حقائق الاصول الجزء ١

حقائق الاصول10%

حقائق الاصول مؤلف:
تصنيف: متون أصول الفقه
الصفحات: 571

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 571 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 211997 / تحميل: 5769
الحجم الحجم الحجم
حقائق الاصول

حقائق الاصول الجزء ١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بموادها في مثل: زيد قائم، و: ضرب عمرو بكرا شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والاضافات بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا، بداهة أن وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها - مع استلزامه الدلالة على المعنى (تارة) بملاحظة وضع نفسها (وأخرى) بملاحظة وضع مفرداتها

______________________________

أو بمفرداته وإنما الاشكال في ثبوت وضع للمركب بمادته وهيئته زائد على الوضعين المذكورين فالمحكي عن جماعة ذلك وقد أبطله المصنف (ره) بوجهين (أحدهما) لزوم اللغوية بالوضع إن كان بلا غرض أو تحصيل الحاصل إن كان بقصد التوصل إلى التفهيم لحصوله بالوضع الاول (وثانيهما) لزوم الدلالة على المعنى مرتين إحداهما بملاحظة وضع المواد والهيئات (وثانيتهما) بملاحظة وضع المركب - مع أن الوجدان قاض بانه ليس الا دلالة واحدة، ويمكن دفع (الاول) بصلاحية كل من الوضعين للمقدمية مع العلم به ولو مع الجهل بالآخر (والثاني) بأن حكومة الوجدان بوحدة الدلالة لا تمنع من ثبوت وضعين لامكان كونه من قبيل اجتماع علتين على معلول واحد فيستند الاثر اليهما أو إلى الجامع بينهما، فالعمدة في الاشكال على القول المذكور أنه قول بلا بيان ودعوى بلا برهان (قوله: بموادها) أي بمواد المركبات لا المفردات (قوله: شخصيا) الوضع الشخصي ما يكون الموضوع فيه جامعا بين أشخاص كلفظ زيد والنوعي ما يكون الموضوع فيه جامعا بين أنواع كهيئة الفاعل المشتركة بين كثير من المواد مثل ضارب وقاتل وشارب... إلى غير ذلك، ومنه يظهر أن هيئات مفردات المركبات ليست داخلة في كلام المصنف (ره) في المفردات (قوله: وبهيئاتها) معطوف على قوله: بموادها (قوله: ومنها) يعني من هيئات المركبات (قوله: نوعيا) مفعول مطلق لقوله: الموضوعة، على حذف الموصوف

٤١

ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك هو وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل منهما. (السابع) لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه وبلا قرينة علامة كونه حقيقة فيه بداهة أنه لولا وضعه له لما تبادر (لا يقال): كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بانه موضوع له - كما هو واضح - فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار (فانه يقال): الموقوف عليه غير الموقوف عليه،

______________________________

(قوله: ولعل المراد) لا ينبغي التأمل في كون ذلك هو المراد فلتلحظ عباراتهم

التبادر

(قوله: وبلا قرينة) مقالية أو حالية ولو كانت مقدمات الحكمة (ومنه) يظهر أن فهم الوجوب النفسي العيني التعييني من صيغة (افعل) لا يقتضي كونها حقيقة فيه لان فهم ذلك بواسطة مقدمات الحكمة كما سيأتي بيانه انشاء الله تعالى (قوله: لو لا وضعه له لما) التبادر عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بحيث يكون سماع اللفظ موجبا لحضور المعنى في الذهن وهذا الانسباق هو الدلالة التصورية وحينئذ يشكل ترتبه على الوضع أو العلم به (اما) على الاول فواضح (واما) على الثاني فلان حضور المعنى حاصل من جهة العلم بالوضع لا من جهة اللفظ نعم قد يترتب على العلم بالوضع الدلالة التصديقية المتقدم بيانها لكنها غير التبادر فلا يبعد إذا أن يقال: إن تبادر المعنى من اللفظ إنما يكون بتوسط الملازمة الذهنية بينهما الحاصلة من كثرة استعماله فيه سواء أكان عن وضع اللفظ له أم مجازا بقرينة حتى يبلغ حدا يوجب فهم المعنى عند سماع اللفظ فالتبادر دائما يكون علامة لهذه الملازمة الذهنية التي هي وضع تعيني لو لم يكن اللفظ قد وضع للمعنى (قوله: مع توقفه على العلم) قد عرفت أنه لا يرتبط بالعلم بالوضع (قوله: الموقوف عليه) يعنى العلم الموقوف على التبادر غير العلم الموقوف عليه التبادر فضمير (عليه) الاول

٤٢

فان العلم التفصيلي بكونه موضوعا له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به لا التفصيلي فلا دور هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح من ان يخفى ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة فلا يجدي اصالة عدم القرينة في احراز كون الاستناد إليه لا إليها - كما قيل - لعدم الدليل على اعتبارها الا في إحراز المراد لا الاستناد (ثم) إن عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا

______________________________

راجع إلى التبادر (والثاني) راجع إلى الموصول المراد به العلم (قوله: فان العلم التفصيلي) العلم التفصيلي بالوضع بمعنى التخصيص لا يحصل من مجرد التبادر لما عرفت من ان التبادر إنما يدل على الملازمة الذهنية الحاصلة من كثرة الاستعمال ولو عن تخصص لا على التخصيص نعم لو انحصر الوجه في الاستعمال بالتخصيص دل عليه (قوله: وهو موقوف على) قد عرفت أنه لا يتوقف على العلم بالوضع بل هو مستحيل فتأمل، وإنما يتوقف عليه الدلالة التصديقية ولا فرق فيما ذكرنا بين تبادر المستعلم وغيره (قوله: لعدم الدليل) تعليل لقوله: لا يجدى... الخ يعني لا تجري اصالة عدم القرينة لاثبات كون التبادر من حاق اللفظ لان الدليل ان كان أدلة الاستصحاب فهي مختصة بما إذا كان المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي وليس كذلك عدم القرينة، وإن كان بناء العقلاء - كما اشتهر من حجية الاصول المثبتة في الالفاظ لبناء العقلاء عليها - فذلك مسلم إلا أنه في غير المقام فان الشك في القرينة (تارة) يكون مع الشك في المعنى الحقيقي (واخرى) مع الشك في المراد مع وضوح المعنى الحقيقي فان كان الشك من قبيل الثاني جرت اصالة عدم القرينة وان كان من قبيل الاول - ومنه المقام - لم تجر لعدم بناء العقلاء على جريانها، ولذا اشتهر أن الاستعمال أعم من الحقيقة (قوله: إحراز المراد) يعني مراد المتكلم

٤٣

عن معنى كذلك يكون علامة كونه حقيقة فيه، كما ان صحة سلبه علامة كونه مجازا في الجملة (والتفصيل) أن عدم صحة السلب عنه وصحة الحمل عليه بالحمل الاولي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى وبالحمل الشايع الصناعي الذى ملاكه الاتحاد وجودا بنحو من انحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه وافراده(١) الحقيقية، كما أن صحة سلبه كذلك علامة أنه ليس منها وان لم نقل بأن اطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة،

______________________________

صحة السلب

(قوله: عن معنى كذلك) يعني كالتبادر يكون علامة الحقيقة (قوله: في الجملة) متعلق بقوله: مجازا، يعني صحة السلب علامة كونه مجازا في الجملة إما في الكلمة - كما هو المشهور - أو في غيرها كما يراه السكاكي وياتي تفصيله (قوله: ملاكه الاتحاد) كما في حمل أحد المترادفين على الآخر مع الجهل بمعنى المحمول تفصيلا (مثلا) إذا شككنا في أن البشر هو الانسان أو غيره نجعل البشر محمولا على الانسان فنقول: الانسان بشر، فان صح الحمل دل على كون البشر موضوعا للانسان، وأما حمل الحد التام على المحدود فليس مما نحن فيه لان الحد التام يجب أن يكون أجلى من المحدود لتتضح به حقيقته (قوله: الاتحاد وجودا) كما في جميع موارد حمل الكلي على الفرد أو على كلي آخر (قوله: علامة كونه) كما تقول: هذا البليد إنسان، لتعرف أن البليد من افراد الانسان، أما مثل: زيد بشر، فليس داخلا في كلام المصنف (ره) إذ الشك فيه في مفهوم الكلي لا في فردية فرده (قوله: وافراده الحقيقية) يعني حيث يكون الحمل بين الفرد والكلي أما لو كان بين كليين فيدل الحمل على اتحادهما خارجا وان اختلفا مفهوما وكان بينهما عموم من وجه كما اشار إليه

______________

(١) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا لا فيما إذا كان كليين متساويين أو غيرهما كما لا يخفى. من الماتن قدس سره (*)

٤٤

بل من باب الحقيقة وان التصرف فيه في أمر عقلي - كما صار إليه السكاكي - واستعلام حال اللفظ وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل، أو الاضافة إلى المستعلم والعالم فتأمل جيدا (ثم) إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها والا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد:

______________________________

المصنف (ره) في حاشيته (فعلى) هذا تكون الاقسام ثلاثة حمل احد المترادفين على الآخر، وحمل الكلي على الفرد، وحمل أحد الكليين على الآخر (والاول) يدل على كون الموضوع نفس المعنى (والثاني) يدل على انه من افراده (والثالث) لا يدل على حقيقة أو مجاز وإنما يدل على الاتحاد في الخارج سواء أكانا متساويين كالنوع والفصل أم بينهما عموم مطلق كالنوع أو الفصل والجنس، أو عموم من وجه كالحيوان والابيض (قوله: الحقيقة) يعني في الكلمة (قوله: لما عرفت في التبادر) مما عرفت هناك تعرف حقيقة الحال هنا فانهما من باب واحد والكلام في المقامين مطرد

الاطراد

(قوله: قد ذكر الاطراد) الاطراد عبارة عن كون اللفظ المستعمل في مورد بلحاظ معنى بحيث يصح استعماله في ذلك المورد وفي غيره من الموارد بلحاظ ذلك المعنى كما في لفظ الانسان الذي يطلق على زيد بلحاظ كونه حيوانا ناطقا فانه يصح إطلاقه على جميع افراد الحيوان الناطق بلحاظه ويقابله عدم الاطراد ثم إن هذه العلامة ليست مذكورة في كلام الاكثر وإنما نص عليها بعض من تأخر كما قيل (قوله: ولعله بملاحظة) دفع للاشكال على العلامة المذكورة

٤٥

من غير تأويل، أو: على وجه الحقيقة، وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة الا انه حينئذ لا يكون علامة لها الا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ضرورة أنه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره

______________________________

(اما الاشكال) فهو أن الاطراد بالمعنى المتقدم حاصل في المجاز ايضا فان كل لفظ يصح استعماله في غير معناه مطردا مع تحقق العلاقة فلفظ الاسد يصح استعماله في كل من يشابه الاسد في الشجاعة وهكذا غيره ولاجل ذلك قيل: إن المجازات موضوعة بالوضع النوعي (واما الدفع) فلان الاطراد في المجاز إنما كان بلحاظ العلاقة المصححة لا مطلقا وإلا فلا يجوز استعمال كل لفظ في كل معنى له نحو من المشابهة فلا يجوز استعمال لفظ الاسد في الجبان بملاحظة المشابهة في البخر، فجعل الاطراد من علائم الحقيقة كان بملاحظة نوع العلائق في المجاز فانه لا اطراد فيه بملاحظته وان كان بملاحظة خصوص العلاقة المصححة للاستعمال يكون مطردا كالحقيقة كما ذكر في الاشكال (قوله: من غير تأويل) يعني وان كان حقيقة في الكلمة فهو اشارة إلى مذهب السكاكي (قوله: على وجه الحقيقة) يعني في الكلمة فهو بلحاظ مذهب المشهور (قوله: ضرورة انه مع) تعليل لعدم تاتي التفصي السابق في التبادر (وتوضيح) الفرق بين المقامين أن كون الاطراد على نحو الحقيقة قد أخذ بنفسه قيدا لكون الاطراد علامة فلا يمكن الاستعلام به حتى يعلم أنه على وجه الحقيقة ومع هذا العلم لا مجال للاستعلام لانه تحصيل للحاصل وفى التبادر لم يؤخذ العلم بالوضع قيدا للتبادر الذي هو علامة بل أخذ نفس التبادر علامة، غاية الامر أنه لا يتحقق الا مع العلم بالوضع ولو اجمالا. ثم إن ههنا علامتين أخريين إحداهما تنصيص الواضع أو اهل اللغة، ثانيتهما صحة الاستعمال فيه بلا عناية كما تكرر تمسك المصنف (ره) بها على نحو الحقيقة، والله سبحانه أعلم.

٤٦

(الثامن) انه للفظ احوال خمسة وهي التجوز والاشتراك والتخصيص والنقل والاضمار لا يكاد يصار إلى احدها فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي الا بقرينة صارفة عنه إليه، وأما إذا دار الامر بينها فالاصوليون - وان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها - إلا أنها استحسانية لا اعتبار بها الا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى (التاسع) انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على أقوال، وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال وهو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له، بان يقصد الحكاية عنه

______________________________

احوال اللفظ

(قوله: إذا دار الامر بينه وبين) العبارة لا تخلو عن حزازة إذ المراد الدوران بين كل واحد منها وعدمه غاية الامر ان البناء على العدم في بعضها يقتضي الحمل على المعنى الحقيقي. ثم إن الظاهر من العقلاء البناء على عدم كل واحد من المذكورات عند الشك فيه فيجب العمل على بنائهم لحجيته حيث لا يكون رادع - كما في المقام - كما أن وظيفة اصالة العدم في مثل الاشتراك والنقل تشخيص ظهور الكلام وفى الباقي وجوب العمل بالظاهر فالاول نظير اصالة عدم القرينة والثاني نظير اصالة الحقيقة فتدبر

الحقيقة الشرعية

(قوله: بالتصريح بانشائه) يعني انشاءه بالقول كأن يقول: سميت ولدي عليا (قوله: كذلك يحصل) الظرف متعلق بقوله: يحصل، (قوله: باستعمال اللفظ) يعني انشاءه بالفعل، فان الوضع بناء على كونه انشائيا يكون

٤٧

والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة وان كان لا بد حينئذ من نصب قرينة إلا أنه للدلالة على ذلك لا على ارادة المعنى كما في المجاز (فافهم) وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له بلا مراعات ما اعتبر في المجاز فلا يكون بحقيقة ولا مجاز غير ضائر بعد ما كان مما

______________________________

كسائر الانشائيات التي تنشأ بالفعل تارة، وبالقول أخرى كالمعاطاة والفسخ والرجوع في الطلاق وغيرها. نعم يعتبر في انشائه بالفعل أن يكون بقصد الانشاء، فنفس الاستعمال لا بقصد انشاء الوضع لا يكون انشاء له. ثم إنه يمكن الاشكال في تحقق الانشاء بالفعل كليا من جهة ان الافعال ليست مما يتسبب بها عند العقلاء إلى تحقق المفاهيم الانشائية، والافعال في المعاطاة وغيرها مما ذكر ليست صادرة بقصد الانشاء بها أصلا، بل صادرة جريا على الالتزامات النفسية فلا تصلح الا للحكاية عنها (ويشكل) في خصوص المقام من جهة أن قصد وضع اللفظ للمعنى يتوقف على ملاحظة كل من اللفظ والمعنى مستقلا والاستعمال يتوقف على ملاحظة اللفظ عبرة وآلة لملاحظة المعنى بحيث يكون فانيا فيه فالاستعمال الصادر عن قصد تحقق الوضع يؤدي إلى اجتماع لحاظين للفظ آلي واستقلالي في زمان واحد (فتأمل) (قوله: والدلالة عليه بنفسه) كيف يمكن قصد الدلالة على المعنى بنفس اللفظ مع ان اللفظ لا يصلح لذلك إلا بالوضع (قوله: للدلالة على ذلك) أي على كون الاستعمال بقصد الحكاية عن المعنى بنفس اللفظ لا بالقرينة لكن عرفت أن مجرد ذلك غير كاف في تحقق الوضع ما لم يكن عن قصد الوضع، فلا بد أيضا من قرينة دالة على ذلك، وقد تفيد ذلك كله قرينة واحدة، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم، (قوله: في غير ما وضع له) إذ الوضع انما يكون بالاستعمال فالمعنى قبله غير موضوع له فلا يكون الاستعمال فيه استعمالا فيما وضع له (قوله: مراعات ما اعتبر في المجاز) يعني من ملاحظة المناسبة بين المستعمل فيه المعنى الحقيقي فانه قد لا يكون له معنى حقيقي أصلا، وقد يكون لكن الاستعمال بلا مناسبة أو بلا ملاحظتها (قوله: غير ضائر) خبر كون الاستعمال (قوله: بعد ما كان مما) أقول: إذا بني على صحة الانشاء بالفعل فلا يعتبر في صحة إنشاء

٤٨

يقبله الطبع ولا يستنكره، وقد عرفت سابقا أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز، إذا عرفت هذا فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا ومدعي القطع به غير مجازف قطعا، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة

______________________________

الوضع بالاستعمال أن يكون صحيحا، فلو فرض أن الاستعمال المذكور ليس بحقيقة ولا مجاز ولا مما يقبله الطبع أمكن انشاء الوضع به، فينبغي ان يكون قبول الطبع مصححا للاستعمال لا لانشاء الوضع به ثم إن هذا الاشكال مبني على أن الوضع منتزع من مجرد الانشاء أما لو كان منتزعا من الالتزام النفسي فالاستعمال يكون فيما وضع له لانه جار على طبق ذلك الالتزام النفسي كغيره من الاستعمالات، كما أن هذا الاشكال بعينه قد أورد على الفسخ بالتصرف المتوقف على الملك كوطئ الجارية التي باعها بخيار له، ولازمه حرمة الوطء لانه في غير الملك، وقد أجيب عنه بوجوه، وقد ذكرنا في محله أن الفسخ إنما يتحقق بنفس الالتزام النفسي لا بالوطئء فالوطء يكون جاريا على مقتضى الفسخ، غاية الامر أن هذا الالتزام النفسي لا يكون فسخا إلا بمظهر له والفعل يكون هو المظهر، والباعث على منع كون الوطء فسخا كونه غير صادر بعنوان الانشاء بل صادر جريا على الالتزام، فلو بنى على عدم كون الالتزام النفسي فسخا كان اللازم منع تحقق الفسخ بالفعل ايضا والله سبحانه أعلم (قوله: هكذا) قيد لقوله: وضع، يعني انشاءه بالفعل (قوله: قريبة جدا) لاقتضاء العادة ذلك فانه بعد فرض كون معانيها ماهيات مخترعة للشارع، وأنه في مقام تفهيمها للمخاطبين، وأنه كان يستعمل تلك الالفاظ فيها دون غيرها يحصل الاطمئنان بانه قد وضع تلك الالفاظ لتلك المعاني ولا سيما مع عدم استعماله تلك الالفاظ إلا فيها أو ندرة استعمالها في غيرها هذا وبضميمة بعد إنشائه بالقول لعدم نقله لنا وعدم الحاجة إليه يثبت الوضع بالفعل لا بالقول (قوله: وبدل عليه) يعني على أصل الوضع التعييني لا كونه بالقول (قوله: تبادر المعاني)

٤٩

بين المعاني الشرعية واللغوية فأي علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما كما لا يخفى هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا وأما بناء على كونها ثابتة في الشرايع السابقة كما هو قضية غير واحد من الايات مثل قوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب... الخ) وقوله تعالى (وأذن في الناس بالحج) وقوله (تعالى): (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا)... إلى غير ذلك، فالفاظها حقايق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرايع فيها جزءا أو شرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقايق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه (ومنه) انقدح

______________________________

لم يعلم كون التبادر في زمان الشارع كان مستندا إلى نفس اللفظ أو القرينة وأصالة عدم القرينة غير مجدية كما تقدم (قوله: والصلاة بمعنى الدعاء) لم يثبت كون الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء مطلقا وما حكي مبني على المسامحة (قوله: ومجرد اشتمال) هذا الاشتمال في بعض الاحوال ولا يعتبر في الماهية الصحيحة قطعا (قوله: كما هو قضية... الخ) المقدار المستفاد من الآيات الكريمة هو ثبوت هذه الحقائق في الشرايع السابقة، أما كون الالفاظ المذكورة موضوعة لها فيها فلا، أما مثل الآية الاولى فظاهر، وأما مثل: (وأوصاني بالصلاة) فالاستدلال بها موقوف على كونه نقلا باللفظ، ولعله قطعي العدم فان هذه الالفاظ عربية ولغات الشرائع السابقة غير عربية. ثم لو تم الاستدلال كانت حقائق شرعية لكنها في الشرائع السابقة لا لغوية إلا أن يكون المراد من اللغوية ما هو أعم من ذلك كما هو الظاهر (قوله: لولاه) قيد للدلالة، والضمير راجع إلى هذا الاحتمال

٥٠

حال دعوى الوضع التعينى معه، ومع الغض عنه فالانصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة (نعم) حصوله في خصوص لسانه ممنوع فتأمل، وأما الثمرة بين القولين فتظهر في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت فيما إذا علم تأخر الاستعمال، وفيما إذا جهل التاريخ ففيه اشكال، واصالة تأخر الاستعمال - مع معارضتها باصالة تأخر الوضع - لا دليل على اعتبارها تعبدا إلا على القول

______________________________

(قوله: حال الوضع التعيني) يعني أيضا لا مجال لدعواه إذا كانت الالفاظ المذكورة حقائق في هذه المعاني قبل حدوث شريعتنا المقدسة (قوله: الغض عنه) يعني عن هذا الاحتمال (قوله: حصوله) اي حصول الوضع التعيني (قوله: تابعيه) المراد بهم من كان يتبعه في استعمال الالفاظ المذكورة في المعاني الشرعية ممن كان في عصره سواء أكان صحابيا أم غيره، وليس المراد من تابعيه ما يقابل الصحابة إذ محل الدعوى خصوص زمان الشارع (قوله: في خصوص لسانه) يعني ثبوت الوضع التعيني في خصوص الالفاظ التي يستعملها هو ممنوع بعد البناء على عدم الوضع التعييني وكان قوله: فتأمل، إشارة إلى اشكال في المنع المذكور، فان استعمال الشارع تلك الالفاظ في تلك المعاني في مدة تقارب عشرين سنة مما يؤدي إلى حصول الوضع التعيني (قوله: على الثبوت) يعني على تقدير القول بثبوت الحقيقة الشرعية (أقول): يمكن ان يشكل بان ذلك يتوقف ايضا على هجر المعاني اللغوية وإلا كانت من قبيل اللفظ المشترك يحتاج في الحمل على أحدهما بعينه إلى القرينة - مضافا إلى أن الثمرة المذكورة فرضية علمية لا عملية، وإلا فقد قيل: إن هذه المعاني مما يعلم كونها مرادة للشارع في جميع الاستعمالات فان للتتبع شاهد بانه لم يستعمل في غيرها (قوله: تأخر الاستعمال) يعني عن زمان الوضع (قوله: جهل التاريخ) يعني فلا يدرى أن الاستعمال قبل الوضع أو بعده (قوله: وأصالة تأخر) يعني ربما يدعى أنه يمكن إثبات كون

٥١

بالاصل المثبت ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك، واصالة عدم النقل إنما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخره فتأمل. (العاشر) انه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات أسامي لخصوص الصحيحة أو للاعم منها، وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين يذكر أمور (منها) انه لا شبهة في تأتي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفى جريانه

______________________________

الاستعمال بعد الوضع ليحمل اللفظ على المعنى الشرعي، وطريق الاثبات إعمال القاعدة المشهورة: أعني أصالة تأخر الحادث، فان الاستعمال حادث فيثبت تأخره بالاصل المذكور (والاشكال) على هذا الوجه من وجوه (الاول) أنه معارض باصالة تأخر الوضع فانه شئ حادث ايضا (الثاني) أن التأخر ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فجريان الاصل فيه موقوف على القول بالاصل المثبت وهو الاصل الجاري فيما ليس موضوعا لحكم شرعي ولا حكما شرعيا وكان يترتب عليه حكم شرعي بواسطة كما في المقام، فانه إذا كان الاستعمال متأخرا كان اللفظ محمولا على المعنى الشرعي، وإذا حمل عليه ثبت حكم شرعي، لكن لا دليل على حجية الاصل المثبت إلا بناء العقلاء في موارد مخصوصة ليس المقام منها - مع أن التأخر ليس في نفسه مجرى للاصل، وإنما هو من لوازم عدم الاستعمال إلى زمان الوضع ويأتي في محله انشاء الله أن الاصل لا يجري في كل من عدمي مجهولي التاريخ ولو كان العدم موضوعا للاثر الشرعي فانتظر (قوله: واصالة عدم) يعني قد يقال: انه تجري اصالة عدم النقل في زمان الاستعمال، الذي يكون لازمه الحمل على المعنى اللغوي، لكن فيه أن اصالة عدم النقل انما تجري إذا شك في حدوث النقل وعدمه لا ما إذا علم النقل وشك في تقدمه وتأخره كما في المقام (أقول): لا يبعد جريان اصالة عدم النقل لو علم تاريخ الاستعمال، والعلم بالنقل في الجملة مع الجهل بكونه قبله أو بعده غير ضائر، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فتأمل.

٥٢

على القول بالعدم إشكال، وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره: أن النزاع وقع على هذا في أن الاصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ؟ كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة اخرى معينة للآخر، وأنت خبير بانه لا يكاد يصح هذا الا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك، وأن بناء الشارع في محاوراته استقر - عند عدم نصب قرينة أخرى - على ارادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى

______________________________

الصحيح والاعم

(قوله: على القول بالعدم اشكال) هذا الاشكال لا يجري بناء على كون الالفاظ حقائق لغوية بالمعنى الذي استشهد عليه بالآيات الشريفة المتقدمة فانه يجري عليه النزاع كما يجري بناء على الحقيقة الشرعية (قوله: أن يقال) هذا ذكره في التقريرات وجعله أولى (قوله: بمعنى أن أيهما قد اعتبرت) هذا التحرير يترتب عليه سبك مجاز في مجاز، ويمكن تحريره بنحو لا يلزم منه ذلك، فيقال: بعد ما كانت هذه الالفاظ مجازا في المعاني المستحدثة فهل مقتضى القرينة النوعية حملها على المعنى الصحيح حتى تقوم قرينة شخصية على ارادة الاعم أو مقتضاها الحمل على الاعم حتى تقوم القرينة الشخصية على ارادة الصحيح ؟ والقائل بالصحيح يذهب إلى الاول والقائل بالاعم يذهب إلى الثاني، ويكون النزاع على هذا نظير النزاع في الامر الواقع عقيب توهم الحظر وفي النهي الواقع عقيب توهم الوجوب، ونحوهما (قوله: بتبعه ومناسبته) هذا لا يلزم أحد المذهبين، إذ يمكن الالتزام بكون الاستعمال بملاحظة العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي الاصلى حتى لا يلزم سبك مجاز في مجاز (قوله: كلامه عليه) أي كلام الشارع على المعنى

٥٣

وأنى لهم باثبات ذلك، وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلانى وذلك بأن يكون النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها الا بالاخرى

______________________________

الملاحظ فيه العلاقة أولا (قوله: وأنى لهم) أي لكل من القائلين بالصحيح والقائلين بالاعم (قوله: باثبات ذلك) هذا غير ظاهر إذ يمكن للقائل بالصحيح الالتزام به إما لعدم امكان تصوير الجامع - كما يراه المصنف (ره) فيمتنع ملاحظة العلاقة بينه وبين المعاني الاصلية، أو يكون الصحيح هو محط الآثار والاغراض فيكون ذلك قرينة على إرادته إلا أن تقوم قرينة على خلافها، أو لكونه المتبادر من اللفظ بمجرد وجود القرينة الصارفة فيستكشف به وجود قرينة نوعية ارتكازية مقتضية له، ويمكن للقائل بالاعم دعوى الاستقراء الحاصل من ملاحظة المعاني الموضوع لها والمستعمل فيها أو خصوص الموضوع لها على نحو يكشف عن ضابط مطرد حتى في المعاني المجازية أو دعوى التبادر على النحو المتقدم، وليس هذا ونحوه بأضعف من أدلة القولين بناء على القول بالحقيقة الشرعية فتأمل، (قوله: ما نسب إلى الباقلاني) المنسوب إليه أن الالفاظ باقية على معانيها اللغوية والخصوصيات الزائدة عليها معتبرة في موضوع الامر لا في المستعمل فيه فتكون نسبة المعاني المستحدثة إلى المعاني اللغوية نسبة المقيد إلى المطلق فان كان تقييد المطلق يوجب التجوز فيه كانت الالفاظ مجازا من قبيل مجاز الاطلاق الوارد عليه التقييد، وإلا كانت حقيقة وعلى القول بنفي الحقيقة الشرعية تكون الالفاظ مستعملة في المعاني المستحدثة بعلاقة الجزء والكل أو نحوها، ومنه يظهر لك الفرق بين قول الباقلاني والقول بنفي الحقيقة الشرعية، كما منه يظهر الاشكال في تصوير النزاع على مذهبه بناء على كون المطلق الوارد عليه التقييد حقيقة إذ ليست هي إلا مستعملة في نفس المعاني اللغوية لا في الصحيح ولا في الاعم، (فان قلت): المعاني اللغوية تكون صحيحة وفاسدة فيمكن تأتي النزاع عليه أيضا (قلت): صحة المعاني اللغوية ليست موضوعا للنزاع كصحة سائر المعاني

٥٤

الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الاجزاء والشرائط أو هما في الجملة فلا تغفل (ومنها) أن الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية وتفسيرها باسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين - أو غير ذلك انما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار، وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما لا يوجبه اختلافها

______________________________

اللغوية التى لا تكون موضوعا للآثار. نعم لو كان المراد من المعاني اللغوية ما تقدم الاستدلال عليه بالآيات فقد عرفت تأتي النزاع حينئذ بلا محذور، وأما ما ذكره المصنف (ره) في تحرير النزاع على مذهبه فليس نزاعا في معاني تلك الالفاظ الحقيقية ولا المجازية بل نزاع في امر خارج عن الصحيح والاعم. نعم بناء على أن المطلق مجاز فيمكن النزاع على النحو المتقدم بناء على نفي الحقيقة الشرعية، (قوله: الدالة على اجزاء) صفة القرينة (قوله: هو تمام الاجزاء) خبر كلمة (أن) وعلى هذا يكون النزاع في الالفاظ الحاكية عن أجزاء المأمور به وشرائطه.

معنى الصحة

(قوله: هو التمامية) يعني تمامية الاجزاء والشرائط، وعن الوحيد (ره) تفسيرها بالتمامية للاجزاء فقط وهو غير ظاهر (قوله: إنما هو بالمهم) يعني أن الصحة عند الجميع بمعنى واحد والاختلاف في تعريفها ليس للاختلاف في معناها بل للاختلاف في الاثر المقصود الاشارة إليها به، فالفقهاء لما كان الاثر المقصود من الصحة عندهم سقوط القضاء عرفوا الصحة باسقاط القضاء، والمتكلمون لما كان الاثر المقصود لهم موافقة الشريعة وعدمها لانها هي التي تكون موضوعا للثواب والعقاب عرفوها بموافقة الشريعة، فمقتضى الجمود على ظاهر التعريفات وان كان هو الاختلاف في معناها، إلا أن التأمل في كلماتهم يقتضي إرادة ما ذكرنا من قصد الاشارة إلى

٥٥

بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار.. إلى غير ذلك كما لا يخفى، ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمران اضافيان فيختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى فتدبر جيدا (ومنها) انه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا، ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وإمكان الاشارة إليه بخواصه وآثاره، فان الاشتراك في الاثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما (والاشكال فيه) بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا

______________________________

مفهومها بالاثر المناسب لوظائفهم (قوله: بحسب الحالات) فانه من اختلاف المصداق لا المفهوم.

القدر الجامع على القول بالصحيح

(قوله: لا بد على كلا القولين) للمفروغية عن انها موضوعة بالوضع العام والموضوع له عام لا خاص ولا من المشترك اللفظي وإلا كفى في الاول الجامع الاعتباري مثل عنوان الجامع بين الافراد التامة والناقصة والثاني لا يحتاج إلى جامع (قوله: كاشف عن الاشتراك) الكشف بذلك ربما يمنع لو كان تأثيرها في القابلية إذ لا يعتبر في المؤثرات في القابلية أن يكون بينها جامع حقيقي فان كلا من وجود الشرط وعدم المانع مؤثر في القابلية - مع أنه لا جامع بين الوجود والعدم. نعم لو كانت الافراد الصحيحة مؤثرة في الجامع حقيقة أمكن تمامية البرهان (قوله: وما هو معراج) تعدد الآثار يمكن أن يكون لاجل تعدد جهات الجامع فيؤثر في كل واحد منها بجهة من جهاته، ويمكن أن يكون لاجل أنها آثار طولية (قوله: والاشكال فيه بأن) هذا الاشكال مذكور

٥٦

مركبا إذ كل ما فرض جامعا يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا لما عرفت، ولا أمرا بسيطا لانه لا يخلو إما أن يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مسلوبا له، والاول غير معقول لبداهة استحالة أخذ ما لا يأتي الا من قبل الطلب في متعلقه - مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة والمطلوب وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها لعدم الاجمال حينئذ في المأمور به فيها وإنما الاجمال فيما يتحقق به وفى مثله لا مجال لها - كما حقق في محله

______________________________

في تقريرات درس شيخنا الاعظم (قده) وقد استنتج منه كون الالفاظ موضوعة لتمام الاجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العامد العالم فتكون الصلاة الواقعة من غيره بدلا مسقطا للواقع وليست بصلاة ويكون استعمال لفظ الصلاة فيها مجازا. هذا ولكن لا يخفى وقوع الاختلاف بين أفراد فعل القادر المختار العامد العالم من حيث الوقت والسفر والحضر ومن حيث اليومية والآيات والنافلة... إلى غير ذلك، والالتزام بالاشتراك اللفظي كما ترى، وبالاشتراك المعنوي يتوقف على وجود الجامع ودفع الاشكال المذكور عنه، وحينئذ فما به يدفع الاشكال عن تصوير الجامع بينها يدفع به الاشكال عن تصوير الجامع بين مطلق الافراد الصحيحة لعدم فرق ظاهر بين المقامين (قوله: يمكن أن يكون) يعني فلا يختص بالافراد الصحيحة (قوله: لما عرفت) يعني من كون الشئ الواحد صحيحا بلحاظ حال فاسدا بلحاظ حال أخرى (قوله: بسيطا) يعني ماهية واحدة في مقابل المركب من ماهيات مختلفة (قوله: ما لا يتأتى إلا من قبل) إذ من المعلوم أن عنوان المطلوب إنما ينتزع بعد تعلق الطلب بالماهية وقبله لا مجال لاعتباره، وإذا كان عنوان المطلوب متأخرا عن الطلب امتنع ان يؤخذ في موضوعه كما سيأتي تفصيله في التعبد والتوصل انشاء الله تعالى (قوله: لزوم الترادف) يعني وبطلانه ضروري (قوله: وعدم جريان) معطوف على الترادف (قوله: لعدم الاجمال) تعليل لعدم جريان البراءة يعني إذا كان التكليف

٥٧

- مع أن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب أيضا (مدفوع) بأن الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد وفى مثله تجرى البراءة، وإنما لا تجرى فيما إذا كان المأمور به امرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب

______________________________

متعلقا بالمفهوم البسيط كان التكليف معلوما والشك يكون شكا في الفراغ الذي هو مجرى الاحتياط لا في التكليف الذي هو مجرى البراءة وليس كذلك لو كان مركبا مجملا إذ المقدار المتيقن منه قد علم التكليف به فيجب فعله عقلا والمقدار الزائد مما شك في تعلق التكليف به والاصل فيه البراءة فتأمل (قوله: مع أن المشهور) الظاهر أن القول بالصحيح منسوب إلى المشهور والقول بالبراءة منسوب إلى المشهور ايضا لا أن القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة وبالعكس، (قوله: وبهذا يشكل) يعني ايضا يكون لازمه القول بالاحتياط (قوله: مدفوع) خبر لقوله: والاشكال، وتوضيح الدفع: أن المفهوم البسيط الذي يدعى وضع اللفظ له (تارة) يكون موجودا بوجود ممتاز عن الوجود المردد بين الاقل والاكثر (وأخرى) يكون موجودا بعين وجوده بحيث يصح حمله عليه فان كان من قبيل الاول نظير الطهارة من الحدث بالاضافة إلى نفس الوضوء (مثلا) فلا ريب في أن مرجع الشك فيه هو الاحتياط إذ الشك في اعتبار شئ في الوضوء شطرا أو شرطا لما كان ملزوما للشك في سقوط التكليف بالطهارة فهو وان لم يقتض الاحتياط في نفسه الا أن لازمه كاف في اقتضاء الاحتياط، لان الشك في سقوط التكليف المعلوم مما لم يناقش أحد في اقتضائه الاحتياط، أما إذا كان من قبيل الثاني فالشك بين الاقل والاكثر شك في التكليف زائدا على المقدار المعلوم الثابت لمعلوم الجزئية فالمرجع فيه البراءة، وليس من لوازم كون الموضوع بسيطا أن

٥٨

يكون مرجع الشك فيه الاحتياط، ولا من لوازم كونه مركبا أن يكون مرجع الشك فيه البراءة، بل المعيار ما ذكرنا وانه مهما كان الشك في نفس التكليف - ولو من حيث الزيادة والنقيصة - فالمرجع فيه البراءة ولو كان الموضوع بسيطا، ومهما كان الشك في سقوط التكليف المعلوم للشك في تحقق موضوعه، فالمرجع فيه الاحتياط ولو كان الموضوع مركبا " فنقول " في المقام: الاجزاء الخارجية وان كانت متباينة بحسب الماهية لكنها مشتركة في مفهوم واحد عرضي ينطبق على كل فرد من أفراد الصحيح بنحو انطباقه على الباقي، وتفاوت الافراد في الاجزاء لا يوجب تفاوتها في انطباقه عليها واتحاده معها خارجا كما ترى عنوان الدواء يختلف مطابقه في الخارج باختلاف الاشخاص والازمنة والامكنة فيكون الدواء بلحاظ حال سما بلحاظ حال أخرى، ولا يكون هذا الاختلاف موجبا لاختلاف الافراد في انطباق العنوان المذكور عليها ولا اختلافا في كيفية الانطباق (ومنه) يظهر ايضا انه يمكن الالتزام بكون الجامع مركبا ومع ذلك ينطبق على القليل والكثير بأن يكون القليل في بعض الاحوال واجدا لجهات يكون بها مصداقا للمفهوم المركب بعين مصداقية الكثير له فكما جاز ان يكون التراب أحد الطهورين عند فقد الماء جاز أن يكون القليل قائما مقام الكثير في فرديته للجامع بلا قصور فيه. نعم جعله مركبا من خصوص الاجزاء المعنونة في كلماتهم من التكبير والقراءة ونحوهما مانع من انضباطه بنحو يصدق على القليل والكثير صحيحين، لكنه لا ملزم به في مقام تصوير الجامع بين افراد الصحيح ثبوتا (إذا) عرفت هذا فنقول: إذا كان الجامع مفهوما واحدا عرضيا منطبقا على الافراد المركبة من أجزاء متباينة بحسب الذات والماهية مختلفة باختلاف الحالات والخصوصيات وشك في الاقل والاكثر كان الشك راجعا إلى الشك في كمية مقدار ذلك المفهوم العرضي وأن موضوع التكليف أي مرتبة منه ؟ المرتبة التي لا تحصل الا بانضمام مشكوك الجزئية أو المرتبة التي تحصل بدونه، فيكون الشك في ثبوت التكليف لما به امتياز إحدى

٥٩

مردد بين الاقل والاكثر كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما هذا على الصحيح، وأما على الاعم فتصوير الجامع في غاية الاشكال فما قيل في تصويره أو يقال وجوه

______________________________

المرتبتين عن الاخرى وقد عرفت انه موضوع للبراءة، ومثله الحال لو كان مركبا من ماهيات متباينة تتحد مع الاجزاء المذكورة حسبما عرفت بيانه. نعم لو كان المأمور به بسيطا في الخارج امتنع انطباقه على نفس الاجزاء لامتناع انطباق الواحد على الكثير، فلا بد ان يكون ممتازا عنها وجودا، ولازمه الرجوع إلى الاحتياط عند الشك في الاقل والاكثر إذ الشك حينئذ في حصول المكلف به لا في التكليف، لكن المراد من البسيط في تقرير الاشكال ما كان ماهية واحدة في قبال المركب من الماهيات المختلفة لا البسيط في الخارج، وإلا توجه عليه الاشكال بانه لا ينحصر الجامع بين ان يكون مركبا وبسيطا بالمعنى المذكور بل يجوز ان يكون ماهية واحدة صالحة للانطباق على المتكثر فيجري فيه ما عرفت من الرجوع إلى البراءة فتأمل والله سبحانه اعلم (قوله: مردد بين الاقل) بحيث لا يكون التردد إلا في السبب، أما لو كان التردد في المسبب والسبب جميعا فالمرجع فيه البراءة ايضا

تصوير الجامع على القول بالاعم

(قوله: في غاية الاشكال) هذا غير ظاهر، كيف والتقابل بين الصحة والفساد نظير التقابل بين الصحة والعيب من تقابل العدم والملكة الذي لا يكون إلا مع وحدة الذات فموضوع الملكة هو موضوع عدم الملكة - مضافا إلى أن المرتكز من قولنا: صحيح وفاسد، كون مرجع الضمير المتحمل له وصف الصحيح والفاسد أمرا واحدا لا أن مرجع ضمير أحدهما غير مرجع ضمير الآخر فتكون

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

2 - حواره مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمد النوفليّ: لمّا قدم علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرّومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليّ، ففعل، فرحّب بهم المأمون.

ثم قال لهم: إني إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكّرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسنعليه‌السلام فقال: يا سيدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك

١٨١

بكرة إن شاء الله. قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس - والله - ما بنى.

فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحّح وحدانيّته وإن قلت: إن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته، ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قال: فتبسّمعليه‌السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قطّ وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله.

فقال لي: يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزّبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الرّوم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلي قولي علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال الرضاعليه‌السلام : تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم، توضأعليه‌السلام

١٨٢

وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثمّ خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلما دخل الرضاعليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم فما زالوا وقوفاً والرضاعليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا أؤمن به؟

فقال له الإمام الرضاعليه‌السلام : يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟!

قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.

قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسىعليه‌السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضاعليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّ به الحواريون وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكتابه ولم يبشّر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضاعليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند

١٨٣

المسيح عيسى بن مريم؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال: ما تقول في يوحنا الدّيلمي.

قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به إنه يكون من بعده، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟!

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال: شديداً.

قال الرضاعليه‌السلام لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟!

قال: بلى لعمري.

قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأعليه‌السلام السّفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمته ثم قال: ما تقول يا نصرانيّ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذّكر وجب عليك القتل لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك.

١٨٤

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به.

قال الرضاعليه‌السلام : اشهدوا على إقراره. ثم قال: يا جاثليق، سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا.

قال الرضاعليه‌السلام : على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلاً وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأج، ويوحنّا بقرقيسيا، ويوحنّا الدّيلمي بزجان، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته وأُمته وهو الذي بشر أُمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قالعليه‌السلام : يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضاعليه‌السلام : وكيف ذلك؟

قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، ومازال صائم الدّهر، قائم الليل.

قال الرضاعليه‌السلام : فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني! إني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضاعليه‌السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، إنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه

١٨٥

والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم يتّخذه أُمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عَزَّ وجَلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيعليه‌السلام مثل ما صنع عيسى بن مريمعليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة أختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدّس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عَزَّ وجَلَّ إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثم قالعليه‌السلام : يا يهوديّ، خذ على هذا السفر من التوراة فتلاعليه‌السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل يهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب.

ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

قال الرضاعليه‌السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان و يا فلان و يا فلان، يقول لكم محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوموا بإذن الله عَزَّ وجَلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم.

ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمه البهائم، والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربّاً من دون

١٨٦

الله عَزَّ وجَلَّ ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى رباً جاء لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، أنّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت.

فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه أن نادهم.

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عَزَّ وجَلَّ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيمعليه‌السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعاً ثمّ وضع على كل جبل منهنّ جزءً، ثم ناديهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته.

فقال لهم: إني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأحياهم الله عَزَّ وجَلَّ من بعد موتهم.

وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟

قال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثم التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمرانعليه‌السلام ، هل تجد في التوراة مكتوباً نبأ محمّد وأُمته

١٨٧

إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. هكذا هو في التوراة مكتوب؟!

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً.

قال الرضاعليه‌السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر.

فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به.

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟!

قال: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ك ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتى وجدناه غضّاً طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنّه لمّا افتقد الإنجيل الأوّل

١٨٨

اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريمعليه‌السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم لوقا ومرقابوس: إنّ الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس، فإنّا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه، فقعد لوقاء ومرقابوس ويوحنّا ومتي ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأوّل وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم.

فقال له الرضاعليه‌السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.

فقال الرضاعليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا.

ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أنّ متي قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن خضرون، وقال مرقابوس: في نسبة عيسى بن مريم: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال الوقا: إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس.

ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه، حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريين إنّه لا يصعد إلى السماء إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.

١٨٩

قال الرضاعليه‌السلام : فما تقول في شهادة الوقا، ومرقابوس ومتي على عيسى وما نسبوه إليه؟

قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.

قال الرضاعليه‌السلام : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟

فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني، عمّا بدالك؟

قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضاعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟

قال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلاّ من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.

فقال الرضاعليه‌السلام : لا تقبل منّي حجة إلاّ بما تنطق به التوراة، على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمد؟

قال الرضاعليه‌السلام : شهد بنبوّته (صلّى الله عليه وآله) موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض.

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرضاعليه‌السلام : هل تعلم يا يهوديّ أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم فيه فصدّقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيمعليه‌السلام ؟

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.

١٩٠

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (صلّى الله عليه وآله).

قال: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم؟!

قال: نعم ولكنّي أحب أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضاعليه‌السلام : أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النّور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسىعليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم.

وقال شعيا النبيعليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟!

قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبّرني بهما.

قالعليه‌السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل، فمحمد (صلّى الله عليه وآله) أتنكر؟ هذا من التوراة، قال لا، ما أنكره.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم إنّي به لعارف، قالعليه‌السلام فإنّه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدّس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟

١٩١

قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوقعليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضاعليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد (صلّى الله عليه وآله)؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرضاعليه‌السلام : جهلت أنّ عيسى لم يخالف السنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرّة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

قال: نعم لا أنكره.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك موسى بن عمران؟

فقال: سل.

قال: ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟

قال اليهوديّ: إنّه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله.

قال له: مثل ماذا؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضاعليه‌السلام : صدقت إذا كانت حجة على نبوّته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال: لا؛ لأن موسى لم يكن له نظير لمكانته من ربّه، وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

١٩٢

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسىعليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلب العصا حيّة تسعى؟!

قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على دعوى نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بما لم يجيء به موسى، أركان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم، وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟

قال رأس الجالوت: يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال له الرضاعليه‌السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس إنّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك.

قال: بلى.

قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : وكذلك أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به وأمر كلّ نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة.

ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ.

١٩٣

قال الرضاعليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (صلّى الله عليه وآله) شاهد زور.

فلم يحر جواباً.

ثم دعاعليه‌السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضاعليه‌السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجّتك على نبوّته؟

قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده، ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.

قالعليه‌السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟!

قال: بلى.

قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنّه جاء بما لم يجيء به غيره؟!

فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا قوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.

فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً في المتكلمين فقال: يا عالم الناس لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن لي أن أسألك؟

قال الرضاعليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!

فقال: أنا هو.

فقالعليه‌السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور!

قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه.

١٩٤

قالعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض.

فقال عمران الصابي: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : سألت فافهم أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حدّه ولا على شيء حذاه ولا مثّله له.

فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطمعاً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً، تعقل هذا يا عمران؟

قال: نعم والله يا سيدي.

قالعليه‌السلام : واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه على من أذلّ، فلهذا خلق.

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت ياعمران؟

قال: نعم والله يا سيدي فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً ينتهى إليه المعرفة؟!

١٩٥

قال عمران: لابدّ من ذلك.

قال الرضاعليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟

فانقطع ولم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، إن سألتك عن الضّمير نفسه تُعرّفُه بضمير آخر؟!

ثم قال الرضاعليه‌السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً.

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه؟ كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟

قالعليه‌السلام : قد سألت فافهم إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه، وما لا وزن له، وهو الروح ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا ذوق والتقدير، والأعراض، والصور والعرض والطول، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغييرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

وأما الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرق من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق.

قال الرضاعليه‌السلام : يتغير عَزَّ وجَلَّ بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.

قال عمران: فبأي شيء عرفناه.

قالعليه‌السلام : بغيره.

قال: فأي شيء غيره؟

١٩٦

قال الرضاعليه‌السلام : مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.

قال عمران: يا سيدي فأيّ شيء هو؟

قالعليه‌السلام : هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إيّاه.

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق؟

قال الرضاعليه‌السلام : لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون وإنّما هو ليس شيء غيره، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.

قال عمران: يا سيدي فإنّ الذي كان عندي أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار تغير نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره؟

قال عمران: لم أرَ هذا، ألا تخبرني أهو في الخلق أم الخلق فيه.

قال الرضاعليه‌السلام : جلّ يا عمران عن ذلك ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك وتعرفه به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟! فان كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟

قال عمران: بضوء بيني وبينها.

فقال الرضاعليه‌السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك؟

قال نعم.

١٩٧

قال الرضاعليه‌السلام : فأرناه؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرّاة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى.

ثم التفتعليه‌السلام إلى المأمون قال: الصلاة قد حضرت.

فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

قال الرضاعليه‌السلام : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضاعليه‌السلام داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثم خرجاً، فعاد الرضاعليه‌السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.

قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عَزَّ وجَلَّ هل يوحد بحقيقة أم يوحد بوصف؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأوّل، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولاً، ولا محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم، ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء وما أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.

واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كلّ مدرك وفاصلاً لكلّ مشكل. وتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهي ولا وجود لأنها مبدعة بالإبداع، والنّور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض.

١٩٨

والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من الله عَزَّ وجَلَّ، علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على اللغات السريانيّة، والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.

فأمّا الخمسة المختلفة فتحجج لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عَزَّ وجَلَّ:( كُنْ فَيَكُونُ ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عَزَّ وجَلَّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ.

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عَزَّ وجَلَّ شيء، ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: وكيف لا تدلّ على غير أنفسها؟ قال الرضاعليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟ قال: نعم.

١٩٩

قال الرضاعليه‌السلام : واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود ولا تدلّ على الإحاطة كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا.

ولكن يدلّ على الله عَزَّ وجَلَّ بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدلّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلو لا أنّ ذلك كذلك لمكان المعبود الوحد غير الله تعالى، لأنّ صفاته وأسماءه غيره، أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني.

قال الرضاعليه‌السلام : إياك وقول الجهّال أهل العمى والضلال الذي يزعمون أن الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عَزَّ وجَلَّ نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عَزَّ وجَلَّ:( وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً ) يعنى أعمى عن الحقائق الموجودة.

وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571