المباهلة

المباهلة0%

المباهلة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155

المباهلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: الصفحات: 155
المشاهدات: 16774
تحميل: 7046


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16774 / تحميل: 7046
الحجم الحجم الحجم
المباهلة

المباهلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( ص ) ومصدر النور.. هو ذا الليل يوغل إيغالاً، ويلبس الفضاء بردته السوداء فتمتد على الكون روعة السكون، وليس فيه ما يعكّر الصفحة السماء إلاّ هذه الغيوم التي تدفعها الرياح إلى الفناء.

ليلة مشهودة، لم تتصل بما قبلها ولا بما بعدها، فإن اضطرابات فكريّة ضربت حصارها على الأفكار، والعقول؛ فحارت في شأنها، فإنّ يداً قويّة تمرست بعواصم من القوة لم تؤثر فيها قوّة الحقّ.

ليلة مشهودة، تزخر بالحوادث، وتموج بألوان من الأفكار، والناس لا يعلمون أنّها تحمل الحادث الخطير، وإنّ له شأناً بين الحوادث الخالدة الذكر، وكلّ ما يعلمون أن الأفكار تتدافع، كلما اجتمع اثنان أو أكثر، كما تتدافع أمواج البحر في الريح العاصفة.

* * *

فرغ المسلمون من صلاتهم، وما كان ليطيب لأكثرهم العودة إلى منازلهم، ولكنهم تكتّلوا في مسجدهم حيث أقاموا صلاتهم، يتحدثون كلّ وما يعنيه من أمر الحياة، أو شؤون المسلمين العامة.

ولقد كان الوفد النجراني سفراً ضخماً تجمعت فيه كلّ الأحاديث، وفيه نواح كثيرة للحديث، فليس عجباً إذا كان حديث جماعات من المسلمين في هذه اللحظة من الزمن الحالك السواد، فقد كان هذا الإغراق في الترف، حرياً بأن يدفع الناس للحديث عنه، وكان هذا العنت الشديد منه حرياً بأن يكون موضعاً للعجب وللحديث، وإنّ النفوس الفاحصة عن الوقائع، أميل إلى التوغل في الحديث عن نهاية المطاف في الحادث، وإنّه مشهد يعسر نسيانه، وفيه مغريات

٤١

قد لمست أكثر القلوب بكلتا راحتيها.

وفي زاوية المسجد حلقة مستديرة كبيرة، فيها ألوان الأفكار، ومختلف الأذواق والميول يتصل حديثها بالوفد مباشرة.

المحارث بن كعب - أرأيتم وفد نجران في معالمه الفاخرة، وزينته اللمّاعة، وقد ملأت القلوب؟ والحق أننا (ما رأينا وفداً مثلهم)، ولكن في حديثهم عن المسيح استحالة لا تصل إليها العقول، وما أقربها إلى الوثنية التي كنّا ندين بها قبل الإسلام، ولا أدري كيف يتوصل العقل البشري إلى اتحاد أقانيم ثلاثة في حقيقة واحدة، ثمّ لا يؤثر إطلاق الأب على الابن، أو الابن على الأب، أو هما على روح القدس، إن هذا لشيء عجاب.

بشير - ليس الذنب ذنب الأديان، وإنّما الأديان جميعها غايتها الاندماج في الكمال الروحي، وإنها جميعها تربط البشرية في فكرة واحدة - الله - الواحد الأحد، وما نراه من تشعّب المذاهب، واختلاف العقائد، ليس هو من طبيعة الأديان التي جاءت بها رسل الله إلى خلقه، وإنّما هو من ذنب القائمين عليها من بعد الرسل، والفكرة المسيحيّة التي قررها الإنجيل، فكرة واحدة لا تختلف عن الإسلام، وهي لا تتصل بما نراه اليوم من نزاع حول طبيعة المسيح، وأمّه، والأقانيم الثلاثة.

والمسيحية في حقيقتها دين مقدّس بحث عن العلاقة بين الإنسان وخالقه، وبين الروح ومصدرها، والشبهات المرتكزة التي نراها هي بعيدة عن الناموس الأكبر الذي جاء به عيسى بن مريم.

وهذه النصرانية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، واعتنقها الملوك والأمراء

٤٢

وأهل الغنى والثراء، قد تزحلقت إلى ما تراه، وهي اقرب إلى الوثنية.

ونجران أهمّ موطن للنصرانية في البلاد العربية، وهؤلاء القسس قد شاهدوا وثنية العرب تنهزم أمام الإسلام، وهم اليوم يحاولون أن لا تنهزم النصرانية كما انهزمت الوثنية، ويحاولون أن لا ينخذلوا أمام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم كما انخذل زعماء الوثنية، وإذن ليس عجباً أن يظهروا بهذا المظهر الخلاّب، واحسب أنّ الخاطر الأولّ لهذا الوفد هو العبث بالمسلمين عن طريق الغنى والثراء، فإنّه المشهد الذي يشقّ طريقه إلى النفوس سريعاً، ويعسر على الذاكرة نسيانه طوال الأيام، ولكن ما أقصر مرمى عيونهم، فإنّ رسالة الإسلام مضت تشقّ طريقها إلى الأرواح والقلوب، ونهجت للناس المنهج الأمثل، وتلقّى الناس الإسلام مرتاحين إليه فلا يُغري المسلمين الثراء. وركام المادة قد داسه المسلمون تحت حوافر خيولهم، في ساحات التضحية في سبيل الله.

أنس - التوحيد دعامة الإسلام الكبرى، وطبيعيّ أن يصطدم بالعقائد التقليدية التي عليها الناس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعُ إلى ذلك قبل أن يدعو إلى فكّ قيود العقل، والتأمّل في ملكوت السماوات والأرض. والتوحيد أشرف العقائد وأجدرها بالإنسان في أرفع حالاته العقلية، غير أنّ هؤلاء القسس لم يأتوا عن طريق المعقول في دعواهم في عيسى عليه السلام، وليس في حقائبهم من البراهين على الثالوث المتّحد، إلاّ الخوارق التي جاء بها عيسى من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإنّه خُلق من غير أب، وليس هذا بالشيء الجديد في رسالة الرسل والأنبياء، ولقد

٤٣

كان لموسى من قبل عيسى أمثال هذه المعجزات، وقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم، فخلقه أبلغ من خلق عيسى.

لقد حاججهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق المنطق والعقل، إلاّ إنّه يلوح أنّهم ركبوا متن غرورهم، وسدّروا في الغيّ جاحدين كلّ دليل وبرهان، وكأن كُتب على الإنسانية أن تبقى على الأعين هذه الحجب والغشاوات، التي تصدّ عن الهدى.

أبو سعيد - إنّ الأمر تعدّى عن طوره المعقول، وقد أفسد الديانون القائمون على الشرائع وتنفيذها فكرة التوحيد؛ لأهواء نفسيّة، وأغراض شخصيّة، وفكرة الله في الإسلام بلغت غاية المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية المقدسة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحمل بكلتا راحتيه القرآن، يشع بالنور، وسحر البيان، وقد بالغ في تقرير ما ينبغي الاعتقاد به في الذات الإلهية، كلّ ذلك بمقياس من العقل، والمنطق، والبرهان الواضح.

ولكنّ القسس واتباعهم، عصبوا عيونهم بعصابة من التقليد؛ فلم يبصروا النور، ولا تلمسوا الهدى الذي يدعو إليه القرآن، وقد غلبت على عقولهم فتنة البذخ والترف، الذي هم عليه.

إن هذه المتع الجوفاء التي تحجب عن الأبصار الضوء، وعن القلوب النور، وهذه المعالم الفاخرة تسهّل السبل للإنسان من أن ينغمس في النعيم الزائل، أفلا تنظر إليهم، وما من واحد منهم إلاّ ويهمس في أذن الآخر مشيراً إلى حلّة المسلمين الزاهدة، وكيف يولّي نبي المسلمين الدنيا ظهره معرضاً عنها؟. ولقد حدّثني بعض من أرسله النبي إلى نجران أنّ أحد رجال هذا الوفد التفت إلى محدّثه وقال :

٤٤

(.. أمّا رأيت ما فعل بنا هؤلاء القوم؟ أكرمونا، وموّلونا، ونصبوا لنا كنايسناّ، وأعلوا فيها ذكرنا، فكيف تطيب النفوس بدين يستوي فيه الشريف والوضيع)

ابن أرقم - هذه حقيقة واضحة يستطيع كلّ أحد أن يتلمّسها، في رجال هذا الوفد، وكأنهم يرون الحياة في أثوابهم، لا بقلوبهم، وقديماً قالوا: إنّ قوّة المرء بقلبه، ورجال نجران انحرفوا عن جادة المسيح عليه السلام، إلى اصطناع أساليب تضمن لهم العيش باسم الدين.

في اللحظة الأخيرة ولم تنفع البراهين، ولم يؤمن وفد نجران بحجج الوحي المبين، أوحى الله تعالى إلى نبيه( ص )( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ، وليس وراء برهان المشاهدة برهان آخر.

طائف - إنّ الله سبحانه أمر نبيه أن يباهل وفد نجران، صوت جلجل في فضاء المسجد رنان الجرس لم يسمعه أحد إلاّ تلفت حواليه، وتهللت أسارير وجهه، وسرى في المدينة كنسمة الصبح العليلة، تحمل صوت الحقّ الناعم إلى النفوس الخاشعة، ويعبق شذاها بالأمل الباسم في مرحلة التمييز - تمييز الحقّ من الباطل - ، والترجيح في كفتي الميزان العادل.

البراء بن عازب - لقد انبلج الصبح عن شمسه، واستبان الحقّ من الباطل، فإنّ كشف الحقيقة عن طريق المشاهدة أوقع تجلّياً بأكمل الوجوه،

٤٥

وأوضحها في النفوس. ولهذه المباهلة قيمة تزيد عن قيمة المنطق، والأقيسة؛ لأنّها قيمة الشهود في النفس الحسّاسة، والعقل الواعي. وإنّ البراهين، والأدلّة جميعاً لا تغني في ساعة الجدل إذا لم يتلمّس العقل قيمها المحسوسة، وإذا كانت أدلة المؤمن أرجح من أدلة المنكر، وتلمسها المنكر بعقله الواعي، فقد أغنى الدليل غناه، وإلاّ فليس في البراهين، والأقيسة شيء أدلّ، وأصلح للاقناع من وضع الحقّ والباطل في كفتيّ الميزان.

قيس - حقّاً ما تقول، قد أينع الغرس إذا كان هؤلاء يبصرون بعين، أو يسمعون بأذن، أو يرجعون إلى عقل، وأما وهم ليسوا كذلك - وقد فتنهم زخرف الحياة - فإنّ الجدل لا تغني فيه البراهين والأدلّة، ولا تجلوه الأقسة، والحقائق المهلوسة فإن 1 زائد 1 يساوي 2 هذا في واقع الأمر، أمّا في الجدل الديني والعقيدة فإنّ 1 زائد 1 يساوي 4 أو 5 أو ألفاً، وكأنّه خفي عليكم أنّ مسألة الثالوث مشكلة تطلب الحل، ولقد استحال حلّها، ويستحيل على العقول حلّها، ولكنّ النصرانية اليوم قررتها، وإن امتنع الحل، وهل هذا إلاّ من عمل الرهبان القائمين على تنفيذ شريعة المسيح.

البراء - إنّ للإنسان وعياً يشعر معه بما في هذا الكون من جمال ونظام، وأسرار وألغاز، وقد يحتجب ذلك عن إنسان، فلا يدرك شيئاً من هذا الجمال، والنظام والأسرار، ولكن هذه المباهلة ترجيح بين نوعين من الأدلّة والبراهين. وليس دلّ على تهيؤ الجو الصالح لانبثاق النور، والهدى من ترجيح هذا النوع من البرهان الملموس بالمشاهدة، فإنّ لعنة الله الأبدية لابد أن تقع على الكاذب منهما، ولا يسلم الكاذب من العذاب المحيط الشامل.

٤٦

رجل - أترون أن رسول الله ( ص ) يخرج لمباهلتهم منفرداً أم يخرج معه أصحابه وأهله؟؟

أنس - لاشكّ بأنّه يخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وأبو عبيدة، وجماعة من الأنصار.

البراء - على هونك، إنّ هذا تراث من عوسج، خلقته لنا النوازع النفسية، والميول الشخصية، التي حاربها الإسلام، وما أجملها لو أننا تحررنا من سيطرة هذه النوازع التي تقلبت على سائر الحدود، ولم يقيدها حدٌّ، ولقد كانت الميول من قديم الزمن، وقد أشغلت المفكرين ورجال الإصلاح لكن بدون جدوى.

إنّك لتعلم وكلّ أحد يعلم أنّ صحب محمّد ( ص ) ليسوا فئة واحدة موحدة الهدف، وإنّما هم فئات، وأغراضهم شتّى، وأهدافهم مختلفة، ولا أريد أن أقول أنّا نحيط بحكمة الله تعالى؛ لنعلل هذا الاختلاف، ولكنّ الميزان الذي بأيدينا، والذي يحسن أن نزن به الأشخاص، إنّما هو العمل فقط، وأعمال كلّ شخص هي التي ترجّحه في كفّة الميزان، وأغلب الظن أنّ رسول الله ( ص ) إذا أراد أن يصحب أحداً، إنّما يصحب معه الرجل المعدوم العثرات، الزاهد في الحياة، وإذا كنّا لا نُحكّم النوازع النفسية، ولا نميل مع الأغراض، فكل أحد يعلم بأنّ في صحب محمّد من هم أدنى إليه مجلساً، وأقرب من ربّه مقاماً، أئمة إيمان، أذلّوا النفوس، وقهروا الأبدان، وفنيت قلوبهم ونفوسهم في ذات الله، رضوا من الحياة بما دون الكفاف، وهم غير من ذكرت.

غلب على الجالسين وجوم آفته ضيق أفق نفوسهم

٤٧

عن تفهم نفسية الصحابة واحداً واحداً، وكأنّهم رجعوا إلى الماضي يفتّشونه حادثاً فحادثاً؛ ليميزوا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سهل - حقّاً إنّا لا نملك الميزان الصحيح، ولكنّ شيئاً واحداً لا يجوز أن ننساه، ونغفل عنه فإنّ منطق الحوادث التي رأيناها منذ بدء الدعوة إلى الإسلام يقضي قضاء لا معدى عنه، إنّ رسول الله سيصحب معه ابن عمّه عليّ بن أبي طالب فإنّه (من أهل البيت، لا يقاس به أحد، وهو مع رسول الله ( ص ) في درجته)، وهو وزيره، وكاشف الكرب عن وجهه في المواقف الكثيرة من حروبه. وليس في المسلمين من يضاهي عليّاً بمكانه، وزهده، وإخلاصه، وعلمه، وفضله، وعلوّ منزلته، فقد بلغ الغاية القصوى، وارتقى إلى أعلى مرتقى. ولقد حدثني مَنْ سمع رسول الله يقول:

« من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في عزمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب »(1) وهو الرجل الذي لا يخزيه الله أبداً، يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله(2) ، وهو من رسول الله بمنزلة هارون من موسى. ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

____________________

(1) أخرجه أحمد في مسنده، والبيهقي في صحيحه، والتفسير الكبير في تفسير آية المباهلة، إنّه متّفق على صحته.

(2) من حديث سهل الساعدي رواه البخاري ومسلم.

٤٨

البراء - لم يكن ما حدثتنا به إلاّ حلقة من حلقات فضائل عليّ، ولقد تساندت فضائله بعضها إلى بعض، وانتشرت انتشار عمود الصبح، تجلي ظلمة القلوب، وله في قلوب خلّص المسلمين حضوة، وفي نفوسهم ولاء.

إنّ علياً نهج لنفسه الرسالة السماوية مثلاً يسير عليه في كلّ خطوة من خطواته، وفي كلّ حركة من حركاته، وعند كلّ نفس من أنفاسه، ومن استوعب حياة هذا الفتى؛ عرف كيف ذهب يشقّ طريقه إلى الله تعالى، ولقد تفتّحت جوانب قلبه للرسالة المحمدية؛ فوعاها، وآمن بها إيماناً لا يشبهه إيمان، ورأيناه في البدء أول من يبادر إلى اعتناق الإسلام، ثمّ سار مع الأيام يشبع غرائزه من المنهلين العذبين القرآن، وأخلاق النبي، وصفت نفسه صفاء استوعب لبّ الإسلام من مصدريه.

ولقد أصبح الرجل الأول بين المسلمين، والمصدر الأول والأخير بعد رسول الله، نضج هذا الفتى نضوجاً لم ينضجه أحد من صحب محمّد ( ص ) نضج في تفكيره في هذا الكون، ونضج بملازمته لصاحب الرسالة، منذ فجر صباه في سن الطفولة، فليس ثمة أحد يضاهي علياً بما دلف إليه من تعاليم الإسلام، وأخلاق محمّد( ص ).

وفي الحقّ أنّ هذا الفتى نبتةٌ غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام؛ فاندفع يسير كما يشاء له النبي، ويريد له كتاب الله؛ فبلغ غاية الشأو كما صار ملتقى المنبعين كتاب الله وسنة رسوله، وقد قرن النبي حبّ عليّ بحبّه، وبغضه ببغضه.

٤٩

ولكنّ هذا حدث خطير يحمل في دقائقه معالم الحكمة، وفي روحه وتشريعه معالم الإنذار بغضب الله، وقد أنبأت عنه كلمات الله، ولم يسبق له مثيل في الإسلام، ولا قبله فلا تسيّره مشيخة الأصحاب، ولا كثرة الرجال والعدد، وإنّ محمداً في كلّ عمل من أعماله، مقيّد بمبدأ يسيّره ربّه عليه، في الطريق الآخاذ إلى المثل العليا، التي أعدّت للإنسان الكامل بسائر أنواع الكمالات النفسية والسياسية، فقد يسمح له ظرفه بأن يصحب علياً وغيره، وقد لا يسمح له، وقد يكون من السياسة أن يصحبه، وقد لا يكون، والأمر وراء ذلك كلّه ينزل من السماء.

يمرّ حذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار يتحدثون بدعوة رسول الله ( ص ) وفد نجران إلى المباهلة، وحذيفة يقول: إنّ الوحي غشي النبي، ونزل عليه( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .

البراء - صدق الله العظيم، هذا ما كان يختلج في نفسي، ويعتقده ضميري.

بشير - أترى يخرج ومعه جميع نسائه، أم يقتصر على عائشة، وحفصة، وأم سلمة؟.

زيد - أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها، وقومها، ونساؤه من حرمت عليهن الصدقة(1) .

رجل - يلتفت إلى البراء بن عازب - الإنسان لا يدعو نفسه، فمن هي النفس التي هي نفس رسول الله، ويدعوها إلى المباهلة،.. ومن هم الأبناء الذين تعينهم الآية الكريمة؟.

____________________

(1) أخرجه مسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ.

٥٠

البراء - لا أعلم! إلى حذيفة، وسلمان، وعمار، وأبي ذر فإنّهم من خلّص أصحاب النبي وأعلم بالسر.

يذهبون إلى حلقة مؤلفة من أربعة، يتناجون بصوت خافت، كأنهم يحفرون قبراً لسرٍّ، يريدون أن يدفنوه في ضمائرهم.

بشير - إلى حذيفة: يا أبا عبد الله، لقد أشار الله سبحانه إلى قصّة الوفد في كتابه المجيد بأبلغ، وأسمى ما تعرفه البلاغة من السموّ، وإنّ هذه المباهلة قد رسمت المنهج الأمثل للمتخاصمين في الله..، ولكن من هم الأبناء الذين يدعوهم رسول الله، ومن هم النساء، والأنفس؟..

حذيفة - إنّ الحافز لهذه المباهلة، هو الحرص على توطيد دعامة الحقّ، وواضح أنّ مقياس الاختيار، إنّما هو فضل الأشخاص الذين يقع عليهم الاختيار، وعلى مقدار تمتّعهم بالفضيلة والتقوى، يقع عليهم الاختيار، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتّجه إلاّ حيث يوجهه الله تعالى، ويلوح لي أنّ الذين سيقع عليهم اختياره هم: عليّ من الأنفس، وفاطمة من النساء، والحسن والحسين من الأبناء.

بريدة - (يلتفت إلى حذيفة، وهو مضطرب الأعصاب) أيترك عمّه العبّاس، وأبا بكر، وعمر، ويختار هذا الشاب الفتى، ويجعله كنفسه!، ثمّ يترك أحبّ نسائه إليه، وأعزّهنّ عليه عائشة، ثمّ يترك أبناء عمّه، وعمومته، وأبناء المهاجرين، والأنصار، ثمّ يختار طفلين ليباهل بهم هذا الوفد الجبّار؟!.. ليس هذا من المنطق

٥١

الصحيح في شيء.

أبو ذر - يلتفت إلى بريدة بغضب شديد - لأمّك الهبل، أنّها كلمات جوفاء، لا تملأ جوفاً مثلما تملؤه ذرّة من هذه الذرّات المبعثرة في الفضاء، ولا يجهل أحد أنّك خاضع في حديثك لتيارات جاشت بها نفسك حقداً وحسداً، وهما يصطنعان لك هذه الأساليب. أيقال لمثل ابن أبي طالب ذلك؟!

قل لي هل وقعت عينك، أو عين أحد، على أحد أنقى صحيفة من عليّ صنو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن فاطمة بضعته التي من أغضبها فقد أغضب رسول الله، ومن أغضب رسول الله فقد أغضب الله، ومن ريحانتيه من الدنيا، سيدي شباب أهل الجنّة؟.

ولا أظنّ أنّ أحداً من المسلمين لم يسمع رسول الله يقول: « إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها هلك(1) ، وإنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(2) . ولقد رأيته آخذاً بيد عليّ فيقول: « يا علي أنت أخي ووصيي ووزيري وأميني، مكانك منّي مكان هارون من موسى، إلاّ إنّه لا نبي بعدي. من مات وهو يحبّك ختم الله عزّ وجلّ له بالأمن والإيمان، ومن مات وهو يبغضك، لم يكن له نصيب في الإسلام.»

حذيفة - (إلى بريده) أرى الأفضل لنا أن نهيّئ قوانا العقلية لنصل

____________________

(1) أخرجه أحمد، والبزار - كما في ينابيع المودّة - « من تركها غرق.»

(2) أخرجه الطبراني في الأوسط، والصغير، وأبو يعلى، وأحمد عن أبي ذر.

٥٢

عن طريق الروح والعقل إلى الواقع، وإنّ الاهتداء لواقع الأمر عن طريق القوى الروحية والعقلية، هو أعلى ما تصل إليه أفكار المفكّرين، وإنّه العنت كلّ العنت، الوصول إلى الحقائق عن طريق الرأي، وكم رأينا، وسمعنا أن الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات في طريق التفكير، وبالأخير لا أراه يصل، وإن وصل فإنّه يصل وهو محطّم القوى، وحسبنا جميعاً أن نرجع إلى كتاب الله، فإنّه حفظ لنا كثيراً من الآيات في فضل هؤلاء النفر، ولحظات قصيرة في تلك الآيات الكريمة كافية للتدليل على فضل العترة المباركة، (ولكنّ الحسد أهلك الجسد)، وأخيراً أحب أن أطلعك، إن الله سبحانه اختار عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً؛ ليؤمنوا على دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن الاختيار من رسول الله.

٥٣

يوم المباهلة

استيقظت المدينة المنورة من نومها، ومسحت عن عينها فترة الكرى، وشبحت العيون فإذا صورة ثانية من الزمن، غير التي يعرفونها بالأمس الماضي.

الأرض واجفة.. والشمس كاسفة.. والسحب داكنة..

أصبحت البلدة الطبيبة غيرها بالأمس. ولم تكن كعهدها بالهدوء.. الناس في جيئة وذهوبة..

أصبحوا، وفي القلوب خلجات..

أصبحوا، وعلى الشفاه همسات صغت إليها الآذان، وأرهفت غرب الأذهان..

لم يبقَ من لا يتحدّث، ثمّ هو لا يستفيض في الحديث.. والحديث كلّه عن المباهلة، والمباهلة سفر ضخم، فيه كلّ لون وكلّ حديث.

إنّهم ليحزنهم التطيّر المشفي على الجزع! إنّهم يشفقون من المستقبل!.

مدّت الأعناق لترى الساعة الرهيبة، وصغت الآذان للرعد القاصفة.

إنّها لقريبة جدّاً ساعة المباهلة، أو ساعة الإنذار بلعنة الله على الكاذبين.

٥٤

هذه الشمس تركت خباءها تزحف، وشيء مجهول يزحف معها، يجلجل صوته كالرعدة القاصفة. ها هي المسامع تستك والفرائص ترتعد.

ساعة من الزمن منتظرة هي الزمن كلّه.. إنّها الساعة الأخيرة على أحد المتباهلين، أكانت هذه الساعة وليداً جديداً لم يشاهد لها مثيلات من قبل؟! أم هي خلجات القلوب ترقب الحادث الجديد؟..

إنّها ارتسامات الشعور الهادئ المضطرب معاً.. عيون تنظر من كوة الحياة إلى صنفين.. إنّها العقل الواعي يقارن بين عهدين: العهد الماضي، والعهد الحاضر. وبين مبدئين.. كلمة واحدة وليس بعدها أخرى، ثمّ ترتفع السجف ويتضح الحقّ مشعّاً..

أمل باسم يطفح بالنور.. وقلوب معتمة حيرى عصف بها الأسى، وتكاد تفرّ من أقفاصها لو فتح لها الباب.

* * *

يوم مشهود يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة(1) ، تطلّع الناس فيه إلى بزوغ شمسه، كما تطلّعوا إلى سابقه يوم دخل الوفد، ولكلّ يوم منهما حدوده ومقاييسه فلا تغيب آثارهما. يحمل اليوم الأول فتنة البذخ إلى نفوس الضعفاء.

والثاني يحمل الدعوة سافرة.. أجل إنّه اليوم الذي يحمل بين

____________________

(1) هذا هو المشهور وقيل كانت المباهلة في يوم الواحد والعشرين وقيل الخامس والعشرين وقيل في السابع والعشرين.

٥٥

تلافيفه المفاجأة الكبرى، والدعوة سافرة لا يسترها شيء، وهي من مقولة الأرقام، وليست من مقولة الجدل والبرهان..

يوم ليس كمثله يوم. يحمل بين طرفيه الحادث الخطير، يجر في أعقابه ألف حادث وحادث، يحمل في طيّاته عدالة السماء، وغضب جبّار السماوات والأرض؛ ليعطي كلاًّ من المتباهلين نصيبه منهما، ويكاد الناس أن يؤمنوا أنّها النهاية بعد أن ترفع الأكف للابتهال، وتجأر الألسن بالدعاء.

يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة يوم مشهود.. مصدر عظمة في سلسلة الأيام الإسلامية.. يومٌ تألّق نوره بين الأيام المشعّة في الرسالة المحمدية.

يوم مشهود حقّت فيه كلمة الله العليا.. وتمّت الغلبة للإسلام..

يوم مشهود. عنت قبة رقاب أولئك السادة لشريعة الحقّ، وأعطوا الجزية عن يد..

يوم مشهود. يبسم بالأمل الزاهر. يطوي الصفحة من حياة، ويفتح الصفحة أخرى، يتلقاها العقل من مصدرها بالبرهان المشاهد. ولاشك في أنّها من ألمع صفحات تاريخ الإسلام.

يوم مشهود. لا شبيه له ولا مثيل، ولا يقاس به يوم إلاّ كان القياس خطأً؛ لما تبين فيه من الحقّ، وظهر فيه من فضل آل محمّد صلى الله عليه وعليهم وسلم على سائر الناس.. وآل محمّد لا يقاس بهم أحد.

يوم الرابع والعشرين من ذي الحجّة ناصع الجبين، مشرق المحيا، تتراءى خلاله العظمة باهرة الجلال، َتلفّت إلى حيث شئت فإنّك ترى روحيّة عالية،

٥٦

وقدسيّة سامية، تتصلان بأعماق النفس.

يوم مشهود. قف منه حيث شئت فإنّما تقف على عظمة الرسالة المحمديّة، تتجلّى في نفس واحدة من الأنفس الكثيرة، وامرأة واحدة من نساء كثيرات، وطفلين لا غير. هم جميعاً صفوة الصفوة، ولباب اللباب، الذين اختارهم الله لكرامته، وأعدّهم لهداية أمته من بعد نبيه..

يوم مشهود.. اختصم فيه خصمان بربهم..

* * *

لقد جاءت الساعة المرتقبة، واللحظة المنتظرة، لحظة فقط تتفجّر فيها براكين الأرض، وترسل السماء شهب النار. لحظة واحدة يهلك فيها الكبير، ويفنى الصغير، حيث زلزلت الأرض زلزالها.

انطلقت الأبصار إلى الجهة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ترقب الثغر الباسم، والجبين المشرق، والوجه الأغر..

يا لجلال الله. هو ذا رسول الله، يخرج ووجه يشعّ بالنور تسيّجه هيبة الله..

يا لعظمة الحقّ، وجلال الإيمان. هو ذا يحتضن الحسين، ويمسك بيمناه الحسن، وخلفه بضعته الزهراء مغشاة بملاءة من نور الله، وهذا عليّ يمشي خلفها باهر الجلال، يرتدي بُردة من مهابة الله.

* * *

المباهلة هي القول الفصل في نهاية الجدل، وقد اختارها الله لنبيه، واختار له الأشخاص الذين يؤمّنون على دعائه.

٥٧

وبعد - فالعقل لا يصل إلى صورة أرفع من هذه الصورة، وإلى أشخاص في رتبة هؤلاء، أو أرفع؛ لئلاّ يقع من العليم الحكيم الترجيح بدون مرجّح في المرحلة الحاسمة.. ولأن العقل لا يساند الاختيار إلاّ إذا وقع على الأمثل فالأمثل من المثل العليا. وليس في مكنون علم الله سبحانه أمثل من هؤلاء.

فالله( عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ )

* * *

(أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشجرتين فقصدتا(1) ، وكسح(2) ما بينهما حتّى إذا كان الغد، أمر بكساء اسود رقيق، فنشر على الشجرتين) على هيئة المخيّم.

(وخرج السيّد والعاقب بولديهما، وعليهما من الحلي والحلل ما يلفت الأنظار، ومعهم نصارى نجران، وفرسان بني الحرث على خيولهم، وهم على أحسن هيئة كأنّهم ليوث غابٍ). واجتمع الناس من أهل المدينة، وَمن حولها من الأعراب، وأهل الألوية؛ يرقبون الحادث، لا يعرفون ما هو مقبل عليهم، عندهم ثقة تامة، ولكن يرتادهم شكّ، ولهم إيمان راسخ، ولكن يراوده قلق، وقد ضرب الاضطراب عليهم نطاقه، والقلق مدّ رواقه، فهذه وجوهٌ عليها غبرة ترهقها قترة، وهذه وجوه مسفرة ضاحكة مستبشرة.. الشمس تسير بأفقها مضطربة كاضطراب هذه القلوب.. هذه الرياح تهبّ من حول أناس بألوان مختلفة، تارة مهيباً وأخرى رهيباً. الناس جمود يتحركون.. صامتون يتكلمون، آمنون وجلون.. حيارى وما هم بحيارى، وأوشك الناس يتبيّنوا أنّ الانقلاب

____________________

(1) أي كسرتا.

(2) كنس ما بينهما.

٥٨

فخذلتهم عقولهم، وخانهم صلب إيمانهم.

(وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محتضناً الحسين، وبيده الحسن، ومن خلفه فاطمة الزهراء، ومن خلفها عليّ.. فتقدّموا إلى أن وقفوا تحت ذلك الكساء، على الهيئة التي خرج عليها) يقول لهم: «إذا دعوت امّنوا - قولوا آمين -» وأرسل إلى السيّد والعاقب يدعوهما إلى المباهلة.

جفل الوفد، وانكمش على نفسه، فإنّهم لم يثوبوا إلى أنفسهم من دهشتهم بالأمس حينما اجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أخذ عليهم آفاق الأرض والمساء، حتّى احتوتهم الدهشة ثانية، مزرية بما سبق من الدهشة، وقد امتدّ بهم البصر، فإنّهم يرون النور يشعّ من هذه الأوجه الكريمة.

- لم يأتِنا أبو القاسم بأهل الكبر والشدّة من أتباعه. وإنّما جاءنا بالأعزّة، والأحبّة من أهل التخشّع، وبهلة الأنبياء، والصفوة الصفوة المختارة.

* * *

تمرّ لحظات يتهيّب فيها الوفد ويحار.. لحظت كأنها الدهر الخالد. لحظات قاسية، لم يعانِها أحد على نحو ما عاناها القسس، ولم يشقّ بها أحد مثل ما شقي بها هؤلاء. إنّها الساعة الأخيرة، وإنّه ليكاد اليقين يمسّ قلوبهم بصدق محمّد صلى الله عليه وآله وسلم... يأس جامح ملك قلوبهم.

* * *

يتقدم السيّد والعاقب إلى رسول الله ( ص )

- يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟!

- « أباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على الله »، هؤلاء وأشار إلى

٥٩

علي وفاطمة والحسن والحسين).

- (فما نراك جئت لتباهلنا بالكبر ولا الكثر. ولا أهل الشارة ممن نرى ممن آمن بك واتبعك، وما نرى هنا معك إلاّ هذا الشاب والمرأة والصبيين، أبهولاء جئتنا نباهلك؟!

- أجل: « بهؤلاء، وهم خير أهل الأرض، وأفضل الخلق. »

استكت أسماعهم، وارتعدوا كأنما الأرض تريد أن تسيخ بهم. ساعة خاصمتها الرياح المختلفة في هبوبها، والأعاصير الهوجاء، ثمّ رجعوا إلى أسقفهم.

- أبا حارثة ماذا ترى؟

- ماذا أرى؟ (إنّي لأرى وجوها لو سئل الله بها أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله.. أفلا ترون محمداً رافعاً يديه ينظر إلى ما تجيئان به؟. وحقِّ المسيح إن نطق فوهُ بكلمة فلا نرجع إلى أهلٍ ولا إلى مالٍ)

أفلا ترون الشمس تغيّر لونها، والأفق تتجمع فيه السحب الداكنة، والرياح تهبّ هائجة، سوداء حمراء، وهذه الجبال يتصاعد منها الدخان؟

(لقد أطلّ العذاب، انظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها، وإلى الشجر كيف تساقط أوراقها، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا؟!)

(والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيٌ مرسل، ولقد جاءكم بالأمر الفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قومٌ نبيّاً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن وكان الاستئصال.. وإنّما عهدكم بإخوانكم حديث، وقد مسخوا قردة وخنازير..

٦٠