤلي : ١٢٩ ـ ١٣٢ ، خزانة الأدب ٨ / ٥٦٨.

(٥) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٦) سورة فصّلت ٤١ : ١٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571