الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167759 / تحميل: 5993
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

و فيه، قال: القلب السليم من الشكّ.

و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال قال أبوجعفرعليه‌السلام : عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إنّي سقيم. قال أبو جعفرعليه‌السلام : و الله ما كان سقيماً و ما كذب.

أقول: و في معناه روايات اُخر و في بعضها: ما كان إبراهيم سقيماً و ما كذب إنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً.

و قد تقدّم الروايات في قصّة حجاج إبراهيمعليه‌السلام قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء.

و في التوحيد، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث: و قد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن ربّ شي‏ء من كتاب الله عزّوجلّ تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبّئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله.

من ذلك قول إبراهيمعليه‌السلام :( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة و اجتهاداً و قربة إلى الله عزّوجلّ أ لا ترى أنّ تأويله غير تنزيله؟.

و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: يا فتح إنّ لله إرادتين و مشيّتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو لا يشاء أ و ما رأيت أنّه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيّة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيلعليهما‌السلام و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيّة إبراهيم مشيّة الله عزّوجلّ. قلت: فرّجت عنّي فرّج الله عنك.

و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدّثنا عليّ بن موسى قال: حدّثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: الذبيح إسماعيلعليه‌السلام :

أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و بهذا المضمون روايات كثيرة اُخرى عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد وقع في بعض رواياتهم أنّه إسحاق

١٤١

و هو مطروح لمخالفة الكتاب.

و عن الفقيه: سئل الصادقعليه‌السلام عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأنّ الله تعالى ذكر قصّته في كتابه ثمّ قال:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

أقول: هذا ما تقدّم في بيان الآية أنّ الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.

و في المجمع، عن ابن إسحاق: أنّ إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكّة و يروح من مكّة فيبيت عند أهله بالشام حتّى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن(١) يذبحه فقال له: يا بنيّ خذ الحبل و المدية(٢) ثمّ انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب.

فلمّا خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتّى لا أضطرب و اكفف عنّي ثيابك حتّى لا ينتضح من دمي شيئاً فتراه اُمّي و اشحذ شفرتك و أسرع مرّ السكّين على حلقي ليكون أهون عليّ فإنّ الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله.

ثمّ ساق القصّة و فيها ثمّ انحنى إليه بالمدية و قلّب جبرئيل المدية على قفاها و اجترّ الكبش من قبل ثبير و اجترّ الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا.

أقول: و الروايات في القصّة كثيرة و لا تخلو من اختلاف.

و فيه،: روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاقعليهم‌السلام ؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) يعني إسماعيل و هي أوّل بشارة بشّر الله به إبراهيمعليه‌السلام في الولد.

____________________

(١) أنّه ظ

(٢) المدية: السكين.

١٤٢

( سورة الصافّات الآيات ١١٤ - ١٣٢)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ١١٤ ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( ١١٥ ) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( ١١٦ ) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( ١١٧ ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( ١١٨ ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ( ١١٩ ) سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ١٢٠ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٢١ ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( ١٢٢ ) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٢٣ ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٢٤ ) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( ١٢٥ ) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( ١٢٦ ) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ١٢٧ ) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٢٨ ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ( ١٢٩ ) سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ( ١٣٠ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٣١ ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( ١٣٢ )

( بيان)

ملخّص قصّة موسى و هارون و إشارة إلى قصّة إلياسعليهم‌السلام . و بيان ما أنعم الله عليهم و عذّب مكذّبيهم و جانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب و التبشير يزيد على الإنذار.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى‏ مُوسى‏ وَ هارُونَ ) المنّ الإنعام و من المحتمل أن يكون المراد به ما سيعدّه ممّا أنعم عليهما و على قومهما من التنجية و النصر و إيتاء

١٤٣

الكتاب و الهداية و غيرها فيكون قوله:( وَ نَجَّيْناهُما ) إلخ من عطف التفسير.

قوله تعالى: ( وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) و هو الغمّ الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب و يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم.

قوله تعالى: ( وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ) و هو الّذي أدّى إلى خروجهم من مصر و جوازهم البحر و هلاك فرعون و جنوده.

و بذلك يندفع ما توهّم أنّ مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقّفها عليه، و ذلك أنّ النصر إنّما يكون فيما إذا كان للمنصور قوّة ما لكنّها لا تكفي لدفع الشرّ فتتمّ بالنصر و كان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوّة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنّهم كانوا اُسراء مستعبدين لا قوّة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلّا ذكر التنجية دون النصر.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ) أي يستبين المجهولات الخفيّة فيبيّنها و هي الّتي يحتاج إليها الناس في دنياهم و آخرتهم.

قوله تعالى: ( وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، و لذا خصّها بهما و لم يشرك فيها معهما قومهما، و لقد تقدّم كلام في معنى الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة.

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ - إلى قوله -الْمُؤْمِنِينَ ) تقدّم تفسيرها.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) قيل: إنّهعليه‌السلام من آل هارون كان مبعوثاً إلى بعلبكّ(١) و لم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ - إلى قوله -الْأَوَّلِينَ ) شطر من دعوتهعليه‌السلام يدعو قومه فيها إلى التوحيد و يوبّخهم على عبادة بعل - صنم كان لهم - و ترك عبادة الله سبحانه.

و كلامهعليه‌السلام على ما فيه من التوبيخ و اللّوم يتضمّن حجّة تامّة على توحيده

____________________

(١) و لعلّهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبكّ سمّي به لأنّ بعلا كان منصوباً في معبد فيه.

١٤٤

تعالى فإنّ قوله:( وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) يوبّخهم أوّلاً على ترك عبادة أحسن الخالقين، و الخلق و الإيجاد كما يتعلّق بذوات الأشياء يتعلّق بالنظام الجاري فيها الّذي يسمّى تدبيراً فكما أنّ الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضاً إليه فهو المدبّر كما أنّه الخالق، و أشار إلى ذلك بقوله:( اللهَ رَبَّكُمْ ) بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين.

ثمّ أشار إلى أنّ ربوبيّته تعالى لا تختصّ بقوم دون قوم كالأصنام الّتي يتّخذ كلّ قوم بعضاً منها دون بعض فيكون صنم ربّاً لقوم دون آخرين بل هو تعالى ربّ لهم و لآبائهم الأوّلين لا يختصّ ببعض دون بعض لعموم خلقه و تدبيره، و إليه أشار بقوله:( اللهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أي مبعوثون ليحضروا العذاب، و قد تقدّم أنّ الإحضار إذا اُطلق أفاد معنى الشرّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) دليل على أنّه كان في قومه جمع منهم.

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - إلى قوله - الْمُؤْمِنِينَ) تقدّم الكلام في نظائرها.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ تَدْعُونَ بَعْلًا ) قال كان لهم صنم يسمّونه بعلا.

و في المعاني، بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن عليّ‏عليهم‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( سلام على آل يس ) قال: يس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نحن آل يس.

أقول: و عن العيون، عن الرضاعليه‌السلام مثله‏، و هو مبنيّ على قراءة آل يس كما قرأه نافع و ابن عامر و يعقوب و زيد.

١٤٥

( كلام في قصّة إلياسعليه‌السلام )

١- قصّته في القرآن: لم يذكر اسمهعليه‌السلام في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع و في سورة الأنعام عند ذكر هداية الأنبياء حيث قال:( وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنعام: ٨٥.

و لم يذكر تعالى من قصّته في هذه السورة إلّا أنّه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوماً كانوا يعبدون بعلا فآمن به و أخلص الإيمان قوم منهم و كذّبه آخرون و هم جلّ القوم و إنّهم لمحضرون.

و قد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الأنعام بما أثنى به على الأنبياء عامّة و أثنى عليه في هذه السورة بأنّه من عباده المؤمنين المحسنين و حيّاة بالسلام بناء على القراءة المشهورة( سَلامٌ عَلى‏ إِلْ‏ياسِينَ ) .

٢- الأحاديث فيه: ورد فيهعليه‌السلام أخبار مختلفة متهافتة كغالب الأخبار الواردة في قصص الأنبياء، الحاكية للعجائب كالّذي‏ روي عن ابن مسعود: أنّ إلياس هو إدريس‏ و ما عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الخضر هو إلياس‏، و ما عن وهب و كعب الأحبار و غيرهما: أنّ إلياس حيّ لا يموت إلى النفخة الاُولى، و ما عن وهب: أنّ إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابّة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش و النور و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب فصار في الملائكة، و ما عن كعب الأحبار: أنّ إلياس صاحب الجبال و البرّ و أنّه الّذي سمّاه الله بذي النون، و ما عن الحسن: أنّ إلياس موكّل بالفيافي و الخضر موكّل بالجبال، و ما عن أنس: أنّ إلياس لاقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أسفاره فقعداً يتحدّثان ثمّ نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا و أطعماني ثمّ ودّعه و ودّعني ثمّ رأيته مرّ على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك(١) .

____________________

(١) رواه في الدرّ المنثور في تفسير آيات القصّة.

١٤٦

و في بعض أخبار الشيعة أنّهعليه‌السلام حيّ مخلّد(١) لكنّها ضعاف و ظاهر آيات القصّة لا يساعد عليه.

و في البحار، في قصّة إلياسعليه‌السلام عن قصص الأنبياء، بالإسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبّه، و رواه الثعلبيّ في العرائس، عن ابن إسحاق و علماء الأخبار أبسط منه - و الحديث طويل جدّاً، و ملخّصه - أنّه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل و تقسّمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبكّ و كان لهم ملك منهم يعبد صنماً اسمه بعل و يحمل الناس على عبادته.

و كانت له مرأة فاجرة قد تزوّجت قبله بسبعة من الملوك و ولدت تسعين ولداً سوى أبناء الأبناء، و كان الملك يستخلفها إذ غاب فتقضي بين الناس، و كان له كاتب مؤمن حكيم قد خلّص من يدها ثلاثمائة مؤمن تريد قتلهم، و كان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان و كان الملك يحترم جواره و يكرمه.

ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن و غصبت بستانه فلمّا رجع و علم به عاتبها فاعتذرت إليه و أرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوباً فأرسل إليهم إلياسعليه‌السلام يدعوهم إلى عبادة الله و أخبرهما بما آلى الله فاشتدّ غضبهم عليه و همّوا بتعذيبه و قتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الأرض و ثمار الشجر.

فأمرض الله ابناً للملك يحبّه حبّاً شديداً فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنّه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه و يقبضوا عليه فأرسل الله إليهم ناراً فأحرقتهم ثمّ أرسل إليه فئة اُخرى من ذوي البأس مع كاتبه‏ المؤمن فذهب معه إلياس صوناً له من غضب الملك لكنّ الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالماً.

ثمّ لمّا طال الأمر نزل إلياس من الجبل و استخفى عند اُمّ يونس بن متّى في بيتها و يونس طفل رضيع ثمّ خرج بعد ستّة أشهر إلى الجبل ثانياً و اتّفق أن مات بعده

____________________

(١) رواه في البحار عن قصص الأنبياء.

١٤٧

يونس ثمّ أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت اُمّه في طلبه فوجدته فتضرّعت إليه.

ثمّ إنّه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل و يمسك عنهم الأمطار فاُجيب و سلّط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاؤه فتابوا و أسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم و أحيا بلادهم.

فشكوا إليه هدم الجدران و عدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص و أن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن.

ثمّ لمّا كشف الله عنهم الضرّ نقضوا العهد و عادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأملّ ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرساً من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء و كساه الريش و النور فكان مع الملائكة.

ثمّ سلّط الله على الملك و امرأته عدوّاً فقصدهما و ظهر عليهما فقتلهما و ألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الّذي قتلاه و غصبوا بستانه.

و أنت بالتأمّل فيما تقصّه الرواية لا ترتاب في ضعفها.

١٤٨

( سورة الصافّات الآيات ١٣٣ - ١٤٨)

وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٣٣ ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( ١٣٤ ) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( ١٣٥ ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ( ١٣٦ ) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ( ١٣٧ ) وَبِاللَّيْلِ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٣٨ ) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٣٩ ) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( ١٤٠ ) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( ١٤١ ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ١٤٢ ) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( ١٤٣ ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١٤٤ ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( ١٤٥ ) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ( ١٤٦ ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( ١٤٧ ) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ( ١٤٨ )

( بيان)

خلاصة قصّة لوطعليه‌السلام ثمّ قصّة يونسعليه‌السلام و ابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذاً بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله و إشرافه عليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) و إنّما نجّاه و أهله من العذاب النازل على قومه و هو الخسف و أمطار حجارة من سجّيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه.

قوله تعالى: ( إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ) أي في الباقين في العذاب المهلكين به و هي امرأة لوط.

١٤٩

قوله تعالى: ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ‏ ) التدمير الإهلاك، و الآخرين قومه الّذين اُرسل إليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏ ) فإنّهم على طريق الحجاز إلى الشام، و المراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة و هي اليوم مستورة بالماء على ما قيل.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏ ) أي السفينة المملوءة من الناس و الإباق هرب العبد من مولاه.

و المراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضاً عنهم و هوعليه‌السلام و إن لم يعص في خروجه ذلك ربّه و لا كان هناك نهي من ربّه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثّلاً لإباق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) الأنبياء: ٨٧.

قوله تعالى: ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ‏ ) المساهمة المقارعة و الإدحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، و قد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطرّوا إلى أن يلقوا واحداً منهم في البحر ليبتلعه و يخلّي السفينة فقارعوا فأصابت يونسعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ ) الالتقام الابتلاع، و مليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) عدّه من المسبّحين و هم الّذين تكرّر منهم التسبيح و تمكّن منهم حتّى صار وصفاً لهم يدلّ على دوام تلبّسه زماناً بالتسبيح. قيل: أي من المسبّحين قبل التقام الحوت إيّاه، و قيل: بل في بطن الحوت، و قيل: أي كان من المسبّحين قبل التقام الحوت و في بطنه.

و الّذي حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الأنبياء:( فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧ و لازم ذلك أن يكون من المسبّحين في بطن الحوت خاصّة أو فيه و فيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه.

١٥٠

على أنّ تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله:( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) - على ما سيجي‏ء - تسبيح له تعالى عمّا كان يشعر به(١) فعله من ترك قومه و ذهابه على وجهه، و قوله:( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) إلخ يدلّ على أنّ تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، و لازم ذلك أن يكون إنّما ابتلي بما ابتلي به لينزّهه تعالى فينجو بذلك من الغمّ الّذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية.

و بذلك يظهر أنّ العناية في الكلام إنّما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصّة فخير الأقوال الثلاثة أوسطها.

فالظاهر أنّ المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) و قد قدّم التهليل ليكون كالعلّة المبيّنة لتسبيحه كأنّه يقول: لا معبود بالحقّ يتوجّه إليه غيرك فأنت منزّه ممّا كان يشعر به فعلى أنّي آبق منك معرض عن عبوديّتك متوجّه إلى سواك إني كنت ظالماً لنفسي في فعلي فها أنا متوجّه إليك متبرّئ ممّا كان يشعر به فعلى من التوجّه عنك إلى غيرك.

فهذا معنى تسبيحه و لو لا ذلك منه لم ينج أبداً إذ كان سبب نجاته منحصراً في التسبيح و التنزيه بالمعنى الّذي ذكر.

و بذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الّذي يقبر فيه الإنسان و يلبث فيه حتّى يبعث فيخرج منه قال تعالى:( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏ ) طه: ٥٥.

و لا دلالة في الآية على كونهعليه‌السلام على تقدير اللبث حيّاً في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميّتاً و بطنه قبره مع بقاء بدنه و بقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونهعليه‌السلام حيّاً على هذا التقدير أو ميّتاً و بطنه قبره، و أنّ المراد بيوم يبعثون النفخة الاُولى الّتي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث.

____________________

(١) و هو أنّ الله لا يقدّر عليه كما قال تعالى: ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) .

١٥١

قوله تعالى: ( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ ) النبذ طرح الشي‏ء و الرمي به، و العراء المكان الّذي لا سترة فيه يستظلّ بها من سقف أو خباء أو شجر.

و المعنى على ما يعطيه السياق أنّه صار من المسبّحين فأخرجناه من بطن الحوت و طرحناه خارج الماء في أرض لا ظلّ فيها يستظلّ به و هو سقيم.

قوله تعالى: ( وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) اليقطين من نوع القرع و يكون ورقه عريضاً مستديراً و قد أنبتها الله عليه ليستظلّ بورقها.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أو في مورد الترقّي و تفيد معنى بل، و المراد بهذه الجماعة أهل نينوى.

قوله تعالى: ( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) أي آمنوا به فلم نعذّبهم و لم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتّعناهم بالحياة و البقاء إلى أجلهم المقدّر لهم.

و الآية في إشعارها برفع العذاب عنهم و تمتيعهم تشير إلى قوله تعالى:( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) يونس: ٩٨.

و لا يخلو السياق من إشعار بل دلالة على أنّ المراد من إرساله في قوله:( وَ أَرْسَلْناهُ ) أمره بالذهاب ثانياً إلى القوم، و بإيمانهم في قوله:( فَآمَنُوا ) إلخ إيمانهم بتصديقه و اتّباعه بعد ما آمنوا و تابوا حين رأوا العذاب.

و من هنا يظهر ضعف ما استدلّ بعضهم بالآيتين أنّ إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت و أنّه اُمر أوّلاً بالذهاب إلى أهل نينوى و دعوتهم إلى الله و كانوا يعبدون الأصنام فاستعظم الأمر و خرج من بيته يسير في الأرض لعلّ الله يصرف عنه هذا التكليف و ركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثمّ لمّا نبذ بالعراء كلّف ثانياً فأجاب و أطاع و دعاهم فاستجابوا فدفع الله عذاباً كان يهدّدهم إن لم يؤمنوا.

و ذلك أنّ السياق كما سمعت يدلّ على كون إرساله بأمر ثان و أنّ إيمانهم كان إيماناً ثانياً بعد الإيمان و التوبة و أنّ تمتيعهم إلى حين كان مترتّباً على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانياً كما

١٥٢

آمنوا به و تابوا إليه أوّلاً في غيبته فافهم ذلك.

على أنّ قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) الأنبياء: ٨٧ و قوله:( وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) ن: ٤٨ لا يلائم ما ذكروه، و كذا قوله:( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) يونس: ٩٨ إذ لا يطلق الكشف إلّا في عذاب واقع حالّ أو مشرف.

( كلام في قصّة يونسعليه‌السلام في فصول)

١- قصّته في القرآن: لم يتعرّض القرآن الكريم إلّا لطرف من قصّته و قصّة قومه فقد تعرّض في سورة الصافّات لإرساله ثمّ إباقه و ركوبه الفلك و التقام الحوت له ثمّ نجاته و إرساله إلى القوم و إيمانهم قال تعالى:( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ. وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ‏ ) .

و في سورة الأنبياء: لتسبيحه في بطن الحوت و تنجيته قال تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) الأنبياء: ٨٧ - ٨٨.

و في سورة ن: لندائه مكظوماً و خروجه من بطنه و اجتبائه قال تعالى:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ن: ٥٠.

و في سورة يونس: لإيمان قومه و كشف العذاب عنهم قال تعالى:( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) يونس: ٩٨.

١٥٣

و خلاصة ما يستفاد من الآيات بضمّ بعضها إلى بعض و اعتبار القرائن الحافّة بها أنّ يونسعليه‌السلام كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه و هم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلّا بالتكذيب و الردّ حتّى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثمّ خرج من بينهم.

فلمّا أشرف عليهم العذاب و شاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان و التوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.

ثمّ إنّ يونسعليه‌السلام استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم - و كأنّه لم يعلم بإيمانهم و توبتهم - فلم يعد إليهم و ذهب لوجهه على ما به من الغضب و السخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربّه مغاضباً عليه ظانّاً أنّه لا يقدر عليه و ركب البحر في فلك مشحون.

فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدّاً من أن يلقوا إليه واحداً منهم يبتلعه و ينجو الفلك بذلك فساهموا و قارعوا فيما بينهم فأصابت يونسعليه‌السلام فألقوه في البحر فابتلعه الحوت و نجت السفينة.

ثمّ إنّ الله سبحانه حفظه حيّاً سويّاً في بطنه أيّاماً و ليالي و يونسعليه‌السلام يعلم أنّها بليّة ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل و هو ينادي في بطنه أَنْ( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧.

فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء و هو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظلّ بأوراقها ثمّ لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبّوا دعوته و آمنوا به فمتعّهم الله إلى حين.

و الأخبار الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على كثرتها و بعض الأخبار من طرق أهل السنّة مشتركة المتون في قصّة يونسعليه‌السلام على النحو الّذي يستفاد من الآيات و إن اختلفت في بعض الخصوصيّات الخارجة عن ذلك(١) .

____________________

(١) و لذلك نوردها لأنّها في نفسها آحاد لا حجّيّة لها في مثل المقام و لا يمكن تصحيح خصوصيّاتها بالآيات و هو ظاهر لمن راجعها.

١٥٤

٢- قصّته عند أهل الكتاب: هوعليه‌السلام مذكور باسم يوناه بن إمتّاي في مواضع من العهد القديم و كذا في مواضع من العهد الجديد اُشير في بعضها إلى قصّة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصّته الكاملة في شي‏ء منهما.

و نقل الآلوسيّ في روح المعاني، في قصّته عند أهل الكتاب و يؤيّده ما في بعض كتبهم من إجمال(١) القصّة:

أنّ الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى(٢) و كانت إذ ذاك عظيمة جدّاً لا يقطع إلّا في نحو ثلاثة أيّام و كانوا قد عظم شرّهم و كثر فسادهم، فاستعظم الأمر و هرب إلى ترسيس(٣) فجاء يافا(٤) فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر و أعطى‏ الاُجرة و ركب السفينة فهاجت ريح عظيمة و كثرت الأمواج و أشرفت السفينة على الغرق.

ففزع الملّاحون و رموا في البحر بعض الأمتعة لتخفّ السفينة و عند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة و نام حتّى علا نفسه فتقدّم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائماً؟ قم و ادع إلهك لعلّه يخلّصنا ممّا نحن فيه و لا يهلكنا.

و قال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشرّ بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ما ذا عملت؟ و من أين جئت؟ و إلى أين تمضي؟ و من أيّ كورة أنت؟ و من أيّ شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الربّ إله السماء خالق البرّ و البحر و أخبرهم خبره فخافوا خوفاً عظيماً و قالوا له: لم صنعت ما صنعت؟ يلومونه على ذلك.

ثمّ قالوا له: ما نصنع الآن بك؟ ليسكن البحر عنّا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنّه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردّوه إلى البرّ

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة.

(٣) اسم مدينة.

(٤) مدينة في الأرض المقدّسة.

١٥٥

فلم يستطيعوا فأخذوا يونس و ألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر و أمر الله حوتاً عظيماً فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيّام و ثلاث ليال و صلّى في بطنه إلى ربّه و استغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثمّ قال له: قم و امض إلى نينوى و ناد في أهلها كما أمرتك من قبل.

فمضيعليه‌السلام و نادي و قال: يخسف نينوي بعد ثلاثة أيّام فآمنت رجال نينوى بالله و نادوا بالصيام و لبسوا المسوح جميعاً و وصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيّه و نزع حلّته و لبس مسحاً و جلس على الرماد و نودي أن لا يذق أحد من الناس و البهائم طعاماً و لا شراباً و جاروا إلى الله تعالى و رجعوا عن الشرّ و الظلم فرحمهم الله و لم ينزل بهم العذاب.

فحزن يونس و قال: إلهي من هذا هربت، فإنّي علمت أنّك الرحيم الرؤف الصبور التوّاب. يا ربّ خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدّاً؟ فقال: نعم يا ربّ.

و خرج يونس و جلس مقابل المدينة و صنع له هناك مظلّة و جلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة؟ فأمر الله يقطيناً فصعد على رأسه ليكون ظلّاً له من كربه ففرح باليقطين فرحاً عظيماً و أمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجفّ ثمّ هبّت ريح سموم و أشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الأمر عليه و استطاب الموت.

فقال الربّ: يا يونس أ حزنت جدّاً على اليقطين؟ فقال: نعم يا ربّ حزنت جدّاً فقال تعالى: حزنت عليه و أنت لم تتعب فيه و لم تربّه بل صار من ليلته و هلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة الّتي فيها أكثر من اثنا عشر ربوة من الناس؟ قوم لا يعلمون يمينهم و لا شمالهم و بهائمهم كثيرة انتهى. و جهات اختلاف القصّة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة و عدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم و توبتهم.

فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الإباق إليه في سورة الصافّات و كذا مغاضبته و ظنّه أنّ الله لن يقدر عليه على ما في سورة الأنبياء.

١٥٦

قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدّسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتّى الكبائر الموبقة إلى الأنبياءعليهم‌السلام فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنّه ينزّه ساحتهم عن لوث المعاصي حتّى الصغائر فما ورد فيه ممّا يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة و لذا حملنا قوله:( إِذْ أَبَقَ‏ ) و قوله:( مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ) على حكاية الحال و إيهام فعله.

٣- ثناؤه تعالى عليه: أثنى الله سبحانه عليه بأنّه من المؤمنين (سورة الأنبياء ٨٨) و أنّه اجتباه و قد عرفت أنّ اجتباءه إخلاصه العبد لنفسه خاصّة، و أنّه جعله من الصالحين (سورة ن: ٥٠) و عدّه في سورة الأنعام فيمن عدّه من الأنبياء و ذكر أنّه فضّلهم على العالمين و أنّه هداهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام: ٨٧).

( بحث روائي)

في الفقيه، و قال الصادقعليه‌السلام : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله عزّوجلّ إلّا خرج سهم الحقّ، و قال: أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله. أ ليس الله عزّوجلّ يقول:( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) .

و في البحار، عن البصائر بإسناده عن حبّة العرنيّ قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّ الله عرض ولايتي على أهل السماوات و على أهل الأرض أقرّ بها من أقرّ و أنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتّى أقرّ بها.

أقول: و في معناه روايات اُخر، و المراد الولاية الكلّيّة الإلهيّة الّتي هوعليه‌السلام أوّل من فتح بابها من هذه الاُمّة و هي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجّه العبد إلّا إليه و لا يريد إلّا ما أراده و ذلك بسلوك طريق العبوديّة الّتي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره.

و كان ظاهر ما أتى به يونسعليه‌السلام ممّا لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلاً للانتساب

١٥٧

إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه و أنّه تعالى منزّه عن إرادة مثله فالبلايا و المحن الّتي يبتلى بها الأولياء من التربية الإلهيّة الّتي يربّيهم بها و يكمّلهم و يرفع درجاتهم بسببها و إن كان بعضها من جهة اُخرى مؤاخذة ذات عتاب، و قد قيل البلاء للولاء.

و يؤيّد ذلك‏ ما عن العلل، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : لأيّ علّة صرف الله العذاب عن قوم يونس و قد أظلّهم و لم يفعل ذلك بغيرهم من الاُمم؟ فقال: لأنّه كان في علم الله أنّه سيصرفه عنهم لتوبتهم و إنّما ترك إخبار يونس بذلك لأنّه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته.

١٥٨

( سورة الصافّات الآيات ١٤٩ - ١٨٢)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( ١٤٩ ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( ١٥٠ ) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( ١٥١ ) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٥٢ ) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( ١٥٣ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ١٥٤ ) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ١٥٥ ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ( ١٥٦ ) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٥٧ ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا  وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ١٥٨ ) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٥٩ ) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٦٠ ) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( ١٦١ ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( ١٦٢ ) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( ١٦٣ ) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( ١٦٤ ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( ١٦٥ ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( ١٦٦ ) وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ ( ١٦٧ ) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ ( ١٦٨ ) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٦٩ ) فَكَفَرُوا بِهِ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( ١٧٠ ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( ١٧١ ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( ١٧٢ ) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ١٧٣ ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ( ١٧٤ ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( ١٧٥ ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ١٧٦ ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ( ١٧٧ ) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ

١٥٩

حِينٍ ( ١٧٨ ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( ١٧٩ ) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٨٠ ) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( ١٨١ ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٨٢ )

( بيان)

قدّم سبحانه ما بيّن به أنّه ربّ معبود: عبده عباد مخلصون كالأنبياء المكرمين و كفر به آخرون فنجّى عباده و أخذ الكافرين بأليم العذاب. ثمّ تعرّض في هذه الآيات لما يعتقدونه في آلهتهم و هم الملائكة و الجنّ و أنّ الملائكة بنات الله و بينه و بين الجنّة نسباً.

و الوثنيّة البرهميّة و البوذيّة و الصابئة ما كانوا يقولون باُنوثة جميع الملائكة و إن قالوا بها في بعضهم لكنّ المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيّين كجهينة و سليم و خزاعة و بني مليح القول باُنوثة الملائكة جميعاً، و أمّا الجنّ فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع.

و بالجملة يشير تعالى في الآيات إلى فساد قولهم ثمّ يبشّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و يهدّدهم بالعذاب، و يختم السورة بتنزيهه تعالى و التسليم على المرسلين و الحمد لله ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ ) حلّل سبحانه قولهم: إنّ الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم و هي أنّ الملائكة أولاده، و أنّهم بنات، و أنّه تعالى خصّ نفسه بالبنات و هم مخصوصون بالبنين ثمّ ردّ هذه اللوازم واحداً بعد واحد فردّ قولهم: إنّ له البنات و لهم البنين بقوله:( فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ ) و هو استفهام إنكاريّ لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنّهم يفضّلون البنين على البنات و يتنزّهون منهنّ و يئدونهنّ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين، ثمّ كانت عند أبي) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة من رسول الله ومن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال: أو ذاك) (2) .

ويُستفاد من مجموع الأحاديث أنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد عمل على تدوين كتاب يضمّ مسائل الحلال والحرام ليكون ميراثاً للمسلمين، وأنّه أودعه لدى أوصيائه من بعده؛ لأنّهم ورثة علمه ومراجع المسلمين في قابل الأيّام، وأنّه قام بتربية علي وإعداده لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة؛ امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، ومن هنا فإنّ هذه الكتب هي ميراث الأئمّة الأطهار عن جدّهم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فكلّ ما يحدّثون به هو في الواقع لا يمثّل آراءهم الخاصّة، بل هو من العلم الذي ورثوه عن صاحب الرسالة صلوات الله عليه.

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجل) (3) .

____________________

(1) المصدر السابق: 141.

(2) إثبات الهداة: ج1 ص248.

(3) أصول الكافي: ج1 ص53.

٢٠١

القرآن المصدر الثاني

اقترن ذِكْر أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم، فلا غرو أنْ نرى القرآن في حجورهم يدورون معه حيث دار، فهو نبعهم الصافي ينهلون منه أخلاقهم وعلومهم.

وقد حبا الله الأئمّة بالأُذُن الواعية، فسمعوه ووعَوه، وغاصوا في لُجَجِ بَحْرِهِ، واستخرجوا لآلئ علمه ومكنونات سِرِّه.

- عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما من أمر يَختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجل، ولكن لا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرجال) (1) .

- وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إذا حدّثْتُكم بشيء فسلوني من كتاب الله.

ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟

قال: إنّ الله عزّ وجل يقول: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (2) .

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص60.

(2) المصدر السابق.

٢٠٢

- وعن سماعة قال عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: قلت له: أَكُلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ أَوَ تقولون فيه؟ قال: (بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه) (1) .

- وعن علي أمير المؤمنين قال: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولنْ ينطق لكم، أُخْبِرُكُم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحُكْم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتُمُوني عنه لعلّمْتُكم) (2) .

- وعن سلمة بن محرز قال: سمعتُ الباقر (عليه السلام) يقول: (إنّ مِن عِلْم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان وحدثانه، إذا أراد الله بقوم خيراً أسمعهم، ولو أسمع مَن لم يسمع لولّى مُعْرِضَاً كأنْ لم يسمع، ثمّ أمسك هُنَيْئَة ثم قال: ولو وجدنا أوعية لقلنا والله المستعان) (3) .

- وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إنّي لأَعْلَمُ كتاب الله من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزّ وجل: فيه تبيان كلّ شيء) (4) .

- وعن بريد بن معاوية قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ قال: (إيّانا عنى، وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلَّى الله عليه وآله) (5) .

____________________

(1) المصدر السابق: ص62.

(2) المصدر السابق: ص61.

(3) أصول الكافي: ج1 ص229.

(4) المصدر السابق: ص229 / ينابيع المودّة: ص26.

(5) أصول الكافي: ج1 ص229 / ينابيع المودّة: ص119.

٢٠٣

- وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه) (1) .

- وعن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (ما ادّعى أحدٌ مِن الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من بعده) (2) .

وفي النتيجة:

فإنّ الأخبار والروايات التي ذكرنا أمثلة منها تشير إلى أنّ الأئمّة الطاهرين كانوا ينهلون علومهم من القرآن الكريم (3) ؛ لأنّه نزل ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) . وهم أعلم الناس بعلوم القرآن:

- ناسخه ومنسوخه.

- محكمه ومتشابهه.

- الخاص منه والعام المطلق والمقيّد، ومن أجل هذا تواتر الحديث عن سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمعروف بحديث الثقلين: (إنّي تارك فيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقَا).

لقد كان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يرمي من وراء ذلك إلى جعل الأئمّة مِن بعده مراجع للمسلمين؛ لأنّهم الامتداد الطبيعي له، وقد اصطفاهم الله لذلك وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وأخيراً نؤكّد مرّة أُخرى - ومن خلال ما ورد من النصوص النبويّة الشريفة - أنّ طاعة الأئمّة واجبةٌ على كلّ المسلمين، وهي تشمل حتّى أولئك الذين لا يعتقدون بإمامتهم؛ لأنّ أقوالهم حجّة على الجميع.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص61.

(2) المصدر السابق: ص228.

(3) وفي ضوء ذلك نفهم المعنى المنشود من الآية الكريمة حول القرآن الكريم ( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، خاصّةً إذا أَخَذْنا بنظر الاعتبار المعنى الحقيقي لكلمة (المسّ). المترجم.

٢٠٤

عالم الغيب المصدر الثالث

ولا تنحصر علوم الأئمّة بالمصدرَين السابقين فهناك مصدر ثالث يتمثّل بالارتباط بعالم الغيب، فالإلهام والفيض الإلهي لطف من الله سبحانه خصّ به عباده المطهّرين، فالعلم جذوة تتوقّد في أعماق الإمام، تنير له رؤيته وتطلّعه على حقائق العالم، وفي هذا جاءتْ الروايات.

* ومنها:

- عن الإمام موسى بن جعفر قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمفسّر، وأمّا الغابر فمزبور (مكتوب) وأمّا الحادث فقذْف في القلوب ونقْر في الأسماع) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة مِن رسول الله ومِن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم؟ قال: أو ذاك) (2) .

- وعن المفضل بن عمر قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ علمنا غابر، ومزبور، ونكْت في القلوب، ونقْر في الأسماع، فقال: أمّا الغابر فما تقدّم مِن عِلْمِنَا، وأمّا المزبور فما يأتينا،

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص264.

(2) المصدر السابق.

٢٠٥

وأمّا النكْت في القلوب فإلهام، وأمّا النقْر في الأسماع فأمر الملك) (1) .

- عن صفوان بن يحيى قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (كان جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (2) .

- وعن ذريح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا ذريح لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (3) .

- عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لولا أنّا نزداد لأنفذنا.

قال: قلتُ: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول الله؟

قال: أمّا أنّه إذا كان ذلك عُرض على رسول الله ثمّ على الأئمّة، ثمّ انتهى الأمر إلينا) (4) .

- وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس يخرج شيء من عند الله حتّى يبدأ برسول الله، ثمّ بأمير المؤمنين، ثمّ بواحد بعد واحد؛ لكيلا يكون آخرنا أعلم مِن أوّلنا) (5) .

- وعن أبي يحيى الصنعائي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: (يا أبا يحيى، إنّ لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن.

قال: قلتُ: جُعلتُ فداك وما ذاك الشأن؟

قال: يُؤذَنْ لأرواح الأنبياء الموتى، وأرواح الأوصياء الموتى، وروح الوصيّ الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتّى توافي عرش ربّها، فتطوف به أُسبوعاً وتصلّي عند كلّ قائمة من قوائم العرش ركعتَين، ثمّ تُرَدُّ إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سروراً، ويُصبح الوصي

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) المصدر السابق.

(4) أصول الكافي: ج1 ص255.

(5) المصدر السابق.

٢٠٦

الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جَمّ القفير) (1) .

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ذات يوم وكان لا يُكنِّيني قبل ذلك: (يا أبا عبد الله .

قال: قلتُ لبَّيك.

قال: إنّ لنا في كلّ ليلة جمعة سروراً .

قلتُ: زادك الله وما ذاك؟

قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلَّى الله عليه وآله العرش، ووافى الأئمّة معه ووافينا معهم، فلا تُرَدُّ أرواحنا إلى أبداننا إلاّ بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا) (2) .

- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث له قال: (وإنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجل لأمور عباده شرح صدرَه لذلك، وأودع قلبَه ينابيعَ الحكمة، وأَلْهَمَهُ العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد، موفَّق مُسَدَّد، قد أَمِنَ من الخطايا والزَلَل والعثار، يخصّه الله بذلك؛ ليكون حجّته على عباده وشاهده على خَلْقه، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (3) .

وأحاديث أُخرى:

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله: (إنّ سليمان وَرِثَ داود، وإنّ محمّداً وَرِثَ سليمان، وإنّا وَرِثْنَا محمّداً، وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور، وتبيان ما في الألواح.

قال: قلتُ: إنّ هذا لهو العلم؟

قال: ليس هذا هو العلم، إنّ العلم الذي يحدث يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة) (4) .

- عن ضريس الكناسي قال: كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو

____________________

(1) المصدر السابق: ص253.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) أصول الكافي: ج1 ص202.

(4) المصدر السابق: ص224.

٢٠٧

بصير، فقال أبو عبد الله: (إنّ داود وَرِثَ علم الأنبياء، وإنّ سليمان ورث داود وإنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً(صلَّى الله عليه وآله) وإنّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إنّ هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمّد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة) (1) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكر المحدّث عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى الشخص.

فقلتُ له: جُعلتُ فداك كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطي السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه كلام الملك) (2) .

- وعن حمران بن أعين عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر: (إنّ عليّاً عليه السلام كان محدَّثاً.

فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتُكم بعجيبة.

فقالوا: وما هي؟

فقلتُ: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان عليٌّ محدَّثاً.

فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سَأَلْتَهُ مَن كان يُحَدِّثُهُ؟

فرجعتُ إليه فقلتُ: إنّي حدّثتُ أصحابي بما حدّثْتَنِي، فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سألتَهُ مَنْ كان يُحَدِّثُهُ؟

فقال لي: يُحدِّثه مَلَك.

قلتُ: تقول: إنّه نبي؟

قال: فَحَرَّكَ يَدَهُ - هكذا (أي نافياً) - أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كَذِي القرنين، أَوَ مَا بَلَغَكُم أنّه قال: وَفِْيُكم مِثْلُه) (3) .

- وكتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (عليه السلام) قال: جعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟

قال: فكتب أو قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام: إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع

____________________

(1) المصدر السابق: ص225.

(2) المصدر السابق: ص271.

(3) المصدر السابق.

٢٠٨

كلامه، وتنَزَّل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبي: ربّما سمع الكلام، وربّما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام: هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص) (1) .

- وعن الأحول قال: سألتُ أبا جعفر(عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدّث قال: (الرسول: الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلّمه فهذا الرسول، وأمّا النبي: فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان من عند الله بالرسالة، وكان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حين جمع له النبوّة وجاءتْهُ الرسالة من عند الله يجيئه بها جبريل ويكلّمه بها قبلاً، ومن الأنبياء مَن جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أنْ يكون يرى في اليقظة، وأمّا المحدَّث فهو الذي يُحدَّث، ولا يُعايِن ولا يرى في منامه) (2) .

- وعن جماعة بن سعد قال: كان المفضّل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له المفضّل: جُعلتُ فداك، يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟

قال: (لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده مِن أنْ يفرض طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً) (3) .

وأحاديث أُخرى أيضاً:

- عن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لا والله لا يكون عالم جاهلاً أبداً، عالماً بشيء جاهلاً بشيء.

ثمّ قال: الله أجلّ وأعزّ وأكرم مِن أَنْ يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه.

ثمّ قال: لا يُحجب

____________________

(1) أصول الكافي: ج1، ص176.

(2) المصدر السابق.

(3) أصول الكافي: ج1 ص261.

٢٠٩

ذلك عنه) (1) .

- وفي خطبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) جاء فيها: ولقد كان (سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلّم) يجاور في كلّ سنة بحراء، فأَرَاهُ ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلَّى الله عليه وآله وخديجة وأَنَا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ رِيْح النبوّة، ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقلتُ يا رسول الله ما هذه الرنّة؟

فقال: (هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تَسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بِنَبِي ولكنّك لَوَزِيْرٌ، وإنّك لعلى خير) (2) .

- عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّا نُزَادُ في الليل والنهار ولولا أنّا نُزَادُ لنفد ما عندنا.

فقال أبو بصير: جُعلتُ فداك مَن يأتيكم؟

قال: إنّ منّا لَمَنْ يُعَايِن معاينة، ومنّا مَن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا مَن يَسمع بإذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست.

قال: قلتُ: جَعلني الله فداك مَن يأتيكم؟

قال: هو خلق أكبر من جبرائيل وميكائيل) (3) .

- عن الباقر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) يعمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السُنّة أَلْهَمَهُ الله الحقّ فيه إلهاماً، وذلك والله من المعضلات) (4) .

- وعن عيسى بن حمزة الثقفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا

____________________

(1) المصدر السابق: ص262.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 187.

(3) بحار الأنوار: ج26 ص54.

(4) المصدر السابق: ص55.

٢١٠

نسألك أحياناً تتسرّع في الجواب وأحياناً تطرق ثمّ تجيبنا؟

قال: (نعم، إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا، فإذا نكت نطقنا، وإذا أمسك أمسكنا) (1) .

- عن الحسن بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ له: أخبرني عن الإمام إذا سُئل كيف يُجيب؟

فقال: (إلهام وسماع وربّما كان جميعاً) (2) .

- وعن الحارث بن المغيرة قال: قلتُ لأبي عبد الله: هذا العلم الذي يعلمه عالِمكم أَشَيء يُلقَى في قلبه أو ينكت في أُذُنِهِ؟

فسكت حتّى غفل القوم، ثمّ قال: (ذاك وذاك) (3) .

- عن سليمان الديلمي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا).

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بكماله، وما يزاد الامام في حلال ولا حرام) (4) .

وهذا غيض من فيض الروايات والأحاديث التي تُشير إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت - وبما حَبَاهُم الله من الطهر، وجبلهم عليه من عصمة - كانوا محلاًّ لفيوضات الغيب، يستلهمون الحقائق وتتدفّق في قلوبهم ينابيع الحكمة والكمال والحقيقة.

____________________

(1) المصدر السابق: ص57.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص58.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص92.

٢١١

الفرق بين الإمام والنبي

* إشكال:

قد يُثار إشكال مفاده: أنّه لا فرق إذن بين الإمام والنبي مادام كلاهما على ارتباط بعالم الغيب، وإذا كان هناك مِن فرق فما هو؟

وما هو موقفنا إزاء الروايات التي تؤكِّد انقطاع الوحي بوفاة سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله)؟

فعن علي (عليه السلام) قال: (أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقضى به الرسل وختم به الوحي) (1) .

وقال في مناسبة أُخرى: (بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء) (2) .

* الجواب:

هناك من الروايات ما يؤكِّد ظاهرة الإلهام، وأنّه من أشكال الارتباط بالغيب، خصّ الله الأئمّة المعصومين المطهّرين، وهي تؤكّد أيضاً الفوارق بين الإمام والنبي.

____________________

(1) نهج البلاغة: ج2 ص22.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 230.

٢١٢

الفارق الأوّل:

إنّ الروايات والأخبار تؤكّد على أنّ الإمام ليس مشرِّعاً، ومعنى هذا أنّه أخذ الشريعة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلقد أولى سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً اهتماماً خاصّاً، وراح يعدّه خَلَفَاً من بعده، فعلّمه التنزيل والتأويل وفتح له آفاق المعرفة وفجّر له ينابيع العلم والحكمة.

وإذن، فقد أخذ عليٌّ علومَه عن رسول الله، ثمّ أورثها الأئمّة من بعده، فالأئمّة تابعون لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ ما جاء به من الحلال والحرام؛ ولذا كانوا يقولون: إنّا خزّان علم الرسالة وورثة علوم الوحي، ولقد كان رسول الله يُمْلِي وكان علي يخطّ بيده؛ ليكون ذلك ميراثاً للأئمّة عن صاحب الرسالة (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولذا كانوا أعلم الناس بـ:

- الناسخ والمنسوخ.

- والمحكم والمتشابه.

- والتأويل والتنزيل من آي الذكر الحكيم.

وكانوا يؤكّدون أنّ أحاديثهم إنّما هي أحاديث الآباء والأجداد عن علي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

الفارق الثاني:

بالرغم من أنّ الأحاديث تؤكّد حالة الوحي والإلهام للأئمّة (عليهم السلام)، ولكنّ هذه الحالة تختلف تماماً مع وحي الأنبياء:

فالنبي: مرتبط بالغيب بشكلٍ مباشر وهو يُشاهد الملك ويسمع صوته.

أمّا الإمام: فلا يرى الملك ولكن ما يحدث هو قذف في القلب، وإلقاء في النفس، أو وقع في الأُذُن.

وبتعبير الأئمّة نقر في الأذن ، وبهذه الوسيلة كانوا يطّلعون على عالم الحقائق، ومن هنا فوحي الأئمّة يشبه الوحي لـ (أُم موسى) و (ذي القرنين) وجليس سليمان (عليه السلام).

الفارق الثالث:

إنّ الأنبياء - وكما قلنا - على ارتباط مباشر بعالم الغيب ولم

٢١٣

يكونوا يحتاجون في ذلك إلى أحد، غير أنّ الأئمّة يستندون إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فَعَنْهُ أخذوا علوم الرسالة وأسرار الوحي والنبوّة، وهو الذي فجّر لهم ينابيع العلم والحكمة والمعرفة، فكل ما يفيض عن الإمام هو من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل وكلّ ما يُلقى في روعه ويقذف في قلبه وفؤاده يُعرض على النبي أوّلاً ثمّ الإمام.

شواهد:

وهذا ما تؤكّده الأحاديث المرويّة، وهذه أمثلة:

- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأمّا النبوّة فلا) (1) .

- وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ عليّاً كان محدَّثاً . فقلتُ [الرواي]: فتقول إنّه نبي؟ قال: فحرّك بيده هكذا (نافياً) ثمّ قال: أو كصاحب موسى أو كذي القرنين. أَوَمَا بَلَغَكُم أنّه قال وفيكم مِثْلُه؟) (2) .

- وعن بريد بن معاوية عن أبي جعفر أو أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قلتُ له: ما منزلتكم ومَن تشبهون مِمَّن مضى؟

قال: (صاحب موسى وذو القرنين. كانا عالمين ولم يكونا نبيّين) (3) .

- عن محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الأئمّة بمنزلة رسول الله إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء، ولا يحلّ لهم مِن النساء ما يحلّ للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأمّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله صلَّى الله

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص268.

(2) المصدر السابق: 269.

(3) المصدر السابق.

٢١٤

عليه وآله) (1) .

- عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جُعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نُزاد لأنفدنا.

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد - والله - أنزله الله على نبيّه بكماله، وما يُزاد الإمام في الحلال والحرام) (2) .

- عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

قال: (هي في علي، والأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئاً ولا يحرّمونه) (3) .

- عن سدير الصيرفي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون علينا قرآناً: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبَرِئَ الله منهم، ما هو على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل يقرؤون علينا بذلك قرآناً: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وَبَرِئَ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: فما أنتم؟

قال: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على مَنْ دون

____________________

(1) المصدر السابق: ص270.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) إثبات الهداة: ج3 ص48.

٢١٥

السماء وفوق الأرض) (1) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس شيء يخرج من الله حتّى يبدأ برسول الله صلَّى الله عليه وآله، ثمّ بأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ واحداً بعد واحد؛ لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا) (2) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى.

فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك) (3) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (علّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب) (4) .

ومن خلال هذه الأحاديث ينبغي أنْ نفهم أنّ كيفية التعليم تختلف في طريقتها عمّا هو متعارف بين الناس في أخذ العلوم واكتساب المعرفة، وإلاّ كيف يمكن أنْ نتصوّر أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - وخلال زمن ربّما لم يستغرق ساعة - قد علّم عليّاً ألفَ باب من العلم، ينفتح عن كلّ بابٍ ألفُ باب؟

وإذن، فهناك طرق أخرى ربّما كانت تكوينيّة وهداية باطنيّة، ولعلّها طاقة النبوّة وفيض من الوحي انعكس عن قلب الرسول فأضاء قلب علي خليفته ووصيّه.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص269.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) المصدر السابق: ص68.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص28.

٢١٦

عالم الغيب

عالم الشهادة:

* الغيب:

هو عكس الشهود، وعالم ما وراء الحواس الخمس، فكلّ ما تدركه الحواس يُعَدّ شهوداً، فالمادّة وخواصّها وكلّ ما هو قابل للإدراك من الموادّ ذاتها أو خواصّها وصفاتها تنطوي تحت عالم الشهادة، وهي:

- إمّا مرئيّة تُدرَك بالأبصار.

- أو سمعيّة تُدرَك من خلال الأسماع.

- أو رائحة تُدرَك بحاسّة الشمّ.

- أو لها طعم تُدرَك من خلال حاسّة الذوق.

- أو لَمِْسيّة تُدرَك باللمس، حتّى الطاقة الكهربائيّة والذرّة والجراثيم وغيرها هي الأُخرى تُعَدّ من عالم الشهادة، حتّى وإنْ تعذّرتْ الحواس من الإحاطة بها؛ لأنّها قابلة للرؤية وإنْ تعذّرتْ بسبب صغرها المتناهي، فلو أمكننا صُنْع أجهزة تكبير فائقة لأمكن رؤيتها، وإذن فهي قابلة للرؤية.

ومن هنا فإنّ بعض الموادّ وإنْ تعذّرتْ رؤيتها أو الإحاطة بها من خلال إحدى الحواس، إلاّ أنّها لا تُعَدّ جزءاً من عالم الغيب؛ لأنّ الإنسان مركّب بطريقة محدودة، أي إنّ لحواسّه قابليّات محدودة، ومن المحتمل جدّاً وجود حيوانات تفوق الإنسان في قابليّتها للسمع والرؤية والشمّ.

كما أنّ إدراك آثار تلك الأشياء وصفاتها يجعلها بالتالي ضمن عالم الشهود.

٢١٧

عالم الغيب:

وتنطوي فيه كلّ ما لا تدركه الحواس بذاته أو صفاته من قبيل يوم المعاد والقيامة، الجنّة، الجحيم، الثواب، والجزاء في الآخرة، صفات الله، والملائكة، فكلّ هذه الأشياء وغيرها ممّا لا تُدركه الحواس هو جزء من الغيب.

إنّنا لا يمكننا رؤية الملائكة؛ لأنّها خارجة عن حواسنا، لا لأنّها صغيرة متناهية الصغر، ولا لأنّها شفّافة بَالِغَة الشفافية، بل لأنّها موجودات أسمى من الحواس، وهي خارج إدراكاتنا المحدودة؛ لأنّنا موجودات زمانيّة وهي موجودات خارج الزمان، وإذن، فكلّ الموجودات التي لا يمكن للحواس البشريّة إدراكها هي جزء من عالم الغيب، ولا طريق لإدراكها إلاّ بالعقل وإرشاد من اطّلع على عالم الغيب ومن خلال الإيمان والعقيدة الدينيّة، وما نحصل عليه من معارف وعلوم هو ليس علم حضوري ولا شهودي، وهو من قبيل الإيمان بالجنّة والاعتقاد بالجحيم.

فنحن لا نملك عن عالم الغيب سوى سلسلة من المفاهيم والصور العلميّة التي لا يمكن تصوّرها والإحاطة بها، لا لقصور ذاتي فيها، بل لعجز حواسّنا عن إدراكها، وإذن يمكن القول إنّنا نحن الذين نعيش حالة الغياب عن حقائق العالم وحقيقته.

على أنّ إدراكنا للأجسام وخواصّها يأتي بسبب التناسب بينها وبين حواسنا، وبتعبير آخر بسبب توحّد سنخيَّتها.

فمثلاً:

إنّنا لا ندرك ظاهرة مادّية ما إلاّ في ذات الزمن الذي توجد فيه، فحادثة وقعتْ قبل ألفَي سنة أو بعد ألفَي سنة لا يمكن لحواسّنا إدراكها، كما إنّنا لا ندرك بصريّاً الأشياء التي تقع خارج مدياتالرؤية.

٢١٨

وقد نرى أشياء بعيدة جدّاً باستخدام النواظير المقرِّبة: وهي آلات تعزّز من قدرة الرؤية لدينا؛ أو إنّنا لا نُدرِك وجود الأشياء مع قربها؛ لوجود حواجز بيننا وبينها، وقد يمكننا اختراع آلات معيَّنة من شأنها رفع هذا الحاجز وتجعله عديم التأثير.

والخلاصة: فإنّ مديات الحواس وطبيعة إدراكاتها هي الأُخرى محدودة ومشروطة وخاضعة لدائرة معيَّنة، لا يمكنها أنْ تتجاوزها إلى نطاق مطلق أو بلا قيد أو شرط.

الغيب والشهود:

إنّ الحوادث التي تعدّ غيباً بالنسبة لحواسّنا، هي بالنسبة لخالق العالَم شهادة وحضور؛ ذلك أنّ وجوده لا تحدّه حدود بل هو محيط بما خَلَقَ، خارج عن إطار الزمان؛ لأنّه خالق الزمان والمكان، ولا معنى عنده للماضي والحاضر والمستقبل.

وإذن، فالطوفان الذي أغرق العالم زمن نوح هو بالنسبة لدينا من عالم الغيب، ولكنّه بالنسبة لله حضور وشهود، والحوادث التي ستقع بعد مئة ألف سنة هي غيب بالنسبة لنا وحضور بالنسبة لله، وكذا الجنّة والجحيم.

والخلاصة: فإنّ العلوم التي نكتسبها من خلال الحواس الخمس لا تُعدّ جزءاً من العلم بالغيب، أمّا المعارف التي نحصل عليها خارج إطار الحواس فهي من عالم الغيب.

وبتعبير آخر: إنّ البراهين العقليّة أثبتتْ في محلّها أنّ كل الحوادث والظواهر

٢١٩

في عالم المادّة لا تُفْنَى، وأنّها تحقّق بشكل أكمل في عالم آخر، عالم غير مرئي، عالم هو أسمى من العالم الذي نحيا فيه، وإذنْ، فالإنسان الذي يستخدم حواسّه حتّى يمكنه إدراك ظواهر الأشياء ويجد طريقه إلى عالم الواقع، فإنّ هذا العِلْم لا يُعدّ عِلْمَاً للغيب، أمّا إذا أعمل بصيرته وشاهد الملكوت وحقائق الأشياء، وطوى طريق الباطن ومرحلة الكمال ولم يكن لحواسّه في ذلك من دور، فإنّ عِلْمَاً كهذا هو علم للغيب.

الغيب والشهادة في القرآن:

* استخدم القرآن مصطلح الغيب في مقابل الشهادة كما في قوله تعالى:

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (1) .

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (2) .

- ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

- ( عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) (4) .

* كما أشار إلى مرتبتَين وجوديَّتَين، حيث مرحلة الباطن هي الغيب، وهو من مختصّات الله سبحانه:

- ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (5) .

- ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (6) .

____________________

(1) الأنعام: الآية 73.

(2) الرعد: الآية 9.

(3) الجمعة: الآية 8.

(4) الزمر: الآية 46.

(5) هود: الآية 123.

(6) الحجرات: الآية 18.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419