الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167854 / تحميل: 5999
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

و فيه، قال: القلب السليم من الشكّ.

و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال قال أبوجعفرعليه‌السلام : عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إنّي سقيم. قال أبو جعفرعليه‌السلام : و الله ما كان سقيماً و ما كذب.

أقول: و في معناه روايات اُخر و في بعضها: ما كان إبراهيم سقيماً و ما كذب إنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً.

و قد تقدّم الروايات في قصّة حجاج إبراهيمعليه‌السلام قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء.

و في التوحيد، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث: و قد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن ربّ شي‏ء من كتاب الله عزّوجلّ تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبّئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله.

من ذلك قول إبراهيمعليه‌السلام :( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة و اجتهاداً و قربة إلى الله عزّوجلّ أ لا ترى أنّ تأويله غير تنزيله؟.

و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: يا فتح إنّ لله إرادتين و مشيّتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو لا يشاء أ و ما رأيت أنّه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيّة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيلعليهما‌السلام و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيّة إبراهيم مشيّة الله عزّوجلّ. قلت: فرّجت عنّي فرّج الله عنك.

و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدّثنا عليّ بن موسى قال: حدّثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال: الذبيح إسماعيلعليه‌السلام :

أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و بهذا المضمون روايات كثيرة اُخرى عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و قد وقع في بعض رواياتهم أنّه إسحاق

١٤١

و هو مطروح لمخالفة الكتاب.

و عن الفقيه: سئل الصادقعليه‌السلام عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأنّ الله تعالى ذكر قصّته في كتابه ثمّ قال:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

أقول: هذا ما تقدّم في بيان الآية أنّ الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.

و في المجمع، عن ابن إسحاق: أنّ إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكّة و يروح من مكّة فيبيت عند أهله بالشام حتّى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن(١) يذبحه فقال له: يا بنيّ خذ الحبل و المدية(٢) ثمّ انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب.

فلمّا خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتّى لا أضطرب و اكفف عنّي ثيابك حتّى لا ينتضح من دمي شيئاً فتراه اُمّي و اشحذ شفرتك و أسرع مرّ السكّين على حلقي ليكون أهون عليّ فإنّ الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله.

ثمّ ساق القصّة و فيها ثمّ انحنى إليه بالمدية و قلّب جبرئيل المدية على قفاها و اجترّ الكبش من قبل ثبير و اجترّ الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا.

أقول: و الروايات في القصّة كثيرة و لا تخلو من اختلاف.

و فيه،: روى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاقعليهم‌السلام ؟ قال: كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) يعني إسماعيل و هي أوّل بشارة بشّر الله به إبراهيمعليه‌السلام في الولد.

____________________

(١) أنّه ظ

(٢) المدية: السكين.

١٤٢

( سورة الصافّات الآيات ١١٤ - ١٣٢)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ١١٤ ) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( ١١٥ ) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ( ١١٦ ) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( ١١٧ ) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( ١١٨ ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ( ١١٩ ) سَلَامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ( ١٢٠ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٢١ ) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( ١٢٢ ) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٢٣ ) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ( ١٢٤ ) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ( ١٢٥ ) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( ١٢٦ ) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ١٢٧ ) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٢٨ ) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ( ١٢٩ ) سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ( ١٣٠ ) إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٣١ ) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( ١٣٢ )

( بيان)

ملخّص قصّة موسى و هارون و إشارة إلى قصّة إلياسعليهم‌السلام . و بيان ما أنعم الله عليهم و عذّب مكذّبيهم و جانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب و التبشير يزيد على الإنذار.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى‏ مُوسى‏ وَ هارُونَ ) المنّ الإنعام و من المحتمل أن يكون المراد به ما سيعدّه ممّا أنعم عليهما و على قومهما من التنجية و النصر و إيتاء

١٤٣

الكتاب و الهداية و غيرها فيكون قوله:( وَ نَجَّيْناهُما ) إلخ من عطف التفسير.

قوله تعالى: ( وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) و هو الغمّ الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب و يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم.

قوله تعالى: ( وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ) و هو الّذي أدّى إلى خروجهم من مصر و جوازهم البحر و هلاك فرعون و جنوده.

و بذلك يندفع ما توهّم أنّ مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقّفها عليه، و ذلك أنّ النصر إنّما يكون فيما إذا كان للمنصور قوّة ما لكنّها لا تكفي لدفع الشرّ فتتمّ بالنصر و كان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوّة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنّهم كانوا اُسراء مستعبدين لا قوّة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلّا ذكر التنجية دون النصر.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ) أي يستبين المجهولات الخفيّة فيبيّنها و هي الّتي يحتاج إليها الناس في دنياهم و آخرتهم.

قوله تعالى: ( وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، و لذا خصّها بهما و لم يشرك فيها معهما قومهما، و لقد تقدّم كلام في معنى الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة.

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ - إلى قوله -الْمُؤْمِنِينَ ) تقدّم تفسيرها.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) قيل: إنّهعليه‌السلام من آل هارون كان مبعوثاً إلى بعلبكّ(١) و لم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ - إلى قوله -الْأَوَّلِينَ ) شطر من دعوتهعليه‌السلام يدعو قومه فيها إلى التوحيد و يوبّخهم على عبادة بعل - صنم كان لهم - و ترك عبادة الله سبحانه.

و كلامهعليه‌السلام على ما فيه من التوبيخ و اللّوم يتضمّن حجّة تامّة على توحيده

____________________

(١) و لعلّهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبكّ سمّي به لأنّ بعلا كان منصوباً في معبد فيه.

١٤٤

تعالى فإنّ قوله:( وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) يوبّخهم أوّلاً على ترك عبادة أحسن الخالقين، و الخلق و الإيجاد كما يتعلّق بذوات الأشياء يتعلّق بالنظام الجاري فيها الّذي يسمّى تدبيراً فكما أنّ الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضاً إليه فهو المدبّر كما أنّه الخالق، و أشار إلى ذلك بقوله:( اللهَ رَبَّكُمْ ) بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين.

ثمّ أشار إلى أنّ ربوبيّته تعالى لا تختصّ بقوم دون قوم كالأصنام الّتي يتّخذ كلّ قوم بعضاً منها دون بعض فيكون صنم ربّاً لقوم دون آخرين بل هو تعالى ربّ لهم و لآبائهم الأوّلين لا يختصّ ببعض دون بعض لعموم خلقه و تدبيره، و إليه أشار بقوله:( اللهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أي مبعوثون ليحضروا العذاب، و قد تقدّم أنّ الإحضار إذا اُطلق أفاد معنى الشرّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) دليل على أنّه كان في قومه جمع منهم.

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - إلى قوله - الْمُؤْمِنِينَ) تقدّم الكلام في نظائرها.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ تَدْعُونَ بَعْلًا ) قال كان لهم صنم يسمّونه بعلا.

و في المعاني، بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن عليّ‏عليهم‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( سلام على آل يس ) قال: يس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نحن آل يس.

أقول: و عن العيون، عن الرضاعليه‌السلام مثله‏، و هو مبنيّ على قراءة آل يس كما قرأه نافع و ابن عامر و يعقوب و زيد.

١٤٥

( كلام في قصّة إلياسعليه‌السلام )

١- قصّته في القرآن: لم يذكر اسمهعليه‌السلام في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع و في سورة الأنعام عند ذكر هداية الأنبياء حيث قال:( وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنعام: ٨٥.

و لم يذكر تعالى من قصّته في هذه السورة إلّا أنّه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوماً كانوا يعبدون بعلا فآمن به و أخلص الإيمان قوم منهم و كذّبه آخرون و هم جلّ القوم و إنّهم لمحضرون.

و قد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الأنعام بما أثنى به على الأنبياء عامّة و أثنى عليه في هذه السورة بأنّه من عباده المؤمنين المحسنين و حيّاة بالسلام بناء على القراءة المشهورة( سَلامٌ عَلى‏ إِلْ‏ياسِينَ ) .

٢- الأحاديث فيه: ورد فيهعليه‌السلام أخبار مختلفة متهافتة كغالب الأخبار الواردة في قصص الأنبياء، الحاكية للعجائب كالّذي‏ روي عن ابن مسعود: أنّ إلياس هو إدريس‏ و ما عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الخضر هو إلياس‏، و ما عن وهب و كعب الأحبار و غيرهما: أنّ إلياس حيّ لا يموت إلى النفخة الاُولى، و ما عن وهب: أنّ إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابّة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش و النور و قطع عنه لذّة المطعم و المشرب فصار في الملائكة، و ما عن كعب الأحبار: أنّ إلياس صاحب الجبال و البرّ و أنّه الّذي سمّاه الله بذي النون، و ما عن الحسن: أنّ إلياس موكّل بالفيافي و الخضر موكّل بالجبال، و ما عن أنس: أنّ إلياس لاقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أسفاره فقعداً يتحدّثان ثمّ نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا و أطعماني ثمّ ودّعه و ودّعني ثمّ رأيته مرّ على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك(١) .

____________________

(١) رواه في الدرّ المنثور في تفسير آيات القصّة.

١٤٦

و في بعض أخبار الشيعة أنّهعليه‌السلام حيّ مخلّد(١) لكنّها ضعاف و ظاهر آيات القصّة لا يساعد عليه.

و في البحار، في قصّة إلياسعليه‌السلام عن قصص الأنبياء، بالإسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبّه، و رواه الثعلبيّ في العرائس، عن ابن إسحاق و علماء الأخبار أبسط منه - و الحديث طويل جدّاً، و ملخّصه - أنّه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل و تقسّمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبكّ و كان لهم ملك منهم يعبد صنماً اسمه بعل و يحمل الناس على عبادته.

و كانت له مرأة فاجرة قد تزوّجت قبله بسبعة من الملوك و ولدت تسعين ولداً سوى أبناء الأبناء، و كان الملك يستخلفها إذ غاب فتقضي بين الناس، و كان له كاتب مؤمن حكيم قد خلّص من يدها ثلاثمائة مؤمن تريد قتلهم، و كان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان و كان الملك يحترم جواره و يكرمه.

ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن و غصبت بستانه فلمّا رجع و علم به عاتبها فاعتذرت إليه و أرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوباً فأرسل إليهم إلياسعليه‌السلام يدعوهم إلى عبادة الله و أخبرهما بما آلى الله فاشتدّ غضبهم عليه و همّوا بتعذيبه و قتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الأرض و ثمار الشجر.

فأمرض الله ابناً للملك يحبّه حبّاً شديداً فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنّه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه و يقبضوا عليه فأرسل الله إليهم ناراً فأحرقتهم ثمّ أرسل إليه فئة اُخرى من ذوي البأس مع كاتبه‏ المؤمن فذهب معه إلياس صوناً له من غضب الملك لكنّ الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالماً.

ثمّ لمّا طال الأمر نزل إلياس من الجبل و استخفى عند اُمّ يونس بن متّى في بيتها و يونس طفل رضيع ثمّ خرج بعد ستّة أشهر إلى الجبل ثانياً و اتّفق أن مات بعده

____________________

(١) رواه في البحار عن قصص الأنبياء.

١٤٧

يونس ثمّ أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت اُمّه في طلبه فوجدته فتضرّعت إليه.

ثمّ إنّه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل و يمسك عنهم الأمطار فاُجيب و سلّط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاؤه فتابوا و أسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم و أحيا بلادهم.

فشكوا إليه هدم الجدران و عدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص و أن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن.

ثمّ لمّا كشف الله عنهم الضرّ نقضوا العهد و عادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأملّ ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرساً من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء و كساه الريش و النور فكان مع الملائكة.

ثمّ سلّط الله على الملك و امرأته عدوّاً فقصدهما و ظهر عليهما فقتلهما و ألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الّذي قتلاه و غصبوا بستانه.

و أنت بالتأمّل فيما تقصّه الرواية لا ترتاب في ضعفها.

١٤٨

( سورة الصافّات الآيات ١٣٣ - ١٤٨)

وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٣٣ ) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ( ١٣٤ ) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ( ١٣٥ ) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ( ١٣٦ ) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ( ١٣٧ ) وَبِاللَّيْلِ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ١٣٨ ) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ١٣٩ ) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( ١٤٠ ) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( ١٤١ ) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ( ١٤٢ ) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ( ١٤٣ ) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( ١٤٤ ) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ( ١٤٥ ) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ( ١٤٦ ) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( ١٤٧ ) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ( ١٤٨ )

( بيان)

خلاصة قصّة لوطعليه‌السلام ثمّ قصّة يونسعليه‌السلام و ابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذاً بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله و إشرافه عليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) و إنّما نجّاه و أهله من العذاب النازل على قومه و هو الخسف و أمطار حجارة من سجّيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه.

قوله تعالى: ( إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ) أي في الباقين في العذاب المهلكين به و هي امرأة لوط.

١٤٩

قوله تعالى: ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ‏ ) التدمير الإهلاك، و الآخرين قومه الّذين اُرسل إليهم.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏ ) فإنّهم على طريق الحجاز إلى الشام، و المراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة و هي اليوم مستورة بالماء على ما قيل.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏ ) أي السفينة المملوءة من الناس و الإباق هرب العبد من مولاه.

و المراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضاً عنهم و هوعليه‌السلام و إن لم يعص في خروجه ذلك ربّه و لا كان هناك نهي من ربّه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثّلاً لإباق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) الأنبياء: ٨٧.

قوله تعالى: ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ‏ ) المساهمة المقارعة و الإدحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، و قد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطرّوا إلى أن يلقوا واحداً منهم في البحر ليبتلعه و يخلّي السفينة فقارعوا فأصابت يونسعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ ) الالتقام الابتلاع، و مليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) عدّه من المسبّحين و هم الّذين تكرّر منهم التسبيح و تمكّن منهم حتّى صار وصفاً لهم يدلّ على دوام تلبّسه زماناً بالتسبيح. قيل: أي من المسبّحين قبل التقام الحوت إيّاه، و قيل: بل في بطن الحوت، و قيل: أي كان من المسبّحين قبل التقام الحوت و في بطنه.

و الّذي حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الأنبياء:( فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧ و لازم ذلك أن يكون من المسبّحين في بطن الحوت خاصّة أو فيه و فيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه.

١٥٠

على أنّ تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله:( سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) - على ما سيجي‏ء - تسبيح له تعالى عمّا كان يشعر به(١) فعله من ترك قومه و ذهابه على وجهه، و قوله:( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ) إلخ يدلّ على أنّ تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، و لازم ذلك أن يكون إنّما ابتلي بما ابتلي به لينزّهه تعالى فينجو بذلك من الغمّ الّذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية.

و بذلك يظهر أنّ العناية في الكلام إنّما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصّة فخير الأقوال الثلاثة أوسطها.

فالظاهر أنّ المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله:( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) و قد قدّم التهليل ليكون كالعلّة المبيّنة لتسبيحه كأنّه يقول: لا معبود بالحقّ يتوجّه إليه غيرك فأنت منزّه ممّا كان يشعر به فعلى أنّي آبق منك معرض عن عبوديّتك متوجّه إلى سواك إني كنت ظالماً لنفسي في فعلي فها أنا متوجّه إليك متبرّئ ممّا كان يشعر به فعلى من التوجّه عنك إلى غيرك.

فهذا معنى تسبيحه و لو لا ذلك منه لم ينج أبداً إذ كان سبب نجاته منحصراً في التسبيح و التنزيه بالمعنى الّذي ذكر.

و بذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الّذي يقبر فيه الإنسان و يلبث فيه حتّى يبعث فيخرج منه قال تعالى:( مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏ ) طه: ٥٥.

و لا دلالة في الآية على كونهعليه‌السلام على تقدير اللبث حيّاً في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميّتاً و بطنه قبره مع بقاء بدنه و بقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونهعليه‌السلام حيّاً على هذا التقدير أو ميّتاً و بطنه قبره، و أنّ المراد بيوم يبعثون النفخة الاُولى الّتي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث.

____________________

(١) و هو أنّ الله لا يقدّر عليه كما قال تعالى: ( فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) .

١٥١

قوله تعالى: ( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ ) النبذ طرح الشي‏ء و الرمي به، و العراء المكان الّذي لا سترة فيه يستظلّ بها من سقف أو خباء أو شجر.

و المعنى على ما يعطيه السياق أنّه صار من المسبّحين فأخرجناه من بطن الحوت و طرحناه خارج الماء في أرض لا ظلّ فيها يستظلّ به و هو سقيم.

قوله تعالى: ( وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) اليقطين من نوع القرع و يكون ورقه عريضاً مستديراً و قد أنبتها الله عليه ليستظلّ بورقها.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أو في مورد الترقّي و تفيد معنى بل، و المراد بهذه الجماعة أهل نينوى.

قوله تعالى: ( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) أي آمنوا به فلم نعذّبهم و لم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتّعناهم بالحياة و البقاء إلى أجلهم المقدّر لهم.

و الآية في إشعارها برفع العذاب عنهم و تمتيعهم تشير إلى قوله تعالى:( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) يونس: ٩٨.

و لا يخلو السياق من إشعار بل دلالة على أنّ المراد من إرساله في قوله:( وَ أَرْسَلْناهُ ) أمره بالذهاب ثانياً إلى القوم، و بإيمانهم في قوله:( فَآمَنُوا ) إلخ إيمانهم بتصديقه و اتّباعه بعد ما آمنوا و تابوا حين رأوا العذاب.

و من هنا يظهر ضعف ما استدلّ بعضهم بالآيتين أنّ إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت و أنّه اُمر أوّلاً بالذهاب إلى أهل نينوى و دعوتهم إلى الله و كانوا يعبدون الأصنام فاستعظم الأمر و خرج من بيته يسير في الأرض لعلّ الله يصرف عنه هذا التكليف و ركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثمّ لمّا نبذ بالعراء كلّف ثانياً فأجاب و أطاع و دعاهم فاستجابوا فدفع الله عذاباً كان يهدّدهم إن لم يؤمنوا.

و ذلك أنّ السياق كما سمعت يدلّ على كون إرساله بأمر ثان و أنّ إيمانهم كان إيماناً ثانياً بعد الإيمان و التوبة و أنّ تمتيعهم إلى حين كان مترتّباً على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لو لم يؤمنوا برسوله ثانياً كما

١٥٢

آمنوا به و تابوا إليه أوّلاً في غيبته فافهم ذلك.

على أنّ قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) الأنبياء: ٨٧ و قوله:( وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ ) ن: ٤٨ لا يلائم ما ذكروه، و كذا قوله:( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) يونس: ٩٨ إذ لا يطلق الكشف إلّا في عذاب واقع حالّ أو مشرف.

( كلام في قصّة يونسعليه‌السلام في فصول)

١- قصّته في القرآن: لم يتعرّض القرآن الكريم إلّا لطرف من قصّته و قصّة قومه فقد تعرّض في سورة الصافّات لإرساله ثمّ إباقه و ركوبه الفلك و التقام الحوت له ثمّ نجاته و إرساله إلى القوم و إيمانهم قال تعالى:( وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ. وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ‏ ) .

و في سورة الأنبياء: لتسبيحه في بطن الحوت و تنجيته قال تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى‏ فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) الأنبياء: ٨٧ - ٨٨.

و في سورة ن: لندائه مكظوماً و خروجه من بطنه و اجتبائه قال تعالى:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى‏ وَ هُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ن: ٥٠.

و في سورة يونس: لإيمان قومه و كشف العذاب عنهم قال تعالى:( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى‏ حِينٍ ) يونس: ٩٨.

١٥٣

و خلاصة ما يستفاد من الآيات بضمّ بعضها إلى بعض و اعتبار القرائن الحافّة بها أنّ يونسعليه‌السلام كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه و هم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلّا بالتكذيب و الردّ حتّى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثمّ خرج من بينهم.

فلمّا أشرف عليهم العذاب و شاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان و التوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا.

ثمّ إنّ يونسعليه‌السلام استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم - و كأنّه لم يعلم بإيمانهم و توبتهم - فلم يعد إليهم و ذهب لوجهه على ما به من الغضب و السخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربّه مغاضباً عليه ظانّاً أنّه لا يقدر عليه و ركب البحر في فلك مشحون.

فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدّاً من أن يلقوا إليه واحداً منهم يبتلعه و ينجو الفلك بذلك فساهموا و قارعوا فيما بينهم فأصابت يونسعليه‌السلام فألقوه في البحر فابتلعه الحوت و نجت السفينة.

ثمّ إنّ الله سبحانه حفظه حيّاً سويّاً في بطنه أيّاماً و ليالي و يونسعليه‌السلام يعلم أنّها بليّة ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل و هو ينادي في بطنه أَنْ( لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء: ٨٧.

فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء و هو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظلّ بأوراقها ثمّ لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبّوا دعوته و آمنوا به فمتعّهم الله إلى حين.

و الأخبار الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على كثرتها و بعض الأخبار من طرق أهل السنّة مشتركة المتون في قصّة يونسعليه‌السلام على النحو الّذي يستفاد من الآيات و إن اختلفت في بعض الخصوصيّات الخارجة عن ذلك(١) .

____________________

(١) و لذلك نوردها لأنّها في نفسها آحاد لا حجّيّة لها في مثل المقام و لا يمكن تصحيح خصوصيّاتها بالآيات و هو ظاهر لمن راجعها.

١٥٤

٢- قصّته عند أهل الكتاب: هوعليه‌السلام مذكور باسم يوناه بن إمتّاي في مواضع من العهد القديم و كذا في مواضع من العهد الجديد اُشير في بعضها إلى قصّة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصّته الكاملة في شي‏ء منهما.

و نقل الآلوسيّ في روح المعاني، في قصّته عند أهل الكتاب و يؤيّده ما في بعض كتبهم من إجمال(١) القصّة:

أنّ الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى(٢) و كانت إذ ذاك عظيمة جدّاً لا يقطع إلّا في نحو ثلاثة أيّام و كانوا قد عظم شرّهم و كثر فسادهم، فاستعظم الأمر و هرب إلى ترسيس(٣) فجاء يافا(٤) فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر و أعطى‏ الاُجرة و ركب السفينة فهاجت ريح عظيمة و كثرت الأمواج و أشرفت السفينة على الغرق.

ففزع الملّاحون و رموا في البحر بعض الأمتعة لتخفّ السفينة و عند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة و نام حتّى علا نفسه فتقدّم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائماً؟ قم و ادع إلهك لعلّه يخلّصنا ممّا نحن فيه و لا يهلكنا.

و قال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشرّ بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ما ذا عملت؟ و من أين جئت؟ و إلى أين تمضي؟ و من أيّ كورة أنت؟ و من أيّ شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الربّ إله السماء خالق البرّ و البحر و أخبرهم خبره فخافوا خوفاً عظيماً و قالوا له: لم صنعت ما صنعت؟ يلومونه على ذلك.

ثمّ قالوا له: ما نصنع الآن بك؟ ليسكن البحر عنّا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنّه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردّوه إلى البرّ

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة.

(٣) اسم مدينة.

(٤) مدينة في الأرض المقدّسة.

١٥٥

فلم يستطيعوا فأخذوا يونس و ألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر و أمر الله حوتاً عظيماً فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيّام و ثلاث ليال و صلّى في بطنه إلى ربّه و استغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثمّ قال له: قم و امض إلى نينوى و ناد في أهلها كما أمرتك من قبل.

فمضيعليه‌السلام و نادي و قال: يخسف نينوي بعد ثلاثة أيّام فآمنت رجال نينوى بالله و نادوا بالصيام و لبسوا المسوح جميعاً و وصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيّه و نزع حلّته و لبس مسحاً و جلس على الرماد و نودي أن لا يذق أحد من الناس و البهائم طعاماً و لا شراباً و جاروا إلى الله تعالى و رجعوا عن الشرّ و الظلم فرحمهم الله و لم ينزل بهم العذاب.

فحزن يونس و قال: إلهي من هذا هربت، فإنّي علمت أنّك الرحيم الرؤف الصبور التوّاب. يا ربّ خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدّاً؟ فقال: نعم يا ربّ.

و خرج يونس و جلس مقابل المدينة و صنع له هناك مظلّة و جلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة؟ فأمر الله يقطيناً فصعد على رأسه ليكون ظلّاً له من كربه ففرح باليقطين فرحاً عظيماً و أمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجفّ ثمّ هبّت ريح سموم و أشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الأمر عليه و استطاب الموت.

فقال الربّ: يا يونس أ حزنت جدّاً على اليقطين؟ فقال: نعم يا ربّ حزنت جدّاً فقال تعالى: حزنت عليه و أنت لم تتعب فيه و لم تربّه بل صار من ليلته و هلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة الّتي فيها أكثر من اثنا عشر ربوة من الناس؟ قوم لا يعلمون يمينهم و لا شمالهم و بهائمهم كثيرة انتهى. و جهات اختلاف القصّة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة و عدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم و توبتهم.

فإن قلت: نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الإباق إليه في سورة الصافّات و كذا مغاضبته و ظنّه أنّ الله لن يقدر عليه على ما في سورة الأنبياء.

١٥٦

قلت: بين النسبتين فرق فكتبهم المقدّسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتّى الكبائر الموبقة إلى الأنبياءعليهم‌السلام فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنّه ينزّه ساحتهم عن لوث المعاصي حتّى الصغائر فما ورد فيه ممّا يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة و لذا حملنا قوله:( إِذْ أَبَقَ‏ ) و قوله:( مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ) على حكاية الحال و إيهام فعله.

٣- ثناؤه تعالى عليه: أثنى الله سبحانه عليه بأنّه من المؤمنين (سورة الأنبياء ٨٨) و أنّه اجتباه و قد عرفت أنّ اجتباءه إخلاصه العبد لنفسه خاصّة، و أنّه جعله من الصالحين (سورة ن: ٥٠) و عدّه في سورة الأنعام فيمن عدّه من الأنبياء و ذكر أنّه فضّلهم على العالمين و أنّه هداهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام: ٨٧).

( بحث روائي)

في الفقيه، و قال الصادقعليه‌السلام : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله عزّوجلّ إلّا خرج سهم الحقّ، و قال: أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله. أ ليس الله عزّوجلّ يقول:( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) .

و في البحار، عن البصائر بإسناده عن حبّة العرنيّ قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّ الله عرض ولايتي على أهل السماوات و على أهل الأرض أقرّ بها من أقرّ و أنكرها من أنكر أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتّى أقرّ بها.

أقول: و في معناه روايات اُخر، و المراد الولاية الكلّيّة الإلهيّة الّتي هوعليه‌السلام أوّل من فتح بابها من هذه الاُمّة و هي قيامه تعالى مقام عبده في تدبير أمره فلا يتوجّه العبد إلّا إليه و لا يريد إلّا ما أراده و ذلك بسلوك طريق العبوديّة الّتي تنتهي بالعبد إلى أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره.

و كان ظاهر ما أتى به يونسعليه‌السلام ممّا لا يرتضيه الله تعالى فلم يكن قابلاً للانتساب

١٥٧

إلى إرادته فابتلاه الله بما ابتلاه ليعترف بظلمه على نفسه و أنّه تعالى منزّه عن إرادة مثله فالبلايا و المحن الّتي يبتلى بها الأولياء من التربية الإلهيّة الّتي يربّيهم بها و يكمّلهم و يرفع درجاتهم بسببها و إن كان بعضها من جهة اُخرى مؤاخذة ذات عتاب، و قد قيل البلاء للولاء.

و يؤيّد ذلك‏ ما عن العلل، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : لأيّ علّة صرف الله العذاب عن قوم يونس و قد أظلّهم و لم يفعل ذلك بغيرهم من الاُمم؟ فقال: لأنّه كان في علم الله أنّه سيصرفه عنهم لتوبتهم و إنّما ترك إخبار يونس بذلك لأنّه أراد أن يفرغه لعبادته في بطن الحوت فيستوجب بذلك ثوابه و كرامته.

١٥٨

( سورة الصافّات الآيات ١٤٩ - ١٨٢)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ( ١٤٩ ) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ( ١٥٠ ) أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ( ١٥١ ) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ١٥٢ ) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ( ١٥٣ ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( ١٥٤ ) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ١٥٥ ) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ( ١٥٦ ) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٥٧ ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا  وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( ١٥٨ ) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٥٩ ) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٦٠ ) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ( ١٦١ ) مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ( ١٦٢ ) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( ١٦٣ ) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( ١٦٤ ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ( ١٦٥ ) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ( ١٦٦ ) وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ ( ١٦٧ ) لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الْأَوَّلِينَ ( ١٦٨ ) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ( ١٦٩ ) فَكَفَرُوا بِهِ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( ١٧٠ ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( ١٧١ ) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( ١٧٢ ) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ١٧٣ ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ حِينٍ ( ١٧٤ ) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( ١٧٥ ) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ( ١٧٦ ) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ( ١٧٧ ) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّىٰ

١٥٩

حِينٍ ( ١٧٨ ) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ( ١٧٩ ) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٨٠ ) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( ١٨١ ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٨٢ )

( بيان)

قدّم سبحانه ما بيّن به أنّه ربّ معبود: عبده عباد مخلصون كالأنبياء المكرمين و كفر به آخرون فنجّى عباده و أخذ الكافرين بأليم العذاب. ثمّ تعرّض في هذه الآيات لما يعتقدونه في آلهتهم و هم الملائكة و الجنّ و أنّ الملائكة بنات الله و بينه و بين الجنّة نسباً.

و الوثنيّة البرهميّة و البوذيّة و الصابئة ما كانوا يقولون باُنوثة جميع الملائكة و إن قالوا بها في بعضهم لكنّ المنقول عن بعض قبائل العرب الوثنيّين كجهينة و سليم و خزاعة و بني مليح القول باُنوثة الملائكة جميعاً، و أمّا الجنّ فالقول بانتهاء نسبهم إليه في الجملة منقول عن الجميع.

و بالجملة يشير تعالى في الآيات إلى فساد قولهم ثمّ يبشّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و يهدّدهم بالعذاب، و يختم السورة بتنزيهه تعالى و التسليم على المرسلين و الحمد لله ربّ العالمين.

قوله تعالى: ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ ) حلّل سبحانه قولهم: إنّ الملائكة بنات الله إلى ما يستلزمه من اللوازم و هي أنّ الملائكة أولاده، و أنّهم بنات، و أنّه تعالى خصّ نفسه بالبنات و هم مخصوصون بالبنين ثمّ ردّ هذه اللوازم واحداً بعد واحد فردّ قولهم: إنّ له البنات و لهم البنين بقوله:( فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ ) و هو استفهام إنكاريّ لقولهم بما يلزمه من تفضيلهم على الله لما أنّهم يفضّلون البنين على البنات و يتنزّهون منهنّ و يئدونهنّ.

١٦٠

قوله تعالى: ( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ ) أم منقطعة أي بل أ خلقنا الملائكة إناثاً و هم شاهدون يشهدون خلقهم و لم يكونوا شاهدين خلقهم و لا لهم أن يدّعوا ذلك، و الذكورة و الاُنوثة ممّا لا يثبت إلّا بنوع من الحسّ، و هذا ردّ لقولهم باُنوثة الملائكة.

قوله تعالى: ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ردّ لقولهم بالولادة بأنّه من الإفك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحقّ إلى الباطل فيوجّهون خلقهم بما يعدّونه ولادة و يعبّرون عنه بها فهم آفكون كاذبون.

قوله تعالى: ( أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) كرّر الإنكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدّة شناعته.

ثمّ وبّخهم بقوله:( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) لكون قولهم حكماً من غير دليل ثمّ عقّبه بقوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) توبيخاً و إشارة إلى أنّ قولهم ذلك - فضلاً عن كونه ممّا لا دليل عليه - الدليل على خلافه و لو تذكّروا لانكشف لهم فقد تنزّهت ساحته تعالى عن أن يتجزّي فيلد أو يحتاج فيتّخذ ولداً، و قد احتجّ عليهم بذلك في مواضع من كلامه.

و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها.

قوله تعالى: ( أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أم منقطعة و المراد بالسلطان و هو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أنّ الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لمّا لم يثبت بعقل أو حسّ بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقّة و هم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب.

و إضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالّاً على دعواهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) جعل النسب بينه و بين الجنّة قولهم: إنّ الجنّة أولاده و قد تقدّم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الأصنام.

١٦١

و قوله:( وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق( لَمُحْضَرُونَ ) و كيف كان فهم يعلمون أنّهم مربوبون لله سيحاسبهم و يجازيهم بما عملوا فبينهم و بين الله سبحانه نسبة الربوبيّة و العبوديّة لا نسب الولادة و من كان كذلك لا يستحقّ العبادة.

و من الغريب قول بعضهم: إنّ المراد بالجنّة طائفة من الملائكة يسمّون بها و لازمه إرجاع ضمير( إِنَّهُمْ ) إلى الكفّار دون الجنّة. و هو ممّا لا شاهد له من كلامه تعالى مضافاً إلى بعده من السياق.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) ضمير( يَصِفُونَ ) - نظراً إلى اتّصال الآية بما قبلها - راجع إلى الكفّار المذكورين قبل، و الاستثناء منه منقطع و المعنى هو منزّه عن وصفهم - أو عمّا يصفه الكفّار به من الأوصاف كالولادة و النسب و الشركة و نحوها - لكنّ عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفاً يليق به - أو بما يليق به من الأوصاف -.

و قيل: إنّه استثناء منقطع من ضمير( لَمُحْضَرُونَ ) ، و قيل: من فاعل( جَعَلُوا ) و ما بينهما من الجمل المتخلّلة اعتراض، و هما وجهان بعيدان.

و للآيتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك و أدقّ و هو رجوع ضمير( يَصِفُونَ ) إلى الناس، و الوصف مطلق يشمل كلّ ما يصفه به واصف، و الاستثناء متّصل و المعنى هو منزّه عن كلّ ما يصفه الواصفون إلّا عباد الله المخلصين.

و ذلك أنّهم إنّما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم و هو سبحانه غير محدود لا يحيط به حدّ و لا يدركه نعت فكلّ ما وصف به فهو أجلّ منه و كلّ ما توهّم أنّه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه و خصّهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرّفهم نفسه و أنساهم غيره يعرفونه و يعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه و إذا وصفوه بألسنتهم - و الألفاظ قاصرة و المعاني محدودة - اعترفوا بقصور البيان و أقرّوا بكلال اللسان‏ كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو سيّد المخلصين:

١٦٢

( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏) (1) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ) تفريع على حكم المستثنى و المستثنى منه أو المستثنى خاصّة، و المعنى لمّا كان ما وصفتموه ضلالاً - و عباد الله المخلصون لا يضلّون في وصفهم - فلستم بمضلّين به إلّا سالكي سبيل النار.

و الظاهر من السياق أنّ( ما ) في( ما تَعْبُدُونَ ) موصولة و المراد بها الأصنام فحسب أو الأصنام و آلهة الضلال كشياطين الجنّ، و ما في( ما أَنْتُمْ ) نافية، و ضمير( عَلَيْهِ ) لله سبحانه و الظرف متعلّق بفاتنين، و فاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الإضلال و( صالِ ) من الصلو بمعنى الاتّباع فصالي الجحيم هو المتّبع للجحيم السالك سبيل النار، و الاستثناء مفرّغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحداً إلّا من هو صال الجحيم.

و المعنى فإنّكم و آلهة الضلال الّتي تعبدونها لستم جميعا بمضلّين أحداً على الله إلّا من هو متّبع الجحيم.

و قيل: إنّ( ما ) الاُولى مصدريّة أو موصولة و جملة( فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ كلام ) تامّ مستقلّ من قبيل قولهم: أنت و شأنك و المعنى فإنّكم و ما تعبدون متقارنان ثمّ استونف و قيل:( ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ ) و( بِفاتِنِينَ ) مضمّن معنى الحمل و ضمير( عَلَيْهِ ) راجع إلى( ما تَعْبُدُونَ ) إن كانت ما مصدريّة و إلى( ما ) بتقدير مضاف إن كانت موصولة و المعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه إلّا من هو صال الجيم.

قيل: و يمكن أن يكون( على ) بمعنى الباء و الضمير لما تعبدون أو لما إن كانت موصولة و( بِفاتِنِينَ ) على ظاهر معناه من غير تضمين، و المعنى ما أنتم بمضلّين أحداً بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه إلّا إلخ.

و هذه كلّها تكلّفات من غير موجب و الكلام فيما في الآية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - اعتراض من كلام جبرئيل أو هو

____________________

(1) فقد أثنى على الله و تمم نقصه بأنّه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.

١٦٣

و أعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) الخ مريم: 64.

و قيل: هي من كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصف نفسه و المؤمنين به للكافرين تبكيتاً لهم و تقريعاً و هو متّصل بقوله:( فَاسْتَفْتِهِمْ ) و التقدير فاستفتهم و قل: ما منّا معشر المسلمين إلّا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة و إنّا لنحن الصافّون في الصلاة و إنّا لنحن المسبّحون. و هو تكلّف لا يلائمه السياق.

و الآيات الثلاث مسوقة لردّ قولهم باُلوهيّة الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفّار و هم لا ينفون العبوديّة عن الملائكة بل يرون أنّهم مربوبون لله سبحانه أرباب و آلهة لمن دونهم يستقلّون بالتصرّف فيما فوّض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شي‏ء من هذا التدبير إلى الله سبحانه و هذا هو الّذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسباباً متوسّطة بينه تعالى و بين خلقه كما قال تعالى( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27.

فقوله:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) أي معيّن مشخّص اُقيم فيه ليس له أن يتعدّاه بأن يفوّض إليه أمر فيستقلّ فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به و عبادته.

و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) أي نصفّ عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) هذا ما يفيده السياق، و ربّما قيل: إنّ المراد إنّا نصفّ للصلاة عند الله و هو بعيد من الفهم لا شاهد عليه.

و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) أي المنزّهون له تعالى عمّا لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: 20.

فالآيات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة و عملهم المناسب لخلقتهم و هو الاصطفاف لتلقّي أمره تعالى و التنزيه لساحة كبريائه عن الشريك و كلّ ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ

١٦٤

اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) رجوع إلى السياق السابق.

و الضمير في قوله:( وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ) لقريش و من يتلوهم، و( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة، و المراد بذكر من الأوّلين كتاب سماويّ من جنس الكتب النازلة على الأوّلين.

و المعنى لو أنّ عندنا كتاباً سماويّاً من جنس الكتب النازلة قبلنا على الأوّلين لاهتدينا و كنّا عباد الله المخلصين يريدون أنّهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجّة عليهم من قبل الله سبحانه.

و هذا في الحقيقة هفوة منهم فإنّ مذهب الوثنيّة يحيل النبوّة و الرسالة و نزول الكتاب السماويّ.

قوله تعالى: ( فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) الفاء فصيحة، و المعنى فأنزلنا عليهم الذكر و هو القرآن الكريم فكفروا به و لم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم و هذا تهديد منه تعالى لهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) كلمته تعالى لهم قوله الّذي قاله فيهم و هو حكمه و قضاؤه في حقّهم و سبق الكلمة تقدّمها عهداً أو تقدّمها بالنفوذ و الغلبة و اللّام تفيد معنى النفع أي إنّا قضينا قضاء محتوماً فيهم أنّهم لهم المنصورون و قد اُكّد الكلام بوجوه من التأكيد.

و قد اُطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن: 51.

فالرسلعليهم‌السلام منصورون في الحجّة لأنّهم على الحقّ و الحقّ غير مغلوب.

و هم منصورون على أعدائهم إمّا بإظهارهم عليهم و إمّا بالانتقام منهم قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ - إلى أن قال -حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) يوسف: 110.

١٦٥

و هم منصورون في الآخرة كما قال تعالى:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم: 8، و قد تقدّم آنفاً آية في سورة المؤمن في هذا المعنى.

قوله تعالى: ( إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ‏ ) الجند هو المجتمع الغليظ و لذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب(1) و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) المائدة: 56.

و المراد بقوله:( جُنْدَنا ) هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله و هم المؤمنون خاصّة أو الأنبياء و من تبعهم من المؤمنين و في الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، و كيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الأنبياء قال تعالى‏:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: 139 و قد مرّ بعض الآيات الدالّة عليه آنفاً.

و الحكم أعني النصر و الغلبة حكم اجتماعيّ منوط على العنوان لا غير أي إنّ الرسل و هم عباد أرسلهم الله و المؤمنون و هم جند لله يعملون بأمره و يجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، و أمّا إذا لم يبق من الإيمان إلّا اسمه و من الانتساب إلّا حديثه فلا ينبغي أن يرجى نصر و لا غلبة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) تفريع على حديث النصر و الغلبة ففيه وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و الغلبة و إيعاد للمشركين و لقريش خاصّة.

و الأمر بالإعراض عنهم ثمّ جعله مغيّاً بقوله:( حَتَّى حِينٍ ) يلوّح إلى أنّ الأمد غير بعيد و كان كذلك فهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد قليل و أباد الله صناديد قريش في غزوة بدر و غيرها.

قوله تعالى: ( وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) الأمر بالإبصار و الإخبار بإبصارهم عاجلاً و عطف الكلام على الأمر بالتولّي معجّلاً يفيد بحسب القياس أنّ المعنى أنظرهم و أبصر ما هم عليه من الجحود و العناد قبال إنذارك و تخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم و استكبارهم.

____________________

(1) قال تعالى: ( إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) الأحزاب: 9 و قال فيهم بعينهم: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ ) الأحزاب: 22.

١٦٦

قوله تعالى: ( أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) توبيخ لهم لاستعجالهم و قولهم: متى هذا الوعد؟ متى هذا الفتح؟ و إيذان بأنّ هذا العذاب ممّا لا ينبغي أن يستعجل لأنّه يعقب يوماً بئيساً و صباحاً مشؤماً.

و نزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول و الإحاطة، و قوله:( فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) أي بئس صباحهم صباحاً، و المنذرون هم المشركون من قريش.

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) تأكيد لما مرّ بتكرار الآيتين على ما قيل، و احتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدّم التهديد بعذاب الدنيا و بهذا، التهديد بعذاب الآخرة. و لا يخلو من وجه فإنّ الواقع في الآية( وَ أَبْصِرْ ) من غير مفعول كما في الآية السابقة من قوله:( وَ أَبْصِرْهُمْ ) و الحذف يشعر بالعموم و أنّ المراد إبصار ما عليه عامّة الناس من الكفر و الفسوق و يناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) تنزيه له تعالى عمّا يصفه به الكفّار المخالفون لدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا تقدّم ذكره في السورة.

و الدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله:( رَبِّكَ ) أي الربّ الّذي تعبده و تدعو إليه، و إضافة الربّ ثانياً إلى العزّة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزّة فهو منيع الجانب على الإطلاق فلا يذلّه مذلّ و لا يغلبه غالب و لا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحقّ المهدّدون بالعذاب ليسوا له بمعجزين.

قوله تعالى: ( وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) تسليم على عامّة المرسلين و صون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم و يكرهونه.

قوله تعالى: ( وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تقدّم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.

١٦٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج محمّد بن نضر و ابن عساكر عن العلاء بن سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوماً لجلسائه: أطّت السماء و حقّ لها أن تئطّ، ليس منها موضع قدم إلّا عليه ملك راكع أو ساجد. ثمّ قرأ( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الطريق.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: استووا تقدّم يا فلان تأخّر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدى الملائكة ثمّ يتلو:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

و في نهج البلاغة قالعليه‌السلام في وصف الملائكة: و صافّون لا يتزايلون و مسبّحون لا يسأمون.

١٦٨

( سورة ص مكّيّة و هي ثمان و ثمانون آية)

( سورة ص الآيات 1 - 16)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ص  وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 ) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 ) وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ  وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا  إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 ) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ  إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ( 7 ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا  بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي  بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 ) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ( 10 ) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ  أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ( 13 ) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 ) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ( 15 ) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )

١٦٩

( بيان)

يدور الكلام في السورة حول كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذراً بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبوديّة له تعالى.

فتبدأ بذكر اعتزاز الكفّار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتّباعه و الإيمان به و صدّ الناس عنه و تفوّههم بباطل القول في ذلك و ردّه في فصل.

ثمّ تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و ذكر قصص عباده الأوّابين في فصل ثمّ يذكر مآل حال المتّقين و الطاغين في فصل. ثمّ تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أنّ مآل أتّباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ ) المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد و النبوّة و غيرهما، و العزّة الامتناع، و الشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان: و أصله أن يصير كلّ من الفريقين في شقّ أي في جانب و منه يقال: شقّ فلان العصا إذا خالف انتهى.

و المستفاد من سياق الآيات أنّ قوله:( وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) قسم نظير ما في قوله:( يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ( ن وَ الْقَلَمِ ) لا عطف على ما تقدّمه، و أمّا المقسم عليه فالّذي يدلّ عليه الإضراب في قوله:( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ ) أنّه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزّة و شقاقاً و قد هلك فيه قرون كثيرة ثمّ ذكر إنذار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما قاله الكفّار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنّك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضاً التعرّض في السورة بإنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذكر مرّة بعد اُخرى.

و قد قيل في قوله:( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) من حيث الإعراب و المعنى وجوه

١٧٠

كثيرة لا محصّل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.

و المعنى - و الله أعلم - اُقسم بالقرآن المتضمّن للذكر - إنّك لمن المنذرين - بل الّذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتّباعه و مخالفة له.

قوله تعالى: ( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ ) القرن أهل عصر واحد، و المناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخّر كما أنّه بالباء الموحّدة بمعنى التقدّم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار.

و المعنى: كثيراً ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفّار من قرن و اُمّة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخّر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار.

قوله تعالى: ( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) أي تعجّبوا من مجيي‏ء منذر من نوعهم بأن كان بشراً فإنّ الوثنيّة تنكر رسالة البشر.

و قوله:( وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) يشيرون بهذا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنّه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقّة إليه تعالى.

قوله تعالى: ( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ ) العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ.

و هو من تتمّة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى:( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) الزخرف: 19 فمعنى جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآلهة إلهاً واحداً هو إبطاله اُلوهيّة الآلهة من دون الله و حكمه بأنّ الإله هو الله لا إله إلّا هو.

قوله تعالى: ( وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوّح إلى أنّ أشراف

١٧١

قريش اجتمعوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحلّوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلّموه في ذلك فما وافقهم في شي‏ء منه ثمّ انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا لأتباعهم أن امشوا و اصبروا إلخ و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول ممّا سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قوله:( أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ ) بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أنّ القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم.

و قوله:( إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) ظاهره أنّه إشارة إلى ما يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يطلبه و أنّ مطلوبه شي‏ء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنّما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامّتهم:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) المؤمنون: 24.

و قيل: المعنى إنّ هذا الّذي شاهدناه من إسرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يطلبه و تصلّبه في دينه لشي‏ء عظيم يراد من قبله.

و قيل: المعنى إنّ هذا الأمر لشي‏ء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلّا أن تمشوا و تصبروا.

و قيل: المعنى إنّ الصبر خلق محمود يراد منّا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أرادوا بالملّة الآخرة المذهب الّذي تداوله الآخرون من الاُمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الاُولى الّتي تداولها الأوّلون كأنّهم يقولون: ليس هذا من الملّة الآخرة الّتي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأوّلين.

و قيل: المراد بالملّة الآخرة النصرانيّة لأنّها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانيّة وقع عندهم كالإسلام.

و قوله:( إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أي كذب و افتعال.

١٧٢

قوله تعالى: ( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) استفهام إنكاريّ بداعي التكذيب أي لا مرجّح عند محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترجّح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلّا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة.

قوله تعالى: ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) إضراب عن جميع ما قالوه أي إنّهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شكّ من ذكري و هو القرآن.

و ليس شكّهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوّة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلّق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهيّة المعجزة فشكّوا في الذكر و الحال أنّه آية معجزة.

و قوله:( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شكّ منهم فيه بل لأنّهم لعتوّهم و استكبارهم لا يعترفون بحقّيّته و لو لم يكن شكّ، حتّى يذوقوا عذابي فيضطرّوا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم.

و في قوله:( لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع.

قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) الكلام في موقع الإضراب و( أَمْ ) منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم:( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربّك الّتي ينفق منها على من يشاء حتّى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخصّ برحمته من يشاء.

و تذييل الكلام بقوله:( الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) لتأييد محصّل الجملة أي ليس عندهم شي‏ء من خزائن رحمته لأنّه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنّه وهّاب كثير الهبات.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ )

١٧٣

( أَمْ ) منقطعة، و الأمر في قوله:( فَلْيَرْتَقُوا ) للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب المعارج و المناهج الّتي يتوسّل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبّب بالعلل و الحيل الّذي يحصّل به لهم المنع و الصرف.

و المعنى: بل لهم ملك السماوات و الأرض فيكون لهم أن يتصرّفوا فيها فيمنعوا نزول الوحي السماويّ إلى بشر أرضيّ فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسبّبوا الأسباب و ليمنعوا من نزول الوحي عليك.

قوله تعالى: ( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) الهزيمة الخذلان و( مِنَ الْأَحْزابِ ) بيان لقوله:( جُنْدٌ ما ) و( ما ) للتقليل و التحقير، و الكلام مسوق لتحقير أمرهم رغماً لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزّز و الإعجاب بأنفسهم.

يدلّ على ذلك تنكير( جُنْدٌ ) و تتميمه بلفظة( ما ) و الإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدالّ على البعيد و عدّهم من الأحزاب المتحزّبين على الرسل الّذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر و لذلك عدّ هذا الجند مهزوماً قبل انهزامهم.

و المعنى: هم جند مّا أقلّاء أذلّاء منهزمون هنالك من اُولئك الأحزاب المتحزّبين على الرسل الّذين كذّبوهم فحقّ عليهم عقابي.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ - إلى قوله -فَحَقَّ عِقابِ ) ذو الأوتاد وصف فرعون و الأوتاد جمع وتد و هو معروف. قيل: سمّي بذي الأوتاد لأنّه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، و قيل: لأنّه كان يعذّب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد يوتّد يديه و رجليه و رأسه على الأرض فيعذّبه و قيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، و قيل: غير ذلك من الوجوه، و لا دليل على شي‏ء منها يعوّل عليه.

و أصحاب الأيكة قوم شعيب و قد تقدّم في سورة الحجر و الشعراء، و قوله:( فَحَقَّ عِقابِ ) أي ثبت في حقّهم و استقرّ فيهم عقابي فأهلكتهم.

قوله تعالى: ( وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ ) النظر

١٧٤

الانتظار و الفواق الرجوع و المهلة اليسيرة، و المعنى و ما ينتظر هؤلاء المكذّبون من اُمّتك إلّا صيحة واحدة تقضي عليهم و تهلكهم ما لها من رجوع أو مهلة و هي عذاب الاستئصال.

قالوا: و المراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لأنّ اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤخّر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، و قد عرفت في تفسير سورة يونس أنّ ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) القطّ النصيب و الحظّ، و هذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب و الوعيد بالعذاب فيه.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أقبل أبوجهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إنّ ابن أخيك قد آذاناً و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكفّ عن آلهتنا و نكفّ عن إلهه.

قال: فبعث أبوطالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتّبع الهدى ثمّ جلس فخبره أبوطالب بما جاؤا به فقال: أ و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطأون أعناقهم؟ فقال أبوجهل: نعم و ما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلّا الله.

قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم و خرجوا و هم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلّا اختلاق فأنزل الله في قولهم( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - إلى قوله -إِلَّا اخْتِلاقٌ‏ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) قال: لمّا أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا

١٧٥

أباطالب إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا و سبّ آلهتنا و أفسد شبّابنا و فرّق جماعتنا فإن كان الّذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتّى يكون أغنى رجل في قريش و نملّكه علينا.

فأخبر أبوطالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال: و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما أردته و لكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب و يدين لهم بها العجم و يكونون ملوكاً في الجنّة فقال لهم أبوطالب ذلك فقالوا: نعم و عشر كلمات فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشهدون أن لا إله إلّا الله و أنّي رسول الله فقالوا: ندع ثلاثمائة و ستّين إلهاً و نعبد إلهاً واحداً؟.

فأنزل الله سبحانه:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ - إلى قوله -إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أي تخليط( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي - إلى قوله -مِنَ الْأَحْزابِ ) يعني الّذين تحزّبوا عليه يوم الأحزاب.

أقول: و القصّة مرويّة من طريق أهل السنّة أيضاً و في بعض رواياتهم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتّى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا و قالوا و الكلمة كناية عن تمليكهم إيّاه زمام نظام العالم الأرضيّ فإنّ الشمس و القمر من أعظم المؤثّرات فيه، و قد اُخذاً على ما يظهران للحسّ من القدر ليصحّ ما اُريد من التمثيل.

و في العلل، بإسناده إلى إسحاق بن عمّار قال: سألت أباالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شي‏ء ففرّغ قلبك لتفهم. إنّ أوّل صلاة صلّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما صلّاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدّام عرشه.

و ذلك أنّه لمّا اُسري به و صار عند عرشه قال: يا محمّد اُدن من صاد فاغسل مساجدك و طهّرها و صلّ لربّك فدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضّأ و أسبغ وضوءه.

١٧٦

قلت: جعلت فداك و ما صاد الّذي اُمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحيوان و هو ما قال الله عزّوجلّ:( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى أعني أنّ ص نهر يخرج من ساق العرش في المعاني، عن سفيان الثوريّ عن الصادقعليه‌السلام ، و روي ذلك في مجمع البيان، عن ابن عبّاس: أنّه اسم من أسماء الله تعالى: قال: و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في المعاني، بإسناده إلى الأصبغ عن عليّعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) قال: نصيبهم من العذاب.

١٧٧

( سورة ص الآيات 17 - 29)

اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ  إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 ) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً  كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 ) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ  قَالُوا لَا تَخَفْ  خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 ) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 ) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ  وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ  ( 24 ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ  وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 ) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا  ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا

١٧٨

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 29 )

( بيان)

لمّا حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته الحقّة باختلاق و أنّها ذريعة إلى التقدّم و الرئاسة و أنّه لا مرجّح له عليهم حتّى يختصّ بالرسالة و الإنذار. ثمّ استهزائهم بيوم الحساب و عذابه الّذي ينذرون به، أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن لا يزلزله هفواتهم و لا توهن عزمه و أن يذكر عدّة من عباده الأوّابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث.

و هؤلاء تسعة من الأنبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود و سليمان و أيّوب و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل و اليسع و ذو الكفلعليهم‌السلام ، و بدأ بداودعليه‌السلام و ذكر بعض قصصه.

قوله تعالى: ( اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) الأيد القوّة و كانعليه‌السلام ذا قوّة في تسبيحه تعالى يسبّح و يسبّح معه الجبال و الطير و ذا قوّة في ملكه و ذا قوّة في علمه و ذا قوّة و بطش في الحروب و قد قتل جالوت الملك كما قصّه الله في سورة البقرة.

و الأوّاب اسم مبالغة من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به كثرة رجوعه إلى ربّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ ) الظاهر أنّ( مَعَهُ ) متعلّق بقوله:( يُسَبِّحْنَ ) و جملة( مَعَهُ يُسَبِّحْنَ ) بيان لمعنى التسخير و قدّم الظرف لتعلّق العناية بتبعيّتها لداود و اقتدائها في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع آخر:( وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ ) الأنبياء: 79 يؤيّد تعلّق الظرف بسخّرنا، و قد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) سبأ: 10. و العشيّ و الإشراق الرواح و الصباح.

١٧٩

و قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا ) إلخ( إنّ ) فيه للتعليل و الآية و ما عطف عليها من الآيات بيان لكونهعليه‌السلام ذا أيد في تسبيحه و ملكه و علمه و كونه أوّاباً إلى ربّه.

قوله تعالى: ( وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي و سخّرنا معه الطير مجموعة له تسبّح معه.

و قوله:( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) استئناف يقرّر ما تقدّمه من تسبيح الجبال و الطير أي كلّ من الجبال و الطير أوّاب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإنّ التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. و يحتمل رجوع ضمير( لَهُ ) إلى داود على بعد.

و لم يكن تأييد داودعليه‌السلام في أصل جعله تعالى للجبال و الطير تسبيحاً فإنّ كلّ شي‏ء مسبّح لله سبحانه قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الإسراء: 44 بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه و قرع تسبيحها أسماع الناس و قد تقدّم كلام في معنى تسبيح الأشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الآية و أنّه بلسان القال دون لسان الحال.

قوله تعالى: ( وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ ) قال الراغب: الشدّ العقد القويّ يقال شددت الشي‏ء قوّيت عقده. انتهى فشدّ الملك من الاستعارة بالكناية و المراد به تقوية الملك و تحكيم أساسه بالهيبة و الجنود و الخزائن و حسن التدبير و سائر ما يتقوّى به الملك.

و الحكمة في الأصل بناء نوع من الحكم و المراد بها المعارف الحقّة المتقنة الّتي تنفع الإنسان و تكمّله، و قيل: المراد النبوّة، و قيل الزبور و علم الشرائع، و قيل غير ذلك و هي وجوه رديّة.

و فصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره و تمييز حقّه من باطله و ينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.

و قيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلّاً و لا بإطنابه مملّاً، و قيل: فصل الخطاب قول أمّا بعد فهوعليه‌السلام أوّل من قال: أمّا بعد، و الآية التالية( وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) إلخ تؤيّد ما قدّمناه.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419