الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161687
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161687 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ ) أم منقطعة أي بل أ خلقنا الملائكة إناثاً و هم شاهدون يشهدون خلقهم و لم يكونوا شاهدين خلقهم و لا لهم أن يدّعوا ذلك، و الذكورة و الاُنوثة ممّا لا يثبت إلّا بنوع من الحسّ، و هذا ردّ لقولهم باُنوثة الملائكة.

قوله تعالى: ( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ردّ لقولهم بالولادة بأنّه من الإفك أي صرف القول عن وجهه إلى غير وجهه أي من الحقّ إلى الباطل فيوجّهون خلقهم بما يعدّونه ولادة و يعبّرون عنه بها فهم آفكون كاذبون.

قوله تعالى: ( أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) كرّر الإنكار على اصطفاء البنات من بين لوازم قولهم لشدّة شناعته.

ثمّ وبّخهم بقوله:( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) لكون قولهم حكماً من غير دليل ثمّ عقّبه بقوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) توبيخاً و إشارة إلى أنّ قولهم ذلك - فضلاً عن كونه ممّا لا دليل عليه - الدليل على خلافه و لو تذكّروا لانكشف لهم فقد تنزّهت ساحته تعالى عن أن يتجزّي فيلد أو يحتاج فيتّخذ ولداً، و قد احتجّ عليهم بذلك في مواضع من كلامه.

و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على اشتداد السخط الموجب لتوبيخهم شفاها.

قوله تعالى: ( أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أم منقطعة و المراد بالسلطان و هو البرهان كتاب نازل من عند الله سبحانه يخبر فيه أنّ الملائكة بناته على ما يعطيه السياق إذ لمّا لم يثبت بعقل أو حسّ بقي أن يثبت بكتاب من عند الله نازل بالوحي فلو كانت دعواهم حقّة و هم صادقون فيها كان لهم أن يأتوا بالكتاب.

و إضافة الكتاب إليهم بعناية فرضه دالّاً على دعواهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) جعل النسب بينه و بين الجنّة قولهم: إنّ الجنّة أولاده و قد تقدّم تفصيل قولهم في تفسير سورة هود في الكلام على عبادة الأصنام.

١٦١

و قوله:( وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) أي للحساب أو للنار على ما يفيده إطلاق( لَمُحْضَرُونَ ) و كيف كان فهم يعلمون أنّهم مربوبون لله سيحاسبهم و يجازيهم بما عملوا فبينهم و بين الله سبحانه نسبة الربوبيّة و العبوديّة لا نسب الولادة و من كان كذلك لا يستحقّ العبادة.

و من الغريب قول بعضهم: إنّ المراد بالجنّة طائفة من الملائكة يسمّون بها و لازمه إرجاع ضمير( إِنَّهُمْ ) إلى الكفّار دون الجنّة. و هو ممّا لا شاهد له من كلامه تعالى مضافاً إلى بعده من السياق.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) ضمير( يَصِفُونَ ) - نظراً إلى اتّصال الآية بما قبلها - راجع إلى الكفّار المذكورين قبل، و الاستثناء منه منقطع و المعنى هو منزّه عن وصفهم - أو عمّا يصفه الكفّار به من الأوصاف كالولادة و النسب و الشركة و نحوها - لكنّ عباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفاً يليق به - أو بما يليق به من الأوصاف -.

و قيل: إنّه استثناء منقطع من ضمير( لَمُحْضَرُونَ ) ، و قيل: من فاعل( جَعَلُوا ) و ما بينهما من الجمل المتخلّلة اعتراض، و هما وجهان بعيدان.

و للآيتين باستقلالهما معنى أوسع من ذلك و أدقّ و هو رجوع ضمير( يَصِفُونَ ) إلى الناس، و الوصف مطلق يشمل كلّ ما يصفه به واصف، و الاستثناء متّصل و المعنى هو منزّه عن كلّ ما يصفه الواصفون إلّا عباد الله المخلصين.

و ذلك أنّهم إنّما يصفونه بمفاهيم محدودة عندهم و هو سبحانه غير محدود لا يحيط به حدّ و لا يدركه نعت فكلّ ما وصف به فهو أجلّ منه و كلّ ما توهّم أنّه هو فهو غيره لكن له سبحانه عباد أخلصهم لنفسه و خصّهم بنفسه لا يشاركه فيهم أحد غيره فعرّفهم نفسه و أنساهم غيره يعرفونه و يعرفون غيره به فإذا وصفوه في نفوسهم وصفوه بما يليق بساحة كبريائه و إذا وصفوه بألسنتهم - و الألفاظ قاصرة و المعاني محدودة - اعترفوا بقصور البيان و أقرّوا بكلال اللسان‏ كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو سيّد المخلصين:

١٦٢

( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏) (1) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ) تفريع على حكم المستثنى و المستثنى منه أو المستثنى خاصّة، و المعنى لمّا كان ما وصفتموه ضلالاً - و عباد الله المخلصون لا يضلّون في وصفهم - فلستم بمضلّين به إلّا سالكي سبيل النار.

و الظاهر من السياق أنّ( ما ) في( ما تَعْبُدُونَ ) موصولة و المراد بها الأصنام فحسب أو الأصنام و آلهة الضلال كشياطين الجنّ، و ما في( ما أَنْتُمْ ) نافية، و ضمير( عَلَيْهِ ) لله سبحانه و الظرف متعلّق بفاتنين، و فاتنين اسم فاعل من الفتنة بمعنى الإضلال و( صالِ ) من الصلو بمعنى الاتّباع فصالي الجحيم هو المتّبع للجحيم السالك سبيل النار، و الاستثناء مفرّغ تقديره ما أنتم بفاتنين أحداً إلّا من هو صال الجحيم.

و المعنى فإنّكم و آلهة الضلال الّتي تعبدونها لستم جميعا بمضلّين أحداً على الله إلّا من هو متّبع الجحيم.

و قيل: إنّ( ما ) الاُولى مصدريّة أو موصولة و جملة( فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ كلام ) تامّ مستقلّ من قبيل قولهم: أنت و شأنك و المعنى فإنّكم و ما تعبدون متقارنان ثمّ استونف و قيل:( ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ ) و( بِفاتِنِينَ ) مضمّن معنى الحمل و ضمير( عَلَيْهِ ) راجع إلى( ما تَعْبُدُونَ ) إن كانت ما مصدريّة و إلى( ما ) بتقدير مضاف إن كانت موصولة و المعنى ما أنتم بحاملين على عبادتكم أو على عبادة ما تعبدونه إلّا من هو صال الجيم.

قيل: و يمكن أن يكون( على ) بمعنى الباء و الضمير لما تعبدون أو لما إن كانت موصولة و( بِفاتِنِينَ ) على ظاهر معناه من غير تضمين، و المعنى ما أنتم بمضلّين أحداً بعبادتكم أو بعبادة ما تعبدونه إلّا إلخ.

و هذه كلّها تكلّفات من غير موجب و الكلام فيما في الآية من الالتفات كالكلام فيما سبق منه.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - اعتراض من كلام جبرئيل أو هو

____________________

(1) فقد أثنى على الله و تمم نقصه بأنّه يريد ما يريده الله من الثناء على نفسه.

١٦٣

و أعوانه من ملائكة الوحي نظير قوله تعالى في سورة مريم:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ ) الخ مريم: 64.

و قيل: هي من كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصف نفسه و المؤمنين به للكافرين تبكيتاً لهم و تقريعاً و هو متّصل بقوله:( فَاسْتَفْتِهِمْ ) و التقدير فاستفتهم و قل: ما منّا معشر المسلمين إلّا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة و إنّا لنحن الصافّون في الصلاة و إنّا لنحن المسبّحون. و هو تكلّف لا يلائمه السياق.

و الآيات الثلاث مسوقة لردّ قولهم باُلوهيّة الملائكة بإيراد نفس اعترافهم بما ينتفي به قول الكفّار و هم لا ينفون العبوديّة عن الملائكة بل يرون أنّهم مربوبون لله سبحانه أرباب و آلهة لمن دونهم يستقلّون بالتصرّف فيما فوّض إليهم من أمر العالم من غير أن يرتبط شي‏ء من هذا التدبير إلى الله سبحانه و هذا هو الّذي ينفيه الملائكة عن أنفسهم لا كونهم أسباباً متوسّطة بينه تعالى و بين خلقه كما قال تعالى( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27.

فقوله:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) أي معيّن مشخّص اُقيم فيه ليس له أن يتعدّاه بأن يفوّض إليه أمر فيستقلّ فيه بل مجبول على طاعة الله فيما يأمر به و عبادته.

و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ) أي نصفّ عند الله في انتظار أوامره في تدبير العالم لنجريها على ما يريد. كما قال تعالى:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) هذا ما يفيده السياق، و ربّما قيل: إنّ المراد إنّا نصفّ للصلاة عند الله و هو بعيد من الفهم لا شاهد عليه.

و قوله:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) أي المنزّهون له تعالى عمّا لا يليق بساحة كبريائه كما قال تعالى:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: 20.

فالآيات الثلاث تصف موقف الملائكة في الخلقة و عملهم المناسب لخلقتهم و هو الاصطفاف لتلقّي أمره تعالى و التنزيه لساحة كبريائه عن الشريك و كلّ ما لا يليق بكمال ذاته المتعالية.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ

١٦٤

اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) رجوع إلى السياق السابق.

و الضمير في قوله:( وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ) لقريش و من يتلوهم، و( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة، و المراد بذكر من الأوّلين كتاب سماويّ من جنس الكتب النازلة على الأوّلين.

و المعنى لو أنّ عندنا كتاباً سماويّاً من جنس الكتب النازلة قبلنا على الأوّلين لاهتدينا و كنّا عباد الله المخلصين يريدون أنّهم معذورون لو كفروا لعدم قيام الحجّة عليهم من قبل الله سبحانه.

و هذا في الحقيقة هفوة منهم فإنّ مذهب الوثنيّة يحيل النبوّة و الرسالة و نزول الكتاب السماويّ.

قوله تعالى: ( فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) الفاء فصيحة، و المعنى فأنزلنا عليهم الذكر و هو القرآن الكريم فكفروا به و لم يفوا بما قالوا فسوف يعلمون وبال كفرهم و هذا تهديد منه تعالى لهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) كلمته تعالى لهم قوله الّذي قاله فيهم و هو حكمه و قضاؤه في حقّهم و سبق الكلمة تقدّمها عهداً أو تقدّمها بالنفوذ و الغلبة و اللّام تفيد معنى النفع أي إنّا قضينا قضاء محتوماً فيهم أنّهم لهم المنصورون و قد اُكّد الكلام بوجوه من التأكيد.

و قد اُطلق النصر من غير تقييده بدنيا أو آخرة أو بنحو آخر بل القرينة على خلافه قال تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) المؤمن: 51.

فالرسلعليهم‌السلام منصورون في الحجّة لأنّهم على الحقّ و الحقّ غير مغلوب.

و هم منصورون على أعدائهم إمّا بإظهارهم عليهم و إمّا بالانتقام منهم قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ - إلى أن قال -حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) يوسف: 110.

١٦٥

و هم منصورون في الآخرة كما قال تعالى:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم: 8، و قد تقدّم آنفاً آية في سورة المؤمن في هذا المعنى.

قوله تعالى: ( إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ‏ ) الجند هو المجتمع الغليظ و لذا يقال للعسكر جند فهو قريب المعنى من الحزب(1) و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) المائدة: 56.

و المراد بقوله:( جُنْدَنا ) هو المجتمع المؤتمر بأمره المجاهد في سبيله و هم المؤمنون خاصّة أو الأنبياء و من تبعهم من المؤمنين و في الكلام على التقدير الثاني تعميم بعد التخصيص، و كيف كان فالمؤمنون منصورون كمتبوعيهم من الأنبياء قال تعالى‏:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: 139 و قد مرّ بعض الآيات الدالّة عليه آنفاً.

و الحكم أعني النصر و الغلبة حكم اجتماعيّ منوط على العنوان لا غير أي إنّ الرسل و هم عباد أرسلهم الله و المؤمنون و هم جند لله يعملون بأمره و يجاهدون في سبيله ما داموا على هذا النعت منصورون غالبون، و أمّا إذا لم يبق من الإيمان إلّا اسمه و من الانتساب إلّا حديثه فلا ينبغي أن يرجى نصر و لا غلبة.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ) تفريع على حديث النصر و الغلبة ففيه وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر و الغلبة و إيعاد للمشركين و لقريش خاصّة.

و الأمر بالإعراض عنهم ثمّ جعله مغيّاً بقوله:( حَتَّى حِينٍ ) يلوّح إلى أنّ الأمد غير بعيد و كان كذلك فهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد قليل و أباد الله صناديد قريش في غزوة بدر و غيرها.

قوله تعالى: ( وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) الأمر بالإبصار و الإخبار بإبصارهم عاجلاً و عطف الكلام على الأمر بالتولّي معجّلاً يفيد بحسب القياس أنّ المعنى أنظرهم و أبصر ما هم عليه من الجحود و العناد قبال إنذارك و تخويفك فسوف يبصرون وبال جحودهم و استكبارهم.

____________________

(1) قال تعالى: ( إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) الأحزاب: 9 و قال فيهم بعينهم: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ ) الأحزاب: 22.

١٦٦

قوله تعالى: ( أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) توبيخ لهم لاستعجالهم و قولهم: متى هذا الوعد؟ متى هذا الفتح؟ و إيذان بأنّ هذا العذاب ممّا لا ينبغي أن يستعجل لأنّه يعقب يوماً بئيساً و صباحاً مشؤماً.

و نزول العذاب بساحتهم كناية عن نزوله بهم على نحو الشمول و الإحاطة، و قوله:( فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) أي بئس صباحهم صباحاً، و المنذرون هم المشركون من قريش.

قوله تعالى: ( وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ) تأكيد لما مرّ بتكرار الآيتين على ما قيل، و احتمل بعضهم أن يكون المراد بما تقدّم التهديد بعذاب الدنيا و بهذا، التهديد بعذاب الآخرة. و لا يخلو من وجه فإنّ الواقع في الآية( وَ أَبْصِرْ ) من غير مفعول كما في الآية السابقة من قوله:( وَ أَبْصِرْهُمْ ) و الحذف يشعر بالعموم و أنّ المراد إبصار ما عليه عامّة الناس من الكفر و الفسوق و يناسبه التهديد بعذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) تنزيه له تعالى عمّا يصفه به الكفّار المخالفون لدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا تقدّم ذكره في السورة.

و الدليل عليه إضافة التنزيه إلى قوله:( رَبِّكَ ) أي الربّ الّذي تعبده و تدعو إليه، و إضافة الربّ ثانياً إلى العزّة المفيد لاختصاصه تعالى بالعزّة فهو منيع الجانب على الإطلاق فلا يذلّه مذلّ و لا يغلبه غالب و لا يفوته هارب فالمشركون أعداء الحقّ المهدّدون بالعذاب ليسوا له بمعجزين.

قوله تعالى: ( وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) تسليم على عامّة المرسلين و صون لهم من أن يصيبهم من قبله تعالى ما يسوؤهم و يكرهونه.

قوله تعالى: ( وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تقدّم الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.

١٦٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج محمّد بن نضر و ابن عساكر عن العلاء بن سعيد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوماً لجلسائه: أطّت السماء و حقّ لها أن تئطّ، ليس منها موضع قدم إلّا عليه ملك راكع أو ساجد. ثمّ قرأ( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الطريق.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: استووا تقدّم يا فلان تأخّر يا فلان أقيموا صفوفكم يريد الله بكم هدى الملائكة ثمّ يتلو:( وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) .

و في نهج البلاغة قالعليه‌السلام في وصف الملائكة: و صافّون لا يتزايلون و مسبّحون لا يسأمون.

١٦٨

( سورة ص مكّيّة و هي ثمان و ثمانون آية)

( سورة ص الآيات 1 - 16)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ص  وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ( 1 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ( 2 ) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ( 3 ) وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ  وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( 4 ) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا  إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( 5 ) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ  إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( 6 ) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ( 7 ) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا  بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي  بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ( 8 ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ( 9 ) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ( 10 ) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ ( 11 ) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ( 12 ) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ  أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ( 13 ) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ( 14 ) وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ( 15 ) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( 16 )

١٦٩

( بيان)

يدور الكلام في السورة حول كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذراً بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبوديّة له تعالى.

فتبدأ بذكر اعتزاز الكفّار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتّباعه و الإيمان به و صدّ الناس عنه و تفوّههم بباطل القول في ذلك و ردّه في فصل.

ثمّ تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و ذكر قصص عباده الأوّابين في فصل ثمّ يذكر مآل حال المتّقين و الطاغين في فصل. ثمّ تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أنّ مآل أتّباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ ) المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد و النبوّة و غيرهما، و العزّة الامتناع، و الشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان: و أصله أن يصير كلّ من الفريقين في شقّ أي في جانب و منه يقال: شقّ فلان العصا إذا خالف انتهى.

و المستفاد من سياق الآيات أنّ قوله:( وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) قسم نظير ما في قوله:( يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) ( ن وَ الْقَلَمِ ) لا عطف على ما تقدّمه، و أمّا المقسم عليه فالّذي يدلّ عليه الإضراب في قوله:( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ ) أنّه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزّة و شقاقاً و قد هلك فيه قرون كثيرة ثمّ ذكر إنذار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما قاله الكفّار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنّك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضاً التعرّض في السورة بإنذارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذكر مرّة بعد اُخرى.

و قد قيل في قوله:( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) من حيث الإعراب و المعنى وجوه

١٧٠

كثيرة لا محصّل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.

و المعنى - و الله أعلم - اُقسم بالقرآن المتضمّن للذكر - إنّك لمن المنذرين - بل الّذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتّباعه و مخالفة له.

قوله تعالى: ( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ ) القرن أهل عصر واحد، و المناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخّر كما أنّه بالباء الموحّدة بمعنى التقدّم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار.

و المعنى: كثيراً ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفّار من قرن و اُمّة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخّر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار.

قوله تعالى: ( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) أي تعجّبوا من مجيي‏ء منذر من نوعهم بأن كان بشراً فإنّ الوثنيّة تنكر رسالة البشر.

و قوله:( وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) يشيرون بهذا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنّه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقّة إليه تعالى.

قوله تعالى: ( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ ) العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ.

و هو من تتمّة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى:( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) الزخرف: 19 فمعنى جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآلهة إلهاً واحداً هو إبطاله اُلوهيّة الآلهة من دون الله و حكمه بأنّ الإله هو الله لا إله إلّا هو.

قوله تعالى: ( وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوّح إلى أنّ أشراف

١٧١

قريش اجتمعوا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحلّوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلّموه في ذلك فما وافقهم في شي‏ء منه ثمّ انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا لأتباعهم أن امشوا و اصبروا إلخ و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول ممّا سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قوله:( أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ ) بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أنّ القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم.

و قوله:( إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) ظاهره أنّه إشارة إلى ما يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يطلبه و أنّ مطلوبه شي‏ء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنّما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامّتهم:( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) المؤمنون: 24.

و قيل: المعنى إنّ هذا الّذي شاهدناه من إسرارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يطلبه و تصلّبه في دينه لشي‏ء عظيم يراد من قبله.

و قيل: المعنى إنّ هذا الأمر لشي‏ء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلّا أن تمشوا و تصبروا.

و قيل: المعنى إنّ الصبر خلق محمود يراد منّا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أرادوا بالملّة الآخرة المذهب الّذي تداوله الآخرون من الاُمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الاُولى الّتي تداولها الأوّلون كأنّهم يقولون: ليس هذا من الملّة الآخرة الّتي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأوّلين.

و قيل: المراد بالملّة الآخرة النصرانيّة لأنّها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليث. و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانيّة وقع عندهم كالإسلام.

و قوله:( إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أي كذب و افتعال.

١٧٢

قوله تعالى: ( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) استفهام إنكاريّ بداعي التكذيب أي لا مرجّح عند محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترجّح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلّا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة.

قوله تعالى: ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) إضراب عن جميع ما قالوه أي إنّهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شكّ من ذكري و هو القرآن.

و ليس شكّهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوّة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلّق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهيّة المعجزة فشكّوا في الذكر و الحال أنّه آية معجزة.

و قوله:( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شكّ منهم فيه بل لأنّهم لعتوّهم و استكبارهم لا يعترفون بحقّيّته و لو لم يكن شكّ، حتّى يذوقوا عذابي فيضطرّوا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم.

و في قوله:( لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ ) أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع.

قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) الكلام في موقع الإضراب و( أَمْ ) منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم:( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ) أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربّك الّتي ينفق منها على من يشاء حتّى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخصّ برحمته من يشاء.

و تذييل الكلام بقوله:( الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) لتأييد محصّل الجملة أي ليس عندهم شي‏ء من خزائن رحمته لأنّه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنّه وهّاب كثير الهبات.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ )

١٧٣

( أَمْ ) منقطعة، و الأمر في قوله:( فَلْيَرْتَقُوا ) للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب المعارج و المناهج الّتي يتوسّل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبّب بالعلل و الحيل الّذي يحصّل به لهم المنع و الصرف.

و المعنى: بل لهم ملك السماوات و الأرض فيكون لهم أن يتصرّفوا فيها فيمنعوا نزول الوحي السماويّ إلى بشر أرضيّ فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسبّبوا الأسباب و ليمنعوا من نزول الوحي عليك.

قوله تعالى: ( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) الهزيمة الخذلان و( مِنَ الْأَحْزابِ ) بيان لقوله:( جُنْدٌ ما ) و( ما ) للتقليل و التحقير، و الكلام مسوق لتحقير أمرهم رغماً لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزّز و الإعجاب بأنفسهم.

يدلّ على ذلك تنكير( جُنْدٌ ) و تتميمه بلفظة( ما ) و الإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدالّ على البعيد و عدّهم من الأحزاب المتحزّبين على الرسل الّذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر و لذلك عدّ هذا الجند مهزوماً قبل انهزامهم.

و المعنى: هم جند مّا أقلّاء أذلّاء منهزمون هنالك من اُولئك الأحزاب المتحزّبين على الرسل الّذين كذّبوهم فحقّ عليهم عقابي.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ - إلى قوله -فَحَقَّ عِقابِ ) ذو الأوتاد وصف فرعون و الأوتاد جمع وتد و هو معروف. قيل: سمّي بذي الأوتاد لأنّه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، و قيل: لأنّه كان يعذّب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد يوتّد يديه و رجليه و رأسه على الأرض فيعذّبه و قيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، و قيل: غير ذلك من الوجوه، و لا دليل على شي‏ء منها يعوّل عليه.

و أصحاب الأيكة قوم شعيب و قد تقدّم في سورة الحجر و الشعراء، و قوله:( فَحَقَّ عِقابِ ) أي ثبت في حقّهم و استقرّ فيهم عقابي فأهلكتهم.

قوله تعالى: ( وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ ) النظر

١٧٤

الانتظار و الفواق الرجوع و المهلة اليسيرة، و المعنى و ما ينتظر هؤلاء المكذّبون من اُمّتك إلّا صيحة واحدة تقضي عليهم و تهلكهم ما لها من رجوع أو مهلة و هي عذاب الاستئصال.

قالوا: و المراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لأنّ اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤخّر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، و قد عرفت في تفسير سورة يونس أنّ ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) القطّ النصيب و الحظّ، و هذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب و الوعيد بالعذاب فيه.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أقبل أبوجهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إنّ ابن أخيك قد آذاناً و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكفّ عن آلهتنا و نكفّ عن إلهه.

قال: فبعث أبوطالب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاه فلمّا دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتّبع الهدى ثمّ جلس فخبره أبوطالب بما جاؤا به فقال: أ و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطأون أعناقهم؟ فقال أبوجهل: نعم و ما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلّا الله.

قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم و خرجوا و هم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلّا اختلاق فأنزل الله في قولهم( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - إلى قوله -إِلَّا اخْتِلاقٌ‏ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) قال: لمّا أظهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا

١٧٥

أباطالب إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا و سبّ آلهتنا و أفسد شبّابنا و فرّق جماعتنا فإن كان الّذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالاً حتّى يكون أغنى رجل في قريش و نملّكه علينا.

فأخبر أبوطالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال: و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما أردته و لكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب و يدين لهم بها العجم و يكونون ملوكاً في الجنّة فقال لهم أبوطالب ذلك فقالوا: نعم و عشر كلمات فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشهدون أن لا إله إلّا الله و أنّي رسول الله فقالوا: ندع ثلاثمائة و ستّين إلهاً و نعبد إلهاً واحداً؟.

فأنزل الله سبحانه:( وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ - إلى قوله -إِلَّا اخْتِلاقٌ ) أي تخليط( أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي - إلى قوله -مِنَ الْأَحْزابِ ) يعني الّذين تحزّبوا عليه يوم الأحزاب.

أقول: و القصّة مرويّة من طريق أهل السنّة أيضاً و في بعض رواياتهم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتّى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا و قالوا و الكلمة كناية عن تمليكهم إيّاه زمام نظام العالم الأرضيّ فإنّ الشمس و القمر من أعظم المؤثّرات فيه، و قد اُخذاً على ما يظهران للحسّ من القدر ليصحّ ما اُريد من التمثيل.

و في العلل، بإسناده إلى إسحاق بن عمّار قال: سألت أباالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شي‏ء ففرّغ قلبك لتفهم. إنّ أوّل صلاة صلّاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما صلّاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدّام عرشه.

و ذلك أنّه لمّا اُسري به و صار عند عرشه قال: يا محمّد اُدن من صاد فاغسل مساجدك و طهّرها و صلّ لربّك فدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضّأ و أسبغ وضوءه.

١٧٦

قلت: جعلت فداك و ما صاد الّذي اُمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحيوان و هو ما قال الله عزّوجلّ:( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى أعني أنّ ص نهر يخرج من ساق العرش في المعاني، عن سفيان الثوريّ عن الصادقعليه‌السلام ، و روي ذلك في مجمع البيان، عن ابن عبّاس: أنّه اسم من أسماء الله تعالى: قال: و روي ذلك عن الصادقعليه‌السلام .

و في المعاني، بإسناده إلى الأصبغ عن عليّعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ) قال: نصيبهم من العذاب.

١٧٧

( سورة ص الآيات 17 - 29)

اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ  إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 17 ) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ( 18 ) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً  كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ( 19 ) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ( 20 ) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ( 21 ) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ  قَالُوا لَا تَخَفْ  خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ ( 22 ) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ( 23 ) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ  وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ  ( 24 ) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ  وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ( 25 ) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ( 26 ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا  ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا  فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ( 27 ) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا

١٧٨

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( 28 ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ( 29 )

( بيان)

لمّا حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و دعوته الحقّة باختلاق و أنّها ذريعة إلى التقدّم و الرئاسة و أنّه لا مرجّح له عليهم حتّى يختصّ بالرسالة و الإنذار. ثمّ استهزائهم بيوم الحساب و عذابه الّذي ينذرون به، أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن لا يزلزله هفواتهم و لا توهن عزمه و أن يذكر عدّة من عباده الأوّابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث.

و هؤلاء تسعة من الأنبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود و سليمان و أيّوب و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل و اليسع و ذو الكفلعليهم‌السلام ، و بدأ بداودعليه‌السلام و ذكر بعض قصصه.

قوله تعالى: ( اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) الأيد القوّة و كانعليه‌السلام ذا قوّة في تسبيحه تعالى يسبّح و يسبّح معه الجبال و الطير و ذا قوّة في ملكه و ذا قوّة في علمه و ذا قوّة و بطش في الحروب و قد قتل جالوت الملك كما قصّه الله في سورة البقرة.

و الأوّاب اسم مبالغة من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به كثرة رجوعه إلى ربّه.

قوله تعالى: ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ ) الظاهر أنّ( مَعَهُ ) متعلّق بقوله:( يُسَبِّحْنَ ) و جملة( مَعَهُ يُسَبِّحْنَ ) بيان لمعنى التسخير و قدّم الظرف لتعلّق العناية بتبعيّتها لداود و اقتدائها في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع آخر:( وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ ) الأنبياء: 79 يؤيّد تعلّق الظرف بسخّرنا، و قد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) سبأ: 10. و العشيّ و الإشراق الرواح و الصباح.

١٧٩

و قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا ) إلخ( إنّ ) فيه للتعليل و الآية و ما عطف عليها من الآيات بيان لكونهعليه‌السلام ذا أيد في تسبيحه و ملكه و علمه و كونه أوّاباً إلى ربّه.

قوله تعالى: ( وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي و سخّرنا معه الطير مجموعة له تسبّح معه.

و قوله:( كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) استئناف يقرّر ما تقدّمه من تسبيح الجبال و الطير أي كلّ من الجبال و الطير أوّاب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإنّ التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى. و يحتمل رجوع ضمير( لَهُ ) إلى داود على بعد.

و لم يكن تأييد داودعليه‌السلام في أصل جعله تعالى للجبال و الطير تسبيحاً فإنّ كلّ شي‏ء مسبّح لله سبحانه قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الإسراء: 44 بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه و قرع تسبيحها أسماع الناس و قد تقدّم كلام في معنى تسبيح الأشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) الآية و أنّه بلسان القال دون لسان الحال.

قوله تعالى: ( وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ ) قال الراغب: الشدّ العقد القويّ يقال شددت الشي‏ء قوّيت عقده. انتهى فشدّ الملك من الاستعارة بالكناية و المراد به تقوية الملك و تحكيم أساسه بالهيبة و الجنود و الخزائن و حسن التدبير و سائر ما يتقوّى به الملك.

و الحكمة في الأصل بناء نوع من الحكم و المراد بها المعارف الحقّة المتقنة الّتي تنفع الإنسان و تكمّله، و قيل: المراد النبوّة، و قيل الزبور و علم الشرائع، و قيل غير ذلك و هي وجوه رديّة.

و فصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره و تمييز حقّه من باطله و ينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.

و قيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلّاً و لا بإطنابه مملّاً، و قيل: فصل الخطاب قول أمّا بعد فهوعليه‌السلام أوّل من قال: أمّا بعد، و الآية التالية( وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) إلخ تؤيّد ما قدّمناه.

١٨٠