المباهلة
0%
مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155
مؤلف: السيّد صدر الدين شرف الدين
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 155
الله المجيد.
ولا نريد أن ننكر أنّ الميول كانت منذ الزمن الأول، وقد كانت تجد طريقها إلى القلوب سهلاً، وإنّ لها أثراً كبيراً في النفوس، ولكن لم نكن لنظن أنّها تمد يدها إلى كتب الله المرسلة إلى هداية البشر. ولكن مع الأسف الشديد فقد مدّت يدها مؤوَّلةً، ومفسّرةً تفسيراً بعيداً عن المقصد، ووجد أولئك الميّالون من العقيدة مرتعاً خصباً لتأويلاتهم ففسّروا كما يشتهون، وكما تشتهي السياسة التي وضعت أحاديث كثيرة لا تثبت تحت مبضعة المشرحين من أطبّاء الجرح والتعديل.
* * *
لم يكن حظ آية الأنفس والأبناء عند بعض المفسرين أحسن من غيرها على صراحتها، فقد طواها طيّاً ولفّها لفّا، وقد تعوّز الفاحص المعاذير عن هذا الطيّ واللف، ولكن لا أراه تعوزه معرفة الدواعي الباعثة، ولا أراه يخطئ الدوافع النفسيّة، وقلَّ ما نجد مفسراً مرّ على آية المباهلة، ولم تنقبض نفسه، ولم تتمرّد عليه عقيدته، ولم تطوح به سريرته، ووجد في الوسط المسلم آذاناً مستعدة للسمع، وقلوباً ساذجة مستعدة للتصديق.
ويسع المنصف أن يقف من آية المباهلة الموقف الذي تقتضيه دلالة المطابقة، ولكن بعضهم لم يكن منصفاً، ولا رشيداً، وذهب في التفسير مسرعاً إلى أنّ الوفد امتنع عن المباهلة، وصالح رسول الله ( ص ) على ألفي حلّة، وثلاثين درعاً. كأنّ الآية سيقت لهذا فقط، وكأنّ هذا الصلح هو مدلول الآية المطابقي والالتزامي والعقلي، ولم يخرج في تفسيره عن الوهم في
الشعور، والخطأ في التفكير، لأنّ الآية الكريمة سيقت لأسمى من ذلك.
وكانت الطريقة المثلى للمفسرين - إذا أرادوا الانتفاع بهذه التفاسير انتفاعاً صحيحاً - أن يعني المفسرون بالأخبار الصحيحة، ملاحظين ما ورد عن أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، وخزّان العلم، فإنّ القرآن لهم، ونزل عليهم في بيتهم، وهم أعلم الناس به خاصاً وعاماً، ومجملاً ومبيّناً، وناسخاً ومنسوخاً، ومحكما ومتشابها. والقرآن معهم، وهم معه، لن يفترقا حتّى يردا على رسول الله ( ص ) الحوض. ولكن شاءت السياسة للناس أن يعرضوا عن آل رسول الله (ص) - أئمة العلم، الراسخين في الدين قدماً، الثابتين على منهاج رسول الله ( ص ) البعيدين عن الزلل المطهّرين من الرجس - وشاءت لهؤلاء الناس أن يرجعوا إلى القدري، والجبري، والمرجئي، وإلى الوضّاعين المتزلّفين إلى رجال السلطة.
ولا نريد أن نتبسّط في الحديث مع المفسرين فإنّ لهم ما يرتأون من تفسير، ولهم ما يشتهون من الطريقة التي يسيرون عليها.
وكذلك لا نريد أن نتساءل عن المدى الذي أصابوه في ما ذهبوا إليه من تفسير، أو تأويل. وما استدعى ذلك من تغيير خطير؛ لأن البحث في ذلك يستدعي عناية خاصة ليس موضوعها هذا الكتاب.
ومهما يكن من أمر فإن الأغراض اتّسعت، وكان إلى جانبها مولود شاب يسيّر الأغراض في رقعتها الوسيعة. ولكن بالرغم عن ذلك فإنّ في المفسرين من تحلّل بعض التحلُّل فحدثونا عن النجرانيين أنّهم حينما رأوا أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه (أهل بهلته)؛ جفلوا، وقال قائلهم:
(إني لأرى وجوهاً لو سئل الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها)
ولابد أن نحفظ لهم هذه المقالة؛ لأنها خرجت من طريق ملتوية بالرغم من المولود الذي يسيّر الأقلام. وإلى القارئ نقدم نموذجاً من التفاسير.
قال جار الله محمود بن عمر الزمخشري:
( فمن حاجّك ) من النصارى( فيه ) في عيسى ( من بعد ما جاءك من العلم ) أي من البيّنات الموجبة للعلم( تعالوا ) هلمّوا والمراد المجيء بالرأي والعزم.. ( ندعُ أبناءنا وأبناءكم ) أي يدع كلّ منّا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة.
(وروي أنّهم لما دعاهم إلى المباهلة، قالوا حتّى نرجع وننظر) فلمّا تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى؟.
فقال: (والله لقد عرفتم يا مشعر النصارى أنّ محمداً نبيّ مرسل. ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم.
والله ما باهل قومٌ نبياً قط فعاش كبيرهم، ونبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن... وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها وهو يقول: «إذا دعوت فأمنوا..»
فقال أسقف نجران:
يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى
يوم القيامة..
وقال:
وعن عائشة (رض) إنّ رسول الله ( ص ) خرج وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ ثمّ قال:
( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أهل الْبَيْتِ )
قال الزمخشري:
(وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام).
وقال نظام الدين الحسن بن محمّد النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن ورغائب الفرقان:
(.. روي أنّه (صلى الله عليه وسلم) لمّا أورد الدلائل على نصارى نجران، ثمّ إنّهم أصرّوا على جهلهم، قال (صلى الله عليه وسلم): «إنّ الله أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم. »
فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع، وننظر في أمرنا، ثمّ نأتيك.
فلمّا رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى؟.
قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمداً نبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبياً فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلاّ الإصرار على دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم. وقد خرج (صلى الله عليه وسلم) وعليه مرط من شعر أسود، وكان (صلى الله عليه وسلم) قد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها، وهو يقول: «إذا دعوت فأمّنوا. »
فقال الأسقف: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا.
وروي عن عائشة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج وعليه مرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ، ثمّ قال:
( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أهل الْبَيْتِ.. ) وأما فضل أهل الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك.. ).
وقال المحقق ناصر الدين عبد الله الشيرازي البيضاوي في تفسيره: أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
( فقل تعالوا ) هلموا بالرأي والعزم.( ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) أي يدعو كلّ منّا، ومنكم نفسه، وأعزّ أهله، وألصقهم بقلبه إلى المباهلة..( ثمّ نبتهل ) أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منّا.. فنجعل لعنة الله على الكاذبين.
روي أنّه لما دُعُوا إلى المباهلة، قالوا حتّى ننظر فلمّا تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - ما ترى؟.
فقال: والله لقد عرفتم نبوّته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبياً قط، إلاّ هلكوا، فإن أبيتم إلاّ ألف دينكم، فوادعوا الرجل، وانصرفوا، فإنّه رسول الله. فأتوا رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ ( رض ) خلفها، وهو يقول: « إذا دعوت
فأمّنوا. »
فقال الأسقف: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو ُسألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا)
قال الشيخ محمّد نهاوندي في تفسيره (نفحات الرحمن).
(... روي أنّه (صلى الله عليه وسلم) لما أورد الدلائل على النصارى، ثمّ إنّهم أصرّوا على جهلهم فقال (صلى الله عليه وسلم):« إن لم تقبلوا الحجّة أباهلكم.»
فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك، فلمّا رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى؟.
فقال: والله لقد عرفتم يا مشعر النصارى أنّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولإن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلاّ الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه؛ فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.. وكان رسول الله خرج وعليه مرط من شعر أسود. وكان قد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها، وهو يقول: « إذا دعوت فأمّنوا. »
فقال أسقف نجران: يا مشعر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني).
وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب):
(... ولمّا أورد الدلائل على نصارى نجران، ثمّ إنّهم أصرّوا على جهلهم، فقال ( ع ): « إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجّة أن أباهلكم. »
فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك، فلمّا رجعوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم - يا عبد المسيح ما ترى؟.
فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحقّ من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولإن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلاّ الإصرار على دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل، وانصرفوا إلى بلادكم.
وكان رسول الله خرج وعليه مرط من شعر أسود. وكان قد احتضن الحسين، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول:« إذا دعوت فأمنوا. »
فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة..
وروي إنّه ( ع ) لما خرج في المرط الأسود فجاءه الحسن فأدخله، ثمّ جاء الحسين فأدخله، ثمّ فاطمة، ثمّ عليّ، ثمّ قال:( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .
قال الفخر الرازي: ( واعلم أنّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث).
* * *
هذا نموذج من التفسير الذي وقفنا عليه، نضعه بين يدي القارئ. وهو كما ترى، لم يختلف تفكيراً، ولا تعبيراً. ولم يتفاوت فيه العربي، والفارسي، ولا اختلف الذوق العربي مع الذوق الفارسي، وهو يشبه بعضه بعضاً. ومعنى هذا - فيما نرى - أنّ المفسرين لم يعنوا الحقائق العميقة القائمة في اللفظ والتركيب، والحقيقة والمجاز إلى آخره. ولا يتزودون منها إلاّ باللمحات القصيرة الخاطفة، والنظرات العابرة، ولا ندري لماذا هذا المرور العابر؟!. مع أنّ لكتاب
الله المجيد حكمته، وخصائصه في أساليبه، وميزته في تعبيره عن المعاني المقصودة، وأنّ في القرآن آيات محكمة واضحة المعنى، قد يستوي في فهمها الناس، وفيه آيات متشابهة غامضة المعنى، لا يستوي في فهمها الناس، وربما تحتاج إلى الإيضاح من المصدر الأول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والراسخين في العلم، وفيه المفردات التي تعبّر عن الحقيقة حيناً والمجاز حينا آخر، وعن الاستعارة، والكناية إلى غير ذلك.
هذا مضافاً إلى ما في القرآن الكريم من (آيات لا يكفي في تفهمها معرفة ألفاظ اللغة وأساليبها، مثل -( والعاديات ضبحاً ) ،( والذاريات ذرواً ) ، إلى غيرها من مثيلاتها.
وبعد - فلا أحسب أن يكون القرآن في متناول الجميع على نمط واحد من الفهم، واستجلاء المعاني، واكتشاف الدقائق، أو بنسبة واحدة؛ للاختلاف في مقدار الفهم، والإدراك العقلي. فلابد أن يختلفوا في فهمه، وإدراك معانيه، والوصول إلى حقائقه ومجازاته حسب درجات أفهامهم، ومداركهم العقلية.
ونحن حينما نقول هذا نكون قد حكّمنا الذوق، والمقاييس العلمية، ونراه واضحاً لا يحتاج إلى التدليل عليه.
ولابدّ إذن - والحالة هذه - أن يكون لهم مدرك واحد في فهم القرآن، لا تتصل بالأذواق الفنية التي تطلبها اللغة العربية والمقاييس العلمية، ولا بمعاني الألفاظ من حقيقة أو مجاز، واستعارة وكناية إلى آخره. ولم نجد فيما رأينا وعنينا به مدركاً سوى الرأي والاجتهاد، وهما مصدران من مصادر التفسير عند الكثيرين.. والرأي والاجتهاد يتصلان بمعرفة الألفاظ، وأسباب النزول حيناً، وبالعقيدة حينا آخر.
ونراهم في أمثال آية المباهلة حكموا بالعقيدة فقط، ولم يتّصلوا بالألفاظ، وأسباب النزول، ففسروا بالرأي، والاجتهاد لكن عن العقيدة فقط.
ونحن لا نريد أن نلتقي مع المفسرين هذا الملتقى عبثاً، أو جنوحاً عن الحقيقة، ولقد رأيت قولهم (يدع كلّ منكم نفسه، وأعز أهله)، فهم يفسرون النفس بنفس رسول الله ( ص ) فقالوا: (ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم بالذكر)، وقالوا أيضاً: (ولم يقتصر على تعريض نفسه.. وخص الأبناء، والنساء؛ لأنهم أعزّ الأهل، وألصقهم في القلوب. وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم.. وقدّمهم بالذكر على الأنفس؛ لينبّه على لطف مكانتهم، وقرب منزلتهم؛ وليؤذن بأنّهم مقدمون على الأنفس مفدوون بها) إلى أمثال هذه التعبيرات التي تشير إلى أن (النفس) في آية( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) إنّما هي نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يلتفت أولئك الارائيون إلى أنّ هذا لا يستقيم لمكان لفظه ( ندعُ ) من عدة وجوه:
(1) إنّ الله سبحانه أمر نبيه ( ص ) أن يدعو من المسلمين الأبناء والنساء والأنفس، ومعلوم بإجماع المسلمين كافة أنّ رسول الله إنّما دعا الحسنين وأباهما وأمهما (عليهم السلام)، ولم يدعُ غيرهم؛ فانصرف دعاء الأبناء إلى الحسنين، والنساء إلى فاطمة، والأنفس إلى عليّ (عليهم السلام)؛ لأنّه لا يصح في العرف أن يدع الإنسان نفسه، كما لا يصح في مقام الأمر أن يأمر نفسه. وقد قال الفقهاء: (إنّ الآمر لا يجوز أن يدخل تحت الأمر؛ لأن من حقّه أن يكون فوق المأمور بالرتبة، ويستحيل أن يكون فوق نفسه)، فلا يشمله
أمره قطعاً. كما إذا أمر القائد جنده بالهجوم على حصون العدو، فهذا الأمر منه لا يشمل القائد نفسه، فلو تخلّف عن الهجوم لا يكون عاصياً، وإذا هجم مع الجند لا يكون ممتثلا لأمر نفسه، وهذا بخلف الجندي فإنّه يتّصف بالعصيان إذا تخلف كما يتصف بالطاعة إذا تقدّم.
ولعله يستدل على ذلك بما ذكره الشريف الرضي في كتابه (حقائق التأويل)، عن الواقدي في كتاب (المغازي) (من أنّ رسول الله(ص) لما أقبل، ومن معه من أسارا المشركين، كان سهيل بن عمرو مقروناً إلى ناقة النبي فلمّا صار من أميال عن المدينة انتشط(1) نفسه من القرن(2) وهرب، فقال النبي: «من وجد سهيل بن عمرو فليقتله.»
وافترق القوم في طلبه، فوجده النبي (ص) من بينهم منقبعاً إلى جذم(3) شجرة فلم يقتله، وأعاده إلى الوثاق).
قال الشريف الرضي في تعليل ذلك:
(إنّه لم يصح دخوله تحت أمر نفسه، ولو وجده غيره من أصحابه لوجب عليه أن يقتله؛ لما صح أن يدخل تحت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم)
وأنت جِدُّ عالمٍ أنّه لا يصح قطعاً أن يكون المراد من( أنفسنا ) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا واضح لمن تأمّل، وتجنّب وحي العقيدة.
____________________
(1) انتشط اجتذب.
(2) القرن الحبل.
(3) جذم الشجرة أصلها.
(2) وإذا كان المراد من الأنفس نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد خرج بنفسه، ومعه الأبناء، والنساء، وانتهى كلّ شيء فكيف جاء أمير المؤمنين عليّ (ع) مع المتباهلين؟!.
وليس من السهل أن تجرّ العاطفة رسول الله، فيخرج معه عليّاً إذا لم يكن مأموراً بذلك، فإنّ رسول الله (ص) لم يكن سيد حزب، وإنّما هو سيد أمّة، ولم تكن أعماله مما يشتبه، وإنّما أعماله ضمن حدود حددها الله سبحانه، فلا يتجاوز حدود الله، وبالإجماع خرج معه عليّ.
ولماذا يا مفسرون؟
فإن قيل لمكان صيغة الجمع في( أنفسنا ) قلنا إنّ صيغة الجمع لا تستلزم أن يخرج عليّاً من بين مئات الألوف من صحبه، فإمّا أن يفرض المفسرون أنّ رسول الله كان مأموراً بإخراجه، وهذا ما نقوله، وإما أن يفرضوا إنّه اختاره من تلقاء نفسه، ولا محيص لهم عن الاعتماد على سبب مفهوم لهذا الاختيار، لامتناع تأثّر النبي بالعاطفة.
على أنّ الصيغة باعتبارها جمع تدل على الثلاثة على الأقل فأين الثالث يا ترى؟ وهل أنّ النبي لم يجد بين أصحابه الرجل الذي يليق لأن يخرج معه؟!.
وأيضاً الكلام يأتي في صيغة ( نساءنا ) فلماذا أخرج الزهراء (عليها السلام) فقط، ولم يخرج معه غيرها، وفي بيته (ص) تسع نسوة؟.. ولماذا.. ولماذا؟ والأسئلة كثيرة ومحرجة.
إذن ليس المراد هو أبناء المسلمين، ونساءهم، وأنفسهم. وإنّما المراد هؤلاء فقط لا غيرهم، وإذن الأمر من عند الله ( إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلّمَهُ
شَدِيدُ الْقُوَى ) ، وإذن لابد أن يكون المراد من (الأنفس) نفس عليّ فقط تنزيلاً، وهذا يتأدّى من الآية الكريمة، ومن مكان( ندعُ ) في عرف اللغة كما هو واضح.
(3) وفي أسباب النزول للواحدي صلى الله عليه وآله 75 (وكان الشعبي يفسر الآية فيقول( أبناءنا ) الحسن والحسين و( نساءنا ) فاطمة و( أنفسنا ) عليّ بن أبي طالب).
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر في الآية التاسعة من الباب الحادي عشر (أخرج الدارقطني إنّ علياً يوم الشورى احتجّ على أهلها فقال لهم:
«أنشدكم الله، هل فيكم أحدٌ جعله الله نفسَ النبي، وأبناءه أبناءه، ونساءه نساءه غيري؟.»
قالوا: اللهم لا).
وفي دلائل النبوّة ج 2 صلى الله عليه وآله 124 قال الشعبي، قال جابر:( وأنفسنا وأنفسكم ) رسول الله (ص) وعليّ،( أبناءنا وأبناءكم ) الحسن والحسين،( ونساءنا ونساءكم ) فاطمة (رضي الله عنهم أجمعين).
وقال جابر: فيهم نزلت( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .
تعقيب
قد يظنّ الظانون أنّ قصّة المباهلة مضت بطريقها إلى الأبدية، ولم يبق لأحدٍ فيها مطمعٌ، ولا لعينٍ مأربٌ، ولا لأذن في سماعها من حجّة، فقد طواها الزمن بين طيّاته، وانقضت في يومها الذي وقعت فيه، وذهبت ليومها وساعتها.
والواقع أنّ هذا الظن قد يتصل بالحقيقة من بعض جهاتها، وفي بعض نواحيها، وكان الأولى أن لا يكون هذا الظنّ، لأنّ قصة المباهلة قصّة قومية إسلامية روحية، كان الواجب على المسلمين أن يتبنّوا ذلك اليوم الذي وقعت فيه، ويجعلونه عيداً قوميّاً في مصاف الأعياد القومية؛ لأنّه إن صحّ - وهو صحيح - أنّ الإسلام أمنية الحضارة العالمية، فيوم المباهلة أحد الأيام التي كانت سبيلاً إلى هذه الأمنية الغالية، بما ظهر للإسلام من عزّة ومنعة، ولرسول الله (ص) من عظمة وكرامة، بانزواء أولئك القسس في زاوية من الخيبة، والفشل في آمالهم، وقد ارتعدت فرائصهم، وانخلعت قلوبهم، وعادوا إلى كعبتهم خائبين خاسرين، وأعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ولم يبقَ لنجران تلك المنزلة التي كانت لها في نفوس النصرانية، وذلك السمو الذي تغنّى به الشعراء، وذلك القدس الذي تدين له الملوك.
ومن حقِّ يوم المباهلة أن يهزّ أعصاب المسلمين، وأن يكون موئل هنائهم، له ذمّته التي لا تضاع، وعهده الذي لا يخفر، وموثقه الذي لا ينقض، ومن حقّه أن يكون بدر هالة الأيام الإسلامية الزاهرة، ومن حقّه أن تتجاوب فيه أصداء الشعور الإسلامي، وتتبادل فيه التهاني، فإنّه اختل في ذلك اليوم توازن نجران، وجهة النصرانيّة في الجزيرة العربيّة، وكعبتها، وقبلة آمالها.
ولكن شاءت السياسة أن ينشقّ المسلمون نصفين، وأن تصنّفهم صنفين، صنف مال مع السياسة، وسار إلى جنبها، أصابت أم أخطأت. وليس من موضوعنا أن نتحدث عن مصاير هذه السياسة، ومبلغ قسوتها، ولكنّا نلاحظ أنّه ليس من مصلحة السياسة أن تذكره بخير، حيث لا تستطيع أن تذكره بشرّ، ولا أقل من أن تلقيه في سلّة مهملاتها، إلى أن يشاء الله غير ما تشاء السياسة.
وصنف مال إلى رسول الله وإله صلى الله عليه وعليهم وسلم، فتبنّى يوم المباهلة فكان عيداً من أعيادهم، وكان يوماً من أيام فرحهم وسرورهم، بما ظهر لرسول الله صلى الله عليه وعليهم وسلم من الكرامة، والشأن العظيم، وللإسلام من عزّة الجانب.
ويوم المباهلة عند هذا الصنف من الناس، يوم شريف مبارك، يجأرون فيه إلى الله سبحانه بالدعاء، وهو عندهم من الأيام الجليلة العظيمة، بما فتح الله على الإسلام، وعلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من الفتح العظيم.
مضت السنون، وكرّت الأعوام، وهذا اليوم المبارك ما زال جديداً عظيماً عند هذا الصنف من المسلمين، منسيّاً مهجوراً عند الصنف الآخر، لا يعرفون عنه شيئاً! إلاّ ما يثيره الجدل المذهبي الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة،
بين هذين الصنفين.
وفي النهاية خلق الجدل العنيف عالماّ مفعماً بالأقوال والآراء. ولا تزال المعركة الجدلية مشبوبة حارة، يسعر نارها الحقد الكامن في النفوس.
* * *
أجل. قضت السياسة أن ينشقّ المسلمون على أنفسهم، وأن يفترقوا إلى طائفتين. وسياسة قاسية كهذه السياسة تستطيع أن تحطّم عظماء الرجال، وتتغلّب على الأمور، ولكن لا تستطيع أن تحطّم مبادئ، ولا تجرأ أن تقتحم القلوب. فالمبادئ يسيّرها رجال خلقوا لأن يعملوا تحت قوارع النكبات، في ظلمات الصعاب، وهي أبعد من أن يتناولها السياسيون الخياليون.
وعلى كرِّ السنين، ومرِّ الأعوام، يتطور النزاع، ويكثر الجدل، ولم يشعر الناس شدة الخطر المحدق، وتفشي هذا المرض الخبيث، ولم يمنعهم مانع من أن ينشأ عليه صغيرهم، ويشيب كبيرهم. ولعلّ ما نكب به الدين الإسلامي، والمسلمون كان نتيجة لهذا الجدل أو المرض، وحتّى الآن لا يزال ينمو ويثمر هذه الثمرة الخبيثة.
وطبيعي أن يكون ليوم المباهلة نصيب، وليس بالقليل من هذا الجدل العنيف، ونحن وإن كان موضوعنا التحدّث عن يوم المباهلة، وعن المباهلة، ولكن لا نريد أن ننغمس في هذا النزاع العقيم، ولكن نريد أن نعقب حديث المباهلة بشيء من النوادر لمحناها حين مطالعتنا، وهي تتصل بهذه القصة.
قال الشريف الرضي في كتابه (حقائق التأويل) :
(من شجون(1) هذه المسألة ما حكي عن القاسم بن سهل النوشجاني قال:
(كنت بين يدي المأمون في إيوان مسلم بمرور، وعليّ بن موسى الرضا (ع) قاعد عن يمينه، فقال لي المأمون: يا قاسم أيّ فضائل صاحبك أفضل؟!
فقلت: (ليس شيء أفضل من آية المباهلة، فإن الله سبحانه جعل نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونفس عليّ (ع) واحدة)
فقال لي:
إن قال خصمك: إنّ الناس قد عرفوا الأبناء في هذه الآية والنساء، وهم الحسن والحسين وفاطمة، والأنفس هي نفس رسول الله(ص) بأيّ شيء تجيب؟.
قال النوشجاني: فأظلم عليّ ما بيني وبينه، وأمسكت لا أهتدي بحجّة!.
فقال المأمون للرضا (ع) : ما تقول فيها يا أبا الحسن؟.
فقال له الرضا (ع) : «في هذا شيء لا مذهب عنه.»
- المأمون: ما هو؟.
- الرضا: «هو أن رسول الله (ص) داعٍ، ولذلك قال الله سبحانه:( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) ، والداعي لا يدعو نفسه، وإنّما يدعو غيره، فلمّا دعا الأبناء والنساء، ولم يصح أن
____________________
(1) جمع شجن بالتحريك وهو الشعبة من كلّ شيء.
يدعو نفسه، لم يصح أن يتوجه دعاء الأنفس إلاّ إلى عليّ بن أبي طالب (ع)، إذ لم يكن بحضرته - بعد من ذكرنا - غيره، ممن يجوز توجّه دعاء الأنفس إليه، ولو لم يكن ذلك كذلك، لبطل معنى الآية.»
قال النوشجاني:
(فانجلى عن بصري، وأمسك المأمون قليلاً، ثمّ قال: يا أبا الحسن (إذا أصيب الصواب انقطع الجواب).
هذه هي الكلمة المنصفة، ما جاءت عابرة، ولا هي خاطرة جرت، ما قصد بنطقها إلى دلالة الألفاظ، وإنّما هي بيان لفهم مدلول اللفظ المطابقي، واعتراف منه بالحقيقة التي لا مفرّ منها، والحق أحق أن يُتّبع، وحريُّ بالعاقل أن لا يندفع وراء تيّارات نفسيّة، كانت تسوق الكثيرين إلى مناجزة رجل كلّ جرمه، وجريرته أنّه عليّ بن أبي طالب. هذا كلّ جرمه.
* * *
ومن نوادر قصّة المباهلة، ما ذكره بعض العلماء - ولم يسمعه الشريف الرضي - من أنّ للعرب في لسانها أن تخبر عن ابن العمّ اللاصق، والقريب المقارب، بأنه نفس ابن عمّه وأنّ الحميم نفس حميمه. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى:( وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ) ، أراد تعالى ولا تعيبوا إخوانكم المؤمنين، فأجرى الأخّوة بالديانة مجرى الأخّوة بالقرابة، وإذا وقعت النفس عنده على البعيد النسب، كانت أخلق أن تقع على القريب النسب..
لعلّ هذه النظريّة محاولة أخرى لصرف النفس عن المراد منها، وإنكار هذه الفضيلة ليعسوب الدين.. ونحن إذا ما قلبنا النظر، وأنعمنا القمر
في هذا القول، لرأينا أنّه ليس له من قيمة، تشفع له في تصحيح إطلاق اللفظ، على المعنى المدعّى، سوى هذه الأسس الهدّامة، التي يوحيها الوهم، وليس لهذا القول الذي أرسله بعض العلماء! وهو: (إنّ للعرب في لسانها أن تخبر عن ابن العمّ اللاصق، والقريب المقارب، بأنّه نفس ابن عمّه) صورة في الخارج، إلاّ هذه الصورة المغلوطة، التي قامت على أساس الوهم والخيال، صوّرها وحي العقيدة.
ولعلّ القارئ يفهم من التعبير (إن للعرب في لسانها أن تخبر) أنّ العرب لم تخبر، وإنّما يريد أن يجيز لهم أن يخبروا عن ابن العم اللاصق، بأنّه نفس ابن عمه.
ولو أخبروا عن ابن العم بالنفس، لكان حقَّ التعبير (إن العرب أخبرت)، ولما لم يكن شيءٌ من ذلك أراد أن يتحكّم؛ ليصرف ذلك الفضل عن عليّ أمير المؤمنين (ع).
على أنّ اللغة توقيفيّة لا يجوز أن يتصرّف بها بأي نوع من أنواع التصرف، فما ورد من الألفاظ نستعمله فيما ورد فيه، سواء كان على سبيل الحقيقة، أو المجاز، أو الكناية، وما لم يرد فلا يصح استعماله، ولم نقف في معاجم اللغة، ولا في موارد الاستعمال التي بين أيدينا على صحة هذا الاستعمال.
وما ذكره من الشواهد، لا تدل على أكثر من إطلاق النفس على الأخ في الدين، وهذا صحيح بنص القرآن الحكيم، لا يستطيع أن ينكره أحد، ونحن لا ندّعي أنّ عليّاً نفس رسول الله حقيقة، وإنّما الدعوة أنّ الله سبحانه نزل نفس عليٍّ (ع) منزلة نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وما ذلك إلاّ لمكانة عليّ من الله، وسموّ نفسه، وعلو قدره، وفنائه في ذات الله، وليس في المسلمين - وهم مئات الألوف يومئذٍ - من يصلح أن ينزل هذه المنزلة، وليس فيهم من له مكانة ليصح تنزيله حقيقة، وليس فيهم من يستحقّ هذه المرتبة السامية، والمكانة الرفيعة، والمنزلة العظيمة، غير عليٍّ صنو رسول الله، وصهره على ابنته.
ولو كان فيهم من له مكانته لما جاز من الحكيم أن يخصّه دونه؛ لأنّه ترجيح بدون مُرجّح، وحيث لم يدعُ غيره؛ علمنا أنّه ليس في المسلمين، ولا في الصحابة من يضاهيه ليصح تنزيله هذه المنزلة السامية.
وواضح إنّه ليس إطلاق النفس على علي (ع) كان من إطلاق النفس على ابن العم القريب المقارب، فإنّ هذا الإطلاق لم يوجد في كلام العرب، ولم تقصده الآية الكريمة.
على أنّه ربما يكون ذلك مجازفة باللغة، إذا فسحنا المجال للوهم في تفسير المفردات، ولرأينا أنفسنا أمام سيل جارف من الاعتراضات.
* * *
ومن ذيول المباهلة، ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير قال:
(وكان في الريّ رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الإثني عشرية، وكان يزعم أنّ علياً (رض) أفضل من جميع الأنبياء، سوى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى( وأنفسنا وأنفسكم ) إذ ليس المراد بقوله( أنفسنا ) نفس محمّد (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيره، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان عليّ بن أبي
طالب (رض) فدلّت الآية على أنّ نفس عليٍّ، هي نفس محمّد (صلى الله عليه وسلم)، ولا يمكن أن يكون المراد أنّ هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي المساواة في جميع الوجوه، تركنا العمل بهذا العموم في حقّ النبوة، وفي حقّ الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً (عليه الصلاة والسلام) كان نبيّاً، وما كان عليّ كذلك، ولانعقاد الإجماع على أنّ محمداً (ع) كان أفضل من علي (رض)، فبقي فيما وراءه معمولاً به، ثمّ دلّ الإجماع على أنّ محمداً (ع) كان أفضل من سائر الأنبياء (عليهم السلام)، فيلزم أن يكون عليّ أفضل من سائر الأنبياء فهذا الاستدلال من ظواهر هذه الآية. ثمّ قال:
ويؤيد الاستدلال بهذه الآية، الحديث المقبول عند الموافق والمخالف، وهو قوله (ع) : «من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في خلّته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب» (رضي الله عنه) فالحديث دلّ على أنّه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم، وذلك يدل على أنّ علياً (رضي الله عنه) أفضل من جميع الأنبياء سوى محمّد (صلى الله عليه وسلم).
قال الرازي:
(وأما سائر الشيعة، وقد كانوا قديماّ وحديثاّ يستدلون بهذه الآية على أنّ علياً أفضل من سائر الصحابة، لأن الآية دلّت على أنّ نفس عليٍّ (رضي الله عنه) مثل نفس محمّد (ع)، إلاّ فيما خصّه الدليل، وكانت نفس محمّد (صلى الله عليه وسلم) أفضل من الصحابة (رضوان الله عليهم)، فوجب أن تكون نفس