المباهلة

المباهلة0%

المباهلة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155

المباهلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: الصفحات: 155
المشاهدات: 16772
تحميل: 7046


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16772 / تحميل: 7046
الحجم الحجم الحجم
المباهلة

المباهلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليٍّ أفضل من سائر الصحابة. هذا تقرير كلام الشيعة.

والجواب إنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمداً (ع) أفضل من عليّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان - محمود بن حسن الحمصي - على أنّ النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا أنّ علياً ما كان نبيّاً، فلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما إنّه مخصوص في حق محمّد (صلى الله عليه وسلم)، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء (عليهم السلام) انتهى كلام الرازي.

والقارئ يلاحظ مَعَنا أنّه لم يناقش في دلالة الآية على أفضليّة عليّ (ع) على سائر الصحابة، ويلاحظ أيضاً أنّه لم يناقش في اتفاق المسلمين على صحّة الخبر الدال على ما تفرّق من الصفات في الأنبياء، قد اجتمعت جميعاً في شخص عليٍّ (ع)، وهكذا يتّضح من جوابه على دعوى ابن الحسن الحمصي أنّ علياً أفضل من سائر الأنبياء، سوى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك لم يرد على الشيعة ما استفادوه من دلالة الآية الكريمة على أفضليّة عليّ (ع)، وكلّ ما في الأمر إنّه ناقش ابن الحسن الحمصي فيما ادعاه من الإجماع بإجماع ادعاه هو نفسه، وفرضه على المسلمين فرضاً.

ولمحمود الحمصي أن يقول، إنّ إجماعاً يخرج منه النخبة الممتازة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويخرج منه الهاشميون جميعاً، ويخرج منه الشيعة جميعاً، ليس بإجماع على كلّ تفسير يفسر به الفخر الرازي الإجماع، ولا يقام لهذا الإجماع وزن بين الإجماعات التي يدّعيها المسلمون.

وغير جائز في حكم العقل أن يكون إجماع، ونصف المسلمين على التقريب يقولون بأفضلية عليٍّ (ع) على سائر الأنبياء.

١٠١

ثمّ يعود محمود بن الحسن الحمصي فيقول: إنّ المسلمين، والنخبة الممتازة من صحب رسول الله (ص) أجمعوا قبل أن يخلق الله هذا الإنسان - أعني الفخر الرازي - ومَنْ على رأيه على أنّ علياً أفضل مَنْ خلق الله باستثناء محمّد رسول الله. ويبدو لنا أنّ هذا صحيح من وجهة الأمر الواقع، وأنّ هذا الإجماع هو الإجماع الصحيح المعتبر الذي يصح أنْ يحتجّ به المسلمون إذا رجعنا إلى شروط حجيّة الإجماع، وأمكان تحققه ووقوعه.

* * *

لقد رأينا من قبل أن الروايات متّفقة، على أنّ النبي (ص) اختار معه للمباهلة عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام)، وأجمع أهل القبلة كافة على أنّه (ص) خرج بهؤلاء، ولم يخرج معه غيرهم، وواضح من هذا الإجماع، ومن الروايات أنّ رسول الله (ص) لم يدع مجالاً لأيّ احتمال، فقد فسّر لفظة الأنفس والنساء.

وأيضاً لم يترك مجالاً للشك، أو التشكيك في صحّة استعمال اللفظ، أو صحّة إطلاقه، فقد خرج وأخرجهم معه على أنّ الحسنين مصداق الأبناء، وفاطمة مصداق النساء، وعليٌّ مصداق الأنفس، وحيث يفسّر النبي العربي فلا متّسع للقول، ويكفي أن يكون ذلك برهاناً على صحّة الاستعمال.

ولكنّ بعض الصحفيين نسب إلى بعض المفسرين أنّ حمل كلمة( نساءنا ) على فاطمة فقط، وكلمة( أنفسنا ) على عليٍّ فقط، لا تتّصل باللغة

١٠٢

وإنّما تستقي من مصدر شيعي، وإن هذه الروايات الكثيرة المتفق عليها مصدرها شيعيٌّ أيضاً! وإنّ مقصد الشيعة منها معروف! وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد! فإنهم استطاعوا أنْ يؤثروا على كثير من أهل السنّة. وعلّل ذلك بأنّ كلمة( نساءنا ) لا يقولها العربي ويريد بها بنته، لا سيما إذا كان له أزواج، وأبعد من ذلك أنْ يراد من كلمة ( أنفسنا ) عليٌّ فقط.

ولعلك ترى مَعَنا أنّ مصدر هذا القول فكرة واحدة متأصّلة في النفوس، تلك هي الكراهية لعليٍّ (ع)، لا لجرم له إلاّ إنّه علي بن أبي طالب زوج الزهراء البتول. وإلاّ فقد فسّر رسول الله لفظ (الأنفس) بعليّ، ولفظ (النساء) بفاطمة، وإذا كان هذا لا يصح فعمّن نأخذ التفسير، وإلى مَنْ نرجع في تصحيح الاستعمال يا مسلمون؟؟!

* * *

وبعد - فليست هذه النوازع بالشيء الجديد في تاريخ أمير المؤمنين (ع)، وإنّما الجديد فيها أن تقع في العصر الحاضر الذي تفتّحت فيه جوانب النفوس، وأنْ يتّخذ الباحثون اليوم من تلك النوازع شيئاً هو أقرب إلى الثورة العصبية التي كانت تسيطر على عقول رجال الدين، وعلى الأقلام في الأزمنة الغابرة.

ومن الغريب جدّاً أنّ الزمن لم يغيّر من نفوس هؤلاءِ شيئاً، والعلم لم يخفّف من هذه الفكرة المغلوطة، مع العلم بأنّ النفوس اليوم ألبست لفهم الحقائق أكثر من قبل، وبدأت العيون تتفتح على الحقائق التي غابت عنها طويلاً كما ران

١٠٣

عليها من أصداء، وأخذت اليوم تتجلّى وتتضح، ومع العلم أيضاً بأنّ مبضع التشريح أصبح حاداً، يستطيع أنْ يضع كلّ شخص، وكلّ حقيقة تاريخيّة على المنضدة.

وفي الأزمنة الغابرة كان الناس يميلون إلى هذه النوازع، ويصدّقونها من غير بحث عن حقيقتها، بيد أنّ هذا الزمن أصبح ينكر كلّ هذه الظواهر المنبعثة عن النوازع النفسية، أو تقليد أولئك العصبيين، فلا الحقائق الدينية، ولا الحقائق العلمية هي حقائق، ما لم تعرض على الميزان، وتوضح على المنضدة.

والعجيب كيف فقد هؤلاء المقاييس المنطقية، والتوازن العقلي؛ فضلّوا الصواب حينما نسبوا الجهل إلى كبار علمائهم، ومفسريهم، وكبار محدثيهم، ومؤرخيهم، وأين القواعد، والشروط التي تأسست لحفظ الحديث، وتدوينه وتصحيحه؟! وأين موازين الجرح والتعديل التي كانت تزن الرجال، فتخرّج مَنْ تخرّج، وتعدل من تعدل؟! وكأنها بنظر هؤلاء كلها جفاء لا ترتكز على شيء، وأعجب من ذلك تضليل كبار محدثيهم، وكبار علمائهم، وطعنه بالضعف العلمي الذي يرميهم به، وينسبه إليهم ذلك المفسّر - أو ذلك الصحفي بعبارة أصح - إلى حدٍّ تمكّن الشيعة أن يسخروا بعلم هؤلاء، وأنْ يُسخّروهم إلى رواية ما يرونه، وإلى الاعتراف بصحّة ما يصح عندهم، كأنّه لا يعلم بأنّه في كلّ ذلك يعترف بجهل قومه، وتفسخ ميزان الجرح، والتعديل عندهم، ولربما كان هذا فرضاً صادقاً، أو راجحاً، أو على الأقل مما يوجب الشك في تصحيح ما صحّ عندهم من الأخبار.

غريب جداً أن تمرّ أخبار آية المباهلة على أجيال من الناس، وعلى طبقات من المؤرّخين والمحدثين والمفسرين، ثمّ تمرّ على موازين الجرح والتعديل،

١٠٤

وفي كلّ هذه الأدوار يلعب الشيعة بعقول أولئك العلماء، وبعلمهم، وبموازين المحدّثين، وفيهم أصحاب الصحاح - فإنّهم جميعاً رووا أخبار المباهلة - ثمّ لا يرشدهم علمهم، ولا تهديهم موازينهم(1) . وأنا لا أدري أيّ منطق هذا، وكيف يتقبله علماء أهل السنّة ويغضي عليم الأزهر الشريف، أليس فيهم من يأسوا على السلف ويثأر لهم؟!

وأيضاً لا أدري الهدف الذي يرمي إليه المفكرون والمصلحون، من وراء هذه الطعون القاتلة؟. وما الذي يعنونه بإخراجها على هذا الشكل من الطعن في الصميم؟. ألم يكن لهم حاجز من ورع، وحريجة من دين عن

____________________

(1) لا نرمي بالحكم على أهل الصحاح بأنهم رووا تفصيل آية المباهلة، ولكنّهم اتفقوا أنّه لما نزلت، دعا رسول الله(ص) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً.

روى ذلك مسلم في صحيحه، والحاكم على شرط الشيخين، وصحّحه الذهبي على شرط البخاري ومسلم والحميدي، في الجمع بين الصحيحين. والثعلبي في تفسيره، وابن المغازي، وأبو نعيم في حليته، والحمويني في فوائده، وابن إسحاق في مغازيه، وابن الصباغ المالكي في فصله، والطبري في تفسيره، والواحدي في أسباب النزول، والزمخشري في كشّافه، والفخر الرازي في تفسيره، وغيرهم ممن ذكرنا في مطاوي هذه الفصول التي مرّت عليك، وغيره ممن لم نذكر، وبعبارة أوضح قام الإجماع من المسلمين كافّة على أنّ النبي(ص) لم يدعُ للمباهلة غيرهم.

١٠٥

الطعن في علم السلف، سلفهم الصالح؟! حتّى نزلوا بأقدارهم العلمية إلى أحطّ منزلة يسعهم أن ينزلوا بهم إليها، فنسبوا لهم الضعف بالتفكير، ونسبوا لهم عدم التمييز بين الموضوع وغير الموضوع، والصحيح وغير الصحيح، ونسبوا لهم عدم النضوج العلمي الكافي لتمييز الصحيح من الموضوع، كلّ ذلك بكلمة واحدة - ما أهونها عليهم - وهي (أنّهم - يعني الشيعة - استطاعوا أن يؤثّروا على كثير من أهل السنّة)، وسهل عليهم هذا المنطق المخذول الذي حطّ من قدرهم العلمي، وحطّ من قدر صحاحهم التي أفنوا أعمارهم في جمعها، ويكفي في اختلالها والحطّ من قدرها وعدم الوثوق بها أنّ أصحابها لا يملكون الميزان الصحيح حيث استطاع الشيعة أن يؤثّروا عليهم، وتأثّر هؤلاء وهم غافلون، أو وهم جاهلون!

وواضح بعد هذا أن لا يبقى وثوق بأيّ كتاب، وأيّ حديث، وأي محدث، وأي جرح، وأي تعديل، ولا أراه ينفع ذلك الصحفي إخراج بعض الصحاح، على أنّا لا نراه يتمكن من ذلك بحكم الضرورة، وليس من موضوعنا أن ندخل في هذا البحث؛ لأن الكلام فيه طويل وعريض، وهذا فيما أراه هو الخطأ الذي جاء من الغلوِّ في العصبيّة، ولا أعلم خطأً أكبر من هذا الخطأ، ولا إسفافاً أحطّ من هذا الإسفاف، وحتى الآن لم نعلم السبب الذي حمله على أن يسف، وعلى أن يقع في هذا الخطأ! وعجيب أن ينسب الغفلة لكثير من سلفه، وهل لأنّهم رووا أخبار قصّة المباهلة كما وقعت؟! أو أنّهم حملوا كلمة( نساءنا ) على فاطمة (عليها السلام)، وكلمة( أنفسنا ) على عليٍّ ( ع )، وهذا لا يصحُّ بعرف اللغة كما يزعم!!

١٠٦

وقد يكون من الواضح أنّه يشير إلى الثاني من القولين؛ لينجو من الطعن في مسانيد الحديث حتّى الصحاح منها.

ويكاد يبدو ذلك غريباً؛ لأنّ هذا الرأي في حاجة إلى تمحيص قبل إثارته؛ لأنّ الواقع بين فرضين اثنين لا مفرّ من أحدهما.

فإمّا أن يفرض أنّ الشيعة هم الذين فسّروا كلمة( نساءنا ) ، وحملوها على فاطمة، وكلمة( أنفسنا ) على عليّ ( ع ).

وإمّا أن يفرض أن رسول الله ( ص ) هو الذي فسّر هذا التفسير، والذي لا يرتاب فيه أحدٌ، إنّه لا سبيل إلى الأول قطعاً، وإنّما التفسير كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأينا من قبل أنّ المسلمين كافة بما فيهم الخوارج أجمعوا على أنّه لم يخرج مع النبي للمباهلة سوى عليٌّ ( ع ) من الأنفس، وسوى فاطمة (عليها السلام) من النساء، وسوى الحسن والحسين من الأبناء، وهذا تفسير عملي على أي اعتبار أراد الناس أن يعتبروا هذا التفسير منه، وغير جائز بحكم العقل، وبحكم اللغة العربية أن يكون تفسيره لا يصح بعرف اللغة كما يزعمون.

وهذا صحيح من وجهة العقيدة الإسلامية، ومن جهة اللسان؛ لأنّ رسول الله عربي، وهو سيد العرب.

ثمّ نعود فنقول لهؤلاء: إنّ هذا التفسير منه صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أكان مبعثه العاطفة، أم صحّة الاستعمال العربي، أم تفسير من الله سبحانه، فهو لا يتّصل بأحد من الشيعة ليموّه هؤلاء على كثير من علماء السنّة ويستجهلونهم.

١٠٧

ونحن لا يسعنا أن ننسب إلى النبي ( ص ) التأثر بالعاطفة، بل لا يجوز عليه التأثر بالعاطفة في مثل هذا الموقف، بل في كلّ مقام وهو الذي لم ينسَ في وقت من الأوقات الدعوة إلى المساواة بين أفراد المسلمين، تلك المساواة التي أراد الإسلام أن يجمع بها بين كلّ الشعوب والأفراد، ويؤلّف بينهم جميعاً، ليُكوّن منهم أمّةً واحدةً تسودها المحبة والإخاء.

* * *

لقد كان بين أصحاب النبي ( ص ) من أهل الشرف والمكانة واللياقة والإحساس، وأهل البلاء الحسن في بناء الهيكل الإسلامي من لا يصبر على هذا التحيّز الذي تجرّه العاطفة، إنْ كان ذلك عن عاطفة، بل كان في صحبه من كان يجرؤ على رسول الله ( ص ) في مواقف لا تصحّ فيها الجرأة ولا تحمد، أفَتراهم يقفون منه موقف الجامد حينما يرونه عاطفيّاً متحيّزاً لذوي قرباه في ساحة الشرف الخالد بخلود الإسلام، وخلود كتاب الله الذي يرتلّه المسلمون في آناء الليل وأطراف النهار؟؟

مع أنّهم فهموا أنّ الدعوة كانت عامة لأنفس المسلمين ولنسائهم ولأبنائهم، ثمّ لا يُخرج رسول الله ( ص ) معه منهم سوى ابنته وابن عمه وولديهما ( ع )!.

وليس عندي - بل في واقع الأمر - أضعف من هذا الاحتمال على أيّ تفسر أرادوا أن يفسروا خلق محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعظمته وسمو مقامه ومركزه الاجتماعي كنبي مرسل، لهداية البشر وسعادتهم ورفع التنابز من بينهم، ومن عرف أخلاق النبي، وتركيب مزاجه، يدفع عنه كلّ احتمال من

١٠٨

هذا القبيل.

ولعلّه ليس لهؤلاء المهوسين اعتراض يجيش في نفوسهم سوى اعتراض واحد، هو إنّه لماذا لم يُخرج معه أحداً من أصحابه، والفضليات من نسائه؟.. هذا هو الاعتراض الواضح الصريح الذي يختلج في نفوسٍ كثيرةٍ!!

ولكنّ ابن عساكر أراد أن يشبع نهمة تلك النفوس؛ فأخرج رواية نسبها إلى جعفر بن محمّد الباقر ( ع ) عن أبيه ( إنّه لما نزلت آية( قل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ) الآية جاء بأبي بكر وولده، وبعمر وولده، وبعثمان وولده، وبعلي وولده)!.

أخرجها بهذا الترقيم الرباعي المألوف في كلّ الحوادث.

ولكن ليس في ذلك عرض صحيح متّزن حري بأن يعقل الألسن ويبكم الأفواه، وإن حسب المهوسون ذلك عرضاً صحيحا. فقد غاب عنهم رشدهم، إذ لم يفقهوا أنّ هذا منازلة منه ( ص ) لذوي المكانة السامية من كبار صحبه، وأهل الجهاد والبلاء في سبيل الله. ومنازلة منه لعمّه العباس شيخ الهاشميين. ومنازلة منه لعمته صفية بنت عبد المطلب، وأم هاني بنت عمّه أبي طالب، وهما من صفوة الهاشميات.

على أنّ هؤلاء ليسوا بأجلّ أصحابه، وفيهم عمّه العباس وسلمان وأبو ذر وعمار والمقداد، وأمثالهم كسعد سيد الخزرج وحذيفة وأبو عبيدة، وغيرهم كثير.

وعلى أنّه يلوح لنا أنّ الترقيم الثلاثي بهذا الشكل لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما وضعته السياسة في عهد الأُمويين، والترقيم الرباعي وضعته السياسة في عصر العباسيين، ومن يلاحظ الأخبار التي ترقم الترقيم الثلاثي، والتي ترقم الترقيم الرباعي، ويلاحظ مواردها يعلم أنّ منطق السياسة هو الذي قضى قضاء لا

١٠٩

معدى عنه بهذا الترقيم حسب ترتيب الخلافة!..

* * *

ولعلّ سائلاً يسأل كيف لم يتخلّف هذا الترتيب الثلاثي في حادثة من الحوادث التي اقتضت أن يتوارد الصحابة فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟. سواء أكان ذلك بدعوة منه، أم كانت على سبيل الصدفة، وكيف لم يتّفق أن سبق عثمان صاحبيه، أو سبقهما عمر؟!

ولكن ليس على السائل المنصف إلاّ أن يتأمّل الحوادث التي ورد فيها هذا الترقيم، ليعلم إنّه ترقيم مصطنع في عصرين متضاربين، وكلما ألقى ببصره على الحوادث المفاجئة، وغير المفاجئة، لا يلبث أن تطالعه الشكوك من جميع جهاته.

وكانت السياسة قد أباحت لمصطنعيها في سبيل تحقيق غاياتها، أن ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لرجال السلطة سلطتهم الارستقراطية، ومثل هذا كثير في كثير من الحوادث السياسية، والدينية، سواء في الصدر الأول، أم في العصر الأموي، أم في العصر العباسي. وليس هذا الترقيم بهذا الترتيب لازماً طبيعياً فلا ينفك، ولا هو تكوين ذاتي فلا يتخلّف، على أنّ العادة قد تحيله على هذا الاطراد المصطنع، مرتباً على ترتيب الخلافة، وإنّما رقّمته السياسة، ثمّ فرضته على رواة الحديث والواقائع، ووجد هؤلاء من أنفسهم دوافعَ، وبواعثَ دفعتهم لاعتناق هذه السياسة؛ فرقّموا هذا الترقيم، وأعانها على ذلك ميل في النفوس!..

وإنّا نستطيع أن نفهم أنّ هذا الترتيب مصطنع، ولم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّه حدث متأخرٌ من حوادث كثيرة لا نريد سردها، ولكن مثالاً واحداً نضعه بين أيدي المنصفين من قرّائنا ليحللوه، ثمّ

١١٠

لهم الحكم بعد ذلك.

حدثونا عن عمر (رض) أنّه قال - ودماؤه تنزف - لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته، وقال لو كان سالم مولى أبي عبيدة حيّاً لاستخلفته!!

وهذا يدلّنا على أنّ عثمان كان في مرتبة متأخرة، ولو أنّ الترتيب والترقيم كان على أساس الفضيلة في عهد النبي، لما صحّ من أبي حفص أن يستخلف أبا عبيدة، أو سالم مولاه.

وبعد - فواضح أنّ معدن الترقيم سياسي، ومن الميسور للباحث أن يلتمس العلل التي كانت تبعث على الاصطناع، ويسير عليه إذا رجع إلى العصر الأموي، وإلى أحوال الصحابة الذين اصطنعهم الأمويون. ولم يأتِ الوقت لدرس هذه الناحية.

وعلى أنّ الرواية لو صحّت نسبتها إلى الإمام جعفر الصادق ( ع )، لأخرجها شيعته، وهم الذين لا تأخذهم في الحقّ لومة لائم، كيف والرواية منسوبة إلى إمامهم الذي ينتسبون إليه...

وبقي شيء واحد لابد أن نلفتك إليه، وهو أنّ كلمة ( نساءنا ) لا يقولها العربي ويريد بنته، لاسيما إذا كان له أزواج دعوى كبيرة جازف فيها بنفسه؛ لأنها تحتاج إلى تتبّع عام واستقصاءٍ شاملٍ تامٍ.

على أنّ سيد العرب استعمل كلمة ( نساءنا ) في ابنته فقط، مع أنّ في بيته تسع نسوة، وفسّر كلمة( أنفسنا ) بعليّ فقط، مع أنّ حوله الألوف من أصحابه، وبعد هذا لا تكون الدعوى إلاّ هراء من نوازع الشيطان التي تحاك في الصدور.

* * *

١١١

وشيءٌ واحد نريد أن نشير إليه هنا، وهو ما ذكره سماحة البحّاثة حجّة الإسلام الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين، في كلمته الغرّاء، قال ما نصّه بالحرف:

(وأنت تعلم أنّ مباهلته ( ص ) بهم، والتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرده فضل عظيم - وانتخابه إياهم لهذه المهمة العظيمة، واختصاصهم بهذا الشأن الكبير، وإيثارهم فيه على من سواهم من أهل السوابق، فضل على فضل. لم يسبقهم إليه سابق، ولن يلحقهم فيه لاحق - ونزول القرآن العزيز آمراً بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث يزيد فضل المباهلة ظهوراً، ويضيف إلى شرف اختصاصهم بها شرفاً، وإلى نوره نوراً ).

( وهناك نكتة يعرف كنهها علماء البلاغة، ويقدر قدرها الراسخون في العلم، العارفون بأسرار القرآن. وهي أن الآية الكريمة ظاهرة في عموم الأبناء والنساء والأنفس، كما يشهد به علماء البيان. ولا يجهله أحد ممن عرف أنّ الجمع المضاف حقيقةٌ في الاستغراق. وإنّما أطلقت هذه العمومات عليهم بالخصوص تبياناً لكونهم ممثليّ الإسلام، وإعلاناً لكونهم أكمل الأنام، وأذاناً بكونهم صفوة العالم، وبرهاناً على أنّهم خيرة الخيرة من بني آدم، وتنبيها إلى أنّ فيهم من الروحانية الإسلامية، والإخلاص لله في العبودية، ما ليس في جميع البرية. وإنّ دعوتهم إلى المباهلة بحكم دعوة الجميع، وحضورهم خاصة فيها منزّل منزلة حضور الأمة عامة، وتأمينهم على دعائه مُغنٍ عن تأمين من عداهم. وبهذا جاز التجوز بإطلاق تلك العمومات عليهم بالخصوص - ومَنْ غاص على أسرار الكتاب الحكيم، وتدبّره، ووقف على أغراضه يعلم أنّ إطلاق هذه

١١٢

العمومات عليهم بالخصوص إنّما هو على حدِّ قول القائل:

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحدِ

ولذا قال الزمخشري في تفسر الآية من كشّافه: ( وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ).

وقال: (بقيت نكتة يجب التنبيه لها، وحاصلها أنّ اختصاص الزهراء من النساء، والمرتضى من الأنفس. مع عدم الإكتفاء بأحد السبطين من الأبناء، دليل على ما ذكرناه من تفضيلهم ( ع )؛ لأن علياً وفاطمة لما لم يكن لهما نظير في الأنفس والنساء، وكان وجودهما مغنياً عن وجود مَنْ سواهما بخلاف كلّ من السبطين، فإنّ وجود أحدهما لا يغني عن وجود الآخر لتكافئهما. ولذا دعاهما ( ص ) جميعاً. ولو دعا أحدهما دون صنوه كان ترجيحاً بلا مرجّح، وهذا ينافي العدل والحكمة.

١١٣

مؤتمر نجران

قال جمال العارفين وفخر المحققين الثبت الورع، والمتتبّع المحقق السيّد عليّ بن طاووس في كتاب الإقبال من أعمال شهر ذي الحجّة: (فصل فيما نذكر من إنفاذ النبي صلوات الله عليه وآله وسلم لرسله إلى نصارى نجران، ومناظرتهم فيما بينهم، وظهور تصديقه فيما ادّعاه).

روينا ذلك بالأسانيد الصحيحة، والروايات الصريحة إلى أبي الفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني (رحمه الله) من كتاب المباهلة، ومن أصل كتاب الحسن بن إسماعيل بن اشناس، من كتاب عمل ذي الحجّة فيما رويناه بالطرق الواضحة، عن ذوي الهمم الصالحة، لا حاجة إلى ذكر أسمائهم لأن المقصود ذكر كلامهم.

قالوا: لما فتح النبي ( ص ) مكّة، وانقادت له العرب، وأرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر، يدعوهما إلى الإسلام، أو الإقرار بالجزية والصغار، وإلاّ أذانا بالحرب العوان، أكبر شأنه نصارى نجران، وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب،

١١٤

ومَنْ ضوى إليهم(1) ، ونزل بهم من دهماء الناس(2) على اختلافهم في دين النصرانية. وامتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة منه ورعباً، فإنّهم كذلك من شأنهم إذ وردت عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...، وكان رسول الله ( ص ) لا يقاتل قوماً حتّى يدعوهم، فازداد القوم لورود رسل نبي الله ( ص ) وكتابه نفوراً وامتزاجاً (واحتياجا)، ففزعوا لذلك إلى بيعتهم العظمى، وأمروا ففرش أرضها، وألبس جدرها بالحرير والديباج، ورفعوا الصليب العظيم، وكان من ذهب مرصّع أنفذه إليهم قيصر الأكبر، وحضر ذلك (المجلس) بنو الحرث بن كعب، وكانوا ليوث الحرب وفرسان الناس، قد عرف لهم العرب ذلك في قديم أيامهم وفي الجاهلية، فاجتمع القوم جميعاً للمشورة، والنظر في أمورهم، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وانمار، ومن دنا منهم نسباً وداراً من قبائل سبأ، وكلّهم قد ورم أنفه غضباً من قومهم (لقومه)، ونكص من تكلّم بالإسلام ارتداداً فحاضروا (فخاضوا)، وأفاضوا في ركز المسير بنفسهم، وجمعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والنزول به بيثرب لمناجزته، فلمّا رأى أبو حامد (حارثة) حصين بن علقمة أسقفهم الأول، وصاحب مدارسهم وعلامهم - وكان رجلاً من بني بكر بن وائل - ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب، دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه، وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة، ثمّ قام خطيباً معتمداً على عصى، وكانت فيه بقية، وله رأي ورؤية، وكان موحّداً يؤمن بالمسيح، وبالنبي ( ع )، ويكتم ( إيمانه ) ذلك من كَفَرَةِ

____________________

(1) يقال ضويت إليه إذا أويت إليه وانضممت.

(2) دهماء الناس عامتهم وجماعتهم.

١١٥

قومه وأصحابه فقال:

مهلاً بني عبد المدان مهلاً، استديموا العافية، والسعادة فإنّهما مطويان في الهوادة(1) دبّوا إلى قوم في هذا الأمر دبيب الذر، وإياكم والسورة(2) العجلى، فإن البديهة بها لا ينجب(3) ، إنكم والله على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على رد ما فعلتم، ألاإنّ النجاة مقرونة بالأنات، الإرب إحجام أفضل من إقدام، وكائن من قول أبلغ من صول، ثمّ أمسك.

فأقبل عليه كرز بن سبرة ( سيرة ) الحارثي، وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب، وفي بيت شرفهم، والمعصب(4) فيهم، وأمير حروبهم فقال:

لقد انتفخ سحرك، واستطير قلبك(5) أبا حارثة فظلت كالمسبوع(6) النزاعة ( اليراعة )(7) المهلوع(8) تضرب لنا الأمثال، وتخوفنا النزال، لقد علمت - وحق المنان - بفضيلة الحفاظ ( بالنوء بالعبئ )(9) وهو عظيم، وتلقح ( تلقيح ) الحرب وهو عقيم(10) ، تثقف أود(11) الملك الجبار، ولنحن أركان(الرايش)، وذوي المنار الذين شددنا ملكهما، وأخرنا ملكهما، فأي أيامنا ينكر، أم لا يهاويك تلمز(12) ؟!

____________________

(1) الصلح.

(2) السورة الشدة.

(3) لا تحسن.

(4) السيّد.

(5) السحر الريه يقال للجبان انتفخ سحرك اي جبنت، واستطار الفجر انتشر.

(6) المسبوع الذي افترسه السبع.

(7) الأحمق الجبان.

(8) الهلع أفحش الجزع.

(9) حمل الأثقال العظية يقال: ناء بالحمل إذا نهض.

(10) جعل الحرب ذات حمل وهي عقيم.

(11) الأود الاعوجاج.

(12) ويك ويلك واللمز العيب.

١١٦

فما أتى على آخر كلامه حتّى انتضم نصل نبلة كانت في يده بكفّه غيظاً وغضباً وهو لا يشعر. فلمّا أمسك كرز بن سبرة أقبل عليه العاقب - واسمه عبد المسيح بن شرحبيل - وهو يومئذ عميد القوم، وأمير رأيهم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدّرون جميعاً إلاّ عن قوله فقال:

أفلح وجهك، وأنس ربعك(1) ، وعزّ جارك، وامتنع ذمارك(2) ، ذكرت وحق مغيرة الجباه حسباً صميماً، وعيصاً(3) كريماً، وعزاً قديماً، ولكن أبا سيرة لكل مقام مقال، ولكل عصر رجال، والمرء بيومه أشبه منه بأمسه، وهي الأيام تهلك جيلاً، وتديل قبيلاً(4) ، والعافية أفضل جلباب، وللآفات أسباب، فمن أوكد أسبابها التعرض لأبوابها.

ثمّ صمت العاقب مطرقاً فأقبل عليه السيّد - واسمه أهتم ( اهم ) بن النعمان - وهو يومئذ أسقف نجران، وكان نظير العاقب في علو المنزلة، وهو رجل من عاملة، وعداده في لخم فقال له: سعد جدك، وعلا جدك(5) ، أبا وائلة إن لكل لامعة ضياء، وعلى كلّ صواب نوراً ولكن لا يدركه، وحق واهب العقل إلاّ من كان بصيراً، إنك أفضيت، وهذان فيما تفرّق بكم الكلم إلى سبيلي حزن(6) وسهل،

____________________

(1) الربع الدار.

(2) الذمار ما يلزمك حفظه.

(3) العيص بالكسر الشجر الكثير الملتف، أي شجرة كريمة.

(4) من الدالة أي الهلاك.

(5) الجد الثانية بمعنى الحظ.

(6) ضد السهل الطريق الوعرة.

١١٧

ولكل على تفاوتكم حظ من الرأي الربيق(1) والأمر الوثيق إذا أصيب به مواضعه.

ثمّ إنّ أخا قريش قد نجدكم(2) لخطبٍ عظيمٍ، وأمرٍ جسيمٍ، فما عندكم فيه قولوا ( تولوا ) وأنجزوا، أبخوع وإقرار، أم نزوع؟(3)

قال عتبه والهدير والنفر من أهل نجران: فعاد كرز بن سبرة لكلامه، وكان كمتاً ( كميا ) أبيّاً فقال:

أنحن نفارق ديناً رسخت عليه عروقنا، ومضى عليه آباؤنا، وعرف ملوك الناس ثمّ العرب ذلك؟! أنَتَهالك إلى ذلك، أم نقرّ بالجزية وهي الخزية حقاً؟! لا والله حتّى تُجرّد البواتر من أغمادها، وتذهل الحلائل عن أولادها، أو نشرق نحن ومحمد بدمائنا ثمّ يديل(4) الله عزّ وجلّ بنصره من يشاء.

قال السيّد:

إربع على نفسك، وعلينا أبا سبرة(5) فإن سلّ السيف يسلّ السيوف، وإنّ محمداً قد بخعت له العرب وأعطته طاعتها، وملك رجالها وأعنّتها، وجرت أحكامه في أهل الوبر منهم والمدر، ورمقه الملكان العظيمان كسرى وقيصر، فلا أراكم - والروح - لو نهد لكم إلاّ وقد تصدع عنكم من

____________________

(1) أي الرأي الذي عزم عليه كأنّه مشدود بحبل.

(2) نجدكم دعاكم.

(3) إي إمّا إطاعته انتهاء عنها والبخوع بالموحدة الخضوع والطاعة.

(4) دلّ نصر.

(5) أربع بفتح الباء أي إرفق بنفسك وبنا.

١١٨

خفّ معكم من هذه القبائل، فصر نم جفاء(1) كأمس الذاهب، أو كلحم على وضم(2) .

وكان فيهم رجل يقال له جهرة بن سراقة البارقي، من زنادقة نصارى العرب، وكان له منزلة من ملوك النصرانية، وكان مثواه في نجران فقال له:

أبا سعد قل في أمرنا، وانجدنا برأيك، فهذا مجلس له ما بعده فقال:

فإني أرى لكم أن تقاربوا محمداً وتستطيعوه ( وتطيعوه ) في بعض ملتمسه عندكم، ولنطلق وفودكم إلى ملوك أهل ملّتكم إلى الملك الأكبر بالروم قيصر، وإلى ملوك هذه الجلدة السوداء الخمسة - يعني ملوك السودان: ملك النوبة، وملك الحبشة، وملك العلوة ( علوة )، وملك الرعادة، وملك الراحات ومريس، والقبط، وكلّ هؤلاء كانوا نصارى - وقال: وكذلك من ضوى إلى الشام، وحلّ بها من ملوك غسان ولخم وجذام وقضاعة، وغيرهم من ذوي يمنكم فهم لكم عشيرة وموالي وأعوان، وفي الدين إخوان - يعني أنّهم نصارى - وكذلك نصارى الحيرة من العباد، وغيرهم فقد صبت إلى دينهم قبائل تغلب بنت وائل، وغيرهم من ربيعة بن نزار، لتسير وفودكم، ثمّ لنخرق(3) إليهم البلاد

____________________

(1) جفا الوادي رمي بالزبد والقذى.

(2) الوضم خشبة الجزار وكلّ شيء يوقى به اللحم عن الأرض.

(3) خرق المفازة قطعها.

١١٩

اغذاذاً(1) فيستصرخونهم لدينكم، فستنجدكم الروم، وتسير إليكم الأساودة مسير أصحاب الفيل، وتقبل إليكم نصارى العرب من ربيعة اليمن، فإذا وصلت الإمداد واردة، سرتم أنتم في قبائلكم، وسار من ظافركم، وبذل نصره ومؤازرته لكم حتّى تضاهؤن من أنجدكم، وأصرخكم من الأجناس، والقبائل الواردة عليكم فأموا محمداً حتّى نكجوا ( تنجو ) به جميعاً، فسيعنق إليكم وافداً لكم من صبا إليه مغلوباً مقهوراً، وينعتق به من كان منهم في مدرته مكثوراً(2) ، فيوشك أن تصطلموا حوزته(3) ، وتطفئوا جمرته، ويكون لكم بذلك الوجه، والمكان في الناس، فلا تتمالك العرب حينئذ حتّى تتهافت دخولاً في دينكم، ثمّ لتعظمنّ بيعتكم هذه، ولتشرقن حتّى تصير كالكعبة المحجوجة بتهامة. هذا الرأي فانتهزوه، فلا رأي لكم بعده!.

فأعجب القوم كلام جهيرة بن سراقة، ووقع منهم كلّ موقع، فكادوا أن يتفرّقوا على العمل به، وكان فيهم رجل من ربيعة بن نزار، من بني قيس بن ثعلبة، يدعى حارثة بن أثاك (أتاك)، على دين المسيح ( ع )، فقام على قدميه، وأقبل على جهير وقال متمثلا:

متى ما تقد بالباطل الحقّ بابه

وإن قدّت بالحق الرواسي ينقد

إذا ما أتيت الأمر من غير بابه

ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدِ

ثمّ استقبل السيّد العاقب والقسيسين والرهبان وكافة نصارى نجران

____________________

(1) الاغذاذ في السير الإسراع.

(2) المدرة البلدة، والمكثور المغلوب.

(3) تصمطلوا تستأصلوا، والحوزة الناحية.

١٢٠