المباهلة
0%
مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155
مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155
ولم يكتفِ العرب بهذه الأصنام الكبرى، بل ربما كان بعضهم، أو أكثرهم يتخذ له صنماً في بيته يطوف به عند خروجه، وساعة أوبته، وربما صحبه معه في سفره.
وكانوا يعتبرونها الوسيط بينهم وبين الله، ويعبدونها لتقرّبهم من الله زلفى، فهم يذكرون الله على ألسنتهم، ويسمون عبد الله وتيم الله، إلاّ أنّهم نسوا عبادة الله، واقتصروا على عبادة هذه الأصنام.
* * *
ولقد تسرّب إلى الجزيرة العربية ديانات أخرى اصطدمت مع ديانتهم، تسربت إليها اليهودية، وكونت لها مستعمرات في شبه الجزيرة أهمّها يثرب، ونشط اليهود لبثّ دعوتهم، وعملوا على نشرها في الجنوب، وتهوّد كثير من أهل اليمن.
وتسرّبت إليها النصرانية، ولم يكن طريقها من الشمال فقط، فإنّ النصرانية امتدّت إلى الحبشة، ثمّ عبرت البحر الأحمر إلى اليمن، ثمّ استقرّت في نجران، وكذلك تسرّبت من الشام إلى الحيرة، وامتدّت على شاطئي دجلة والفرات.
* * *
النصرانية الحقيقية التي جاء بها عيسى ( ع )، ديانة روحيّة مقدّسة، لم تكن لتختلف بجوهرها عن الديانة اليهودية التي جاء بها موسى ( ع )، وكذلك لا تختلف عن الإسلام بقدر ما يتراءى اليوم من الذين يدينون بالأديان الثلاثة.
وهي دين سامي متقشّف دعا إلى الزهد، والمسالمة (اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) ولم يكن فيها أي جدل في طبيعة السيّد المسيح، ولكنّها اصطدمت بمدرسة الإسكندرية - وكانت ملتقى ثقافات، ومجمعاً من مجامع العلم، والحركة الفكريّة - والتقى الفكر السامي القائل بطبيعة واحدة بالفكر الروماني الوثني، ولم تخرج المسيحيّة بريئة من هذا المجتمع، وإنّما تلقّحت بالتثليث، وبهذا تزحلقت النصرانية عن سموّها الروحي، وهوت من علياء مراتب الإيمان الكامل إلى الجدل في المسيح وأمه عليهما السلام، وعبادة الصور مما قربها إلى الوثنية.
ولم تكن النصرانية من قبل تعرف الصور، ولكن المؤتمرات التي كانت تعقد تباعاً، وتقرر بشأن طبيعة المسيح ( ع ) هي التي كانت تقرر إدخال الصور، وبعض المؤتمرات كان ينفيها، والذي يلوح إنّه كان للأهواء الشخصية أثر كبير في ذلك.
وقد انشقّت النصرانية على نفسها إلى فرق عديدة، فرقة يرون أنّ المسيح هو الله، وأنّ الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح. وأخرى قالت إنّ للمسيح طبيعتين متميزتين، الطبيعة اللاهوتية، والطبيعة الناسوتية. إلى غير ذلك من الفرق، وقد أشار القرآن المجيد وردّ عليها فقال:( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ إنّه مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجنّة وَمَأْوَاهُ النّارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مَنْ أَنْصَارٍ ) ،( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إلاّ إله وَاحِدٌ ) ،( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) . والمسيح نفسه نفى ما ينسب إليه من ادعاء الإلوهية، كما نصّ على ذلك الكتاب المجيد( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيـسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أعلم مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ علاّمُ الْغُيُوبِ ) .
(ويلوح أنّ فكرة التثليث لم تكن قبل القرن الثالث للميلاد، وإنّ أول من نشر فكرة التثليث هو راهب مصري اسمه انتاسيوس، كان البابا العشرين لكنيسة الإسكندرية من سنة 326 - 373)(1) .
والذي يظهر أنّ الذي عبر إلى الجزيرة العربية من هذه العقائد عقيدتان: العقيدة النسطورية، والعقيدة اليعقوبيّة، وانتشرت النسطورية في الحيرة، واليعقوبية عند الغسانيين وسائر بلاد الشام، ويظنّ بعضهم أنّ نجران كانت على مذهب اليعاقبة.
وقد انتشرت التعاليم المسيحيّة بين العرب، ووجد فيهم مَنْ يميل إلى الرهبنة، وبناء الأديرة، واشتهر منهم قس بن ساعدة، وذكروا إنّه (كان يتقفّز القفار، ولا تكنّه دار، يحتسي الطعام، ويأنس بالوحش والهوام)
وذكروا أنّ قسّاً هذا كان أسقف نجران، وكذلك اشتهر منهم أميّة بن السلط، وورقة بن نوفل.
وقد نشط القسس والرهبان للتبشير بالدين المسيحي، وكانوا يردون أسواق العرب لهذه الغاية.
____________________
(1) راجع تاريخ الكنيسة المصرية، هلال شهر ديسمبر 1927.
وكان أهمّ موطن للنصرانية في الجزيرة العربية نجران - وهي من مخاليف اليمن من ناحية مكّة - وكانت بلدة زراعيّة خصبة (عامرة بالسكّان تصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود، وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنّى فيها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتدّ إلى الحيرة). وتغنّى بنجران وبكعبتها الشعراء يقول الأعشى:
وكعبة نجران حتم عليـ |
ك حتّى تناخى بأبوابها |
|
نزور يزيداً وعبد المسيح |
وفيساهم خير أربابها |
|
وشاهدنا الجل والياسمو |
ن والمسمعات بقصابها |
|
وبربطنا دائم معمل |
فأيّ الثلاثة أزرى بها |
وذكروا إنّه أهلها كانوا قبل النصرانية (على دين العرب يعبدون نخلة عظيمة بين أظهرهم، ولها في كلّ سنة عيد، فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه، وحليّ النساء)، وقد ذكروا أسباباً لاعتناق أهلها دين النصرانية، ولكن في كلها مجال للشك، ولا يهمنا تحقيق ذلك.
ومهما يكن من أمر فإنّ نجران تنصّرت، وصارت مركزاً مهماً للنصرانيّة، وبنوا فيها كعبة على غرار الكعبة في مكّة قال ياقوت:
(وكعبة نجران هذه - يقال - بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظّموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمّون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاهم إلى المباهلة)(1)
____________________
(1) معجم البلدان ج 8، ص 264.
وقد غزا ذو نواس نجران بجنوده، ودعاهم إلى اليهوديّة فأبوا عليه، وذكروا في سبب ذلك(أنّ يهوديّاً كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلماً، فرفع أمره إلى ذي نواس، وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران - وهم نصارى - فحمى له ولدينه وغزاهم)، وقتل جماعة بالسيف، وجماعة خدّد لهم أخدوداً من نار، وألقاهم فيه، وبعضهم يرى إنّه نزل في تلك الواقعة قوله تعالى( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وللشك في ذلك مجال واسع. وقد استنجد نصارى نجران بالحبشة؛ فانجدوهم، وغزوا بلاد العرب، وهزموا ذا نواس، واستمرّت النصرانيّة في نجران تحميها الحبشة من الجنوب والروم من الشمال.
وكان يتولى كعبة نجران - وإن شئت فقل نجران وتوابعها - ثلاثة: السيّد - واسمه وهب - ويظهر أنّه كان يدير الأمور الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل من غيرهم، وهو ما نسميه اليوم وزير الخارجية، وكان أيضاً رئيسهم في الحرب، وهو ما نسميه وزير الحربية، أو وزير الدفاع. والعاقب - واسمه عبد المسيح - وكان يتولّى الأمور الداخليّة، وهو ما نسميه اليوم وزير الداخلية، والأسقف - وهو أبو حارثة - وكان يتولى الأمور الدينية. ولكن المهمات كانت يشتور الثلاثة فيها. قال ياقوت:
(ووفد على رسول الله ( ص ) وفد نجران، وفيهم السيّد - واسمه وهب - والعاقب - واسمه عبد المسيح - والأسقف - وهو أبو حاتم - وأراد رسول الله ( ص ) مباهلتهم فامتنعوا، وصالحوا النبي ( ص )؛ فكتب لهم كتاباً فلمّا وليّ أبو بكر نفذ ذلك لهم، فلمّا وليّ عمر أجلاهم واشترى أموالهم).
وفد نجران
في لحظة قصيرة من الزمن خفق علم الإسلام في الجزيرة العربية، وانطلقت الألسن في البيوت، وفي المساجد، وعلى المآذن، تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله، في كلّ يوم خمس مرات.
وفي لحظة قصيرة جدّاً رأيت القلوب تهتزّ طرباً عندما تنطق الشفاه بهذا الاسم المبارك الأغر.
فإن قرابة عشرين سنة يستظهر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وثنية العرب دين آبائهم وأجدادهم هي لحظة من الزمن قصيرة جداً، وما عشرون عاماً إذا قسناها إلى الجهود الجبّارة، والفتح العظيم، والانتصار الباهر على الوثنية.
لم يكن من حجّة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليظهر فيه على الأديان كلها، فإنّه دين تسكن إليه النفوس مؤمنة بدوام ظله وشمول عدله.
ولم يكن من حاجة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن طويل ليستظهر على الوثنيّة الرعناء، وعلى النصرانية المتزحلقة، وعلى اليهوديّة المتكالبة؛ لأنها دعوة ليس فيها ما ينفيه العقل.
وهل محمّد إلاّ رسول الله، أرسله رحمة للعالمين؟
وهل محمّد إلاّ بشير ونذير؟
وأي نفس سامية تتردد في ترك عبادة الأوثان، لعبادة الله الواحد الأحد؟.. وأي نفس سامية مفتوحة للحق ولا تتسع لتعاليم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؟.. أليس يدعو الناس إلى الحب والمودة والإخاء في الله، وإلى التراحم والبر والإحسان، وإعطاء السائل والمحروم، والبر باليتيم؟ ويدعوهم فيما يدعوهم إلى فكّ العقل من قيوده، وإلى الحريّة المطلقة، ويدعوهم إلى ترك الرذيلة، وإلى التمسّك بأهداب الفضيلة، ويدعوهم إلى توحيد الله الذي خلق كلّ شيء، وبيده ملكوت كلّ شيء، يدعوهم إلى تحطيم كلّ ما بينهم وبين الله سبحانه، من أغلال لا هبل ولا اللات ولا العزّى؛ فإنها كلّها لا تغني عن الله شيئاً.
* * *
لقد أعدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلّ العدد، وهيّأ الله له الأسباب، وجاء نصر الله والفتح، وفتح رسول الله ( ص ) مكّة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقام الرسول( ص ) في المدينة، ومعه المسلمون مستريحين إلى نصر الله، وقد كلل جهادهم بالفوز والظفر، واستتبّ الأمر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، استتباباً جعل العرب الذين لم يؤمنوا بالله ورسوله ( ص ) يخافون سطوة الإسلام فتوافدوا على رسول الله ( ص )؛ ليدخلوا في دين الله.
ولكنّ هذا كلّه لم يكن تمهيداً كافياً للانتقال العظيم الذي أعدّ له الإسلام، ولنشر الدعوة في المملكتين العظيمتين فارس والروم، فإن رسالة الإسلام عامّة
لم تكن لبلاد دون أخرى، أو لقوم دون آخرين، والنصر وإن كان بيد الله، يؤتيه من يشاء من عباده، لكن لا يؤتيه إلاّ لمن أعدّ له كلّ عدده.
والدعوة الإسلامية قد بلغت يومئذ من النضوج في النفوس ما يجعل الإسلام دين الكافة من الناس، والدعوة في ذلك العهد تعدت عن دور التوحيد، والوعد والوعيد، إلى النواحي الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.
وقد آن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهيّئ المسلمين للانتقال العظيم إلى خارج الجزيرة، إلى الشمال وإلى الجنوب.. وآن له أن يبعث في نفوسهم روح النشاط لفتح المملكتين فارس والروم. وآن للمسلمين أن يفهموا أنّ هذا العلم المبارك الذي يرفرف فوق شبه جزيرة العرب يجب أن يخرج إلى خارجها؛ ليرف أيضاً فوق عروش القياصرة والأكاسرة، ثمّ ليطوف حول حوض البحر الأبيض، ثمّ ينتهي به المطاف إلى ما وراء البحار..
ولم يكن في الدعوة الإسلامية ما يخشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إليه، فإنّه دين الحرية والمساواة، والبر والرحمة وفكّ العقل من القيود والأغلال، تتقبله النفوس مرتاحة إليه.. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتردد يوماً في دعوة الملوك إلى الإسلام، ولكنّه أراد أن يهيّئ أصحابه للنهوض، فخرج عليهم يوماً فقال:
« أيها الناس: إنّ الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم.»
- وكيف اختلف الحواريّون يا رسول الله
- « دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريبا قرّ وسلّم،
وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل.»
ثمّ ذكر لهم إنّه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى نجاشي الحبشة.
وذكروا إنّه لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، وانقادت له العرب، أرسل رسله ودعاته إلى الأمم، وكاتب الملكين كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام، أو الإقرار بالجزية، أو الإذن بالحرب، أكبر شأنه أهل نجران، وخلطاؤهم من بني عبد المدان، وجميع بني الحرث بن كعب، ومن انضوى إليهم، ونزل بهم من دهماء الناس على اختلافهم هناك في المذاهب النصرانية، من الاروسية والسالوسية والمارونية والنسطورية، وقد امتلأت قلوبهم - على تفاوت منازلهم - رهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعباً، وإنّهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول الله ( ص ) وهم: عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهديل بن عبد الله أخو تيم بن مرّة، وصهيب بن سنان، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا فإخوان في الله، وإن أبوا فإلى خطة الخسف، الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وأن أبوا فآذنوهم على سواء، وكان في كتابه صلى الله عليه وآله وسلم لهم:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) .
ذعر الأساقفة ذعراً شديداً، وهزّ الكتابٌ نجرانَ هزّاً عنيفاً؛ فعقدوا مؤتمراً عاماً في كعبتهم اجتمع فيه رؤساء نجران، وأهل الرأي من الأقيال
واجتمع من القبائل من عك وحمير وانمار، ومن دنا منهم سبباً ونسباً، فكان مؤتمراً عامّاً اشتوروا فيه، وأفاضوا في الرأي والجدل العنيف، في حديث مفصّل يجده القارئ في خاتمة هذا الكتاب(1) .
ويلوح لنا أنّ المشادّة كانت عنيفة بينهم، فيما يجب أن يتخذوه من حيطة؛ ليأمنوا غزو الإسلام، وليحتفظوا بكعبتهم (لأنّهم أصابوا بموضعهم من دينهم شرفاً، ووجهاً عند ملوك النصرانية جميعاً.)
ويلوح أيضاً أنّه كان في هؤلاء الأساقفة من هو مؤمن برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، مصدّق بدعوته.
وذكروا إنّه اجتمع عامة الناس على السيّد والعاقب، يسألونهما - بعد هذا الجدال العنيف - عن رأيهما، وما يعملان في دينهم فقاولا لهم: (تمسكوا بدينكم حتّى يكشف لنا دين محمّد، وسنسير إلى يثرب، وننظر ما جاء به، وفيما يدعو إليه).
قالوا: (وتجّهز السيّد والعاقب والأسقف، ومعهم أربعة عشر راكباً من نصارى نجران، وسبعون رجلاً من أشراف بني الحرث بن كعب وساداتهم - وفيهم قيس بن الحصين ويزيد بن عبد المدان - فاغترز(2) القوم ظهور
_________________________
(1) أهمل المؤرخون هذا المؤتمر، كما أهملوا كثيراً من الحقائق الأخرى، ومرواً بيوم المباهلة، وبالمؤتمر مروراً عابراً، ونحن وضعنا هذه الرسالة؛ لنقدم للقرّاء هذا المؤتمر المنعقد في نجران، بما فيه من حوار، وإشادة بفضل آل رسول الله وصدق رسالة محمّد صل الله عليه وإله وسلم .
(2) غرز الرجل رجله في الغروز - الركاب - وضعها فيه.
خيولهم وأقبلوا لوجوههم إلى المدينة).
وقالوا: (ولما استراث(1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر أصحابه، أنفذ إليهم خالد بن الوليد، في خيل سرّحها معه لمشارفة أمرهم فالفوهم وهم عائدون)
وقالوا أيضاً: (ولما دنوا من المدينة أحب السيّد والعاقب أن يباهيا المسلمين، وأهل المدينة بأصحابهما، وبمن خف من بني الحرث معهما، فاعترضاهم وقالا لو كففتم صدور ركابكم، ومسستم الأرض، فألقيتم عنكم تفثكم(2) وثياب سفركم، وشننتم(3) عليكم من باقي مياهكم كان ذلك أمثل، فانحدر القوم عن الركاب، فأماطوا من شعثهم(4) ، وألقوا عنهم ثياب بذلتهم(5) ولبسوا ثياب صونهم(6) من الأتحميات(7) والحرير والحبر، وذرّوا المسك في لممهم(8) ومفاوقهم ثمّ ركبوا الخيل واعترضوا الرماح على مسابح(9) خيلهم، وأقبلوا يسيرون زردقا(10) واحداً، وكانوا من أجمل العرب صوراً، وأصحّهم أجساماً وخلقاً،
____________________
(1) استراث الخبر استبطأه.
(2) أي أزلتم الوسخ عنكم.
(3) شن الماء عليه أي صبّه.
(4) الشعث ككتف المغبر الرأس، وأماط كشف، أي أزالوا الغبرة التي لحقتهم من السفر.
(5) البذلة من الثياب ما يستعمل كلّ يوم.
(6) الثياب التي تحفظ قيمتهم، وتلفت أنظار الناس إليهم.
(7) أتحم الحائك الثوب وشاه.
(8) الشعر المجاوز شحمة الأذن فهو لمة، فإذا بلغ المنكبين فهو جمة.
(9) المسبح منتهى معرفة الفرس، وقيل هو منتهى منبت العرف تحت القربوس، أي وضعوا الرماح على فرابيس الخيل عرضاً؛ استهانة - بالمسلمين وعدم المبالاة على حد قول الشاعر:
جاء شقيق عارضاً رمحه |
إنّ بني عمك فيهم رماح |
والذي يتهيب الأمر لابد أن يكون على استعداد فيحمل رمحه متهيئاً للطوارئ.
(10) أي صفحاً واحداً.
فلمّا تشوفهم الناس أقبلوا نحوهم، فقالوا (ما رأينا وفداً أجمل من هؤلاء)، وكان المحارث بن كعب يقول (ما رأينا وفداً مثلهم).
(وأقبل القوم حتّى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، وحانت صلاتهم فضربوا ناقوسهم في المسجد، وقاموا يصلّون إلى المشرق فأراد الناس أن ينهوهم عن ذلك، فكفّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمهلهم وأمهلوه ثلاثاً، فلم يدعُهم ولم يسألوه، لينظروا إلى هديه ويعتبروا ما يشاهدون منه مما يجدون من صفته، فلمّا كان بعد ثلاث دعاهم إلى الإسلام فقالوا:
(يا أبا القاسم ما أخبرتنا كتب الله عزّ وجلّ بشيء من صفة النبي المبعوث من بعد الروح عيسى عليه السلام إلاّ وقد تعرّفناه فيك، إلاّ خلّة هي أعظم الخلال آية ومنزلة، وأجلاها أمارة ودلالة)!!..
- رسول الله ( ص ) « وما هي؟. »
- (إنّا نجد في الإنجيل من صفة النبي.. من بعد المسيح إنّه يصدّق به ويؤمن به، وأنت تسبّه وتكذب وتزعم إنّه عبد)!!..
- « بل أصدّقه وأصدّق به وأؤمن به، وأشهد أنّه النبي المرسل من
ربه عزّ وجلّ وأقول: إنّه عبد لا يملك نفعاً ولا ضرّاً، ولا موتاً، ولا حياة ولا نشورا. »
- وهل تستطيع العبيد أن تفعل ما كان يفعل، وهل جاءت الأنبياء بما جاء به من القدرة القاهرة؟!. ألم يكن يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وينبئهم بما كانوا يكنّون في صدورهم، وما يدّخرونه في بيوتهم؟ فهل يستطيع هذا الأمر إلاّ الله عزّ وجلّ أو ابن الله؟!.
- « قد كان عيسى أخي كما قلتم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخبر قومه بما في نفوسهم، وبما يدّخرون في بيوتهم، وكلّ ذلك بأذن الله عزّ وجلّ، وهو عبد الله.. غير مستنكف، فقد كان لحماً ودماً وشعراً وعظماً وعصباً وأمشاجاً، يأكل الطعام ويظمأ وينصب، والله باريه وربّه الأحد الحقّ، الذي ليس كمثله شيء وليس له ندٌّ»
-: فأرنا مثله جاء من غير فحل ولا أب.
-: « هذا آدم عليه السلام أعجب منه خلقاً من غير أب ولا أم، وليس شيء من الخلق بأهون على الله عزّ وجلّ في قدرته من شيء، ولا أصعب وإنّما أمره إن أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون( إِنّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .»
فقالوا: (فما نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تبيّناً، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك فهلم فلنلاعنك(1) أينا أولى بالحق، ونجعل لعنة على الكاذبين
____________________
(1) يلوح من هذه الرواية أنّ وفد نجران طلب الملاعنه، ويخالفها روايات شتّى، ويظهر منها أنّ الذي طلب المباهلة هو رسول الله(صلّى الله عليه وإله)، وهذا الذي يظهر من القرآن المجيد.
فإنها مثلة وآية معجلة)
(فغشيه الوحي، ونزل عليه قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )
وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل في ذلك عليه من القرآن وقال:
« إنّ الله أمرني أن أصير إلى ملتمسكم، وأمرني بمباهلتكم إن أقمتم وأصررتم على قولكم. »
- ذلك آية ما بيننا وبينك، وإذا كان الغد باهلناك. ثمّ انصرفوا إلى أماكنهم)
* * *
تذوق الرجال العارفون من الوفد حلاوة ما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من آي القرآن الحكيم، وأدركوا صدق الحديث، وأدركوا شدّة الخطر الذي يحوطهم فيما إذا باهلوا، ولقد توفرت لدى بعضهم الأمارات الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحة رسالته، وإن كان الجهل والتعصب كانا يسيطران على بعض ذوي الشأن منهم، فكان يعتز بالحول والطول!..
ويظهر لنا أنّ بعضهم غلبت عليه شهواته في حب الرياسة، والجاه العريض
الذي نالوه من ملوك النصرانية، وهذا النعيم الترف الباذخ (أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟. أكرمونا، ومولوّنا، ونصبوا لنا كنايسنا، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب نفوسنا بدين يستوي فيه الشريف والوضيع؟)
ومن اليسير أن نعرف أن هذه الارستقراطية هي التي عصبت عيونهم عن الالتجاء إلى الواقع المحسوس، وتغلبت على عقولهم، والانتقال من ارستقراطية إلى ديمقراطية تتصل بالروح والعقل، لا تقوى عليها النفوس المشغوفة بالملكية والثراء وحب الرياسة.
وعلى الغالب إنّ فكرة القوّة، وفكرة الثراء وحب الجاه، شعور مردّه في بعض الأحيان إلى الغيرة النفسية التي تحصل عادة من المفضول على فاضله المتغلب عليه بالبرهان القطعي، والدليل الواضح، وقد برز الآن واضحاً في نفوس النجرانيين، بيد إنّه مهما كان لهذه العناصر من مظاهر الجدّ في النفوس، وأرادت أن تظهر بالمظهر الحازم في الساعة الحاسمة، فإنها لا تلبث أن تنهزم مخذولة من قوّة الحقّ. وبحسبنا أن نطالع صورة ثانية يرسمها النجرانيون حينما انصرفوا إلى منزلهم من الحرى، وخلا بعضهم إلى بعض، وقد اعتصرت يد الأسى تلك القلوب المشغوفة بذلك البذخ، وتلك الأموال التي تغدقها عليهم النصرانية من الشمال، ومن الجنوب. وهذا رجل من العارفين يرشد قومه إلى الحقيقة فيقول لهم: (قد جاءكم محمّد بالفصل من أمره وأمركم فانظرا أولاً بمن يباهلكم، أبكافة أتباعه أم بأهل المكانة من أصحابه. أم بذوي التخشّع.. والصفوة ديناً وهم القليل منهم عدداً؟! فإن جاءكم بالكثرة، وذوي الشدّة، فإنما جاءكم مباهياً كما يصنع الملوك فالفلج إذاً لكم دونه. وإن جاءكم بنفر قليل ذوي تخشع فهؤلاء
سجية الأنبياء وصفوتهم، وموضع بهلتهم. فإياكم والإقدام إذا على مباهلتهم. فهذه لكم إمارة فانظروا حينئذ ما تصنعون بينكم وبينهم)!!
هذا قسط من الرأي الصائب، والنصيحة الرشيدة، وهو كافٍ للقارئ أن يفهم منه أنّهم على علم سابق من سيرة الرسل، وأوليائهم الذين طبعوا على غرارهم، وجليّ بعد هذا أنّ أهل التخشّع هم الصفوة من أتباع الرسل والأنبياء، وموضع ثقتهم وبهلتهم.
وهذه كلمات تلقي ضوءاً على جانب كبير من الحقّ، وهي في مجموعها صورة صادقة للحقيقة رسمتها كلمات الله في كتبه المنزّلة على أنبيائه ورسله، وهي نصيحة على كلّ حال. ونصيحة موفقة في كثير من نواحيها.
وجدير بمن كان يصطفيهم الأنبياء، أن يكونوا القدوة لكلّ جيل من الأجيال، يجب على المؤمنين الاقتداء بهم، والاسترشاد برشدهم، وحقيق بالمؤمنين اتّباعهم في الطريق التي يسيرون عليها؛ لأنّهم لا يدلّون إلاّ على خير، ولا يشردون إلاّ إلى حقٍّ، كما ورد في الحديث عن عمّار بن ياسر «.. يا عمّار إن سلك الناس كلهم وادياً، وسلك عليٌّ وادياً، فاسلك وادي علي، وخلّ عن الناس. إنّ علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى. يا عمّار طاعة عليٍّ طاعتي، وطاعتي طاعة الله. »
* * *
وأصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أو بتعير أوسع المسلمون، وإن بلغوا مئات الألوف في عهد صاحب الرسالة ( ص ) ولم يكن طريقهم إلى الدين طريقاً واحداً، ولم يكن هدفهم واحداً، ولم يصل الدين إلى أعماق قلوبهم
بنسبة واحدة، والذين امتازوا بهديهم، وأخلاقهم، وكمالهم النفسي، كانوا أفراداً قلائل، أولئك هم النخبة الممتازة، ومن بين هذه النخبة الممتازة أفراد هم صفوة الصفوة، ولباب اللباب، هم (أهل بهلة الأنبياء)، وموضع عناية الله سبحانه، وهداة الخلق إلى الحقّ، لا يقاس بهم أحد، ولا يساويهم في المنزلة عند الله أحد، وهم (سجية الأنبياء، وصفوتهم)، الذين اصطفوهم من بين المؤمنين، ولو سئل الله بهم أجاب سؤال السائلين.
وما كادت تطالع أساقفة نجران وجوه أهل بهلة الأنبياء حتّى ارتدوا على أعقابهم، ترتعد فرائصهم، فإنّهم بعد لم يثوبوا إلى رشدهم من الدهشة التي أخذتهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى طالعتهم هذه الوجوه المشعّة بالنور الربّاني في الساعة الحاسمة، فاحتوتهم الدهشة ثانية، وطاشت عقولهم، فقد رأوا وجوهاً لو سئل الله أن يزيل بها جبلاً لأزاله.
ودنت اللحظة الفاصلة التي كادت أن تفصل بين عهدين، وتحسم بين مبدأين إلى النهاية التي لا تتصل بحدّ من الزمن، وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقول الفصل من أمره وأمرهم، ولا بقاء على الدوام إلاّ للإصلاح.
ولا شكّ بأنّ المسيحيّة لم يبق لها شكلها الروحي، والعالم يحتاج المصلح الذي يطهّر العقيدة من دنس الرذائل التي عمت أطراف العالم.
وأسقف نجران أبى وامتنع عن أن يباهل، فإنّه تلمّس الحقيقة في الوجوه التي خرجت لتباهله، وليس في نجران، ولا في غيرها من يدفع لعنة الله الحاطمة، والعذاب النازل فيما لو سأل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ربّه أن يجعل لعنته على الكاذبين، ورفعت تلك الأيدي للتأمين على دعاء نبيه، وعرفوا إنّه لن يخطئهم السهم المراش فيما إذا باهلوه، وإنهم في نقطة التحوّل، والعقل لا يتصور
في البراهين أقوى من برهان الوجدان والعيان، وهذه سحب البلاء تتدافع في الفضاء.
وعرفوا أيضاً أنّ النصرانيّة قد بلغت حدّها المحدود برسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهى أجلها الذي أجّلت له، وانطوى بين تلافيف الزمن كما طويت شرائع من قبل، وليلحق آخرها بأولها، وحاضرها بماضيها.
واستيقن الأسقف أنّ يومهم هذا لم يعد موصولاً بماضيه، وإنّما هي شريعة جديدة وُعِدوا بها على لسان السيّد المسيح، وكتاب جديد ورسالة نهجت للناس الطريق الأمثل، ومضت تشقّ طريقها إلى أرواح الناس؛ لتجلوها من صدأ الإجرام الخُلُقي، الذي انغمس في مبائتها العالم بأسره.
وهذا محمّد رسول الله بحقّ يتقدم إلى الأمم، وبيده كتاب الله المجيد، ينير البصائر، ويرسم للناس المثل العليا من الفضائل التي تأخذ بيد البشرية إلى السعادة الدائمة.
السمر
اجتاز الركب سكك المدينة على خيوله المطهمة، تفوح منه رائحة المسلك، وعليهم ثياب صونهم من الحرير اللمّاع، والحبر الموشى، على سرج مزركشة بالذهب الوهاج، قد اعترضوا الرماح على مناسج خيلهم، وكانوا من أجمل العرب صوراً.
* * *
وبعد - لم يكن عجباً إذا افتتن الضعفاء بالوفد النجراني، الذي يتمتع بكل المغريات للنفوس الضعيفة.
وليس عجباً أيضاً إذا كان هذا الوفد حديث أهل المدينة، فقد دخلها وفود كثيرة في السنة العاشرة وقبلها، يقدّمون الطاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس فيهم مثل وفد نجران، في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة. يقول المحارث بن كعب: (ما رأينا وفداً مثلهم).
* * *
كانت صورة الوفد تمر في نفس أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، ولكنّه مرور عابر في نفوس بعضهم، وهي أهون عليهم من أن تثير شيئاً، فإنّ الرسالة السماوية نهجت لهم الطريق الأمثل. على حين استقرارها
في نفوس البعض الآخر مجلوّة بترفها المغدق، ونعيمها الباذخ، رهيبة اللمعان، رنانّة الجرس، هفتْ إليها النفوس الضعيفة، واستوعبت مشاعراً وقلوباً ما أضاءها النور المنبثق من رسالة السماء، والضوء المنير من مصباح محمّد صلى الله عليه وآله وسلم..
* * *
كان الترف الناعم، والنعيم الباذخ، والعيش الليّن، الذي يتمتع به وفد نجران حديث جماعة من أهل المدينة في سمرهم ومجالسهم.
وأين المحتاج الذي يستطيع أن يردّ طرفه عن حياة ناعمة، ونعيم ترف ودنياً مزهوّة؟
وأيّ المحرومين لا يفكر في هذا النضار الوهّاج المدلي في صدورهم؟ وقد صنعوا منه مقايض سيوفهم، ووشوا به حبرهم، وسرج خيولهم ، ثمّ لا تنكمش نفسه، ولا يستهويه الذهب اللمّاع، ولم تكن نفوسهم قد اكتملت بمناهج الدعوة الإسلامية، ولم تتصل بأرواحهم لينظروا إلى زخرف الحياة نظر ازدراء، وليجعلوا متعها تحت مواطئ الأقدام، فإنّ الإسلام هدى إلى الصراط القويم، والهدى رحمة من الله تجلو النفس، وصفاء يمحو الظلمة، وسعادة تصوغ النفس من جوهر تتضاءل أمامه المادة فلا يبقى لها أيّ ثمن.
* * *
ليلة مظلمة. لا يكاد ملتمس يحس فيها بطريقه لولا قبس ترسله النجوم المتلألئة في الصفحة السماء، تفتح يدها مرّة وتقبضها أخرى.. تقدّمت جيوش الظلام تسدل الستائر - وقد ألقى النهار سلاحه - على يثرب مدينة الرسول