حقائق الاصول الجزء ١

حقائق الاصول13%

حقائق الاصول مؤلف:
تصنيف: متون أصول الفقه
الصفحات: 571

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 571 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211989 / تحميل: 5768
الحجم الحجم الحجم
حقائق الاصول

حقائق الاصول الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بموادها في مثل: زيد قائم، و: ضرب عمرو بكرا شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها - مع استلزامه الدلالة على المعنى (تارة) بملاحظة وضع نفسها (وأخرى) بملاحظة وضع مفرداتها

______________________________

أو بمفرداته وإنما الاشكال في ثبوت وضع للمركب بمادته وهيئته زائد على الوضعين المذكورين فالمحكي عن جماعة ذلك وقد أبطله المصنف (ره) بوجهين (أحدهما) لزوم اللغوية بالوضع إن كان بلا غرض أو تحصيل الحاصل إن كان بقصد التوصل إلى التفهيم لحصوله بالوضع الاول (وثانيهما) لزوم الدلالة على المعنى مرتين إحداهما بملاحظة وضع المواد والهيئات (وثانيتهما) بملاحظة وضع المركب - مع أن الوجدان قاض بانه ليس الا دلالة واحدة، ويمكن دفع (الاول) بصلاحية كل من الوضعين للمقدمية مع العلم به ولو مع الجهل بالآخر (والثاني) بأن حكومة الوجدان بوحدة الدلالة لا تمنع من ثبوت وضعين لامكان كونه من قبيل اجتماع علتين على معلول واحد فيستند الاثر اليهما أو إلى الجامع بينهما، فالعمدة في الاشكال على القول المذكور أنه قول بلا بيان ودعوى بلا برهان (قوله: بموادها) أي بمواد المركبات لا المفردات (قوله: شخصيا) الوضع الشخصي ما يكون الموضوع فيه جامعا بين أشخاص كلفظ زيد والنوعي ما يكون الموضوع فيه جامعا بين أنواع كهيئة الفاعل المشتركة بين كثير من المواد مثل ضارب وقاتل وشارب... إلى غير ذلك، ومنه يظهر أن هيئات مفردات المركبات ليست داخلة في كلام المصنف (ره) في المفردات (قوله: وبهيئاتها) معطوف على قوله: بموادها (قوله: ومنها) يعني من هيئات المركبات (قوله: نوعيا) مفعول مطلق لقوله: الموضوعة، على حذف الموصوف

٤١

ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك هو وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل منهما. (السابع) لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه وبلا قرينة علامة كونه حقيقة فيه بداهة أنه لولا وضعه له لما تبادر (لا يقال): كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بانه موضوع له - كما هو واضح - فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار (فانه يقال): الموقوف عليه غير الموقوف عليه،

______________________________

(قوله: ولعل المراد) لا ينبغي التأمل في كون ذلك هو المراد فلتلحظ عباراتهم

التبادر

(قوله: وبلا قرينة) مقالية أو حالية ولو كانت مقدمات الحكمة (ومنه) يظهر أن فهم الوجوب النفسي العيني التعييني من صيغة (افعل) لا يقتضي كونها حقيقة فيه لان فهم ذلك بواسطة مقدمات الحكمة كما سيأتي بيانه انشاء الله تعالى (قوله: لو لا وضعه له لما) التبادر عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بحيث يكون سماع اللفظ موجبا لحضور المعنى في الذهن وهذا الانسباق هو الدلالة التصورية وحينئذ يشكل ترتبه على الوضع أو العلم به (اما) على الاول فواضح (واما) على الثاني فلان حضور المعنى حاصل من جهة العلم بالوضع لا من جهة اللفظ نعم قد يترتب على العلم بالوضع الدلالة التصديقية المتقدم بيانها لكنها غير التبادر فلا يبعد إذا أن يقال: إن تبادر المعنى من اللفظ إنما يكون بتوسط الملازمة الذهنية بينهما الحاصلة من كثرة استعماله فيه سواء أكان عن وضع اللفظ له أم مجازا بقرينة حتى يبلغ حدا يوجب فهم المعنى عند سماع اللفظ فالتبادر دائما يكون علامة لهذه الملازمة الذهنية التي هي وضع تعيني لو لم يكن اللفظ قد وضع للمعنى (قوله: مع توقفه على العلم) قد عرفت أنه لا يرتبط بالعلم بالوضع (قوله: الموقوف عليه) يعنى العلم الموقوف على التبادر غير العلم الموقوف عليه التبادر فضمير (عليه) الاول

٤٢

فان العلم التفصيلي بكونه موضوعا له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به لا التفصيلي فلا دور هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح من ان يخفى ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة فلا يجدي اصالة عدم القرينة في احراز كون الاستناد إليه لا إليها - كما قيل - لعدم الدليل على اعتبارها الا في إحراز المراد لا الاستناد (ثم) إن عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا

______________________________

راجع إلى التبادر (والثاني) راجع إلى الموصول المراد به العلم (قوله: فان العلم التفصيلي) العلم التفصيلي بالوضع بمعنى التخصيص لا يحصل من مجرد التبادر لما عرفت من ان التبادر إنما يدل على الملازمة الذهنية الحاصلة من كثرة الاستعمال ولو عن تخصص لا على التخصيص نعم لو انحصر الوجه في الاستعمال بالتخصيص دل عليه (قوله: وهو موقوف على) قد عرفت أنه لا يتوقف على العلم بالوضع بل هو مستحيل فتأمل، وإنما يتوقف عليه الدلالة التصديقية ولا فرق فيما ذكرنا بين تبادر المستعلم وغيره (قوله: لعدم الدليل) تعليل لقوله: لا يجدى... الخ يعني لا تجري اصالة عدم القرينة لاثبات كون التبادر من حاق اللفظ لان الدليل ان كان أدلة الاستصحاب فهي مختصة بما إذا كان المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي وليس كذلك عدم القرينة، وإن كان بناء العقلاء - كما اشتهر من حجية الاصول المثبتة في الالفاظ لبناء العقلاء عليها - فذلك مسلم إلا أنه في غير المقام فان الشك في القرينة (تارة) يكون مع الشك في المعنى الحقيقي (واخرى) مع الشك في المراد مع وضوح المعنى الحقيقي فان كان الشك من قبيل الثاني جرت اصالة عدم القرينة وان كان من قبيل الاول - ومنه المقام - لم تجر لعدم بناء العقلاء على جريانها، ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة (قوله: إحراز المراد) يعني مراد المتكلم

٤٣

عن معنى كذلك يكون علامة كونه حقيقة فيه، كما ان صحة سلبه علامة كونه مجازا في الجملة (والتفصيل) أن عدم صحة السلب عنه وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى وبالحمل الشايع الصناعي الذى ملاكه الاتحاد وجودا بنحو من انحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه وافراده(١) الحقيقية، كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها وان لم نقل بأن اطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة،

______________________________

صحة السلب

(قوله: عن معنى كذلك) يعني كالتبادر يكون علامة الحقيقة (قوله: في الجملة) متعلق بقوله: مجازا، يعني صحة السلب علامة كونه مجازا في الجملة إما في الكلمة - كما هو المشهور - أو في غيرها كما يراه السكاكي وياتي تفصيله (قوله: ملاكه الاتحاد) كما في حمل أحد المترادفين على الآخر مع الجهل بمعنى المحمول تفصيلا (مثلا) إذا شككنا في أن البشر هو الانسان أو غيره نجعل البشر محمولا على الانسان فنقول: الانسان بشر، فان صح الحمل دل على كون البشر موضوعا للانسان، وأما حمل الحد التام على المحدود فليس مما نحن فيه لان الحد التام يجب أن يكون أجلى من المحدود لتتضح به حقيقته (قوله: الاتحاد وجودا) كما في جميع موارد حمل الكلي على الفرد أو على كلي آخر (قوله: علامة كونه) كما تقول: هذا البليد إنسان، لتعرف أن البليد من افراد الانسان، أما مثل: زيد بشر، فليس داخلا في كلام المصنف (ره) إذ الشك فيه في مفهوم الكلي لا في فردية فرده (قوله: وافراده الحقيقية) يعني حيث يكون الحمل بين الفرد والكلي أما لو كان بين كليين فيدل الحمل على اتحادهما خارجا وان اختلفا مفهوما وكان بينهما عموم من وجه كما اشار إليه

______________

(١) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا لا فيما إذا كان كليين متساويين أو غيرهما كما لا يخفى. من الماتن قدس سره (*)

٤٤

بل من باب الحقيقة وان التصرف فيه في أمر عقلي - كما صار إليه السكاكي - واستعلام حال اللفظ وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل، أو الاضافة إلى المستعلم والعالم فتأمل جيدا (ثم) إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها والا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد:

______________________________

المصنف (ره) في حاشيته (فعلى) هذا تكون الاقسام ثلاثة حمل احد المترادفين على الآخر، وحمل الكلي على الفرد، وحمل أحد الكليين على الآخر (والاول) يدل على كون الموضوع نفس المعنى (والثاني) يدل على انه من افراده (والثالث) لا يدل على حقيقة أو مجاز وإنما يدل على الاتحاد في الخارج سواء أكانا متساويين كالنوع والفصل أم بينهما عموم مطلق كالنوع أو الفصل والجنس، أو عموم من وجه كالحيوان والابيض (قوله: الحقيقة) يعني في الكلمة (قوله: لما عرفت في التبادر) مما عرفت هناك تعرف حقيقة الحال هنا فانهما من باب واحد والكلام في المقامين مطرد

الاطراد

(قوله: قد ذكر الاطراد) الاطراد عبارة عن كون اللفظ المستعمل في مورد بلحاظ معنى بحيث يصح استعماله في ذلك المورد وفي غيره من الموارد بلحاظ ذلك المعنى كما في لفظ الانسان الذي يطلق على زيد بلحاظ كونه حيوانا ناطقا فانه يصح إطلاقه على جميع افراد الحيوان الناطق بلحاظه ويقابله عدم الاطراد ثم إن هذه العلامة ليست مذكورة في كلام الاكثر وإنما نص عليها بعض من تأخر كما قيل (قوله: ولعله بملاحظة) دفع للاشكال على العلامة المذكورة

٤٥

من غير تأويل، أو: على وجه الحقيقة، وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة الا انه حينئذ لا يكون علامة لها الا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره

______________________________

(اما الاشكال) فهو أن الاطراد بالمعنى المتقدم حاصل في المجاز ايضا فان كل لفظ يصح استعماله في غير معناه مطردا مع تحقق العلاقة فلفظ الاسد يصح استعماله في كل من يشابه الاسد في الشجاعة وهكذا غيره ولاجل ذلك قيل: إن المجازات موضوعة بالوضع النوعي (واما الدفع) فلان الاطراد في المجاز إنما كان بلحاظ العلاقة المصححة لا مطلقا وإلا فلا يجوز استعمال كل لفظ في كل معنى له نحو من المشابهة فلا يجوز استعمال لفظ الاسد في الجبان بملاحظة المشابهة في البخر، فجعل الاطراد من علائم الحقيقة كان بملاحظة نوع العلائق في المجاز فانه لا اطراد فيه بملاحظته وان كان بملاحظة خصوص العلاقة المصححة للاستعمال يكون مطردا كالحقيقة كما ذكر في الاشكال (قوله: من غير تأويل) يعني وان كان حقيقة في الكلمة فهو اشارة إلى مذهب السكاكي (قوله: على وجه الحقيقة) يعني في الكلمة فهو بلحاظ مذهب المشهور (قوله: ضرورة انه مع) تعليل لعدم تاتي التفصي السابق في التبادر (وتوضيح) الفرق بين المقامين أن كون الاطراد على نحو الحقيقة قد أخذ بنفسه قيدا لكون الاطراد علامة فلا يمكن الاستعلام به حتى يعلم أنه على وجه الحقيقة ومع هذا العلم لا مجال للاستعلام لانه تحصيل للحاصل وفى التبادر لم يؤخذ العلم بالوضع قيدا للتبادر الذي هو علامة بل أخذ نفس التبادر علامة، غاية الامر أنه لا يتحقق الا مع العلم بالوضع ولو اجمالا. ثم إن ههنا علامتين أخريين إحداهما تنصيص الواضع أو اهل اللغة، ثانيتهما صحة الاستعمال فيه بلا عناية كما تكرر تمسك المصنف (ره) بها على نحو الحقيقة، والله سبحانه أعلم.

٤٦

(الثامن) انه للفظ احوال خمسة وهي التجوز والاشتراك والتخصيص والنقل والاضمار لا يكاد يصار إلى احدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي الا بقرينة صارفة عنه إليه، وأما إذا دار الامر بينها فالاصوليون - وان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها - إلا أنها استحسانية لا اعتبار بها الا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى (التاسع) انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال وهو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له، بان يقصد الحكاية عنه

______________________________

احوال اللفظ

(قوله: إذا دار الامر بينه وبين) العبارة لا تخلو عن حزازة إذ المراد الدوران بين كل واحد منها وعدمه غاية الامر ان البناء على العدم في بعضها يقتضي الحمل على المعنى الحقيقي. ثم إن الظاهر من العقلاء البناء على عدم كل واحد من المذكورات عند الشك فيه فيجب العمل على بنائهم لحجيته حيث لا يكون رادع - كما في المقام - كما أن وظيفة اصالة العدم في مثل الاشتراك والنقل تشخيص ظهور الكلام وفى الباقي وجوب العمل بالظاهر فالاول نظير اصالة عدم القرينة والثاني نظير اصالة الحقيقة فتدبر

الحقيقة الشرعية

(قوله: بالتصريح بانشائه) يعني انشاءه بالقول كأن يقول: سميت ولدي عليا (قوله: كذلك يحصل) الظرف متعلق بقوله: يحصل، (قوله: باستعمال اللفظ) يعني انشاءه بالفعل، فان الوضع بناء على كونه انشائيا يكون

٤٧

والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة وان كان لا بد حينئذ من نصب قرينة إلا أنه للدلالة على ذلك لا على ارادة المعنى كما في المجاز (فافهم) وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له بلا مراعات ما اعتبر في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز غير ضائر بعد ما كان مما

______________________________

كسائر الانشائيات التي تنشأ بالفعل تارة، وبالقول أخرى كالمعاطاة والفسخ والرجوع في الطلاق وغيرها. نعم يعتبر في انشائه بالفعل أن يكون بقصد الانشاء، فنفس الاستعمال لا بقصد انشاء الوضع لا يكون انشاء له. ثم إنه يمكن الاشكال في تحقق الانشاء بالفعل كليا من جهة ان الافعال ليست مما يتسبب بها عند العقلاء إلى تحقق المفاهيم الانشائية، والافعال في المعاطاة وغيرها مما ذكر ليست صادرة بقصد الانشاء بها أصلا، بل صادرة جريا على الالتزامات النفسية فلا تصلح الا للحكاية عنها (ويشكل) في خصوص المقام من جهة أن قصد وضع اللفظ للمعنى يتوقف على ملاحظة كل من اللفظ والمعنى مستقلا والاستعمال يتوقف على ملاحظة اللفظ عبرة وآلة لملاحظة المعنى بحيث يكون فانيا فيه فالاستعمال الصادر عن قصد تحقق الوضع يؤدي إلى اجتماع لحاظين للفظ آلي واستقلالي في زمان واحد (فتأمل) (قوله: والدلالة عليه بنفسه) كيف يمكن قصد الدلالة على المعنى بنفس اللفظ مع ان اللفظ لا يصلح لذلك إلا بالوضع (قوله: للدلالة على ذلك) أي على كون الاستعمال بقصد الحكاية عن المعنى بنفس اللفظ لا بالقرينة لكن عرفت أن مجرد ذلك غير كاف في تحقق الوضع ما لم يكن عن قصد الوضع، فلا بد أيضا من قرينة دالة على ذلك، وقد تفيد ذلك كله قرينة واحدة، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم، (قوله: في غير ما وضع له) إذ الوضع انما يكون بالاستعمال فالمعنى قبله غير موضوع له فلا يكون الاستعمال فيه استعمالا فيما وضع له (قوله: مراعات ما اعتبر في المجاز) يعني من ملاحظة المناسبة بين المستعمل فيه المعنى الحقيقي فانه قد لا يكون له معنى حقيقي أصلا، وقد يكون لكن الاستعمال بلا مناسبة أو بلا ملاحظتها (قوله: غير ضائر) خبر كون الاستعمال (قوله: بعد ما كان مما) أقول: إذا بني على صحة الانشاء بالفعل فلا يعتبر في صحة إنشاء

٤٨

يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز، إذا عرفت هذا فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة

______________________________

الوضع بالاستعمال أن يكون صحيحا، فلو فرض أن الاستعمال المذكور ليس بحقيقة ولا مجاز ولا مما يقبله الطبع أمكن انشاء الوضع به، فينبغي ان يكون قبول الطبع مصححا للاستعمال لا لانشاء الوضع به ثم إن هذا الاشكال مبني على أن الوضع منتزع من مجرد الانشاء أما لو كان منتزعا من الالتزام النفسي فالاستعمال يكون فيما وضع له لانه جار على طبق ذلك الالتزام النفسي كغيره من الاستعمالات، كما أن هذا الاشكال بعينه قد أورد على الفسخ بالتصرف المتوقف على الملك كوطئ الجارية التي باعها بخيار له، ولازمه حرمة الوطء لانه في غير الملك، وقد أجيب عنه بوجوه، وقد ذكرنا في محله أن الفسخ إنما يتحقق بنفس الالتزام النفسي لا بالوطئء فالوطء يكون جاريا على مقتضى الفسخ، غاية الامر أن هذا الالتزام النفسي لا يكون فسخا إلا بمظهر له والفعل يكون هو المظهر، والباعث على منع كون الوطء فسخا كونه غير صادر بعنوان الانشاء بل صادر جريا على الالتزام، فلو بنى على عدم كون الالتزام النفسي فسخا كان اللازم منع تحقق الفسخ بالفعل ايضا والله سبحانه أعلم (قوله: هكذا) قيد لقوله: وضع، يعني انشاءه بالفعل (قوله: قريبة جدا) لاقتضاء العادة ذلك فانه بعد فرض كون معانيها ماهيات مخترعة للشارع، وأنه في مقام تفهيمها للمخاطبين، وأنه كان يستعمل تلك الالفاظ فيها دون غيرها يحصل الاطمئنان بانه قد وضع تلك الالفاظ لتلك المعاني ولا سيما مع عدم استعماله تلك الالفاظ إلا فيها أو ندرة استعمالها في غيرها هذا وبضميمة بعد إنشائه بالقول لعدم نقله لنا وعدم الحاجة إليه يثبت الوضع بالفعل لا بالقول (قوله: وبدل عليه) يعني على أصل الوضع التعييني لا كونه بالقول (قوله: تبادر المعاني)

٤٩

بين المعاني الشرعية واللغوية فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما كما لا يخفى هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا وأما بناء على كونها ثابتة في الشرايع السابقة كما هو قضية غير واحد من الايات مثل قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب... الخ) وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج) وقوله (تعالى): (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا)... إلى غير ذلك، فالفاظها حقايق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرايع فيها جزءا أو شرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقايق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه (ومنه) انقدح

______________________________

لم يعلم كون التبادر في زمان الشارع كان مستندا إلى نفس اللفظ أو القرينة وأصالة عدم القرينة غير مجدية كما تقدم (قوله: والصلاة بمعنى الدعاء) لم يثبت كون الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء مطلقا وما حكي مبني على المسامحة (قوله: ومجرد اشتمال) هذا الاشتمال في بعض الاحوال ولا يعتبر في الماهية الصحيحة قطعا (قوله: كما هو قضية... الخ) المقدار المستفاد من الآيات الكريمة هو ثبوت هذه الحقائق في الشرايع السابقة، أما كون الالفاظ المذكورة موضوعة لها فيها فلا، أما مثل الآية الاولى فظاهر، وأما مثل: (وأوصاني بالصلاة) فالاستدلال بها موقوف على كونه نقلا باللفظ، ولعله قطعي العدم فان هذه الالفاظ عربية ولغات الشرائع السابقة غير عربية. ثم لو تم الاستدلال كانت حقائق شرعية لكنها في الشرائع السابقة لا لغوية إلا أن يكون المراد من اللغوية ما هو أعم من ذلك كما هو الظاهر (قوله: لولاه) قيد للدلالة، والضمير راجع إلى هذا الاحتمال

٥٠

حال دعوى الوضع التعينى معه، ومع الغض عنه فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة (نعم) حصوله في خصوص لسانه ممنوع فتأمل، وأما الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ ففيه اشكال، واصالة تأخر الاستعمال - مع معارضتها باصالة تأخر الوضع - لا دليل على اعتبارها تعبدا إلا على القول

______________________________

(قوله: حال الوضع التعيني) يعني أيضا لا مجال لدعواه إذا كانت الالفاظ المذكورة حقائق في هذه المعاني قبل حدوث شريعتنا المقدسة (قوله: الغض عنه) يعني عن هذا الاحتمال (قوله: حصوله) اي حصول الوضع التعيني (قوله: تابعيه) المراد بهم من كان يتبعه في استعمال الالفاظ المذكورة في المعاني الشرعية ممن كان في عصره سواء أكان صحابيا أم غيره، وليس المراد من تابعيه ما يقابل الصحابة إذ محل الدعوى خصوص زمان الشارع (قوله: في خصوص لسانه) يعني ثبوت الوضع التعيني في خصوص الالفاظ التي يستعملها هو ممنوع بعد البناء على عدم الوضع التعييني وكان قوله: فتأمل، إشارة إلى اشكال في المنع المذكور، فان استعمال الشارع تلك الالفاظ في تلك المعاني في مدة تقارب عشرين سنة مما يؤدي إلى حصول الوضع التعيني (قوله: على الثبوت) يعني على تقدير القول بثبوت الحقيقة الشرعية (أقول): يمكن ان يشكل بان ذلك يتوقف ايضا على هجر المعاني اللغوية وإلا كانت من قبيل اللفظ المشترك يحتاج في الحمل على أحدهما بعينه إلى القرينة - مضافا إلى أن الثمرة المذكورة فرضية علمية لا عملية، وإلا فقد قيل: إن هذه المعاني مما يعلم كونها مرادة للشارع في جميع الاستعمالات فان للتتبع شاهد بانه لم يستعمل في غيرها (قوله: تأخر الاستعمال) يعني عن زمان الوضع (قوله: جهل التاريخ) يعني فلا يدرى أن الاستعمال قبل الوضع أو بعده (قوله: وأصالة تأخر) يعني ربما يدعى أنه يمكن إثبات كون

٥١

بالاصل المثبت ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، واصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخره فتأمل. (العاشر) انه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات أسامي لخصوص الصحيحة أو للاعم منها، وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين يذكر أمور (منها) انه لا شبهة في تأتي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفى جريانه

______________________________

الاستعمال بعد الوضع ليحمل اللفظ على المعنى الشرعي، وطريق الاثبات إعمال القاعدة المشهورة: أعني أصالة تأخر الحادث، فان الاستعمال حادث فيثبت تأخره بالاصل المذكور (والاشكال) على هذا الوجه من وجوه (الاول) أنه معارض باصالة تأخر الوضع فانه شئ حادث ايضا (الثاني) أن التأخر ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فجريان الاصل فيه موقوف على القول بالاصل المثبت وهو الاصل الجاري فيما ليس موضوعا لحكم شرعي ولا حكما شرعيا وكان يترتب عليه حكم شرعي بواسطة كما في المقام، فانه إذا كان الاستعمال متأخرا كان اللفظ محمولا على المعنى الشرعي، وإذا حمل عليه ثبت حكم شرعي، لكن لا دليل على حجية الاصل المثبت إلا بناء العقلاء في موارد مخصوصة ليس المقام منها - مع أن التأخر ليس في نفسه مجرى للاصل، وإنما هو من لوازم عدم الاستعمال إلى زمان الوضع ويأتي في محله انشاء الله أن الاصل لا يجري في كل من عدمي مجهولي التاريخ ولو كان العدم موضوعا للاثر الشرعي فانتظر (قوله: واصالة عدم) يعني قد يقال: انه تجري اصالة عدم النقل في زمان الاستعمال، الذي يكون لازمه الحمل على المعنى اللغوي، لكن فيه أن اصالة عدم النقل انما تجري إذا شك في حدوث النقل وعدمه لا ما إذا علم النقل وشك في تقدمه وتأخره كما في المقام (أقول): لا يبعد جريان اصالة عدم النقل لو علم تاريخ الاستعمال، والعلم بالنقل في الجملة مع الجهل بكونه قبله أو بعده غير ضائر، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فتأمل.

٥٢

على القول بالعدم إشكال، وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: أن النزاع وقع على هذا في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ؟ كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة اخرى معينة للآخر، وأنت خبير بانه لا يكاد يصح هذا الا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته استقر - عند عدم نصب قرينة أخرى - على ارادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى

______________________________

الصحيح والاعم

(قوله: على القول بالعدم اشكال) هذا الاشكال لا يجري بناء على كون الالفاظ حقائق لغوية بالمعنى الذي استشهد عليه بالآيات الشريفة المتقدمة فانه يجري عليه النزاع كما يجري بناء على الحقيقة الشرعية (قوله: أن يقال) هذا ذكره في التقريرات وجعله أولى (قوله: بمعنى أن أيهما قد اعتبرت) هذا التحرير يترتب عليه سبك مجاز في مجاز، ويمكن تحريره بنحو لا يلزم منه ذلك، فيقال: بعد ما كانت هذه الالفاظ مجازا في المعاني المستحدثة فهل مقتضى القرينة النوعية حملها على المعنى الصحيح حتى تقوم قرينة شخصية على ارادة الاعم أو مقتضاها الحمل على الاعم حتى تقوم القرينة الشخصية على ارادة الصحيح ؟ والقائل بالصحيح يذهب إلى الاول والقائل بالاعم يذهب إلى الثاني، ويكون النزاع على هذا نظير النزاع في الامر الواقع عقيب توهم الحظر وفي النهي الواقع عقيب توهم الوجوب، ونحوهما (قوله: بتبعه ومناسبته) هذا لا يلزم أحد المذهبين، إذ يمكن الالتزام بكون الاستعمال بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي الاصلى حتى لا يلزم سبك مجاز في مجاز (قوله: كلامه عليه) أي كلام الشارع على المعنى

٥٣

وأنى لهم باثبات ذلك، وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلانى وذلك بأن يكون النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها الا بالاخرى

______________________________

الملاحظ فيه العلاقة أولا (قوله: وأنى لهم) أي لكل من القائلين بالصحيح والقائلين بالاعم (قوله: باثبات ذلك) هذا غير ظاهر إذ يمكن للقائل بالصحيح الالتزام به إما لعدم امكان تصوير الجامع - كما يراه المصنف (ره) فيمتنع ملاحظة العلاقة بينه وبين المعاني الاصلية، أو يكون الصحيح هو محط الآثار والاغراض فيكون ذلك قرينة على إرادته إلا أن تقوم قرينة على خلافها، أو لكونه المتبادر من اللفظ بمجرد وجود القرينة الصارفة فيستكشف به وجود قرينة نوعية ارتكازية مقتضية له، ويمكن للقائل بالاعم دعوى الاستقراء الحاصل من ملاحظة المعاني الموضوع لها والمستعمل فيها أو خصوص الموضوع لها على نحو يكشف عن ضابط مطرد حتى في المعاني المجازية أو دعوى التبادر على النحو المتقدم، وليس هذا ونحوه بأضعف من أدلة القولين بناء على القول بالحقيقة الشرعية فتأمل، (قوله: ما نسب إلى الباقلاني) المنسوب إليه أن الالفاظ باقية على معانيها اللغوية والخصوصيات الزائدة عليها معتبرة في موضوع الامر لا في المستعمل فيه فتكون نسبة المعاني المستحدثة إلى المعاني اللغوية نسبة المقيد إلى المطلق فان كان تقييد المطلق يوجب التجوز فيه كانت الالفاظ مجازا من قبيل مجاز الاطلاق الوارد عليه التقييد، وإلا كانت حقيقة وعلى القول بنفي الحقيقة الشرعية تكون الالفاظ مستعملة في المعاني المستحدثة بعلاقة الجزء والكل أو نحوها، ومنه يظهر لك الفرق بين قول الباقلاني والقول بنفي الحقيقة الشرعية، كما منه يظهر الاشكال في تصوير النزاع على مذهبه بناء على كون المطلق الوارد عليه التقييد حقيقة إذ ليست هي إلا مستعملة في نفس المعاني اللغوية لا في الصحيح ولا في الاعم، (فان قلت): المعاني اللغوية تكون صحيحة وفاسدة فيمكن تأتي النزاع عليه أيضا (قلت): صحة المعاني اللغوية ليست موضوعا للنزاع كصحة سائر المعاني

٥٤

الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الاجزاء والشرائط أو هما في الجملة فلا تغفل (ومنها) أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية وتفسيرها باسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين - أو غير ذلك انما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها

______________________________

اللغوية التى لا تكون موضوعا للآثار. نعم لو كان المراد من المعاني اللغوية ما تقدم الاستدلال عليه بالآيات فقد عرفت تأتي النزاع حينئذ بلا محذور، وأما ما ذكره المصنف (ره) في تحرير النزاع على مذهبه فليس نزاعا في معاني تلك الالفاظ الحقيقية ولا المجازية بل نزاع في امر خارج عن الصحيح والاعم. نعم بناء على أن المطلق مجاز فيمكن النزاع على النحو المتقدم بناء على نفي الحقيقة الشرعية، (قوله: الدالة على اجزاء) صفة القرينة (قوله: هو تمام الاجزاء) خبر كلمة (أن) وعلى هذا يكون النزاع في الالفاظ الحاكية عن أجزاء المأمور به وشرائطه.

معنى الصحة

(قوله: هو التمامية) يعني تمامية الاجزاء والشرائط، وعن الوحيد (ره) تفسيرها بالتمامية للاجزاء فقط وهو غير ظاهر (قوله: إنما هو بالمهم) يعني أن الصحة عند الجميع بمعنى واحد والاختلاف في تعريفها ليس للاختلاف في معناها بل للاختلاف في الاثر المقصود الاشارة إليها به، فالفقهاء لما كان الاثر المقصود من الصحة عندهم سقوط القضاء عرفوا الصحة باسقاط القضاء، والمتكلمون لما كان الاثر المقصود لهم موافقة الشريعة وعدمها لانها هي التي تكون موضوعا للثواب والعقاب عرفوها بموافقة الشريعة، فمقتضى الجمود على ظاهر التعريفات وان كان هو الاختلاف في معناها، إلا أن التأمل في كلماتهم يقتضي إرادة ما ذكرنا من قصد الاشارة إلى

٥٥

بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار.. إلى غير ذلك كما لا يخفى، ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران اضافيان فيختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى فتدبر جيدا (ومنها) انه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره، فان الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما (والاشكال فيه) بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا

______________________________

مفهومها بالاثر المناسب لوظائفهم (قوله: بحسب الحالات) فانه من اختلاف المصداق لا المفهوم.

القدر الجامع على القول بالصحيح

(قوله: لا بد على كلا القولين) للمفروغية عن انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له عام لا خاص ولا من المشترك اللفظي وإلا كفى في الاول الجامع الاعتباري مثل عنوان الجامع بين الافراد التامة والناقصة والثاني لا يحتاج إلى جامع (قوله: كاشف عن الاشتراك) الكشف بذلك ربما يمنع لو كان تأثيرها في القابلية إذ لا يعتبر في المؤثرات في القابلية أن يكون بينها جامع حقيقي فان كلا من وجود الشرط وعدم المانع مؤثر في القابلية - مع أنه لا جامع بين الوجود والعدم. نعم لو كانت الافراد الصحيحة مؤثرة في الجامع حقيقة أمكن تمامية البرهان (قوله: وما هو معراج) تعدد الآثار يمكن أن يكون لاجل تعدد جهات الجامع فيؤثر في كل واحد منها بجهة من جهاته، ويمكن أن يكون لاجل أنها آثار طولية (قوله: والاشكال فيه بأن) هذا الاشكال مذكور

٥٦

مركبا إذ كل ما فرض جامعا يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا لما عرفت، ولا أمرا بسيطا لانه لا يخلو إما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مسلوبا له، والاول غير معقول لبداهة استحالة أخذ ما لا يأتي الا من قبل الطلب في متعلقه - مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها لعدم الاجمال حينئذ في المأمور به فيها وإنما الاجمال فيما يتحقق به وفى مثله لا مجال لها - كما حقق في محله

______________________________

في تقريرات درس شيخنا الاعظم (قده) وقد استنتج منه كون الالفاظ موضوعة لتمام الاجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العامد العالم فتكون الصلاة الواقعة من غيره بدلا مسقطا للواقع وليست بصلاة ويكون استعمال لفظ الصلاة فيها مجازا. هذا ولكن لا يخفى وقوع الاختلاف بين أفراد فعل القادر المختار العامد العالم من حيث الوقت والسفر والحضر ومن حيث اليومية والآيات والنافلة... إلى غير ذلك، والالتزام بالاشتراك اللفظي كما ترى، وبالاشتراك المعنوي يتوقف على وجود الجامع ودفع الاشكال المذكور عنه، وحينئذ فما به يدفع الاشكال عن تصوير الجامع بينها يدفع به الاشكال عن تصوير الجامع بين مطلق الافراد الصحيحة لعدم فرق ظاهر بين المقامين (قوله: يمكن أن يكون) يعني فلا يختص بالافراد الصحيحة (قوله: لما عرفت) يعني من كون الشئ الواحد صحيحا بلحاظ حال فاسدا بلحاظ حال أخرى (قوله: بسيطا) يعني ماهية واحدة في مقابل المركب من ماهيات مختلفة (قوله: ما لا يتأتى إلا من قبل) إذ من المعلوم أن عنوان المطلوب إنما ينتزع بعد تعلق الطلب بالماهية وقبله لا مجال لاعتباره، وإذا كان عنوان المطلوب متأخرا عن الطلب امتنع ان يؤخذ في موضوعه كما سيأتي تفصيله في التعبد والتوصل انشاء الله تعالى (قوله: لزوم الترادف) يعني وبطلانه ضروري (قوله: وعدم جريان) معطوف على الترادف (قوله: لعدم الاجمال) تعليل لعدم جريان البراءة يعني إذا كان التكليف

٥٧

- مع أن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا (مدفوع) بأن الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد وفى مثله تجرى البراءة، وإنما لا تجرى فيما إذا كان المأمور به امرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب

______________________________

متعلقا بالمفهوم البسيط كان التكليف معلوما والشك يكون شكا في الفراغ الذي هو مجرى الاحتياط لا في التكليف الذي هو مجرى البراءة وليس كذلك لو كان مركبا مجملا إذ المقدار المتيقن منه قد علم التكليف به فيجب فعله عقلا والمقدار الزائد مما شك في تعلق التكليف به والاصل فيه البراءة فتأمل (قوله: مع أن المشهور) الظاهر أن القول بالصحيح منسوب إلى المشهور والقول بالبراءة منسوب إلى المشهور ايضا لا أن القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة وبالعكس، (قوله: وبهذا يشكل) يعني ايضا يكون لازمه القول بالاحتياط (قوله: مدفوع) خبر لقوله: والاشكال، وتوضيح الدفع: أن المفهوم البسيط الذي يدعى وضع اللفظ له (تارة) يكون موجودا بوجود ممتاز عن الوجود المردد بين الاقل والاكثر (وأخرى) يكون موجودا بعين وجوده بحيث يصح حمله عليه فان كان من قبيل الاول نظير الطهارة من الحدث بالاضافة إلى نفس الوضوء (مثلا) فلا ريب في أن مرجع الشك فيه هو الاحتياط إذ الشك في اعتبار شئ في الوضوء شطرا أو شرطا لما كان ملزوما للشك في سقوط التكليف بالطهارة فهو وان لم يقتض الاحتياط في نفسه الا أن لازمه كاف في اقتضاء الاحتياط، لان الشك في سقوط التكليف المعلوم مما لم يناقش أحد في اقتضائه الاحتياط، أما إذا كان من قبيل الثاني فالشك بين الاقل والاكثر شك في التكليف زائدا على المقدار المعلوم الثابت لمعلوم الجزئية فالمرجع فيه البراءة، وليس من لوازم كون الموضوع بسيطا أن

٥٨

يكون مرجع الشك فيه الاحتياط، ولا من لوازم كونه مركبا أن يكون مرجع الشك فيه البراءة، بل المعيار ما ذكرنا وانه مهما كان الشك في نفس التكليف - ولو من حيث الزيادة والنقيصة - فالمرجع فيه البراءة ولو كان الموضوع بسيطا، ومهما كان الشك في سقوط التكليف المعلوم للشك في تحقق موضوعه، فالمرجع فيه الاحتياط ولو كان الموضوع مركبا " فنقول " في المقام: الاجزاء الخارجية وان كانت متباينة بحسب الماهية لكنها مشتركة في مفهوم واحد عرضي ينطبق على كل فرد من أفراد الصحيح بنحو انطباقه على الباقي، وتفاوت الافراد في الاجزاء لا يوجب تفاوتها في انطباقه عليها واتحاده معها خارجا كما ترى عنوان الدواء يختلف مطابقه في الخارج باختلاف الاشخاص والازمنة والامكنة فيكون الدواء بلحاظ حال سما بلحاظ حال أخرى، ولا يكون هذا الاختلاف موجبا لاختلاف الافراد في انطباق العنوان المذكور عليها ولا اختلافا في كيفية الانطباق (ومنه) يظهر ايضا انه يمكن الالتزام بكون الجامع مركبا ومع ذلك ينطبق على القليل والكثير بأن يكون القليل في بعض الاحوال واجدا لجهات يكون بها مصداقا للمفهوم المركب بعين مصداقية الكثير له فكما جاز ان يكون التراب أحد الطهورين عند فقد الماء جاز أن يكون القليل قائما مقام الكثير في فرديته للجامع بلا قصور فيه. نعم جعله مركبا من خصوص الاجزاء المعنونة في كلماتهم من التكبير والقراءة ونحوهما مانع من انضباطه بنحو يصدق على القليل والكثير صحيحين، لكنه لا ملزم به في مقام تصوير الجامع بين افراد الصحيح ثبوتا (إذا) عرفت هذا فنقول: إذا كان الجامع مفهوما واحدا عرضيا منطبقا على الافراد المركبة من أجزاء متباينة بحسب الذات والماهية مختلفة باختلاف الحالات والخصوصيات وشك في الاقل والاكثر كان الشك راجعا إلى الشك في كمية مقدار ذلك المفهوم العرضي وأن موضوع التكليف أي مرتبة منه ؟ المرتبة التي لا تحصل الا بانضمام مشكوك الجزئية أو المرتبة التي تحصل بدونه، فيكون الشك في ثبوت التكليف لما به امتياز إحدى

٥٩

مردد بين الاقل والاكثر كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما هذا على الصحيح، وأما على الاعم فتصوير الجامع في غاية الاشكال فما قيل في تصويره أو يقال وجوه

______________________________

المرتبتين عن الاخرى وقد عرفت انه موضوع للبراءة، ومثله الحال لو كان مركبا من ماهيات متباينة تتحد مع الاجزاء المذكورة حسبما عرفت بيانه. نعم لو كان المأمور به بسيطا في الخارج امتنع انطباقه على نفس الاجزاء لامتناع انطباق الواحد على الكثير، فلا بد ان يكون ممتازا عنها وجودا، ولازمه الرجوع إلى الاحتياط عند الشك في الاقل والاكثر إذ الشك حينئذ في حصول المكلف به لا في التكليف، لكن المراد من البسيط في تقرير الاشكال ما كان ماهية واحدة في قبال المركب من الماهيات المختلفة لا البسيط في الخارج، وإلا توجه عليه الاشكال بانه لا ينحصر الجامع بين ان يكون مركبا وبسيطا بالمعنى المذكور بل يجوز ان يكون ماهية واحدة صالحة للانطباق على المتكثر فيجري فيه ما عرفت من الرجوع إلى البراءة فتأمل والله سبحانه اعلم (قوله: مردد بين الاقل) بحيث لا يكون التردد إلا في السبب، أما لو كان التردد في المسبب والسبب جميعا فالمرجع فيه البراءة ايضا

تصوير الجامع على القول بالاعم

(قوله: في غاية الاشكال) هذا غير ظاهر، كيف والتقابل بين الصحة والفساد نظير التقابل بين الصحة والعيب من تقابل العدم والملكة الذي لا يكون إلا مع وحدة الذات فموضوع الملكة هو موضوع عدم الملكة - مضافا إلى أن المرتكز من قولنا: صحيح وفاسد، كون مرجع الضمير المتحمل له وصف الصحيح والفاسد أمرا واحدا لا أن مرجع ضمير أحدهما غير مرجع ضمير الآخر فتكون

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦

لحقيقة عذاب جهنّم ، وعموما لا يمكننا إدراك ما سيجري من حوادث في ذلك اليوم الرهيب المحتوم.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم ، وبجملة وجيزة ، لكنها متضمّنة لحقائق ومعان كثيرة :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .

فستتجلّى حقيقة أنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بيد الله العزيز القهّار ، وستبان حقيقة حاكمية الله المطلقة ومالكيته على كلّ من تنكر لهذه الحقيقة الحقّة ، وستنعدم تلك التصورات الساذجة التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميرا ورئيسا أو حاكما ، وسينهار أولئك البسطاء الذين اعتبروا أن قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

وتشهد على الحقيقة ـ بالإضافة إلى الآية المذكورة ـ الآية (١٦) من سورة المؤمن حيث تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وتشير الآية (٣٧) من سورة عبس إلى انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم دون كلّ الأشياء الاخرى ، ولو قدّر أن يمنح قدرا معينا من القدرة ، لما نفع بها أحد دون نفسه! ، حيث تقول الآية :( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

حتّى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، أنّه تناول ذلك الموقف بقوله : (إن الأمر يومئذ واليوم كله لله ، ...) وإذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلّا الله»(١)

وهنا يواجهنا السؤال التالي : هل يعني ذلك ، إنّ الآية تتعارض وشفاعة الأنبياء والأوصياء والملائكة؟

ويتّضح جواب السؤال المذكور من خلال البحوث التي قدمناها بخصوص موضوع (الشفاعة) فقد صرّح الحكيم في بيانه الكريم ، إنّ الشّفاعة لن تكون إلّا

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٥٠.

٤٩٧

بإذنه ، وإنّ الشّفاعة غير مطلقة ، حسب ما تشير إليه الآية (٢٨) من سورة الأنبياء( لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ) اللهم! إنّ الخلائق تنتظر رحمتك ولطفك في ذلك اليوم الرهيب ، ونحن الآن نتوقع لطفك.

إلهنا! لا تحرمنا من الطافك وعناياتك في هذا العالم والعالم الآخر.

ربّنا! أنت الحاكم المطلق في كلّ مكان وزمان ، فاحفظنا من التورط في شباك الذنوب والسقوط في وادي الشرك واللجوء الى الغير

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الإنفطار

انتهى المجلد التاسع عشر

* * *

٤٩٨

الفهرس

سورة المعارج

محتوى السورة ٥

فضيلة هذه السورة ٦

تفسير الآيات : ١ ـ ٣ ٧

سبب النّزول ٧

العذاب العاجل ٩

ملاحظة

إشكالات المعاندين الواهية ١٠

تفسير الآيات : ٤ ـ ٧ ١٤

يوم مقداره خمسين ألف سنة ١٤

تفسير الآيات : ٨ ـ ١٨ ١٧

تفسير الآيات : ١٩ ـ ٢٨ ٢١

أوصاف المؤمنين ٢١

تفسير الآيات : ٢٩ ـ ٣٥ ٢٧

القسم الآخر من صفات أهل الجنّة ٢٧

تفسير الآيات : ٣٦ ـ ٤١ ٣٢

الطمع الواهي في الجنّة ٣٢

٤٩٩

ملاحظة

ربّ المشارق والمغارب ٣٥

تفسير الآيات : ٤٢ ـ ٤٤ ٣٧

كأنّهم يهرعون إلى الأصنام ٣٧

«سورة نوح»

محتوى سورة ٤٣

فضيلة هذه السورة ٤٤

تفسير الآيات : ١ ـ ٤ ٤٥

رسالة نوح الأولى ٤٥

ملاحظة

العوامل المعنوية لزيادة ونقصان العمر ٤٧

تفسير الآيات : ٥ ـ ٩ ٤٨

استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم ، ولكن ٤٨

ملاحظتان

١ ـ أسلوب الإبلاغ ومنهجه ٥١

٢ ـ لماذا الفرا من الحقيقة ٥١

تفسير الآيات : ١٠ ـ ١٤ ٥٣

ثمرة الإيمان في الدنيا ٥٣

ملاحظة

الرّابطة بين التقوى والعمران ٥٥

تفسير الآيات : ١٥ ـ ٢٠ ٥٨

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571