الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161644
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161644 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة يس الآيات 48 - 65)

وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 ) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 ) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ( 51 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا   هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 ) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 ) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 ) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 ) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ( 57 ) سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ( 58 ) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي  هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا  أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 ) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 ) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 )

١٠١

( بيان)

لمّا فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالاً في أوّل الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد و ذكر كيفيّة قيام الساعة و إحضارهم للحساب و الجزاء و ما يجزى به أصحاب الجنّة و ما يجازى به المجرمون كلّ ذلك تبييناً لما تقدّم من إجمال خبر المعاد.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبنيّ على الإنكار، و لعلّه لذلك جي‏ء باسم الإشارة الموضوعة للقريبة و لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين كثيراً ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة و ينذرونهم به، و الوعد يستعمل في الخير و الشرّ إذا ذكر وحده و إذا قابل الوعيد تعيّن الوعد للخير و الوعيد للشرّ.

قوله تعالى: ( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ ) النظر بمعنى الانتظار، و المراد بالصيحة نفخة الصور الاُولى بإعانة السياق، و توصيف الصيحة بالوحدة للإشارة إلى هوان أمرهم على الله جلّت عظمته فلا حاجة إلى مؤنة زائدة، و( يَخِصِّمُونَ ) أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة و المخاصمة.

و الآية جواب لقولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ ) مسوقة سوق الاستهزاء بهم و الاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، و المعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبئ عن الانتظار إلّا صيحة واحدة - يسيرة علينا بلا مؤنة و لا تكلّف - تأخذهم فلا يسعهم أن يفرّوا و ينجوا منها و الحال أنّهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم.

قوله تعالى: ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى‏ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) أي يتفرّع على هذه الصيحة بما أنّها تفاجئهم و لا تمهلهم أن يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية - على أنّ الموت يعمّهم جميعاً دفعة فلا يترك منهم أحداً يوصى إليه - و لا أن يرجعوا إلى أهلهم إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلاً.

١٠٢

قوله تعالى: ( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) هذه هي نفخة الصور الثانية الّتي بها الإحياء و البعث، و الأجداث جمع جدث و هو القبر و النسل الإسراع في المشي و في التعبير عنه بقوله:( إِلى‏ رَبِّهِمْ ) تقريع لهم لأنّهم كانوا ينكرون ربوبيّته و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) البعث الإقامة، و المرقد محلّ الرقاد و المراد به القبر، و تعبيرهم عنه تعالى بالرحمن نوع استرحام و قد كانوا يقولون في الدنيا:( وَ مَا الرَّحْمنُ ) الفرقان: 60، و قوله:( وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) عطف على قوله:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) و الجملة الفعليّة قد تعطف على الاسميّة.

و قولهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبنيّ على إنكارهم البعث و هم في الدنيا و رسوخ أثر الإنكار و الغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم و هم لا يزالون مستغرقين في الأهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلّا توقع الشرّ فأخذهم الفزع الأكبر و الدهشة الّتي لا تقوم لها الجبال و لذا يتبادرون أوّلاً إلى دعوة الويل و الهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثمّ سألوا عمّن بعثهم من مرقدهم لأنّ الّذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كلّ شي‏ء.

ثمّ ذكروا ما كانت الرسلعليهم‌السلام يذكّرونهم به من الوعد الحقّ بالبعث و الجزاء فشهدوا بحقّيّة الوعد و استعصموا بالرحمة فقالوا:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوّهم إذا ظهر عليهم بالتملّق و إظهار الذلّة و الاعتراف بالظلم و التقصير ثمّ صدّقوا الرسل بقولهم:( وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

و بما تقدّم ظهر أوّلاً وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا.

و ثانياً وجه سؤالهم عمّن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنّهم جاهلون به أوّلاً ثمّ إقرارهم بأنّه الّذي وعده الرحمن و تصديقهم المرسلين فيما بلّغوا عنه تعالى.

و يظهر أيضاً أنّ قوله:( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) إلخ و قوله:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) إلخ. من قولهم.

١٠٣

و قيل: قوله:( وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) عطف على مدخول( ما ) و( ما ) موصولة أو مصدريّة و( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) إلخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم:( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) ؟.

و غير خفي أنّه خلاف الظاهر و خاصّة على تقدير كون( ما ) مصدريّة و لو كان قوله:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) إلخ. جواباً من الله أو الملائكة لقولهم:( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) لاُجيب بالفاعل دون الفعل لأنّهم سألوا عن فاعل البعث! و ما قيل: إنّ العدول إليه لتذكير كفرهم و تقريعهم عليه مع تضمّنه الإشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلاً.

و ظهر أيضاً أنّ قوله:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ) مبتدأ و خبر، و قيل( هذا ) صفة لمرقدنا بتأويل اسم الإشارة إلى المشتقّ و( ما ) مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حقّ و هو بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) اسم كان محذوف و التقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلّا نفخة واحدة تفاجئهم أنّهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير و مهلة.

و التعبير بقوله:( لَدَيْنا ) لأنّ اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عندالله سبحانه.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلاً و يحكم حكماً حقّاً فلا تظلم نفس شيئاً.

و قوله:( وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) عطف تفسير لقوله:( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) و هو في الحقيقة بيان برهانيّ لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أنّ جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، و لا يتصوّر مع ذلك ظلم لأنّ الظلم وضع الشي‏ء في غير موضعه و تحميل العامل عمله وضع الشي‏ء في موضعه ضرورة.

و خطاب الآية من باب تمثيل يوم القيامة و إحضاره و إحضار من فيه بحسب العناية الكلاميّة، و ليس - كما توهّم - حكاية عمّا سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق.

١٠٤

و المخاطب بقوله:( وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) السعداء و الأشقياء جميعاً.

و ما قيل عليه أنّ الحصر يأبى التعميم فإنّه تعالى يوفّي المؤمنين اُجورهم و يزيدهم من فضله أضعافاً مضاعفة مدفوع بأنّ الحصر في الآية نازل إلى جزاء العمل و أجره و ما يدلّ من الآيات على المزيد كقوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: 35 أمر وراء الجزاء و الأجر خارج عن طور العمل.

و ربّما اُجيب عنه بأنّ معنى الآية أنّ الصالح لا ينقص ثوابه و الطالح لا يزاد عقابه فإنّ الحكمة تنافيه أمّا زيادة الثواب و نقض العقاب فلا مانع منه أو أنّ المراد بقوله:( لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أنّكم لا تجزون إلّا من جنس عملكم إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و فيه أنّ مدلول الآية لو كان ما ذكر اندفع الإشكال لكنّ الشأن في دلالتها على ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) الشغل الشأن الّذي يشغل الإنسان و يصرفه عمّا عداه، و الفاكه من الفكاهة و هي التحدّث بما يسرّ أو التمتّع و التلذّذ و لا فعل له من الثلاثيّ المجرّد على ما قيل.

و قيل:( فاكِهُونَ ) معناه ذوو فاكهة نحو لابن و تامر و يبعّده أنّ الفاكهة مذكورة في السياق و لا موجب لتكرارها.

و المعنى أنّ أصحاب الجنّة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كلّ شي‏ء دونه و هو التنعّم في الجنّة متمتّعون فيها.

قوله تعالى: ( هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) الظلال جمع ظلّ و قيل جمع ظلّة بالضمّ و هي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، و الأريكة كلّ ما يتّكي عليه من وسادة أو غيرها.

و المعنى: هم أي أصحاب الجنّة و أزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس و غيرها متّكؤن على الأرائك اتّكاء الأعزّة.

١٠٥

قوله تعالى: ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) الفاكهة ما يتفكّه به من الثمرات كالتفّاح و الاُترجّ و نحوهما، و قوله:( يَدَّعُونَ ) من الادّعاء بمعنى التمنّي أي لهم في الجنّة فاكهة و لهم فيها ما يتمنّونه و يطلبونه.

قوله تعالى: ( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) سلام مبتدأ محذوف الخبر و التنكير للتفخيم و التقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و( قَوْلًا ) مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير أقوله قولاً من ربّ رحيم.

و الظاهر أنّ السلام منه تعالى و هو غير سلام الملائكة المذكور في قوله:( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: 24.

قوله تعالى: ( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) أي و نقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنّة و هو تمييزهم منهم يوم القيامة و إنجاز لما في قوله في موضع آخر:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: 28، و قوله:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ) الجاثية: 21.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) العهد الوصيّة، و المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس و يأمر به إذ لا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته، و قد علّل النهي عن طاعته بكونه عدوّاً مبيناً لأنّ العدوّ لا يريد بعدوّه خيراً.

و قيل: المراد بعبادته عبادة الآلهة من دون الله و إنّما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله و تزيينه، و هو تكلّف من غير موجب.

و إنّما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنّهم بنو آدم لأنّ عداوة الشيطان إنّما نشبت أوّل ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى و استكبر فرجم ثمّ عاد ذرّيّته بعداوته و أوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال:( أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء: 62.

و أمّا عهده تعالى و وصيّته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الّذي وصّاهم به بلسان

١٠٦

رسله و أنبيائه و حذّرهم عن اتّباعه كقوله تعالى:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ) الأعراف: 27 و قوله:( وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) الزخرف: 62.

و قيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذرّ حيث قال:( أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ ) . و قد عرفت ممّا قدّمناه في تفسير آية الذرّ أنّ العهد الّذي هناك هو بوجه عين العهد الّذي وجّه إليهم في الدنيا.

قوله تعالى: ( وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) عطف تفسير لما سبقه، و قد تقدّم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) من سورة الفاتحة.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) الجبلّ الجماعة و قيل: الجماعة الكثيرة و الكلام مبنيّ على التوبيخ و العتاب.

قوله تعالى: ( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي كان يستمرّ عليكم الإيعاد بها مرّة بعد مرّة بلسان الأنبياء و الرسلعليهم‌السلام و أوّل ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لإبليس:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: 43 و في لفظ الآية إشارة إلى إحضار جهنّم يومئذ.

قوله تعالى: ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) الصلا. اللزوم و الاتّباع، و قيل: مقاساة الحرارة و يظهر بقوله:( بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) أنّ الخطاب للكفّار و هم المراد بالمجرمين.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أي يشهد كلّ منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالأيدي بالمعاصي الّتي كسبوها بها و الأرجل بالمعاصي الخاصّة بها على ما يعطيه السياق.

و من هنا يظهر أنّ كلّ عضو ينطق بما يخصّه من العمل و أنّ ذكر الأيدي و الأرجل من باب الاُنموذج و لذا ذكر في موضع آخر السمع و البصر و الفؤاد كما في سورة الإسراء الآية 36. و في موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الآية 20، و

١٠٧

سيأتي بعض ما يتعلّق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ) الآية قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلّهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله و لا يوصي بوصيّة، و ذلك قوله عزّوجلّ:( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى‏ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

و في المجمع في الحديث تقوم الساعة و الرجلان قد نشراً ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتّى تقوم الساعة، و الرجل يرفع اُكلته إلى فيه حتّى تقوم الساعة، و الرجل يليط(1) حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كذا عن قتادة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً.

و في تفسير القمّيّ: و قوله عزّوجلّ:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) قال: من القبور: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) فإنّ القوم كانوا في القبور فلمّا قاموا حسبوا أنّهم كانوا نياماً و قالوا:( يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) . قالت الملائكة:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

و في الكافي، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان أبو ذرّ رحمه الله يقول في خطبته: و ما بين الموت و البعث إلّا كنومة نمتها ثمّ استيقظت منها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) قال: يفاكهون النساء و يلاعبونهنّ.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) الأرائك السرر عليها الحجال.

____________________

(1) لاطه أي ملأه.

١٠٨

و فيه في قوله عزّوجلّ:( سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال: السلام منه هو الأمان. و قوله:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياماً على أقدامهم حتّى يلجمهم العرق فينادون: يا ربّ حاسبنا و لو إلى النار قال: فيبعث الله رياحاً فتضرب بينهم و ينادي مناد:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) فيميّز بينهم فصار المجرمون في النّار، و من كان في قلبه الإيمان صار إلى الجنّة.

أقول: و قد ورد في بعض الروايات أنّ الله سبحانه يتجلّى لهم فيشتغلون به عن كلّ من سواه ما دام التجلّي و المراد به ارتفاع كلّ حجاب بينهم و بين ربّهم دون الرؤية البصريّة الّتي لا تتحقّق إلّا بمقارنة الجهات و الأبعاد فإنّها مستحيلة في حقّه تعالى.

و في اعتقادات الصدوق، قالعليه‌السلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبدالله، و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عزّوجلّ:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الإسراء: 71.

و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعد بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليهم‌السلام في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الأفواه فلا تكلّم و تكلّمت الأيدي و شهدت الأرجل و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى:( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) الآية حم السجدة: 20، و تقدّم بعضها في الكلام على قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) الإسراء: 36.

١٠٩

( سورة يس الآيات 66 - 83)

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ ( 66 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ( 67 ) وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ  أَفَلَا يَعْقِلُونَ ( 68 ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ( 69 ) لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 ) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ  أَفَلَا يَشْكُرُونَ ( 73 ) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ( 74 ) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ( 75 ) فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ  إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 ) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( 77 ) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ  قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ  وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 ) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم  بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( 81 ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا

١١٠

أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( 82 ) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )

( بيان)

بيان تلخيصيّ للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، و الإشارة إلى أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول و أنّ كتابه ذكر و قرآن و ليس بشاعر و لا كتابه بشعر، و الإشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، و الاحتجاج على المعاد.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى‏ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) قال في مجمع البيان: الطمس محو الشي‏ء حتّى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب و مثله الطمس على المال و هو إذهابه حتّى لا يقع عليه إدراك، و أعمى مطموس و طميس و هو أن يذهب الشقّ الّذي بين الجفنين، انتهى.

فقوله:( وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى‏ أَعْيُنِهِمْ ) أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم و بطل أبصارهم.

و قوله:( فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ) أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الّذي لا يخطئ قاصده و لا يظلّ سالكه فلم يبصروه و لن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله:( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) كناية عن الامتناع.

و قول بعضهم: إنّ المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحقّ و عدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى‏ مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ ) قال في المجمع: و المسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوّهة كما مسخ قوم قردة و خنازير و قال: و المكانة و المكان واحد. انتهى. و المراد بمسخهم على مكانتهم تشوية خلقهم و هم قعود في مكانهم الّذي هم فيه من غير أن يغيّرهم عن حالهم بعلاج و تكلّف بل بمجرّد المشيّة فهو كناية عن كونه هيّناً سهلاً عليه تعالى من غير أيّ صعوبة.

١١١

و قوله:( فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ ) أي مضيّاً في العذاب و لا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب و المسخ فالمضيّ و الرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة و البقاء على حال العذاب و المسخ.

و قيل: المراد مضيّهم نحو مقاصدهم و رجوعهم إلى منازلهم و أهليهم و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ ) التعمير التطويل في العمر، و التنكيس تقليب الشي‏ء بحيث يعود أعلاه أسفله و يتبدّل قوّته ضعفا و زيادته نقصاً و الإنسان في عهد الهرم منكّس الخلق يتبدّل قوّته ضعفاً و علمه جهلاً و ذكره نسياناً.

و الآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين و المراد أنّ الّذي ينكّس خلق الإنسان إذا عمّره قادر على أن يطمس على أعينهم و على أن يمسخهم على مكانتهم.

و في قوله:( أَ فَلا يَعْقِلُونَ ) توبيخهم على عدم التعقّل و حثّهم على التدبّر في هذه الاُمور و الاعتبار بها.

قوله تعالى:( وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ) عطف و رجوع إلى ما تقدّم في صدر السورة من تصديق رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كون كتابه تنزيلاً من عنده تعالى.

فقوله:( وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ) نفى أن يكون علّمه الشعر و لازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه و يمتنع من قوله للنهي من الله متوجّه إليه، و لا أنّ النازل من القرآن ليس بشعر و إن أمكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوله.

و به يظهر أنّ قوله:( وَ ما يَنْبَغِي لَهُ ) في مقام الامتنان عليه بأنّه نزّهه عن أن يقول شعراً فالجملة في مقام دفع الدخل و المحصّل أنّ عدم تعليمنا إيّاه الشعر ليس يوجب نقصاً فيه و لا أنّه تعجيز له بل لرفع درجته و تنزيه ساحته عمّا يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيّلات الشعريّة الكاذبة

١١٢

الّتي كلّما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، و تنظيم الكلام بأوزان موسيقيّة ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول الشعر و هو رسول من الله و آية رسالته و متن دعوته القرآن المعجز في بيانه الّذي هو ذكر و قرآن مبين.

و قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ) تفسير و توضيح لقوله:( وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ ) بما أنّ لازم معناه أنّ القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) إلخ من قصر القلب و المعنى ليس هو بشعر ما هو إلّا ذكر و قرآن مبين.

و معنى كونه ذكراً و قرآناً أنّه ذكر مقروّ من الله ظاهر ذلك.

قوله تعالى: ( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ) تعليل متعلّق بقوله:( وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ) و المعنى و لم نعلّمه الشعر لينذر بالقرآن المنزّه من أن يكون شعراً من كان حيّاً إلخ أو متعلّق بقوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) إلخ و المعنى ليس ما يتلوه على الناس إلّا ذكراً و قرآناً مبيناً نزّلناه إليه لينذر من كان حيّاً إلخ و مآل الوجهين واحد.

و الآية - كما ترى - تعدّ غاية إرسال الرسول و إنزال القرآن إنذار من كان حيّاً - و هو كناية عن كونه يعقل الحقّ و يسمعه - و حقّيّة القول و وجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) ذكر آية من آيات التوحيد تدلّ على ربوبيّته تعالى و تدبيره للعالم الإنساني و هي نظيرة ما تقدّم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحبّ و الثمرات و تفجير العيون.

و المراد بكون الأنعام ممّا عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها و اختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص.

و قوله:( فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) تفريع على قوله:( خَلَقْنا لَهُمْ ) فإنّ المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإنسان و لازمه اختصاصها به و ينتهي الاختصاص إلى

١١٣

الملك فإنّ الملك الاعتباريّ الّذي في المجتمع من شعب الاختصاص.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إنّ في تفرّع قوله:( فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) على قوله:( خَلَقْنا لَهُمْ ) خفاء، و الظاهر تفرّعها على مقدّر و التقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، و أنت خبير بعدم خفاء تفرّعها على( خَلَقْنا لَهُمْ ) و عدم الحاجة إلى تقدير.

و قيل: الملك بمعنى القدرة و القهر، و فيه أنّه مفهوم من قوله بعد:( وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ ) و التأسيس خير من التأكيد.

قوله تعالى: ( وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ ) تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية و هو تسخيرها لهم، و الركوب بفتح الراء الحمولة كالإبل و البقر، و قوله:( وَ مِنْها يَأْكُلُونَ ) أي من لحمها يأكلون.

قوله تعالى: ( وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ ) المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و المشارب جمع مشرب - مصدر ميميّ بمعنى المفعول - و المراد بها الألبان، و الكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدّم في قوله:( وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ ) .

و معنى الآيات الثلاث: أ و لم يعلموا أنّا خلقنا لأجلهم و لتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاماً من الإبل و البقر و الغنم فتفرّع على ذلك أنّهم مالكون لها ملكاً يصحّح لهم أنواع تصرّفاتهم فيها من غير معارض، و ذلّلناها لهم بجعلها مسخّرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الّذي يركبونه، و منها أي من لحومها يأكلون، و لهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها و أوبارها و جلودها و مشروبات من ألبانها يشربونها أ فلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الّذي يكشف عن ربوبيّته لهم؟ أ و لا يعبدونه شكراً لأنعمه؟.

قوله تعالى: ( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين و فراعنة البشر دون الملائكة المقرّبين و الأولياء من الإنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام:( وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) لذلك.

١١٤

و إنّما اتّخذوهم آلهة رجاء أن يُنصروا من ناحيتهم لأنّ عامّتهم تتّخذ إلهاً زعماً منهم أنّ تدبير أمره مفوّض إلى من اتّخذه إلها من خير أو شرّ فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.

قوله تعالى: ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الّذين اتّخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئاً من خير أو شرّ.

و قوله:( وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) الظاهر أنّ أوّل الضميرين للمشركين و ثانيهما للآلهة من دون الله و المراد أنّ المشركين جند للآلهة و ذلك أنّ من لوازم معنى الجنديّة التبعيّة و الملازمة و المشركون هم المعدودون أتباعاً لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس.

و المراد بالإحضار في قوله:( مُحْضَرُونَ ) الإحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى:( وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) الصافّات: 158 و قال:( وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) الصافّات: 57. و محصّل المعنى لا يستطيع الآلهة المتّخذون نصر المشركين و هم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.

و أمّا قول القائل: إنّ المعنى أنّ المشركين جند لآلهتهم معدّون للذبّ عنهم في الدنيا، أو أنّ المعنى و هم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنّهم وقود النار الّتي يعذّب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهاراً لعجزهم عن النصر أو لإقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.

قوله تعالى: ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ ) الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتّخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أنّ الّذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبداً و أنّهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنّا لسنا بغافلين عنهم حتّى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرّون من أقوالهم و ما يعلنون، و في تركيب

١١٥

الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) رجوع إلى ما تقدّم من حديث البعث و الاحتجاج عليه إثر إنكارهم، و لا يبعد أن يكون بياناً تفصيليّاً لقولهم المشار إليه في قوله تعالى:( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) إلخ و المراد بالرؤية العلم القطعيّ أي أ و لم يعلم الإنسان علماً قاطعاً أنّا خلقناه من نطفة، و تنكير نطفة للتحقير و الخصيم المصرّ على خصومته و جداله.

و الاستفهام للتعجب و المعنى من العجيب أنّ الإنسان يعلم أنّا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجؤه أنّه خصيم مجادل مبين.

قوله تعالى: ( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) الرميم البالي من العظام، و( نَسِيَ خَلْقَهُ ) حال من فاعل ضرب، و قوله:( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) بيان للمثل الّذي ضربه الإنسان، و لذلك جي‏ء به مفصولاً من غير عطف لأنّ الكلام في معنى أن يقال: فما ذا ضرب مثلا؟ فقيل قال من يحيي العظام و هي رميم.

و المعنى و ضرب الإنسان لنا مثلاً و قد نسي خلقه من نطفة لأوّل مرّة، و لو كان ذاكره لم يضرب المثل الّذي ضربه و هو قوله:( من يحيي العظام و هي بالية؟) لأنّه كان يردّ على نفسه و يجيب عن المثل الّذي ضربه بخلقه الأوّل كما لقّنه الله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جواباً عنه.

قوله تعالى: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) تلقين الجواب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الإنشاء هو الإيجاد الابتدائيّ و تقييده بقوله:( أَوَّلَ مَرَّةٍ ) للتأكيد، و قوله:( وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى أنّه تعالى لا ينسى و لا يجهل شيئاً من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأوّل مرّة و هو لا يجهل شيئاً ممّا كانت عليه قبل الموت و بعده فإحياؤه ثانياً بمكان من الإمكان لثبوت القدرة و انتفاء الجهل و النسيان.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ )

١١٦

بيان لقوله:( الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) و الإيقاد إشعال النار.

و الآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشي‏ء الموات شيئاً ذا حياة و الحياة و الموت متنافيان و الجواب أنّه لا استبعاد فيه فإنّه هو الّذي جعل لكم من الشجر الأخضر الّذي يقطر ماء ناراً فإذا أنتم منه توقدون و تشعلون النار، و المراد به على المشهور بين المفسّرين شجر(1) المرخ و العفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زنداً أسفل و يجعل المرخ زنداً أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحيّ من الميّت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء و هما متضادّان.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى‏ وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) الاستفهام للإنكار و الآية بيان للحجّة السابقة المذكورة في قوله‏:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلخ. ببيان أقرب إلى الذهن و ذلك بتبديل إنشائهم أوّل مرّة من خلق السماوات و الأرض الّذي هو أكبر من خلق الإنسان كما قال تعالى:( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) المؤمن: 57.

فالآية في معنى قولنا: و كيف يمكن أن يقال: إنّ الله الّذي خلق عوالم السماوات و الأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة و عجيب النظام العامّ المتضمّن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئيّة المدهشة للعقول المحيّرة للألباب و العالم الإنسانيّ جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس؟ بلى و إنّه خلّاق عليم.

و المراد بمثلهم قيل: هم و أمثالهم و فيه أنّه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة و العرف.

و قيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حدّ قولهم: مثلك غنيّ عن كذا أي أنت غنيّ عنه، و فيه أنّه لو كان كناية لصحّ التصريح به لكن لا وجه لقولنا:

____________________

(1) المرخ بالفتح فالسكون و الخاء المعجمة، و العفار بعين مفتوحة ثمّ الفاء ثمّ الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الآخر.

١١٧

أ و ليس الّذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلقهم فإنّ الكلام في بعثهم لا في خلقهم و المشركون معترفون بأنّ خالقهم هو الله سبحانه.

و قيل: ضمير( مِثْلَهُمْ ) للسماوات و الأرض فإنّهما تشملان ما فيهما من العقلاء فاُعيد إليهما ضمير العقلاء تغليباً فالمراد أنّ الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.

و فيه أنّ المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض. على أنّ الكلام في الإعادة و خلق مثل الشي‏ء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.

فالحقّ أن يقال: إنّ المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسيّ رحمه الله في مجمع البيان.

بيانه أنّ الإنسان مركّب من نفس و بدن، و البدن في هذه النشأة في معرض التحلّل و التبدّل دائماً فهو لا يزال يتغيّر أجزاؤه و المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كلّ آن غيره في الآن السابق بشخصه و شخصيّة الإنسان محفوظة بنفسه - روحه - المجرّدة المنزّهة عن المادّة و التغيّرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت و الفساد.

و المتحصّل من كلامه تعالى أنّ النفس لا تموت بموت البدن و أنّها محفوظة حتّى ترجع إلى الله سبحانه كما تقدّم استفادته من قوله تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) الم السجدة: 11.

فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكنّ الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأنّ الشخصيّة بالنفس و هي واحدة بعينها.

و لمّا كان استبعاد المشركين في قولهم:( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) راجعاً إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم و أمّا عودهم بأعيانهم فهو إنّما يتمّ بتعلّق النفوس و الأرواح المحفوظة عندالله بالأبدان المخلوقة جديداً، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال

١١٨

تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الأحقاف 33 فعلّق الإحياء على الموتى بأعيانهم فقال:( عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) ‏ و لم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.

قوله تعالى: ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآية من غرر الآيات القرآنيّة تصف كلمة الإيجاد و تبيّن أنّه تعالى لا يحتاج في إيجاد شي‏ء ممّا أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعاً يمنعه.

و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) النحل: 40، و قال:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: 117.

فقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر الشأن، و قوله في آية النحل المنقولة آنفاً:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ ) إن كان يؤيّد كون الأمر بمعنى القول و هو الأمر اللفظيّ بلفظة كن إلّا أنّ التدبّر في الآيات يعطي أنّ الغرض فيها وصف الشأن الإلهيّ عند إرادة خلق شي‏ء من الأشياء لا بيان أنّ قوله تعالى عند خلق شي‏ء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنّه جي‏ء به لكونه مصداقاً للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي.

و قوله:( إِذا أَرادَ شَيْئاً ) أي إذا أراد إيجاد شي‏ء كما يعطيه سياق الآية و قد ورد في عدّة من الآيات القضاء مكان الإرادة كقوله:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) و لا ضير فالقضاء هو الحكم و القضاء و الحكم و الإرادة من الله شي‏ء واحد و هو كون(2) الشي‏ء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلّا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلّق الإرادة.

و قوله:( أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) خبر إنّما أمره أي يخاطبه بكلمة كن و من المعلوم

____________________

(1) البقرة: 17، آل عمران: 47، مريم: 35، المؤمن: 68.

(2) فإنّ هذه الإرادة صفة فعليّة خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل.

١١٩

أن ليس هناك لفظ يتلفّظ به و إلّا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر و هلمّ جرّاً فيتسلسل و لا أنّ هناك مخاطباً ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لإدّائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإفاضته تعالى وجود الشي‏ء من غير حاجة إلى شي‏ء آخر وراء ذاته المتعالية و من غير تخلّف و لا مهل.

و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أنّ هناك قولاً لفظيّاً هو لفظ كن و إليه ذهب معظم السلف و شؤن الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام و الخصام. انتهى.

و ذلك أنّ ما ذكره من كون شؤنه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجّة العقليّة القطعيّة بطلت بذلك المعارف الدينيّة من أصلها فصحّة الكتاب مثلاً بما يفيده من المعارف الحقيقيّة إنّما تثبت بالحجّة العقليّة فلو بطلت الحجّة العقليّة بكتاب أو سنّة أو شي‏ء آخر ممّا يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلاً لنفسه أوّلاً فلا تزلّ قدم بعد ثبوتها.

و من المعلوم أن ليس هناك إلّا الله عزّ اسمه و الشي‏ء الّذي يوجد لا ثالث بينهما و إسناد العلّيّة و السببيّة إلى إرادته دونه تعالى - و الإرادة صفة فعليّة منتزعة من مقام الفعل كما تقدّم - يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدّس.

و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمّى إيجاداً و وجوداً ثمّ يتّصل بالشي‏ء فيصير به موجوداً و هو ظاهر فليس بعده تعالى إلّا وجود الشي‏ء فحسب.

و من هنا يظهر أنّ كلمة الإيجاد و هي كلمة كن هي وجود الشي‏ء الّذي أوجده لكن بما أنّه منتسب إليه قائم به و أمّا من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد و مخلوق لا خلق.

و يظهر أيضاً أنّ الّذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة و لا يتحمّل تبدّلاً و لا تغيّراً، و لا يتلبّس بتدريج و ما يتراءى في الخلق من هذه الاُمور إنّما يتأتّى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة الّتي تلي ربّها سبحانه و هذا باب ينفتح

١٢٠