حقائق الاصول الجزء ١

حقائق الاصول13%

حقائق الاصول مؤلف:
تصنيف: متون أصول الفقه
الصفحات: 571

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 571 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 212128 / تحميل: 5783
الحجم الحجم الحجم
حقائق الاصول

حقائق الاصول الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

المحال حيث لا مندوحة هنا وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار (وما قيل) أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار (انما) هو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بأن الافعال غير اختيارية بقضية أن الشئ ما لم يجب لم يوجد. فانقدح

______________________________

المأذون فيه فيتحد العنوان، ويمكن أن يقال: كون الخروج غير مأذون فيه بعنوانه الاولي لا يقتضي كونه محرما كذلك بل المحرم عنوان التصرف في مال الغير بغير اذنه وعنوان التصرف ليس عنوانا أوليا للخروج فيكون الوجوب والتحريم بعنوانين (قوله: ولو كان الوجوب) لان المانع من تعلق التكليف بالواجب والممتنع ليس إلا أن قوام التكليف قصد إحداث الداعي العقلي للفعل أو الترك وهذا انما يكون في ظرف القدرة الذي هو ظرف الامكان لا في ظرف الوجوب أو الامتناع ولو كانا بسوء الاختيار (قوله: في قبال استدلال) لا في مقام جواز تعلق التكليف بالواجب أو الممتنع كما يتعلق بالممكن (قوله: ما لم يجب لم يوجد) من الواضح أن مقتضى علية شئ لآخر امتناع التفكيك بينهما فإذا وجدت العلة وجب وجود المعلول وإلا لم تكن علة وهو خلف وإذا عدمت العلة امتنع وجود المعلول وإلا لم يكن معلولا وهو خلف وحيث أن العلة مرددة بين الوجود والعدم فالمعلول مردد بين الوجوب والامتناع فصح أن يقال: إن الشئ ما لم يجب لم يوجد، إذ معناه أن الشئ إما أن يجب أولا يوجد، ومنه يظهر وجه الاستدلال به على كون الافعال غير اختيارية ومحصل دفعه بقولهم: إن الوجوب أو الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، هو أن مثل هذا الوجوب أو الامتناع المستند إلى وجود العلة وعدمها لما كان مستندا إلى الاختيار - ولو لان العلة اختيارية - لا ينافي الاختيار المعتبر في صحة التكليف بل يؤكده لان المفروض كونهما مستندين إلى الاختيار وانما المنافي للتكليف الوجوب أو الامتناع غير المستندين إلى الاختيار وحينئذ يظهر أن ليس المقصود من عدم منافاته للاختيار ان الشئ في حال وجوبه أو امتناعه اختياري يصح التكليف به بل المقصود من

٤٠١

بذلك فساد الاستدلال لهذا اقول بان الامر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ولا موجب للتقييد عقلا لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين إذ منشأ الاستحالة إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم مع تعدد الجهة وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا بعنوانين وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة مع عدم تعددها ههنا والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال (نعم) لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الايجاب. ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع (وأما) على القول بالامتناع فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب

______________________________

*

ذلك جواز تعلق التكليف به في الجملة ولو في رتبة قبل الاختيار المؤدي إلى الوجوب أو الامتناع لما عرفت من أن قوام التكليف قصد اعمال المكلف اختياره وصرفه في موضوع التكليف وهذا المعنى يستحيل ثبوته في ظرف صرف الاختيار وإعماله (قوله: فساد الاستدلال) هذا الاستدلال ذكر في القوانين باختلاف يسير (قوله: إذا كان مسببا) قال في القوانين: كما يظهر من الفقهاء في كون المستطيع مكلفا بالحج إذا أخره اختيارا وان فاتت استطاعته انتهى (أقول): المراد من الاستطاعة الفائتة هي الاستطاعة الشرعية لا العقلية فلا يتم الاستشهاد (قوله: وان اجتماع) بيان لثبوت الموجب (قوله: بسقوط التكليف) لان سقوط إنما كان لاجل المعصية التي هي منشأ استحقاق العقاب (قوله: الصلاة مطلقا) يعني في حالتي الاضطرار والاختيار (قوله: على القول بالاجتماع) نفي الاشكال في الصحة على هذا القول غير ظاهر فان بطلان الصلاة في المغصوب مما حكى الاجماع عليه جماعة صريحا أو ظاهرا كالسيدين والعلامة والشهيدين وصاحب المدارك وغيرهم والقول بالصحة من الفضل ابن شاذان - كما حكي - محمول على إرادة إلزام العامة على مقتضى قياسهم كما في الجواهر فتأمل (قوله: فكذلك مع الاضطرار)

٤٠٢

لما تقدم في صدر التنبيه من ان الاضطرار مانع من تأثير ملاك التحريم فيه فيكون ملاك الوجوب فيه بلا مزاحم فيكون واجبا شرعا ويكون الاتيان به بقصد الوجوب عبادة محضة فيصح لكن عرفت الاشكال فيه بأن الاضطرار وإن كان كذلك إلا أنه لا يوجب غلبة المصلحة على المفسدة فإذا كانت المفسدة غالبة لولا الاضطرار فهي على غلبتها فيكون الفعل راجح العدم فيمتنع قصد التقرب به إذ لا مجال للتقرب بما هو مرجوح في نظر المولى فلا يصح لو كان عبادة كما في المقام، ومن هنا يفترق المقام عن الجاهل القاصر فانه لما أمكن له قصد الامتثال لجهله فقد حصل التقرب المعتبر في عبادته فتصح عبادته بخلاف المضطر فانه لمكان علمه بالمبغوضية الذاتية لا يتأتى له قصد التقرب بالفعل (وقد) يدفع الاشكال بأن التقرب ليس بذات الفعل بل بتوصيفه بعنوان الصلاة وليس هو بمحرم (وفيه) أن المعتبر في الصلاة قصد التقرب بذات الافعال لا بالتوصيف المذكور إلا أن يدعى أن ذلك في حال الاختيار لا في حال الاضطرار بل يكتفى في حاله بما ذكر لقاعدة الميسور (وفيه) أنه لا دليل على جريان القاعدة في مثل التقرب مما لا يكون واجبا شرعا لان قوله صلى الله عليه وآله: الميسور لا يسقط بالمعسور، إنما يدل على وجوب الميسور شرعا وقصد التقرب ليس واجبا شرعا، وقد يدفع أيضا بأن التقرب ليس بالفعل بل بالمصلحة الموجودة فيه وفيه ما في سابقه، وهناك وجوه أخر أضعف مما ذكر فتصحيح عبادة المضطر مشكل بالنظر إلى القواعد. نعم لو قام إجماع على الصحة امكن ان يستكشف منه غلبة المصلحة على المفسدة فيكون وجود الفعل أرجح من عدمه ولا ينافي تحريمه على المختار لان المصلحة من قبيل المقتضي التخييري الذي يحصل بصرف وجود الطبيعة في أي فرد فرض والمفسدة من قبيل المقتضي التعييني لحصولها في كل فرد فرد فمع وجود المندوحة للمكلف لا يكون بين المقتضيين المذكورين تزاحم لكفاية الفرد غير المحرم في حصول المصلحة فيكون الفرد المشتمل على المفسدة وان كانت ضعيفة محرما ومع الاضطرار وعدم المندوحة يقع التزاحم فيكون التأثير للمصلحة لانها أقوى لكن ذلك يختص

٤٠٣

لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج على القول بكونه مامورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه أو مع غلبة ملاك الامر على النهي مع ضيق الوقت أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن الضد واقتضائه فان الصلاة في الدار المغصوبة وان كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة الا انه لا شبهة في ان الصلاة في غيرها تضادها بناء على أنه لا يبقى مجال مع إحداهما للاخرى مع كونها

______________________________

بحال الضيق إذ في حال السعة لا تزاحم بينهما (قوله: أو معه ولكنها) يعني أو مع سوء الاختيار (قوله: في حال الخروج) فتكون صلاته بالايماء للركوع والسجود ماشيا بلا جلوس ولا طمأنينة لمنافاتها للخروج (فان قلت): وجوب الخروج من باب المقدمة لا يقتضي وجوب مقارناته من الايماء والقراءة والذكر ونحوها لعدم كونها مقدمة للتخلص عن الغصب وحينئذ فحرمتها لانها غصب تمنع من صحة التقرب بها (قلت): ليست هي تصرفا زائدا على التصرف الخروجي إذ البدن في جميع الحالات المذكورة وغيرها لا يشغل إلا مقدارا معينا من الفضاء والخروج على حالة معينة لا مقتضي لوجوبه بل الواجب صرف الخروج على أي حال كانت (قوله: أو مع غلبة) الظاهر أنه معطوف على قوله: ولكنها، فيكون من جملة صور الاضطرار بسوء الاختيار وحينئذ يشكل القول بالصحة لان الاضطرار بسوء الاختيار يقتضي حرمة الفعل الماتي به وكونه معصية يستحق عليه العقاب فكيف يمكن التقرب به ؟ وغلبة ملاك الامر إنما تقتضي كونه واجبا عند التزاحم وقد عرفت انه لا مزاحمة بين الملاك التعييني والملاك التخييري فلا يجدي ضيق الوقت في كون الصلاة مأمورا بها كما لا تجدي مقدمية الخروج لواجب أهم في كونه مأمورا به إذا كان الاضطرار إليه بسوء الاختيار حسبما أوضحه سابقا، ومنه يظهر الاشكال فيما ذكره بقوله: اما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان... الخ فان مقتضى ما ذكرنا البطلان في السعة بطريق أولى - مضافا

٤٠٤

أهم منها لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة وان لم تكن مامورا بها

______________________________

إلى انه لو سلم أن غلبة ملاك الامر على ملاك النهي موجبة للامر بالصلاة في المغصوب في الضيق فلا نسلم انها موجبة له في السعة لعدم التزاحم بين الملاكين في السعة لما اشرنا إليه من أن المقتضي التعييني - ولو كان أضعف - لا يصلح لمزاحمته المقتضي التخييري - ولو كان أقوى - وأيضا فالمقام أجنبي عن اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده لان ذلك إنما يكون فيما لو كان واجبان متضادان يشتمل كل منهما على مصلحة تكون في أحدهما أهم وليس المقام كذلك إذ الصلاة في خارج المغصوب والصلاة في المغصوب فردان لواجب واحد بلا تضاد بينهما بل يقوم كل منهما بما يقوم به الآخر من المصلحة فالطلب المتعلق بهما بنحو طلب صرف الوجود لا بنحو طلب الطبيعة السارية كما في تلك المسألة ولو بني على إجراء حكم المتضادين عليهما - لو كان احدهما أهم - فكون الملاك في الصلاة في خارج المغصوب أهم من الملاك في الصلاة في المغصوب ممنوع ومجرد اشتمال الثانية على المنقصة لا يقتضي أهمية الملاك في الاولى لان أهمية الملاك عبارة أخرى عن قوته وتأكده والصلاة في جميع الامكنة لها مرتبة معينة من الملاك غاية الامر انها تنضم إليها في بعض الافراد منقصة وهي لا توجب نقصا في ملاك ذلك الفرد ليكون ملاك الفرد الآخر أهم وأأكد (قوله: أهم منها لخلوها) قد تقدم التأمل فيه (قوله: فالصلاة في الغصب اختيارا) المراد من الاختيار ما يقابل الاضطرار والوجه في الصحة حينئذ هو الوجه في الصحة في السعة اضطرارا من ابتناء البطلان على كون الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده لانه بعد البناء على غلبة ملاك الامر في الصلاة في المغصوب وسقوط النهي عن الغصب لا يكون الوجه للبطلان إلا النهي الملازم للامر بالصلاة في المكان المباح التي هي من قبيل الضد الاهم فمع البناء على عدم الاقتضاء تكون الصلاة صحيحة. نعم لا تكون مامورا

٤٠٥

(الامر الثاني) قد مر في بعض المقدمات أنه لا تعارض بين مثل الخطاب (صل) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان كي يقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا، بل إنما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين

______________________________

بها لامتناع الامر بالضدين ولو مع البناء على عدم اقتضاء أحدهما النهي عن الآخر (وفيه) - مضافا إلى ما عرفت من أن الغلبة إنما تقتضي سقوط النهي مع عدم المندوحة، عدم ثبوت غلبة ملاك الامر والاجماع على صحة صلاة المحبوس في المكان المغصوب لو اقتضى الغلبة امكن الاقتصار على مورده وعدم التعدي عنه إلى غيره والا جاز الغصب مقدمة لتحصيل الصلاة التامة ولا يظن الالتزام به من أحد بل عرفت حكاية الاجماع مستفيضا على بطلان الصلاة في المغصوب اختيارا مع العلم بالغصب فتأمل وللكلام مقام آخر

التنبيه الثاني

(قوله: لا تعارض بين مثل خطاب صل... الخ) ليعلم ان مقتضيات الاحكام (تارة) تكون غير متنافية مثل مقتضي حرمة شرب الخمر ومقتضي وجوب الصلاة (وأخرى) تكون متنافية، والمتنافية (تارة) تكون في موضوع واحد (وأخرى) تكون في موضوعين (والمتنافية) في موضوعين (تارة) يكون الموضوعان متميزين في الوجود كباب الضدين (وأخرى) لا يكونان كذلك كباب اجتماع الامر والنهي - بناء على الجواز - ثم ان المقتضيين المتنافيين في موضوع واحد إذا كان احدهما اقوى من الآخر كان التأثير له في تحقق ملاك الحكم دون الآخر - ونعني من الملاك بلوغ المقتضي حدا يوجب ترجح الوجود على العدم أو ترجح العدم على الوجود - وإذا كانا متكافئين في القوة والضعف سقطا معا عن التأثير في تحقق ملاكي الحكمين لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح والدليلان الدالان على الحكمين في كلتا الصورتين متعارضان للعلم بكذب أحدهما في الدلالة على ثبوت الحكم في مقام الجعل لان ثبوت الحكم الثبوتي في مقام الجعل

٤٠٦

تابع لترجح الوجود على العدم في نظر الجاعل وثبوت الحكم العدمي في مقام الجعل تابع لترجح العدم على الوجود في نظره ومن الواضح امتناع اجتماعهما فيمتنع جعل الحكمين معا على طبقهما، فإذا دل الدليلان على ثبوتهما معا فقد علم بكذب أحدهما، وهذا هو مناط التعارض (مثلا) شرب الخمر واجد لمصلحة ومفسدة لكن مفسدته اكبر من مصلحته كما ذكر في الكتاب الكريم: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما) واذ كانت مفسدته أقوى من مصلحته كان عدمه ارجح من وجوده وهذا هو ملاك الحرمة فكان المجعول هو حكم الحرمة لا غير إذ لا ملاك فيه الاملاك الحرمة فلو فرض قيام دليل على وجوب شرب الخمر كان - لا محالة - معارضا لدليل الحرمة لا مزاحما وعلى هذا فالفارق بين التزاحم والتعارض ليس مجرد إحراز المقتضي للحكمين اللذين يدل عليهما الدليلان وعدمه بل الفارق بينهما إحراز الملاك في كل من الحكمين وعدمه فإذا أحرز الملاكان كانا متزاحمين وإذا لم يحرز الملاكان كانا متعارضين وان احرز المقتضيان للحكمين. ومنه يظهر ان مناط التعارض هو التكاذب في مقام الحكاية عن ثبوت ملاكات الاحكام وان أحرزت المقتضيات وليس مناطه التكاذب في مقام الحكاية عن ثبوت مجرد المقتضيات من دون ان تبلغ حدود الملاكات كي يكون المورد الذي تحرز فيه المقتضيات من باب التزاحم لا التعارض. ومنه يظهر ان مورد اجتماع الامر والنهي - بناء على الامتناع - من موارد باب التعارض لا التزاحم لتكاذب الدليلين في مقام الحكاية عن وجود الملاكين في مجمع العنوانين وقد تقدم منا ان تضاد الاحكام إنما هو لتضاد ملاكاتها حقيقة ونسبة التضاد إليها انفسها بالعناية والمجاز أما التزاحم فمناطه التكاذب في مقام الدلالة على ما زاد على الملاك كما في باب الضدين وباب الاجتماع - بناء على الجواز - وكذا كل مورد كان المانع من ثبوت الحكمين معا قصور المكلف وعجزه بلا قصور في الملاك بل الملاك تام الملاكية. هذا هو المفهوم من كلمات الاصحاب في مقام التفرقة بين باب التعارض وباب التزاحم. ومنه يظهر ان ما ذكره المصنف (ره)

٤٠٧

من نفي التعارض بين مثل خطاب: صل، وخطاب: لا تغصب - بناء على الامتناع - جار على خلاف الاصطلاح في تمييز باب التعارض عن باب التزاحم لما عرفت من (أن) الخطابين المذكورين - بناء على الامتناع - يكونان متعارضين لتكاذبهما في مقام الدلالة على وجود ملاكي الحكمين فان الاول يدل على ترجح وجود الصلاة حتى لو كانت غصبا والثاني يدل على ترجح عدم الغصب ولو كان صلاة ولا بد من كذب أحدهما. نعم يصح نفي التعارض بينهما في مقام الحكاية عن اصل ثبوت المقتضيين اعني المصلحة الموجودة في الصلاة مطلقا والمفسدة الموجودة في الغصب كذلك إذ لا مانع من اجتماعهما في موضوع واحد بل الامر كذلك قطعا إذ لا ريب في ترتب المصلحة المقتضية لوجوب الصلاة على الصلاة الجامعة لجميع ما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط حتى قصد القربة وان انطبق عليها عنوان الغصب كما ان المفسدة المقتضية لحرمة الغصب مترتبة على الغصب الصلاتي كترتبها على الغصب غير الصلاتي وفي هذه المرتبة من الاقتضاء يقع التزاحم في مقام الجعل ويكون الحكم المجعول ما يطابق المقتضي الاقوى فان كانت مصلحة الصلاة اقوى من مفسدة الغصب كان وجود الصلاة راجحا على عدمها مطلقا وتم ملاك الوجوب مطلقا وكان هو المجعول لا محالة وسقطت مفسدة الغصب عن التأثير وان كان الامر بالعكس كان الحكم كذلك فلو فرض إحراز غلبة احد المقتضيين على الآخر فقد أحرز ان الحكم المجعول ما يطابقه كما هو شأن المتزاحمين ولا مجال للرجوع حينئذ إلى احكام التعارض من الاخذ بأقوى الدليلين دلالة أو سندا وان كان المقتضي في مورده أضعف، وإذا فرض احراز التكافؤ بين المقتضيين سقطا معا عن التأثير ولا مجال حينئذ للنظر في دليلهما. ومنه يظهر ان الدليلين في باب الاجتماع - بناء على الامتناع - وان كانا متعارضين بالنظر إلى الاصطلاح لتكاذبهما في مقام الدلالة على ثبوت الملاكين معا لكن المرجع فيهما قواعد التزاحم لا قواعد التعارض إذا أحرز وجود المقتضيين كما هو كذلك في الجملة ويتعين الاخذ بما يوافق المقتضي الغالب لو احرز ويسقطان معا لو احرز التكافؤ بين المقتضيين ولا

٤٠٨

فيقدم الغالب منهما وان كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل

______________________________

يلاحظ قوة الدلالة أو الطريق. ولعل المصنف إنما نفى التعارض بين الدليلين في المقام نظرا إلى هذه الجهة من عدم جريان احكام التعارض وتعين الاخذ باحكام التزاحم لفرض وجود المقتضين معا وان لم يبلغا حد الملاكية لا أنه يريد نفي التعارض الاصطلاحي لوضوح تكاذبهما في الدلالة على وجود الملاكين جميعا كما عرفت وما ذكرناه مطرد الجريان في جميع موارد التعارض بين الدليلين مع إحراز المقتضي في كل من موردهما، وأما احكام التعارض فتختص بالمتعارضين المتكاذبين في ثبوت الملاك إذا لم يحرز المقتضي فيهما، أما إذا أحرز المقتضي فالمرجع قواعد التزاحم لا غير (فان قلت): إذا كان المقام من قبيل التعارض امتنع إحراز المقتضي في الموردين لانه إذا خصص احد الدليلين بالآخر فمورد التخصيص لا يخرج من أحدهما ولا طريق إلى إحراز المقتضي في مورده لان الدلالة عليه انما كانت تبعا للدلالة على الحكم (قلت) يمكن إحراز المقتضي في الموردين وان سقطت حجية الدلالة على الحكم إذا ساعد ذلك الجمع العرفي فتكون الدلالة الالتزامية على ثبوت المقتضي حجة دون الدلالة المطابقية على الحكم كما ذكرنا ذلك في دليل نفي الحرج ونفي الضرر ونحوهما، والتفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية ثابت في الجملة كما اشرنا إليه آنفا، ومما ذكرنا يظهر ان التعبير بالملاك بدلا عن التعبير بالمقتضي في بعض المقامات مبني على المسامحة بعناية كون المقتضي للحكم ملاكا له لولا المزاحمة. هذا وحيث عرفت وجود المقتضي في مجمع العنوانين يتضح وجه الحكم بصحة الصلاة في المكان المغصوب مع العذر من غفلة أو نسيان - بناء على الامتناع وترجيح جانب الحرمة - لما عرفت من إحراز المقتضي في الصلاة وحصول التقرب بلا نقص عن غيرها من أفراد الصلاة، والمانع من الصحة في حال الالتفات وعدم العذر ليس الا فوات جهة المقربية وهذا المانع مفقود في حال العذر ومنه يظهر الوجه في تسالم الاصحاب رضوان الله عليهم - على صحة الصلاة حينئذ سواء في ذلك القائلون بالجواز والقائلون بالامتناع فلاحظ وتأمل (قوله: الغالب) يعني الاقوى اقتضاء (قوله: أقوى)

٤٠٩

مقتضاه هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما وإلا كان بين الخطابين تعارض فيقدم الاقوى منهما دلالة أو سندا وبطريق الان يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا. هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي وإلا فلابد من الاخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الاصول العملية. ثم لا يخفى أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها لاضطرار أو جهل أو نسيان

______________________________

يعني دلالة أو سندا (قوله: مقتضاه) يعني مقتضى الغالب (قوله: تعارض) للعلم الاجمالي بكذب أحدهما في دلالته على فعلية مؤداه فيكون التنافي في نفس الدلالة ومقام الاثبات على ما يأتي في مبحث التعارض تحقيقه انشاء الله تعالى (قوله: وبطريق الان يحرز) ليس المراد كون قوة الدليل معلولة لقوة المدلول أو هما معا معلولان لعلة ثالثة كما هو المصطلح في الطريق الاني لعدم اللزوم بينهما ولا كون الامر بالعمل بالاقوى حاكيا عن شدة الاهتمام بمدلوله وعدم الاهتمام بمدلول الاضعف إذ قد يكون الامر بالعمل بالاقوى ناشئا عن مصلحة اجنبية عن الواقع كما يشهد به لزوم الاخذ بالاقوى وان لم يكن مدلوله اقتضائيا كما لو كان دالا على الاباحة، بل كان المراد أن الاقوى لما كان دالا على فعلية مؤداه مطابقة فقد دل على اقوائية ملاكه التزاما كما أن الاضعف كذلك فإذا دل دليل الترجيح على حجية الاقوى وعدم حجية الاضعف فقد دل على ثبوت مدلولي الاقوى المطابقي والالتزامي معا فتثبت اقوائية ملاكه ظاهرا (قوله: وإلا فلا محيص) يعني حيث لم يكن أحدهما دالا على الحكم الفعلي يكون المرجع الاصل العملي الذي يرجع إليه إذ لا دليل على حكم الواقعة (قوله: رأسا) يعني فعلية واقتضاء (قوله: فيما كان) يعني فيكون الخروج عن مجرد

٤١٠

كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا فانقدح بذلك فساد الاشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما فيما إذا قدم خطاب (لا تغصب) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان من أول الامر متعارضين ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض ولم يكونا متكفلين للحكم الفعلي فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا المختص بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع المقتضى لصحة مورد الاجتماع مع الامر أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له أو عن فعليته كما مر تفصيله (وكيف كان) فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها " منها " أنه أقوى دلالة لاستلزامه انتفاء جميع الافراد بخلاف الامر وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة اطلاق متعلقه بقرينة الحكمة كدلالة الامر على الاجتزاء بأي فرد كان، وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالاطلاق بمقدمات الحكمة وغير مستند إلى دلالته عليه بالاستلزام لكان استعمال مثل (لا تغصب)

______________________________

*

الفعلية لا الاقتضاء (قوله: كان المقتضي لصحة) قد تقدم الكلام في وجه الصحة في الموارد المذكورة (قوله: كما هو الحال) تمثيل للاشكال إذ مع التعارض لا يحرز المقتضي ليمكن تصحيح العبادة (قوله: ولم يكونا) بيان بعدم التعارض كما تقدم (قوله: المختص بما) بيان لجهة الاتحاد في الموازنة (قوله: مع الامر أو بدونه) فالاول كما في الاضطرار الرافع لاصل النهي فيثبت الامر والثاني كما في الجهل والنسيان الرافعين لفعلية النهي لا غير فلا يثبت الامر لئلا يلزم اجتماع الحكمين (قوله: للنهي له) له متعلق بتأثير والضمير للنهي (قوله: كدلالة الامر) وحينئذ فيستويان في قوة الدلالة وضعفها

٤١١

في بعض افراد الغصب حقيقة. وهذا واضح الفساد فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الافراد ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه (قلت): دلالتهما على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منها كذلك إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما فيختلف سعة وضيقا فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الافراد الا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص الا بالاطلاق وقرينة الحكمة بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الاطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق إذ الفرض عدم الدلالة على انه المقيد أو المطلق اللهم إلا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق كما ربما يدعى ذلك في مثل: " كل رجل " وأن مثل لفظة (كل) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة اطلاق مدخوله وقرينة الحكمة بل يكفي ارادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة (ولا بشرط) في دلالته على الاستيعاب وان كان لا يلزم مجاز أصلا لو أريد منه خاص بالقرينة

______________________________

(قوله: دلالتهما) يعني النفي والنهي (قوله: مما لا ينكر) هذا على ظاهره لا يخلو من تأمل فان أداتي النفي والنهي انما تدلان على النسبة السلبية وعموم النسبة وخصوصها تابع لعموم المنتسبين وخصوصهما فاستفادة العموم لابد أن يكون باجراء مقدمات الحكمة في المتعلق حسبما ذكر (قوله: عدم دلالته) الظاهر ان أصل العبارة: عدم دلالة (قوله: وذلك لا ينافي) يعني الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في استفادة الاطلاق لا ينافي دلالة النفي والنهي على العموم والاستيعاب إذ الاستيعاب امر اضافي يختلف باختلاف موضوعه فتعيينه يجوز ان

٤١٢

(لا فيه) لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول (ولا فيه) إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول لعدم استعماله الا فيما وضع له والخصوصية مستفادة من دال آخر فتدبر " ومنها " أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. وقد أورد عليه في القوانين بأنه - مطلقا - ممنوع لان في ترك الواجب ايضا مفسدة إذا تعين، ولا يخفى ما فيه فان الواجب ولو كان معينا ليس إلا لاجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة كما أن الحرام ليس إلا لاجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه ولكن يرد عليه أن الاولوية - مطلقا - ممنوعة

______________________________

يستند إلى قرينة الحكمة " أقول ": لازم دلالة النفي والنهي على العموم كون موضوعه مهملا صالحا للعموم والخصوص لا مطلقا نعم لا بد أن يكون له نحو من التعين مثل كونه رجلا أو امرأة أو انسانا أو حيوانا أو غير ذلك، وهذا التعين قد يكون بلفظه وقد يكون بغيره من صفة أو صلة أو اضافة أو قرينة خارجية وكل ذلك اجنبي عن حيثية عمومه وخصوصه بل لا بد أن يكون صالحا لكل منهما كي يستفاد العموم من النفي أو النهي، ولو كان العموم مستفادا من المقدمات امتنع افادتهما العموم للزوم اجتماع المثلين، فالتحقيق ما عرفت من أن العموم انما يستفاد من مقدمات الحكمة في المدخول لا غير على العكس في مدخول (كل) فان العموم انما يستفاد منها لا غير (قوله: لا فيه) الضمير راجع إلى لفظ (كل) والضمير في قوله: ولا فيه، راجع إلى المدخول (قوله: فتدبر) يمكن ان يكون اشارة إلى ما ذكرنا في النفي والنهي أو إلى احتمال الحاق (كل) بهما (قوله: ليس إلا لاجل أن) لان الوجوب والتحريم المتعلقان بشئ واحد يحكيان عن الارادة والكراهة، والارادة انما تكون لاجل المصلحة، والكراهة انما تكون لاجل المفسدة، فاجتماع الواجب والحرام في واحد يقتضي اجتماع المصلحة والمفسدة فيه فيكون في فعله مفسدة وفي تركه ترك المصلحة (قوله: مطلقا ممنوعة) بل تختلف باختلاف مراتبها، فرب مصلحة قوية ارجح من مفسدة ضعيفة، ولذا

٤١٣

بل ربما يكون العكس أولى كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها ولو سلم فهو أجنبي(١) عن المقام فانه فيما إذا دار بين الواجب والحرام، ولو سلم فانما يجدي فيما

______________________________

ترى بعض العقلاء يقدمون على بعض الاضرار لاجل ما يترتب عليها من المنافع، (قوله: بل ربما يكون العكس أولى كما يشهد به) كما لو توقف انقاذ الغريق أو اطفاء الحريق أو حفظ بيضة الدين على التصرف في مال الغير بغير اذنه فانه لا اشكال في وجوبه كما عرفت سابقا (قوله: فهو أجنبي عن المقام) قال في حاشيته على المقام: فان الترجيح به انما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام وهو مقام جعل الاحكام فان المرجح هناك ليس إلا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة الاغراض ومخالفتها تأمل تعرف. انتهى، (أقول): الحسن والقبح تابعان للمصلحة والمفسدة فإذا كان دفع المفسدة أولى في نظر العقل من جلب المصلحة كان دفع القبيح أولى من فعل الحسن وتسليم ذلك بالنظر إلى الفاعل يقتضي تسليمه بالنظر إلى الآمر بنحو واحد، مع أن ترجيح الفاعل ترك الواجب على فعل الحرام حيث يدور الامر بينهما تابع لترجيح الشارع والا فلا وجه له إذ لو فرض ترجيح الشارع للوجوب على التحريم حرم عقلا ترجيح ترك الواجب قطعا، ولو بني على تساويهما في نظر الشارع فلا وجه لترجيح ترك الواجب على فعل الحرام عقلا إلا أن يكون المقصود ترجيح ترك الواجب على فعل الحرام في نظر الفاعل بدواع غير عقلية وان كانا متساويين في نظر العقل كما في جميع موارد التخيير العقلي لكن ذلك - مع أنه ليس بنحو القاعدة

______________

(١) فان الترجيح به انما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك بما هو أوفق بغرضه لا المقام وهو جعل الاحكام فان المرجح هناك ليس الا حسنها وقبحها العقليان لا موافقة الاغراض ومخالفتها كما لا يخفى تأمل تعرف. (منه قدس سره) (*)

٤١٤

لو حصل القطع، ولو سلم انه يجدي ولو لم يحصل فانما يجدي فيما لا يكون هناك مجال لاصالة البراءة أو الاشتغال كما في دوران الامر بين الوجوب والحرمة التعينيين لا فيما يجري كما في محل الاجتماع لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء والشرائط فانه لا مانع عقلا الا فعلية الحرمة المرفوعة

______________________________

الكلية مما لا يدعيه القائل بالترجيح فلاحظ (قوله: لو حصل القطع) وإلا كانت الاولوية ظنية لا يعتمد عليها في الترجيح لكن ظاهر المدعى كونها ظنية، (قوله: ولو سلم انه) يعني الظن بالاولوية (قوله: والحرمة التعينيين) فانه لا مجال للبراءة فيه للعلم بالتكليف، ولا للاشتغال لتعذر المخالفة القطعية والموافقة كذلك فلا أثر للاشتغال العقلي بل يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك لعدم المرجح لاحدهما على الآخر فإذا كان أحدهما محتمل الاهمية والاولوية أمكن الحكم بترجحه عقلا (قوله: كما في محل الاجتماع) الفرق بينه وبين مورد الدوران بين الوجوب والحرمة أنه في ذلك المورد يعلم بثبوت أحد الحكمين واقعا والشك في الثابت منهما، وفى المقام لا يعلم بذلك بل يحتمل أن يكون أحدهما أقوى مقتضيا فيثبت وان يكونا متساويين فيسقطان معا لعدم المرجح فحيث لم يعلم الالزام كان احتمال ثبوت الحرمة لغلبة مقتضيها مجرى لاصالة البراءة فمجرد الظن بالاولوية، والغلبة هنا لا يعول عليه عند العقل كما في سائر موارد الشك في التكليف ويمكن أن يعول عليها هناك لانه أقرب إلى موافقة التكليف المعلوم (قوله: ولو قيل بقاعدة الاشتغال) يعني يفترق المقام عن مورد الشك في الجزئية والشرطية بأن إجراء البراءة لنفي الجرئية أو الشرطية لا يوجب الجزم بالصحة بل يحتمل معه بطلان العمل المأتي به واقعا على تقدير الجزئية أو الشرطية واقعا فيمكن القول بوجوب الاحتياط فيه للشك في سقوط التكليف فيه الناشئ من الشك في الاتيان بموضوعه وإجراء البراءة عن الحرمة في المقام يوجب العلم بصحة المجمع فيعلم بسقوط وجوبه لان المانع من صحة المجمع هو الحرمة الفعلية الموجبة لصدق عنوان

٤١٥

عقلا ونقلا باصالة البراءة عنها (نعم) لو قيل(١) بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة بمحرزة فاصالة البراءة غير جارية بل كانت اصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ولو قيل باصالة البراءة في الاجزاء والشرائط لعدم تأتي قصد القربة

______________________________

المعصية على فعل المجمع فلا يمكن التقرب المعتبر في العبادة فإذا جرى أصل البراءة لنفي الحرمة أمكن التقرب بالمجمع لعدم كونه معصية واقعا (قوله: في المبغوضية) يعني الفعلية المانعة من إمكان التقرب (قوله: غير جارية) لان مجراها عدم البيان على التكليف وهو غير محرز إذ على هذا المبنى يكون العلم بالمفسدة بيانا على الحرمة على تقدير غلبة المفسدة فمع احتمال الغلبة يحتمل ثبوت البيان على الحرمة ولا يحرز عدم البيان، وإن شئت قلت: الحرمة المشكوكة على تقدير ثبوتها مما قام عليها البيان وهو العلم بالمفسدة فلا تجري البراءة لنفيها لعدم إحراز موضوعها (قوله: لعدم تأتي) وحينئذ يعلم ببقاء التكليف، ومنه يظهر أنه لا مجال

______________

(١) كما هو غير بعيد كله بتقريب ان احراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتية كاف في تأثيرها بما لها من المرتبة ولا يتوقف تأثيرها كذلك على احرازها بمرتبتها ولذا كان العلم بمجرد حرمة شئ موجبا لتنجز حرمته على ما هي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها ولاستحقاق العقوبة الشديدة على مخالفتها حسب شدتها كما لا يخفى. هذا لكنه انما يكون إذا لم يحرز ايضا ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضية وأما معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز انه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا يستقل العقل بحسنه أو قبحه وحينئذ يمكن أن يقال بصحته عبادة لو اتى به بداعي الامر المتعلق بما عليه من الطبيعة بناء على عدم اعتبار ازيد من اتيان العمل قربيا في العبادة وامتثالا للامر بالطبيعة وعدم اعتبار كونه ذاتا راجحا كيف ويمكن أن لا يكون جل العبادات ذاتا راجحا بل انما يكون كذلك فيما إذا أتي بها على نحو قربي. نعم المعتبر في صحة العبادة انما هو أن لا يقع منه مبغوضا عليه كما لا يخفى. وقولنا: فتأمل، اشارة إلى ذلك. " منه قدس سره " (*)

٤١٦

مع الشك في المبغوضية فتأمل " ومنها " الاستقراء فانه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الاناءين المشتبهين (وفيه) أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء

______________________________

أيضا لاصالة الاشتغال لان مجراها الشك في سقوط التكليف ولا شك في المقام، (قوله: مع الشك في المبغوضية) يعني الفعلية المنجزة الموجب لذلك الشك لصدق عنوان التجري المضاد للتقرب (قوله: فتأمل) اشارة إلى أن هذا القول وان كان في نفسه غير بعيد كما يشهد به أن العلم بالحرمة يوجب تنجزها بمالها من المرتبة الشديدة فيستحق العقاب على مرتبتها الشديدة وإن لم يعلم بمرتبتها الشديدة لكنه لا ينفع مع إحراز المصلحة المحتمل مزاحمتها للمفسدة وغلبتها عليها إذ حينئذ يكون الفعل كما إذا لم يحرز أنه ذو مصحلة أو مفسدة فلا يستقل العقل بحسنه أو قبحه ولا مانع من التقرب به. هذا محصل ما ذكره في حاشيته على المقام " أقول ": يشكل ما ذكر (أولا) بأن العلم بالمفسدة لا يصلح للمنجزية حتى مع العلم بكونها غالبة وانما المنجز هو العلم بالحرمة فمع عدمه - كما هو المفروض - لا مانع من تأتي التقرب لاصالة البراءة، ومنه يظهر عدم وضوح قياس العلم بالمفسدة على العلم بالحرمة (وثانيا) بمنع الحكم في المقيس عليه لما عرفت من أن اختلاف مراتب العقاب تابع لاختلاف مراتب التجري لا اختلاف مراتب الحكم الناشئ من اختلاف مراتب المصلحة أو المفسدة لعدم دخلهما في العقاب بوجه فما لم يعلم المرتبة الشديدة من الحكم لا تحسن شدة العقاب وما ورد في بيان عقاب بعض المحرمات مما يدل على شدة عقابه ولو لم يعلم بمرتبته الخاصة لا ينافي ذلك لامكان كون شدته بالاضافة إلى غيره وان كان دون الاستحقاق (وثالثا) بأن ما ذكره ردا على القول المذكور خلاف المفروض إذ المفروض احتمال أولوية المفسدة من حيث كونها مفسدة في قبال المصلحة فلا مجال لاحتمال غلبة المصلحة على المفسدة كما لعله ظاهر بالتأمل فتأمل جيدا والله سبحانه أعلم (قوله: في أيام الاستظهار) وهي الايام التي يرى فيها الدم بعد أيام العادة، ومثلها أول

٤١٧

ما لم يفد القطع ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الايام ولا عدم جريان الوضوء منهما مربوطا بالمقام لان حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الامكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا فيحكم بجميع أحكامه ومنها حرمه الصلاه عليها لا لاجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى. هذا لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض وإلا فهو خارج عن محل الكلام. ومن هنا انقدح انه ليس منه ترك الوضوء من الاناءين فان حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا ولا تشريع فيما لو توضأ منهما احتياطا فلا حرمة في البين غلب جانبها فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك بل اراقتهما

______________________________

رؤية الدم في أيام العادة أو مطلقا (قوله: ما لم يفد القطع) يعني القطع بأن وجه الحكم في الموارد المتفرقة هو الجهة المشتركة ليعلم بثبوت الحكم في المورد الذي يقصد اثبات الحكم فيه بالاستقراء (قوله: ولو سلم) يعني عدم اعتبار افادة القطع فلا يتم الاستقراء إلا بتتبع موارد كثيرة توجب الظن ولا يحصل الظن بهذا المقدار (قوله: لقاعدة الامكان و) بل الظاهر أنه للنصوص الخاصة الموافقة للقاعدة وللاستصحاب لا لهما وإلا كان اللازم الرجوع إلى ما دل من النصوص على لزوم الاخذ بايام العادة لا غير لحكومتها عليهما. ثم إن مفاد اكثر النصوص الاول ما بين أمر بالاستظهار وأمر بالكف عن العبادة وأمر بالاحتياط ونحو ذلك وليس فيها تعرض لكون الدم حيضا فتأمل وراجع (قوله: وإلا فهو خارج) يعني وان كانت الحرمة تشريعية كما لعله المشهور كان أجنبيا عن المقام لان موضوع الحرمة التشريعية هو التشريع وهو لا يحصل بمجرد الفعل بل لابد من الاتيان به بعنوان كونه عبادة وحينئذ يكون مخالفة قطعية بلا موافقة ولو احتمالية وان لم يؤت بالفعل الا برجاء الواقع كان احتياطا بلا مخالفة ولو احتمالية وكيف كان فلا دوران بين موافقة الوجوب أو التحريم ولا تقديم لاحدهما على الآخر كما هو محل الكلام (قوله: الا تشريعيا) حيث

٤١٨

كما في النص ليس إلا من باب التعبد أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب للقطع بحصول النجاسة حال ملاقات المتوضئ من الاناء الثانية إما بملاقاتها أو بملاقات الاولى وعدم استعمال مطهر بعده ولو طهر بالثانية مواضع الملاقات بالاولى (نعم) لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدد أو انفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها وان علم بنجاستها حين ملاقات الاولى أو الثانية إجمالا فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة (الامر الثالث) انه باطل لانتفاء شرطه وهو طهارة الماء فقصد التعبد به يكون تشريعا (قوله: كما في النص) وهو حديث عمار عن الصادق (عليه السلام): سئل عن رجل معه اناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما ؟ قال عليه السلام: يهريقهما جميعا ويتيمم، ونحوه حديث سماعة ثم إن ظاهر النص عدم صحة الوضوء بهما والامر بالاراقة إرشاد إلى عدم صلاحيتهما للانتفاع بهما نظير ما ورد في الدهن المتنجس من قوله عليه السلام: ألقه وما حوله (قوله: للقطع بحصول) يعني إذا توضأ بالاول ثم طهر أعضاء وضوئه بالاناء الثاني ثم توضأ به يعلم بنجاسة الاعضاء حال ملاقاتها للاناء الثاني بقصد التطهير قبل تحقق شرائط التطهير من التعدد والانفصال ووجه العلم بنجاستها في تلك الحال أنه إن كان الاناء الاول هو النجس فالاعضاء نجسة بملاقاته فإذا علم بنجاسة الاعضاء في أول ازمنة ملاقاتها للاناء الثاني وجب استصحابها بعد ذلك للشك في ارتفاعها فيلزم من الوضوء بكل منهما على النحو المذكور نجاسة الاعضاء ظاهرا المانعة من صحة الصلاة فيكون ذلك هو الوجه في الامر باراقتهما معا والتيمم (أقول): يمكن إحراز الصلاة بالطهارة من الحدث والخبث بتكرار الصلاة بأن يصلي بعد الوضوء بالاول ثم يصلي بعد التطهير بالثاني والوضوء به فتأمل (قوله: من الاناء) متعلق بملاقاة (قوله: عدم استعمال) يعني وعدم العلم باستعمال... الخ (قوله: بلا حاجة) كما لو كان كل منهما كرا ولكن كان أحدهما نجسا (قوله: فلا مجال لاستصحابها)

٤١٩

الظاهر لحوق تعدد الاضافات بتعدد العنوانات والجهات في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع كان تعدد الاضافات مجديا ضرورة أنه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا وبحسب الوجوب والحرمة شرعا فيكون مثل: (أكرم العلماء) و

______________________________

إما لمعارضته باستصحاب الطهارة أو لعدم جريانه بذاته - كما هو المختار للمصنف (ره) على ما يأتي بيانه في محله انشاء الله - ومثله ما لو علم بالطهارة والحدث ولم يعلم المتقدم منهما والمتأخر، والفارق بين هذا الفرض وما قبله هو العلم بتاريخ النجاسة فيما قبله المصحح لاستصحابها، ولو بني على تعارض الاستصحابين فيما لو علم تاريخ احد الحادثين وجهل تاريخ الآخر تعارض في الفرض الاول استصحاب النجاسة واستصحاب الطهارة فيرجع إلى قاعدة الطهارة أيضا كالثاني هذا ولا يخفى أن الترجيح بما ذكر أو بغيره يختص بما إذا كان كل من مقتضي الامر والنهي تعيينيا أما لو كان مقتضي أحدهما تعيينيا ومقتضي الآخر تخييريا فقد عرفت أنه لا مجال فيه للترجيح بوجه فان الاول هو المؤثر ولا يصلح الثاني لمزاحمته

التنبيه الثالث

(قوله: كان تعدد الاضافات مجديا) يمكن منع ذلك بان الاضافات اعتبارات انتزاعية يمتنع ان تكون موضوعا للمصلحة أو المفسدة الموجبتين للحسن والقبح أو مقوما لموضوعهما نعم لا مانع من ان تكون الاضافة محددة لموضوع المصلحة أو المفسدة لكن يمتنع أن يكون الشئ الواحد مقتضيا للمصلحة المفسدة معا ولو باضافتين كما يمتنع أن يقتضيهما شئ واحد بلا تعدد في الاضافة. نعم يمكن تعدد العناوين بتعدد الاضافات كما في عنواني الموافقة والمخالفة فمع اختلاف موضوع الامر والنهي بمحض الاضافة لا بد من الالتزام بكون المحدود بهما موضوعا لعنوانين مختلفين أحدهما ذو مصلحة والآخر ذو مفسدة ولعل هذا هو مراد المصنف (ره) (قوله: مثل أكرم العلماء) فان موضوع الامر والنهي

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه.

وقد فسّر البعض «التسبيح» هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين ، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض ، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة.

لقد سبق تسبيحهم (الاعتراف بالذنب) ، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيدا عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم ، وكأنّ لسان حالهم يقول : ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين ، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب ، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة.

كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضا ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم ، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونسعليه‌السلام عند ما أصبح في بطن الحوت ، وذلك قوله :( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (١) .

والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى ، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية.

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ ، حيث يقول تعالى :( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) .

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه ، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر ، ويوبّخه بشدّة ، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة ، وكلّ منهم ـ أيضا ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريبا عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ.

نعم ، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عند ما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي.

ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم ، ويسعى جاهدا

__________________

(١) الأنبياء ، الآية ٨٧.

٥٤١

لتحويل مسئولية البؤس والدمار على الآخرين.

ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل ، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسئولية ما حصل ، وذلك كأن يقترح شخص شيئا ، ويؤيّده الآخر في هذا الاقتراح ، ويتبنّى ثالث هذا العمل ، ويظهر الرابع رضاه بسكوته ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب.

ثمّ يضيف تعالى :( قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ ) .

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم ، وهنا اعترفوا بالطغيان ، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم ، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلّا أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم ، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته.

ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو : (ظلم النفس) ، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين).

وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عند ما يواجهون مكروها ويعبّرون عن انزعاجهم منه ، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحيانا ، وأحيانا اخرى (ويل) وعادة يكون استعمال الكلمة الاولى في المصيبة البسيطة ، والثانية للأشدّ ، والثالثة للمصيبة الكبيرة ، واستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ.

وأخيرا ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل واعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى البارئعزوجل داعين ، وقالوا :( عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ ) (١) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انفاذنا ممّا

__________________

(١) «راغبون» : من مادّة (رغبة) ، هذه المادّة كلّما كانت متعدية بـ (إلى) أو (في) تكون بمعنى الميل إلى شيء معيّن ، وكلّما

٥٤٢

تورّطنا فيه

والسؤال المطروح هنا : هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه ، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية ، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة ، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب ، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلّا ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقا من ممارسات مريضة؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل ، بلحاظ عدم اكتمال شروطها وشرائطها ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم ، لأنّها كانت عن نيّة خالصة ، وعوضهم عن جنّتهم بأخرى أفضل منها ، مليئة بأشجار العنب المثمرة.

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات ، بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والإعتبار به :( كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين ، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية ، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة ، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة ، وما إلى ذلك ، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها.

* * *

__________________

كانت متعدّية بـ (عن) تكون بمعنى الانصراف وعدم الاعتناء بشيء معيّن.

٥٤٣

بحثان

١ ـ الاستئثار بالنعم بلاء عظيم

جبل الإنسان وطبع على حبّ المال ، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه ، لأنّ له فوائد شتّى ، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الاعتدال ، وجعل نصيب منه للمحتاجين ، وهذا لا يعني الاقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط ، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة.

وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة :( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) (١) ، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة ، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(٢) .

إلّا أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفا وأنانيا ، وقد لا يكون بحاجة إليه ، فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه ، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة.

وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها ، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية ، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين ، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٤١.

(٢) يمكن مطالعة الروايات التي جاءت في هذا المجال في ج ٦ ، من (وسائل الشيعة) أبواب زكاة الغلات ، باب ١٣ ، وفي (سنن البيهقي) ج ٤ ، ص ١٣٣.

٥٤٤

وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة ، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال ، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجات وثورات ، ويشاهدون آثارها المدمّرة بامّ أعينهم ، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء ، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الاستئثارية ، ولات ساعة متاب.

٢ ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب)

ممّا يستفاد ـ ضمنا ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق ، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الرجل ليذنب الذنب ، فيدرأ عنه الرزق ، وتلا هذه الآية :( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ ، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ ) (١) .

ونقل عن ابن عبّاس أيضا أنّه قال : إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق ، أوضح من الشمس ، كما بيّنها اللهعزوجل في سورة ن والقلم(٢) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، (حديث ٤٤).

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٣٧.

٥٤٥

الآيات

( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) )

التّفسير

١ ـ استجواب كامل :

إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق ، واستخلاص المواقف ، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة ، وهذا الأسلوب مؤثّر جدّا من الناحية التربوية فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين ، ويجعل كلا منهما في ميزان ، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية

٥٤٦

مقارنة ، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشيا مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة ، يستعرض البارئعزوجل حالة المتّقين فيقول :( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) .

«جنّات» من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك ، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسما من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا ، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الادّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول :( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم ، المطيع والمجرم ، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عند ما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم.

وتستعرض الآية (٥٠) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم ، حيث يقول تعالى :( وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي ، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) .

نعم ، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها.

ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون ، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون :( أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ ) (١) أي ما اخترتم من الرأي

إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين

__________________

(١) جملة (إنّ لكم ..) مفعول به لـ (تدرسون) وطبقا للقواعد فإنّها يجب أن تقرأ (أن) بـ (فتح الهمزة). إلّا أنّ مجيء اللام على رأس اسم (أن) جعلها تقرأ (إن) بـ (كسر الهمزة) وذلك لأنّ الفعل يصبح معلّقا عن العمل.

٥٤٧

وعلى مستواهم ، حديث هراء لا يدعمه العقل ، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل ، فهل أخذتم عهدا من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد :( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ ) .

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الادّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهدا من الله سبحانه في الاستجابة لميوله وأهوائه ، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام ، وبدون موازين أو ضوابط ، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الاستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(١) .

ويضيف سبحانه ـ استمرارا لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات ، فيقول :( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء ، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!.

وفي آخر مرحلة من هذا الاستجواب العجيب يقول تعالى :( أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) .

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة ، والتي لا قيمة لها ولا شعور ، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء).

ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول : إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات ادّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة ، بل أفضليتهم أحيانا كما يذهب بعضهم لذلك ، لا بدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة

__________________

(١) فسّر البعض مصطلح (بالغة) هنا بمعنى (مؤكّد) ، وفسّرها البعض الآخر بأنّها (مستمر) والمعنى الثاني أنسب ، وبناء على هذا فإنّ (الجارّ والمجرور) في (إلى يوم القيامة) تكون متعلّقة بـ (بالغة).

٥٤٨

التالية : إمّا دليل من العقل ، أو كتاب من الكتب السماوية ، أو عهد من الله تعالى ، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي ، لذا فإنّ هذا الادّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة.

* * *

٥٤٩

الآيات

( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) )

التّفسير

العجز عن السجود :

تعقيبا للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجوابا موضوعيا ، تكشف لنا هذه الآيات جانبا من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها ، والمكثرة للادّعاءات ، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان.

يقول تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) (١) .

__________________

(١) «يوم» ظرف متعلّق بمحذوف تقديره : (اذكروا يوم ...) ، واحتمل البعض ـ أيضا ـ أنّه متعلّق بـ (فليأتوا) في الآية

٥٥٠

جملة( يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ) كما قال جمع من المفسّرين ، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال ، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمرا صعبا أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم.

ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عند ما سئل عن تفسير هذه الآية قال : كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق.

إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب.

وقيل : إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء ، كساق الشجرة ، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر.

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للبارئعزوجل ، فيسجد المؤمنون ، ويعجز المجرمون عن السجود ، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا ، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة.

وهنا يثار سؤال : إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال ، فلم السجود؟

يمكن استنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث ، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال : «حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود»(١) .

__________________

السابقة ، إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد.

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩٥ ، ح ٤٩.

٥٥١

وبتعبير آخر : في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية ، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون ، إلّا أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه :( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عند ما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم ، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم ، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيرا عن هذه الحالة المهينة.

ثمّ يضيف تعالى :( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ ) .

إلّا أنّهم لن يسجدوا أبدا ، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة ، فتارة بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة ، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم.

ثمّ يوجّه البارئعزوجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول :( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ) .

وهذه اللهجة تمثّل تهديدا شديدا من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ، حيث يخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تتدخّل ، واتركني مع هؤلاء ، لاعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، ـ بالضمن ـ باعث على اطمئنان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين أيضا ، ومشعرا لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام

__________________

(١) «ترهقهم» من مادّة (رهق) ، (على وزن شفق) بمعنى التغطية والإحاطة.

٥٥٢

الرّسول والرسالة ، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم.

ثمّ يضيف سبحانه :( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .

نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ، فهو الاستدراج»(١) .

والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحيانا ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ، وتستولي عليهم الغفلة إلّا أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألما.

إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ، ويستيقظوا من غفلتهم ، ويتوبوا من ذنوبهم ، وهذا من ألطاف البارئعزوجل بهم.

وبعبارة اخرى : إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية :

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو : (عذاب الاستدراج) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٤٠.

٥٥٣

أعلاه وبتعابير اخرى.

لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظا عند إقبال النعم الإلهية عليه ، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الاستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ، ويعيدون تقييم أعمالهم دائما ، كي يكونوا قريبين من طاعة الله ، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم.

جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قال : إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولدا فرزقني ، وسألته أن يرزقني دارا فرزقني ، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا؟ فقال : «أمّا مع الحمد فلا»(١) .

والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبدا بجزاء الظالمين ، والاستعجال يكون عادة من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه ، إلّا أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك ، والزمن كلّه تحت تصرّفه.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبدا ، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي نقلا عن نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٩.

(٢) سبق كلام حول عقوبة (الاستدراج) في الآية (١٨٣) من سورة الأعراف ، وكذلك في الآية (١٧٨) سورة آل عمران.

٥٥٤

الآيات

( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) )

التّفسير

لا تستعجل بعذابهم :

استمرارا للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين ، يضيف البارئعزوجل سؤالين آخرين ، حيث يقول في البداية :( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) .

أي إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجرا ماديا كبيرا ، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به ، فإنّه كذب ، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر ، كما لم يطلب أي من رسل الله أجرا.

٥٥٥

«مغرم» من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية ، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل ، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اخرى ممّا يتذرّع به المعاندون.

وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّا) في سورة الطور (آية ٤٠ ـ ٤١).

ثمّ يضيف واستمرارا للحوار بقوله تعالى :( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) .

حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم ارتباطا بالله سبحانه عن طريق الكهنة ، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها ، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين ، أو على الأقل يتساوون معهم.

ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الادّعاء أيضا ، إضافة إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الاستفهام الإنكاري) ، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ) ، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر ، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبدا أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم.

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم ، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئا من آلام رسوله الكريم ، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى :( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) .

أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر ، ويكسر شوكة أعدائك ، فلا تستعجل بعذابهم أبدا ، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم ، وما المهلة المعطاة لهم إلّا نوع من عذاب الاستدراج.

وبناء على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول انتصار المسلمين.

وقيل أنّ المقصود منها هو : أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى.

كما يوجد احتمال آخر أيضا وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء

٥٥٦

فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر ، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

ثمّ يضيف تعالى :( وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) :

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وبذلك فقد اعترف النبي يونسعليه‌السلام بترك الأولى ، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلّا أنّ المفسّرين اختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ «نادى» في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء ، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عند ما كانعليه‌السلام في بطن الحوت.

«مكظوم» من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم ، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها ، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على انفعالاتهم ويكظمون غيظهم بأنّهم : كاظمون ، والمفرد : كاظم ، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضا بمعنى (الحبس).

وبناء على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه : المملوء غضبا وحزنا ، أو المحبوس في بطن الحوت ، والمعنى الأوّل أنسب ، كما ذكرنا.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة :( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ) (٣) .

من المعلوم أنّ يونسعليه‌السلام خرج من بطن الحوت ، والقي في صحراء يابسة ،

__________________

(١) في هذه الصورة ستكون اللام في (لحكم ربّك) هي لام التعليل.

(٢) الأنبياء ، الآية ٨٧.

(٣) مع انّ (النعمة) مؤنث ، إلّا أنّ فعلها (تداركه) جاء بصورة مذكر ، وسبب هذا أنّ فاعل المؤنث يكون لفظيا ، وأنّ الضمير المفعول أصبح فاصلا بين الفعل والفاعل (فتأمّل!).

٥٥٧

عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قبل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته ، ولم يكن أبدا مستحقّاعليه‌السلام للذمّ.

ونقرأ في قوله تعالى :( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) (١) كي يستريح في ظلالها.

كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحالهعليه‌السلام حسب الظاهر.

وهنا يطرح سؤالان :

الأوّل : هو ما جاء في الآيتين ١٤٣ ، ١٤٤ من سورة الصافات في قوله تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث.

وللجواب على هذا السؤال يمكن القول : كانت بانتظار يونسعليه‌السلام عقوبتان : إحداهما شديدة ، والاخرى أخفّ وطأة. الاولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون ، والأخفّ : هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه ، وقد كان جزاؤهعليه‌السلام الجزاء الثاني ، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة اللهعزوجل ورحمته الخاصّة.

والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٢) وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّهعليه‌السلام لم يكن ملوما ولا مذموما.

ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالالتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّا ، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقا بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى ، ونجاته من بطن الحوت.

لذا يقول البارئعزوجل في الآية اللاحقة :( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ

__________________

(١) الصافات ، الآية ١٤٥ و١٤٦.

(٢) الصافات ، الآية ١٤٣.

٥٥٨

الصَّالِحِينَ ) .

وبذلك فقد حمّله الله مسئولية هداية قومه مرّة اخرى ، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه ، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعا ، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة.

وقد شرحنا قصّة يونسعليه‌السلام وقومه ، وكذلك بعض المسائل الاخرى حول تركه لـ (الأولى) واستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (١٣٩ ـ ١٤٨) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (٨٧ ، ٨٨) من سورة الأنبياء.

* * *

٥٥٩

الآيتان

( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢) )

التّفسير

يريدون قتلك لكنّهم عاجزون

هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم ، وتتضمّنان تعقيبا على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الأعداء.

يقول تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) .

«ليزلقونك» من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض ، وهي كناية عن الهلاك والموت.

ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية :

١ ـ قال كثير من المفسّرين : إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم ، فإنّهم يمتلئون غضبا وغلا ، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضا ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571