المباهلة

المباهلة0%

المباهلة مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155

المباهلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: الصفحات: 155
المشاهدات: 16771
تحميل: 7046


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16771 / تحميل: 7046
الحجم الحجم الحجم
المباهلة

المباهلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويحكم لا تباهلوه..

لا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة).

- إلى يوم القيامة!.

- نعم: إلى يوم القيامة.

* * *

وذكروا أنّهم قالوا: (يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك.. وأن نقرك دينك، وأن نثبت على ديننا.

- « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين. »

- لا نسلم.. ولا نترك دين آبائنا!.

- « أناجزكم القتال. »

إنّها الحرب المهلكة.. لا طاقة لنا بحرب العرب ولكن..

- « ولكن ماذا؟! »

نصالحك على أن لا تغزونا، ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدّي إليك في كلّ عام ألفي حلّة، ألفاً في صفر وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد.

يقول اليعقوبي وغيره: فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ألفي حلّة من حلل الاواقي (كذا)، قيمة كلّ حلّة أربعون درهماً. فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك، وكتب لهم رسول الله( ص ) كتاباً.

« بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمّد رسول الله، لنجران وحاشيتها، إذ كان له عليهم

٦١

حكمة في كلّ بيضاء، وصفراء، وثمرة، ورقيق، فما زاد ونقص، فعلى هذا الحساب ألف حلّة في صفر، وألف في رجب، وعليهم ثلاثون ديناراً مثواة رسلي فما فوق، وعليهم في كلّ حرب باليمن دروع عارية مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة محمّد، فمن أكلّ الربا بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة. »

فقال العاقب:

يا رسول الله إنّا نخاف أن تأخذنا بجناية غيرنا.

فقال: « إكتبوا ولا يؤخذ أحد بجناية غيره. »

وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه:

« والذي نفسي بيده إنّ الهلاك تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتّى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا. »

موقف حسّاس، وهل من سامع لهذا الكلام من رسول الله، ومشاهد لموقف هؤلاء النفر إلى جانبه صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ لا يمثل قلبه إجلالاً وإكباراً، ثمّ لا يعترف بفضل الأنفس، والنساء، والأبناء، والمؤمنون العازفون عن الدنيا شعروا بمقامهم، وامتلأت قلوبهم إيماناً بمنزلتهم السامية، واعترفوا بتقدّمهم.

* * *

ولم يشأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقف هنا، ولم يدع الناس أن يمضوا قبل أن يتحدّث إليهم عن ربّه في نقاء هولاء الأربعة وطهرهم.

في هذه الساعة التي لا يزال الناس في دهشتهم وروعة الجلال التي

٦٢

ملكتهم، يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقاء آل رسول الله، وطهرهم من كلّ دنس تقول السيدة عائشة:

(خرج رسول الله وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ، ثمّ قال:

( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أهل الْبَيْتِ ) .

ماذا بقي بعد هذا ما يحمل القلوب على الالتفاف حول أهل البيت. وأي شيء بعد الطهر والنقاء من كلّ رجس يحمل الناس على التهافت إلى حضيرتهم السامية؟.

صوت رفيع من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انطلق من حاضرة الإسلام مع الريح، ثمّ صار يشقّ طريقه في الفضاء رنّان الجرس، يقرع في سمع الأجيال جيلاً فجيل حتّى اليوم، وحتى قيام الساعة صارخاً.

هؤلاء فقط أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة.. هؤلاء فقط الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

كلمات طرقت الآذان، واستوعبتها مشاعر المؤمنين. رسالة السماء، وكلمات الله تنهج للناس الطريق الأمثل الأيلج، إنّه التنزيل بنصوص آياته، وروح معانيه، يرسم لنا صورة مثالية لأولياء ارتفعت عن التفكير والتصوير.

إنّه صوت الله يقرع الأسماع، فأين أين، وإلى أين؟

إنّها الرواسب الماديّة في نفوس جعلت من المسلمين صنفين.

٦٣

أفضل الخلق

يجدر بنا أن نقف عند هذا الحادث الخطير قليلاً، فإنّ لهذه المثاليّة السامية التي رسمها كتاب الله لآل رسوله حقوق في ذمّة المسلمين، لا يستطيع الزمن أن يقضي عليها، أو يتناولها بتحريف، مهما انتهج من أساليب، واصطنع من أعوان؛ لأنّ النهج الذي نهجه كتاب الله واضح، لا يدخله أي تعديل، ولا يمكن أن يتناوله التحريف، وإن تناوله التأويل، ومن ثمّة تشعّب الطريق بين المسلمين، وذر الخلاف قرنه، ولكنّ الحقّ عزيز الجانب، قد بثّ عيونه ونشر جنده.

ومن المستصوب أن نقف هنا موقف المعقب على هامش المباهلة، علّنا نخرج مع القارئ ولم يفتنا الصواب حينما يسفر البحث عن براهين متنوعة؛ لإثبات مثالية الأنفس، والنساء، والأبناء، وحينما تكون النتيجة أنّهم أفضل الخلق.

وهذا صحيح عن وجهة العقل، ومن وجهة الواقع من وجهة الاختيار الذي وقع عليهم.

فإنّه واضح جليّ، إنّ الاختيار الذي وقع على عليّ وفاطمة وحسن وحسين، له أهميته الكبرى في تقرير مرتبة الفضيلة وانحصارها.

ولأنّ السبب الذي طوى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، وخفرات المجد من عمر العلى، وشبيبة الحمد جميعاً، وأصحابه جميعاً، وأبناء

٦٤

المسلمين جميعاً، في زاوية، ولم يدعُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحداً من هؤلاء لم يبقِ مجالاً للشك بأنّ الذين وقع عليهم الاختيار، ولا يقاس بهم أحد من الناس إلاّ كان القياس خطأً؛ لأن القياس إنّما يقع في المرحلة التي يصحّ بها القياس، والذي لا مثيل له لا يقاس عليه.

والاختيار دلّنا على أنّهم لا مثيل لهم، والبداهة تستلزم ذلك، والعقل يحكم، ونحن لا نجد صعوبة في الفهم حين نفهم من هذا الاختيار التفضيل المطلق، والكمال المطلق في المرحلة الأخيرة.

ليس على الإنسان حساب في فهم التفضيل حينما يعلم أنّ الله سبحانه اختارهم في ساعة المقايسة والموازنة.( وَاللّهُ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) .

وهداية الله سبحانه تأخذ بيد الإنسان، فتخطو به إلى المثاليّة الرفيعة، ولي في العقل ما يمنع من الوصول إلى أعلى درجات الكمال، ولكنّ العقل لا يفهم هذا إلاّ باعتبار الوصول إلى فهم الحقيقة الإلهية فهماً كاملاً إلى حدّ الفناء في الله.

كما وإنّه ليس لاختيار الله مقاييس أخرى غير مقاييس الفضيلة على اعتبار الوصول إليه تعالى، وصولاً مقربّاً منه، وقد فنيت قلوب آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الله، وكان لهم من الحياة الفضلى، والفناء ما يثبت لهم المثاليّة المطلقة في كلّ مقاييس الفضل، والكمال النفسي، والشخصي. وقد جاء الاختيار منه برهاناً ساطعاً لا يفسح مجالاً إلى قيل وقال، ولا إلى استدلال..

وبعد - فالعقل لا يتصور مثالية، ولا عبقريّة أرفع من مثاليتهم وعبقريتهم، فهم الراجحون في مقاييس الفضل، والسبق، والشرف، والإيمان.

٦٥

أولئك هم كيف واجهتهم، ومن أي النواحي أتيتهم، تجدهم الراجحين في مقاييس الفضل والفضيلة.

* * *

في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع نسوة، ولسنا في حجّة إلى تصوير من فيه منهنّ الكفاية من ناحية الدين، والخلق، والكمال. فإنّهنّ أمهات المؤمنين حقّاً، وفي المدينة من المهاجرين، والأنصار، وبني هاشم، جمع غفير تجاوز عشرات المئات إلى عشرات الألوف. وفيهم النخبة الصالحة الممتازة من المقيمين على الحقّ، اعتصموا بحبل الله، وحبل الرسول، صبروا على الأذى، وجاهدوا في سبيل الله، أولو سابقة في الإسلام، أخلصوا لله في نيّاتهم، وتوجّهوا إليه بقلوبهم، وأعمالهم، راضوا أنفسهم في سبيل كمالها؛ فرضوا من الدنيا بالكفاف. وفي بني هاشم، والمسلمين من الأبناء ما يزيد عن العدّ، احتفل بهم التاريخ، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوى هؤلاء جميعاً، وأولئك جميعاً، وتركهم جانباً، ثمّ خرج بعليٍّ ( ع ) من الأنفس، وبفاطمة ( ع ) من النساء، وبالحسن والحسين ( ع ) من الأبناء، ولم يخرج معه أحداً غيرهم.

ولماذا؟؟..

حدّثونا فيما حدثونا به عن أبي رباح مولى أم سلمة، يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جواب هذا السؤال إنّه قال: « لو علم الله تعالى أنّ في الأرض عباداً أكرم من علي، وفاطمة، والحسن، والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء

٦٦

- وهم أفضل الخلق - فغلبت بهم النصارى. »

بهذا يواجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه حيث يسأل، وبهذه الكلمات الوجيزة يعلن عن قيم أصحاب الكساء، وأهل آية المباهلة، وقدسهم وسموهم، وعن مكانتهم من الله عزّ وعلا.

حقّاً إنّ مثل هذا الخبر له قيمته في تعرف قيم آل رسول الله، الذين اختارهم الله؛ ليباهل بهم رسولُهُ قسس نجران.

ونحن لا نجد تصويراً لسموّ فضلهم، أدقّ وأصدق من هذا التصوير المعلن برفيع مكانتهم، وكبير قدرهم، وسامي منزلتهم، وعظيم فضلهم، ويحسبنا أن نستمع إليه يقول: « لو علم الله أن في الأرض أكرم من عليّ وفاطمة والحسن والحسين؛ لأمرني أن أباهل بهم » بخ بخ ليس في علم الله أحد أفضل منهم. لا في الأرض، ولا في السماء.

وإنّ هذا التعبير ينشئ في نفوسنا صوراً شتّى من القيم المثالية، التي تعبّر عن قيمهم الرفيعة في المجتمع الروحاني الأقدس، وهذا هو الشرف العظيم الذي تطامن إليه الرقاب بخوعاً.

ولهذا الحديث منشآة عالية في النفوس، فهو ينشئ في نفوسنا صوراً من قدس النفس، وعظيم المنزلة، وينشئ في نفوسنا صورة من الفضل والكرامة عند الله تعالى، وإنّه ليس أحدٌ أكرم عليه منهم، وينشئ في نفوسنا صورة مثالية رفيعة، ارتفعت عن كلّ تفكير، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باهل بهم، وهم أفضل الخلق، وبهم غلب النصارى. وحسب الناظر في هذا الحديث، وغيره من الأحاديث الصحيحة أن يثبت أعلى درجات الكمال، ويحسبه

٦٧

أن يكون رجع إليه وعيه، وثاب إلى رشده فاثبت ذلك بعقله.

ونحن اليوم نعيش في عصر المحاكمات، وقياس الأمور بأقيسة الأرقام، لا بأقيسة الثقل.

وبعد - فلا أحسب أنّ أحداً من المسلمين يستطيع أن يرجع هذا إلى مظهر من مظاهر عطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيته، وإن وجد فيهم من يعتقد مثل هذا - والعياذ بالله - فقد قصدت نفسه إلى نوازع الشيطان، التي تحيك في السرائر، وزلقت قدمه فتدحرج إلى هوّة سحيقة، فخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. فإنّ رسول الله.

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏* إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى‏* عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) ( إنّه لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكّرُونَ* تَنزِيلٌ مِن رَبّ الْعَالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين* ثمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنكُم مِنْ أحد عَنْهُ حَاجِزِينَ) .

* * *

وليست آية المباهلة بالآية الأولى والأخيرة التي التقى فيها القرآن المجيد بآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد التقى بهم مرات في كثير من النواحي. يقول ابن العباس:

(نزل في عليّ أكثر من ثلثمائة آية في مدحه. وعن الأعمش عن أصحاب ابن عباس قال: ما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا إلاّ وعليّ أميرها، وشريفها. ولقد عاتب الله أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان،

٦٨

وما ذكر عليّا إلاّ بخير)

ولا نريد هنا أن ننقل إلى القارئ كلّ ما نزل فيه، وفي أصحاب الكساء. إذ ربما يكون في النقل الكثير شيء من الإطناب، ولكن مع إمساكنا عن التبسّط في الحديث لا يسعنا إلاّ أن نلفت نظر القارئ إلى شيء ميسور فهمه. ذلك أنّ المفسرين، وحملة الحديث لم يتّفقوا على شيء من الآيات التي يدّعى نزولها في بعض الصحابة كما اتفقوا على الآيات التي نزلت في أصحاب الكساء، في مدحهم، والثناء عليهم. ونظرة عجلى في ذلك تثبت لنا صحّة الدعوة، ومثالاً واحداً نضعه بين يديك، اقرأ قوله تعالى من سورة الدهر:

( إِنّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إنّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) .

اقرأ ذلك إلى قوله تعالى( إِنّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُوراً )

اقرأ ذلك لتعلم مقام أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وقد ورد من طرق عديدة إنّ هذه الآيات نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين(1) .

____________________

(1) أخرج غير واحد من أعلام أهل السنة عن ابن عباس، أنّ هذه الآيات نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين. وإليك نص ما قاله الزمخشري في كشّافه: (وعن ابن عباس (رض) إن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناس معه، فقالوا يا أبا الحسن -

٦٩

وهل من قارئ لهذه الآيات لا يمتلئ قلبه إكباراً وإجلالا وتقديساً لهؤلاء الأبرار؟ وهذه ناحية من نواحي عظمتهم المرموقة.

أجل. إن هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة تلقي ضوءاً على عبقرية أهل البيت (عليهم السلام)، ويكاد أن يعتقد كلّ منصف إنّه لا يجد في المسلمين من يشاركهم في فضلهم، وبوضوح ترسم لنا ألوانا من السموّ، وتحتفل بضروب من العظمة، وهي بمجموعها تمثل لنا صورة من المنزلة العالية

____________________

- لو نذرت على ولديك؛ فنذر عليّ وفاطمة، وفضّة - جارية لهما - إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا. وما معهما شيء؛ فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصواع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء. وأصبحوا صيّاماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ عليّ (رضي الله عنه) بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: « ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم »، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، وقد التصقت بطنها في ظهرها، وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام وقال: « خذها يا محمّد، هنّاك الله في أهل بيتك » فأقرأه السورة. انتهى. من الكشاف في تفسير سورة هل أتى ( الدهر).

٧٠

والمقام الرفيع عند الله تعالى، وبالأخير المثالية التي خرجت عن حدود المقاييس والموازين.

وليس هناك ما يمنعهم من هذه المثالية، وقد خرجوا من البيت الذي خرجت منه الدعوة الإسلامية، وساروا في الطريق التي يسير فيها القرآن المجيد، ويدخلون كلّ بيت يدخله القرآن، ولا يفترقون عنه حتّى يردوا على رسول الله يوم القيامة(1) .

* * *

ليس من السهل الهيّن على الإنسان أن ينتزع من نفسه الأنسجة

____________________

(1) من جملة حديث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف بين المحدّثين بحديث الثقلين، أو حديث التمسّك، ولفظه عند الترمذي « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله عزّ وجلّ حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟! ».

ولقد بسطنا البحث فيه في كتابنا (تحت راية الحقّ). وهو من الأخبار المتواترة، أجمع المحدثون على روايته، وأخرجوه من طرق عديدة. أخرجه مسلم في صحيحه، وصاحب الجمع بين الصحاح الست، وصاحب الجمع بين الصحيحين، والترمذي، والنسائي، والحاكم، والطبراني، والطبري، والبيهقي، والبزّار، والملا، وأبو يعلى إلى كثير منهم، وقد أجمعوا على صحّته. نعم البخاري لم يخرجه وإن صحّ من طريقه، ولكن حال البخاري في أمثال هذا الحديث معلوم لكلّ متتبع. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

٧١

التي يحاك منها الخطأ؛ ليشاهد الحقيقة الماثلة أمام عينيه واضحة جليلة لا يسترها ستر. ولكن من السهل الهيّين أن يوقظ في نفسه الروح العلميّة؛ فتقوده إلى دراسة النفسيات، والشخصيات عن طريق الحوادث التاريخية. وبهذا يستطيع - إذا كان جريئاً، وكان صافي النفس - أن يكشف الستار عن الحقائق، ويجليها من الأصداء المتراكمة عليها طوال السنين، ومن السهل عليه إذن أن يكون ضميره أسرع إلى اقتباس الحقائق من عينيه، ويأمن كلّ خطأ.

وأيضاً يجب أن لا نشك أنّ لكلّ جيل، ولكلّ حضارة قيم اجتماعية هي مقياس الفضيلة في الموازين.

وكذلك لا شك في اختلاف هذه القيم، وتفاوت نسبها سموّاً واعتباراً، وواجب الباحث الفصل بينها بكلّ الاعتبارات المقوّمة لهذه القيم.

والإنسان الذي يرجّح في كفّة الميزان هو الذي تحفُّ بشخصه أعلا القيم، وأمثلها. وذلك بالحصول على أمثل الصفات وأعلاها، التي هي تجعله فريداً وحيداً. وأن يتّصف بالصفات التي تقرّبه من الله « تخلّقوا بأخلاق الله »، وكلما كان الإنسان قريباً من الله، فانياً في ذات الله، كانت إنسانيته أكمل، ومنزلته أعلى وأرفع.

أمّا علي فإنّه (في كلّ ناحية من نواحي الإنسانية ملتقى بسيرته(1» ، وقد (ورث عليّ بحكم مولده، ومربّاه مناقب النبوّة، ومواهب الرسالة، وبلاغة الوحي، وصراحة المؤمن)(2) وقد تجمعت فيه أخلاق محمّد صلى الله عليه وآله

____________________

(1) عبقريّة الإمام للعقّاد.

(2) تاريخ الآداب العربية للزيات.

٧٢

وسلم، ومحمد إنسان تجمّعت في إنسانيته صفات روحيّة، جعلته أفضل مخلوق، وأشرف مخلوق، وفوق كلّ مخلوق.

وعليٌّ رديف محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. هذا للنبوة، وهذا للإمامة، وهو غرسه قد أخذ عنه أمثل الأخلاق، وأسمى الصفات؛ فكان عنواناً كاملاً لأسمى الصفات، وأمثل الأخلاق. والإسلام لم يعرف قط أصدق إسلاماً، ولا أشدّ إيماناً منه، ولم ينفذ الإسلام إلى أعماق قلب مسلم، كما نفذ إلى أعماق قلبه. كان يؤثر الآخرة على الأولى، ويعمل لإرضاء الله ورسوله، لإرضاء الناس، ولقد وصفه ضرار فأجاد الوصف قال:

(كان والله بعيد المدى، شديد القوى. يقول فصلاً، ويحكم عدلاً. يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطف الحكمة من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبّئنا إذا استنبأناه. ونحن مع تقريبه إيّانا، وقربه منّا لا نكاد نكلّمه؛ لهيبته، ولا نبتدئه؛ لعظمته. يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين. لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثُل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين يقول:

« يا دنيا إليكِ عنّي غرّي غيري، أ بي تعرّضتِ أم إليّ تشوقتِ؟ هيهات قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي عليكِ، فعمركِ قصير، وخطركِ حقير، وخطبكِ يسير. آه من قلّة الزاد، وبعد السفر. »

٧٣

حقاً هذا هو عليّ عليه السلام، الشديد في محاسبة نفسه، وهذا هو علي حقّاً في كفة الميزان. فهل يرجح عليه أحد، أو يساويه أحد من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟.

هذا هو علي ( ع )، وتاريخه المجيد منذ طفولته مفعم بمئات من الأدلة والشواهد. وحسب القارئ أن يرجع إلى الأحاديث الصحيحة، والمشهورة، والمتواترة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في فضل عليّ عليه السلام، وقد مرّ عليك شيء منها، ونزيدك هنا بما يرجّحه في كفّة الميزان إذا نصبت الموازين:

رووا إنّه ُقدّم لرسول الله ( ص ) طير مشوي فقال:

« اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير. »

فجاءه عليٌّ( ع ) فأكل معه(1) .

وعن سعد بن أبي وقاص(2) (أمر معاوية بسبّ عليّ فامتنعتُ؛ فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟. قال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلن أسبّه، ولإن تكون لي واحدة منهن أحبّ

____________________

(1) أحمد في مسنده، وموفق بن أحمد عن ابن عباس، وعن أنس، والترمذي عن أنس، وابن أبي داوود، وابن المعازي من عشرين طريق.

(2) أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، عن عامر أيضاً إلاّ أنّه قال: (أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهنّ خير لي من حمر النعم). والترمذي أيضاً بعين ما عند مسلم.

٧٤

إليّ من حمر النعم. سمعت رسول الله ( ص ) يقول له حين خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: « يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان. »

فقال له رسول الله (ص): « أمّا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ إنّه لا نبوة بعدي. » وسمعته يقول يوم خيبر: « لأعطينّ الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. » قال فتطاولنا لها فقال: « ادعوا عليّاً » فأتي به أرمداً؛ فبصق في عينيه، ودفع الراية له؛ ففتح الله عليه. ولمّا نزلت الآية( ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال« اللهم هؤلاء أهلي. »

ومن رواية أبي بكر (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيّم خيمته، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال:« يا معشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، ولي لمن والاهم، لا يحبهم إلاّ سعيد الجد طيب المولد، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجد رديء الولادة. »

وحسب عليّ عليه السلام أن يكون مع القرآن، والقرآن معه. وأن يكون مع الحقّ، والحق معه، يدور معه كيف دار. وأن يكون عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ.

* * *

وأما الزهراء فبحسبها أن تكون مختارة الله؛ ليباهل بها رسول الله من تسع نسوة هنّ أمهات المؤمنين، ومن بين نسوة زكيّات المغرس في المنبت الأثيل، والشرف الموروث في المجد المؤثل خفرات عمر العلى غرّة المجد، وعقائل شيبة الحمد، كأم هاني وصفية.

٧٥

ولا يجوز عند العقل أن يكون اختيار، ولا تكون أفضلية. ولا يتأتّى الاختيار إذا لم يكن هناك كمال مطلق، وأفضلية على سائر النساء. وإلاّ لزم الترجيح بدون مرجّح وهذا مستحيل عند العقل، لا يجوز على الحكيم.

ومن أجل هذا الاختيار نفهم التفضيل المطلق بدون مشاركة؛ لأن العقل لا يفهم الاختيار مع التساوي في الفضيلة، والمشاركة في الكمال.

فلابد إذن من أفضلية، وأكمليّة؛ ليقع الاختيار صحيحاً طبق العقل.

وإذا كانت سلام الله عليها قد اختارها الله مع من اختار، فما ذلك إلاّ من سموّ القدس، وغلبة الروحانية في الإنسانية الطاهرة المهذبة، وإذا غلبت الروحانية فقد تكاملت المثل العليا في النسوية العالية.

وعلى قدر نشأة النواميس الروحيّة في النفس البشرية تسمو الإنسانيّة، وترفع إلى منزلتها السامية التي أعدت لها في المكان الأرفع.

وحيث تجمعّت القوى الروحية، والنواميس القدسيّة في هذا الملاك النسوي الطاهر؛ فقد تهيأت النفس للمثل العليا، وخرقت العادة في اطّرادها البشري، حتّى تستحيل إلى معجزة في كمال الوجود، وكمال الفضيلة.

وهكذا كانت فاطمة بنت محمّد عليه وعليها السلام. فقد تجمّع في نسويتها نواميس روحية، وكمالات نفسيّة رفعتها في الإنسانية إلى أسمى الدرجات التي يصحّ في العقل أن ترتفع إليها امرأة، فهي إذن سيدة نساء العالمين. وكتب الحديث مليئة بالشواهد، والبراهين على فضلها، وعلو مقامها. وحسبها أنّها بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من آذاها آذى رسول الله، ومن أغضبها أغضبه.

٧٦

أمّا الحسنان فبحسبهما هذا الاختيار لهما من الله تعالى.

وهذا الاختيار منه يجب أن يقطع جميع النوازع التي تحاك في الصدور، وقد لا يكون صعوبة في فهم الأفضلية حينما نفهم أنّ الاختيار من الله الحكيم، وقد رأينا من قبل أنّ الحكيم لا يختار إلاّ الأكمل الأفضل.

والقول بأنّ الله اختارهما، أمرٌ يقتضيه العقل، ويقرّه البرهان، والمنطق السديد.

والناس يخطئون فهم العقل، ويخطئون صواب المنطق، ويخطئون النبي حين يفهمون أنّ هذا الاختيار كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان تفسيراً منه للأنفس، والنساء، والأبناء، مأخوذاً بالعاطفة الإنسانية.

والمباهلة تشريع في المرحلة الحاسمة، جاء النص بها من الله سبحانه، وكما ترى المسألة مسألة إلزام الخصم حين لم ينفع معه البرهان. وإذن ليس لرسول الله( ص ) أن يختار مأخوذاً بالعاطفة، إذا جوزنا عليه ذلك تمشياً مع الخصم.

على أنّه في عرف اللغة العربية ما يشهد لنا ببنوّة الحسنين عليهما السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإذن فالآية نصّ صريح.

٧٧

المفسرون

توطئة: القرآن الكريم هو كتاب الله المنزّل على نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لهداية البشر، وهو آخر كتاب سماويٍ منزّل على آخر نبيّ مبعوث من عند الله سبحانه مربّياً وهادياً، ومنمياً للإحساس ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ،( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )

والقرآن هو الكتاب الخالد الذي لا تخلق جدته، وما زال، ولا يزال، ولن يزال مظهراً من مظاهر هداية الله، طبقاً لما في علمه الأزلي، يسير مع العصور في كلّ بيئة، ولكل جيل حتّى النهاية، وإلى قيام الساعة، وهو الكتاب الذي يتسامى عند العقل على كلّ كتاب أنزله الله جلّ وعلا، ومهمته هداية الناس إلى السعادتين.

وإنّه لمن الميسور جدّاً فهم القرآن الكريم، سواء في ذلك محكمه، ومتشابهه؛ لأن مردّه إلى اللغة، وإلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والراسخين في العلم من بعده حفظته، ومنفّذي أحكامه، وأعرف بحلاله وحرامه، وخاصه وعامه، ومطلقه ومقيّده.

والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، والمخلصون لله وللدين لا يعدمون فيه الدليل على أيّ تكليف من التكاليف، أصولاً وفروعاً

٧٨

فإنّ في القرآن تبيان كلّ شيء يحتاجه المسلمون لمعالم دينهم( لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) ، مما يرجع إلى أحكام الإسلام، وأصوله( إلاّ أحصاها ) القرآن، وأشار إليها صريحاً حيناً، وتلويحاً حيناً آخر.

وأما الصراع الذي نشاهده أحياناً في التفسير، فليس مرجعه عجز القرآن، أو قصور لغته، أو عجز النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة من بعده عن تفسيره، وإنّما مرجع ذلك الصراع إلى الخلاف الذي انغمس فيه المسلمون منذ الساعة الأولى، وأكبر عناصر هذا الصراع، هو الصراع الذي شقّ المسلمين إلى نصفين، نصف إلى اليمين، ونصف إلى الشمال، والقرآن بينهما.

ولعلّ المفسرين انحرفوا مع ميولهم؛ متأثرين بالسياسة من ناحية، وبالعقيدة من ناحية أخرى، وأسدلوا على الواقع ستائر كثيفة مستندين إلى أحاديث أحسن ما توصف به أنّها من وضع السياسة، ومالوا إلى تأويلات تتجافاها اللغة، وتأباها الملابسات في البداية والنهاية.

ولعلّ السياسة في الصدر الأول شاءت أن تزج آية في غير مكانها؛ لغرض صرف الآية عن المعنى الذي سيقت له، كما ترى ذلك في آية:( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

وليس أدلّ على تأثير العقيدة، والسياسة على تفكير المفسرين من ذلك الصراع الحاد في تفسير قوله تعالى:( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أنزل إِلَيْكَ مِن رَبّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) . فإنّ هذه الآية الكريمة أحيطت بميول، ونوازع دفعت المفسرين إلى التفسير البعيد الذي لا يتصل بالآية، ولا بملابساتها، ولعلّ تلك الميول أرادت أن تصرف الآية عن معناها إلى معنى آخر

٧٩

يكاد أن يكون غريباً عن المعنى الذي يلوح به قوله( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ) فإنّه ليس في الشريعة من أحكام يخشى إظهارها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك ليس فيها تكاليف هي موضع العتبى؛ ليعصمه الله من الناس، وعند نزول الآية كانت الشريعة تامةً كاملةً.

ولا نريد أن ننكر أنّ في المفسرين من لا قصد له، ولكنّه انخدع في الظواهر؛ فسار في طريقه، ورائده حسن الظن.

ولكن يجب أن لا نشكّ بأنّ التفسير مع الإخلاص، وحسن النيّة يلزمه البحث في كلّ مرحلة من مراحل الملابسات، والعلل، وأسباب النزول، وبدايتها، ونهايتها. وموقع الآية من الكلام، وما إلى ذلك من مراحل ظواهر الآيات، وسياقها وإن تغاضى المفسر عن شيء من ذلك فقد أشطط في القول، وصرف الكلام العربي البليغ عن معناه.

وكذلك نرى العقيدة حكمت على بعض المفسرين بصرف معنى الولاية في آية( إنّما وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) فلقد فرّقوا بين الولاية لله ولرسوله، والولاية لأولي الأمر الذين يعطون الزكاة وهم راكعون. ولم يكن من داعٍ لذلك سوى أنّ الذي أعطى الزكاة هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( ع ).

وإنّه لمن المؤسف أشد الأسف أن نجد من المفسرين من جرفته السياسة الخادعة إلى اصطناع أساليب بعيدة عن المقصد السامي الذي يحاوله كتاب الله المجيد، ويجترئون على صرف الآيات عن مقصدها؛ لغرض أكثر ما يتّصل بالسياسة والعقيدة، وهذه الجرأة قد أدّت إلى القول بالرأي في كتاب

٨٠