الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161626
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161626 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ) الخصم مصدر كالخصومة اُريد به القوم الّذي استقرّ فيهم الخصومة، و التسوّر الارتقاء إلى أعلى السور و هو الحائط الرفيع كالتسنّم بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير و التذرّي بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبل، و قد فسّر المحراب بالغرفة و العليّة، و الاستفهام للتعجيب و التشويق إلى استماع الخبر.

و المعنى هل أتاك يا محمّد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داودعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلى‏ داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) إلى آخر الآية لفظة( إِذْ ) هذه ظرف لقوله:( تَسَوَّرُوا ) كما أنّ( إِذْ ) الاُولى ظرف لقوله:( نَبَأُ الْخَصْمِ ) و محصّل المعنى أنّهم دخلوا على داود و هو في محرابه لا من الطريق العادّيّ بل بتسوّره بالارتقاء إلى سوره و الورود عليه منه و لذا فزع منهم لمّا رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادّيّ و بغير إذن.

و قوله:( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) قال الراغب: الفزع انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشي‏ء المخيف و هو من جنس الجزع و لا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه. انتهى.

و قد تقدّم أنّ الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب و القلق و هي رذيلة مذمومة إلّا الخشية من الله سبحانه و لذا كان الأنبياءعليهم‌السلام لا يخشون غيره قال تعالى:( وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: 39.

و أنّ الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرّز به من الشرّ و يدفع به المكروه لا في مقام الإدراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتّقاء قال تعالى خطاباً لرسوله:( وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) الأنفال: 58.

و إذا كان الفزع هو الانقباض و النفار الحاصل من الشي‏ء المخوف كان أمراً راجعاً إلى مقام العمل دون الإدراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقّق مكروه ينبغي التحرّز منه فلا ضير في نسبته إلى داودعليه‌السلام في قوله:( فَفَزِعَ مِنْهُمْ ) و هو

١٨١

من الأنبياء الّذين لا يخشون إلّا الله.

و قوله:( قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ ) لمّا رأوا ما عليه داودعليه‌السلام من الفزع أرادوا تطييب نفسه و إسكان روعه فقالوا:( لا تَخَفْ ) و هو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الّذي هو الخوف( خَصْمانِ بَغى‏ ) إلخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلماً على بعض.

و قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ ) إلخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكماً مصاحباً للحقّ و لا تجر في حكمك و دلّنا على وسط العدل من الطريق.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا أَخِي ) إلى آخر الآية بيان لخصومتهم و قوله:( إِنَّ هذا أَخِي ) كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الآخر بأنّ( هَذَا أَخِي لَهُ ) إلخ.

و بهذا يظهر فساد ما استدلّ بعضهم بالآية على أنّ أقلّ الجمع اثنان لظهور قوله:( إِذْ تَسَوَّرُوا ) ( إِذْ دَخَلُوا ) في كونهم جمعاً و دلالة قوله:( خَصْمانِ ) ( هذا أَخِي ) على الاثنينيّة.

و ذلك لجواز أن يكون في كلّ واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى:( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا ) الخ الحجّ: 19 و جواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثمّ يلحق بكلّ منهما غيره لإعانته في دعواه.

و قوله:( لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) النعجة الاُنثى من الضأن، و( أَكْفِلْنِيها ) أي اجعلها في كفالتي و تحت سلطتي و( عَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) أي غلبني فيه و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ - إلى قوله -وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ) جواب داودعليه‌السلام ، و لعلّه قضاء تقديريّ قبل استماع كلام المتخاصم الآخر فإنّ من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقّاً فيما يطلبه و يقترحه على صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيّج الرحمة و العطوفة منه

١٨٢

عليه‌السلام فبادر إلى هذا التصديق التقديريّ فقال:( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ ) .

فاللّام للقسم، و السؤال - على ما قيل - مضمّن معنى الإضافة و لذا عدّي إلى المفعول الثاني بإلى، و المعنى اُقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه.

و قوله:( وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ ) من تمام كلام داودعليه‌السلام يقرّر به كلامه الأوّل و الخلطاء الشركاء المخالطون.

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ ) أي علم داود أنّما فتنّاه بهذه الواقعة أي أنّها إنّما كانت فتنة فتنّاه بها و الفتنة الامتحان، و قيل: ظنّ بمعناه المعروف الّذي هو خلاف اليقين و ذكر استغفاره و توبته مطلقين يؤيّد ما قدّمناه و لو كان الظنّ بمعناه المعروف كان الاستغفار و التوبة على تقدير كونها فتنة واقعاً و إطلاق اللفظة يدفعه، و الخرّ على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير و الخرير يقال لصوت الماء و الريح و غير ذلك ممّا يسقط من علو، و الركوع - على ما ذكره - مطلق الانحناء.

و الإنابة إلى الله - على ما ذكره الراغب - الرجوع إليه بالتوبة و إخلاص العمل و هي من النوب بمعنى رجوع الشي‏ء مرّة بعد اُخرى.

و المعنى: و علم داود أنّ هذه الواقعة إنّما كانت امتحاناً امتحنّاه و أنّه أخطأ فاستغفر ربّه - ممّا وقع منه - و خرّ منحنياً و تاب إليه.

و أكثر المفسّرين تبعاً للروايات على أنّ هؤلاء الخصم الداخلين على داودعليه‌السلام كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه و ستعرف حال الروايات.

لكن خصوصيّات القصّة كتسوّرهم المحراب و دخولهم عليه دخولاً غير عاديّ بحيث أفزعوه، و كذا تنبّهه بأنّه إنّما كان فتنة من الله له لا واقعة عاديّة، و قوله تعالى بعد:( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ ) الظاهر في أنّ الله ابتلاه بما ابتلى لينبّهه و يسدّده في خلافته و حكمه بين الناس، كلّ ذلك يؤيّد كونهم من الملائكة

١٨٣

و قد تمثّلوا له في صورة رجال من الإنس.

و على هذا فالواقعة تمثّل تمثّل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع و تسعون نعجة و سألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة:( لَقَدْ ظَلَمَكَ ) إلخ و كان قولهعليه‌السلام - لو كان قضاء منجّزاً - حكماً منه في ظرف التمثّل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال و حكم فيهم بما حكم و من المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثّل كما لا تكليف في عالم الرؤيا و إنّما التكليف في عالمنا المشهود و هو عالم المادّة و لم تقع الواقعة فيه و لا كان هناك متخاصمان و لا نعجة و لا نعاج إلّا في ظرف التمثّل فكانت خطيئة داودعليه‌السلام في هذا الظرف من التمثّل و لا تكليف هناك كخطيئة آدمعليه‌السلام في الجنّة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض و تشريع الشرائع و جعل التكاليف، و استغفاره و توبته ممّا صدر منه كاستغفار آدم و توبته ممّا صدر منه و قد صرّح الله بخلافته في كلامه كما صرّح بخلافة آدمعليه‌السلام في كلامه و قد مرّ توضيح ذلك في قصّة آدمعليه‌السلام من سورة البقرة في الجزء الأوّل من الكتاب.

و أمّا على قول بعض المفسّرين من أنّ المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشراً و القصّة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله:( لَقَدْ ظَلَمَكَ ) إلخ قضاء تقديرياً أي إنّك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجّة بيّنة، و إنّما ذلك لحفظ على ما قامت عليه الحجّة من طريقي العقل و النقل أنّ الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة و لا صغيرة.

على أنّ الله سبحانه صرّح قبلاً بأنّه آتاه الحكمة و فصل الخطاب و لا يلائم ذلك خطأه في القضاء.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وَ حُسْنَ مَآبٍ ) الزلفة و الزلفى المنزلة و الحظوة، و المآب المرجع، و تنكير( لَزُلْفى) و( مَآبٍ ) للتفخيم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية الظاهر أنّ الكلام بتقدير القول و التقدير فغفرنا له ذلك و قلنا يا داود إلخ.

و ظاهر الخلافة أنّها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ

١٨٤

لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: 30 و من شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة من استخلفه في صفاته و أعماله فعلى خليفة الله في الأرض أن يتخلّق بأخلاق الله و يريد و يفعل ما يريده الله و يحكم و يقضي بما يقضي به الله - و الله يقضي بالحقّ - و يسلك سبيل الله و لا يتعدّاها.

و لذلك فرّع على جعل خلافته قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) و هذا يؤيّد أنّ المراد بجعل خلافته إخراجها من القوّة إلى الفعل في حقّه لا مجرّد الخلافة الشأنيّة لأنّ الله أكمله في صفاته و آتاه الملك يحكم بين الناس.

و قول بعضهم: إنّ المراد بخلافته المجعولة خلافته ممّن قبله من الأنبياء و تفريع قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) لأنّ الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أنّ المترتّب هو مطلق الحكم بين الناس الّذي هو من آثار الخلافة و تقييده بالحقّ لأنّ سداده به، تصرّف في اللفظ من غير شاهد.

و قوله:( وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) العطف و المقابلة بينه و بين ما قبله يعطيان أنّ المعنى و لا تتّبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلّك عن الحقّ الّذي هو سبيل الله فتفيد الآية أنّ سبيل الله هو الحقّ.

قال بعضهم: إنّ في أمرهعليه‌السلام بالحكم بالحقّ و نهيه عن اتّباع الهوى تنبيهاً لغيره ممّن يلي اُمور الناس أن يحكم بينهم بالحقّ و لا يتّبع الباطل و إلّا فهوعليه‌السلام من حيث إنّه معصوم لا يحكم إلّا بالحقّ و لا يتّبع الباطل.

و فيه أنّ أمر تنبيه غيره بما وجّه إليه من التكليف في محلّه لكن عصمة المعصوم و عدم حكمه إلّا بالحقّ لا يمنع توجه التكليف بالأمر و النهي إليه فإنّ العصمة لا توجب سلب اختياره و ما دام اختياره باقياً جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجّه إلى غيره من الناس، و لو لا توجّه التكليف إلى المعصوم لم يتحقّق بالنسبة إليه واجب و محرّم و لم تتميّز طاعة من معصية فلغا معنى العصمة الّتي هي المصونيّة عن المعصية.

و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ )

١٨٥

تعليل للنهي عن اتّباع الهوى بأنّه يلازم نسيان يوم الحساب و في نسيانه عذاب شديد و المراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره.

و في الآية دلالة على أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) إلى آخر الآية، لمّا انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتجّ عليه بحجّتين إحداهما ما ساقه في هذه الآية بقوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ ) إلخ و هو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء و الأرض و ما بينهما - و هي اُمور مخلوقة مؤجّلة توجد و تفنى - مؤدّياً إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجّلة كان باطلاً و الباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقّق في الأعيان. على أنّه مستحيل من الحكيم و لا ريب في حكمته تعالى.

و ربّما اُطلق الباطل و اُريد به اللعب و لو كان المراد ذلك كانت الآية في معنى قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) الدخان: 39.

و قيل: الآية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنّه قيل: و لا تتّبع الهوى لأنّه يكون سبباً لضلالك و لأنّه تعالى لم يخلق العالم لأجل اتّباع الهوى و هو الباطل بل خلقه للتوحيد و متابعة الشرع.

و فيه أنّ الآية التالية:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ) إلخ لا تلائم هذا المعنى.

و قوله:( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) أي خلق العالم باطلاً لا غاية له و انتفاء يوم الحساب الّذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الاُمور ظنّ الّذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار.

قوله تعالى: ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) هذه هي الحجّة الثانية على المعاد و تقريرها أنّ للإنسان

١٨٦

كسائر الأنواع كمالاً بالضرورة و كمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم و العمل من القوّة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقّة و يعمل الأعمال الصالحة اللّتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة و هما الإيمان بالحقّ و العمل الصالح اللّذين بهما يصلح المجتمع الإنسانيّ الّذي في الأرض.

فالّذين آمنوا و عملوا الصالحات و هم المتّقون هم الكاملون من الإنسان و المفسدون في الأرض بفساد اعتقادهم و عملهم و هم الفجّار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيّتهم حقيقة، و مقتضى هذا الكمال و النقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة و عيش طيّب و بإزاء خلافه خلاف ذلك.

و من المعلوم أنّ هذه الحياة الدنيا الّتي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب و العوامل المادّيّة و نسبتها إلى الكامل و الناقص و المؤمن و الكافر على السواء فمن أجاد العمل و وافقته الأسباب المادّيّة فاز بطيب العيش و من كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء و ضنك المعيشة.

فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيويّة الّتي نسبتها إلى الفريقين على السواء و لم تكن هناك حياة تختصّ بكلّ منهما و تناسب حاله كان ذلك منافياً للعناية الإلهيّة بإيصال كلّ ذي حقّ حقّه و إعطاء المقتضيات ما تقتضيه.

و إن شئت فقل: تسوية(1) بين الفريقين و إلغاء ما يقتضيه صلاح هذا و فساد ذلك خلاف عدله تعالى.

و الآية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن و الكافر و إنّما قرّرت المقابلة بين من آمن و عمل صالحاً و بين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمناً غير صالح و لذا أتت بالمقابلة ثانياً بين المتّقين و الفجّار.

قوله تعالى: ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي هذا كتاب من وصفه كذا و كذا، و توصيفه بالإنزال المشعر بالدفعة دون

____________________

(1) الحجّة الأولى برهانية و الثانية جدلية.

١٨٧

التنزيل الدالّ على التدريج لأنّ ما ذكر من التدبّر و التذكّر يناسب اعتباره مجموعاً لا نجوماً مفرّقة.

و المقابلة بين( لِيَدَّبَّرُوا ) و( لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) تفيد أنّ المراد بضمير الجمع الناس عامّة.

و المعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات و البركات للعامّة و الخاصّة ليتدبّره الناس فيهتدوا به أو تتمّ لهم الحجّة و ليتذكّر به اُولو الألباب فيهتدوا إلى الحقّ باستحضار حجّته و تلقّيها من بيانه.

( بحث روائي)

روي في الدرّ المنثور، بطريق عن أنس و عن مجاهد و السديّ و بعدّة طرق عن ابن عبّاس قصّة دخول الخصم على داودعليه‌السلام على اختلاف ما في الروايات و روى مثلها القمّيّ في تفسيره، و رواها في العرائس، و غيره و قد لخصّها في مجمع البيان، كما يأتي: إنّ داود كان كثير الصلاة فقال: يا ربّ فضّلت عليّ إبراهيم فاتّخذته خليلاً و فضّلت عليّ موسى فكلّمته تكليماً فقال: يا داود إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا ربّ فابتلني.

فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب فذهب ليأخذها فاطّلع من الكوّة فإذا امرأة اُوريا بن حيّان تغتسل فهواها و همّ بتزويجها فبعث باُوريا إلى بعض سراياه و أمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة ففعل ذلك و قتل.

فلمّا انقضت عدّتها تزوّجها و بنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض - إلى قوله - و قليل مّا هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثمّ ضحك فتنبّه داود على أنّهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب و بكى حتّى نبت الزرع من كثرة دموعه.

١٨٨

ثمّ قال في المجمع - و نعم ما قال -: إنّه ممّا لا شبهة في فساده فإنّ ذلك ممّا يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الّذين هم اُمناؤه على وحيه و سفراؤه بينه و بين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته و على حالة تنفرّ عن الاستماع إليه و القبول منه.

أقول: و القصّة مأخوذة من التوراة غير أنّ الّتي فيها أشنع و أفظع فعدّلت بعض التعديل على ما سيلوح لك.

ففي التوراة ما ملخّصه: و كان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره و تمشّي على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحمّ و كانت المرأة جميلة المنظر جدّاً.

فأرسل داود و سأل عن المرأة فقيل: إنّها بَتشَبَع امرأة اُوريّا الحثّي فأرسل داود رسلاً و أخذها فدخلت عليه فاضطجع معها و هي مطهّرة من طمثها ثمّ رجعت إلى بيتها و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود أنها حبلى.

و كان اُوريّا في جيش لداود يحاربون بني عَمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال اُوريّا إليه و لمّا أتاه و أقام عنده أيّاماً كتب مكتوباً إلى يوآب(1) و أرسله بيد اُوريّا، و كتب في المكتوب يقول: اجعلوا اُوريّا في وجه الحرب الشديدة و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ففعل به ذلك فقتل و اُخبر داود بذلك.

فلمّا سمعت امرأة اُوريّا أنّه قد مات ندبت بعلها و لمّا مضت المناحة أرسل داود و ضمّها إلى بيته و صارت له امرأة و ولدت له ابناً و أمّا الأمر الّذي فعله داود فقبح في عيني الربّ.

فأرسل الربّ ناثان النبيّ إلى داود فجاء إليه و قال له: كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غنيّ و الآخر فقير، و كان للغنيّ غنم و بقر كثيرة جدّاً و أمّا الفقير فلم يكن له شي‏ء إلّا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها و ربّاها فجاء ضيف إلى الرجل الغنيّ فعفا أن يأخذ من غنمه و من بقره ليهيّئ للضيف الّذي جاء إليه فأخذ نعجة

____________________

(1) ملخص من الإصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من صموئيل الثاني.

١٨٩

الرجل الفقير و هيّأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدّاً و قال لناثان: حيّ هو الربّ إنّه يقتل الرجل الفاعل ذلك و تردّ النعجة أربعة أضعاف لأنّه فعل هذا الأمر و لأنّه لم يشفق.

فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الربّ و يقول: ساُقيم عليك الشرّ من بيتك و آخذ نساءك أمام عينيك و اُعطيهنّ لقريبك فيضطجع معهنّ قدّام جميع إسرائيل و قدّام الشمس جزاء لما فعلت باُوريّا و امرأته.

فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الربّ فقال ناثان لداود: الربّ أيضاً قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنّه من أجل أنّك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الربّ يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبيّ سبعة أيّام ثمّ قبضه ثمّ ولدت مرأة اُوريّا بعده لداود ابنه سليمان.

و في العيون، في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل و المقالات: قال‏ الرضاعليه‌السلام لابن جهم: و أمّا داود فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إنّ داود كان يصلّي في محرابه إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته و قام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في إثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار اُوريا بن حيّان.

فاطّلع داود في إثر الطير فإذا بامرأة اُوريّا تغتسل فلمّا نظر إليها هواها و كان قد أخرج اُوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّم اُوريا أمام التابوت فقدّم فظفر اُوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم فقتل اُوريا و تزوّج داود بامرأته.

قال: فضرب الرضاعليه‌السلام يده على جبهته و قال: إنّا لله و إنّا إليه راجعون لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ثمّ بالقتل.

فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك إنّ داودعليه‌السلام إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه فبعث الله عزّوجلّ إليه الملكين فسوّراً المحراب

١٩٠

فقال: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط إنّ هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال أكفلنيها و عزّني في الخطاب فعجّل داود على المدّعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و لم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، و لم يقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع الله عزّوجلّ يقول:( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية.

فقال: يا ابن رسول الله ما قصّته مع اُوريا؟ قال الرضاعليه‌السلام : إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً فأوّل من أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داودعليه‌السلام فتزوّج بامرأة اُوريا لمّا قتل و انقضت عدّتها فذلك الّذي شقّ على الناس من قتل اُوريا.

و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه قال لعلقمة: إنّ رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوا داودعليه‌السلام إلى أنّه تبع الطير حتّى نظر إلى امرأة اُوريا فهواها، و أنّه قدّم زوجها أمام التابوت حتّى قتل ثمّ تزوّج بها الحديث.

( كلام في قصص داود في فصول)

1- قصّته في القرآن: لم يقع من قصّته في القرآن إلّا إشارات فقد ذكر سبحانه أنّه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فأتاه الله الملك بعد طالوت و الحكمة و علّمه ممّا يشاء( البقرة: 251) و جعله خليفة له يحكم بين الناس و آتاه فصل الخطاب( ص: 20 و 26) و قد أيّد الله ملكه و سخّر معه الجبال و الطير يسبّحن معه( الأنبياء: 79، ص: 19) و ألان له الحديد يعمل و ينسج منه الدروع( الأنبياء: 80 سبأ: 11) .

2- جميل الثناء عليه في القرآن: عدّه سبحانه من الأنبياء و أثنى عليه بما أثنى عليهم و خصّه بقوله:( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) ( النساء: 163)

١٩١

و آتاه فضلاً و علماً( سبأ: 10 النمل: 15) و آتاه الحكمة و فصل الخطاب و جعله خليفة في الأرض( ص: 20 و 26) و وصفه بأنّه أوّاب و أنّ له عنده لزلفى و حسن مآب( ص: 19 و 25) .

3- حول قصّة المتخاصمين: التدبّر في آيات الكتاب المتعرّضة لقصّة دخول المتخاصمين على داودعليه‌السلام لا يعطي أزيد من كونه امتحاناً منه تعالى لهعليه‌السلام في ظرف التمثّل ليربّيه تربية إلهيّة و يعلّمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم و لا يعدل عن العدل.

و أمّا ما تضمّنته غالب الروايات من قصّة اُوريا و امرأته فهو ممّا يجل عنه الأنبياءعليهم‌السلام و يتنزّه عنه ساحتهم و قد تقدّم في بيان الآيات و البحث الروائي محصّل الكلام في ذلك.

١٩٢

( سورة ص الآيات 30 - 40)

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ  نِعْمَ الْعَبْدُ  إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 30 ) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ( 31 ) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ( 32 ) رُدُّوهَا عَلَيَّ  فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ( 33 ) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ( 34 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي  إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( 35 ) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ( 36 ) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ( 37 ) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ( 38 ) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 39 ) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ ( 40 )

( بيان)

القصّة الثانية من قصص العباد الأوّابين الّتي اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبر و يذكرها.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أي وهبناه له ولداً و الباقي ظاهر ممّا تقدّم.

قوله تعالى: ( إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) العشيّ مقابل الغداة و هو آخر النهار بعد الزوال، و الصافنات على ما في المجمع، جمع الصافنة من الخيل و

١٩٣

هي الّتي تقوم على ثلاث قوائم و ترفع إحدى يديها حتّى تكون على طرف الحافر. قال: و الجياد جمع جواد و الياء ههنا منقلبة عن واو و الأصل جواد و هي السراع من الخيل كأنّها تجود بالركض. انتهى.

قوله تعالى: ( فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) الضمير لسليمان، و المراد بالخير: الخيل - على ما قيل - فإنّ العرب تسمّي الخيل خيراً و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.

و قيل: المراد بالخير المال الكثير و قد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) البقرة: 180.

و قوله:( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) قالوا: إنّ( أَحْبَبْتُ ) مضمّن معنى الإيثار و( عَنْ ) بمعنى على، و المراد إنّي آثرت حبّ الخيل على ذكر ربّي و هو الصلاة محبّاً إيّاه أو أحببت الخيل حبّاً مؤثّراً إيّاه على ذكر ربّي فاشتغلت بما عرض عليّ من الخيل عن الصلاة حتّى غربت الشمس.

و قوله:( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) الضمير على ما قالوا للشمس و المراد بتواريها بالحجاب غروبها و استتارها تحت حجاب الاُفق، و يؤيّد هذا المعنى ذكر العشيّ في الآية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتّب على ذكر العشيّ.

فمحصّل معنى الآية أنّي شغلني حبّ الخيل - حين عرض الخيل عليّ - عن الصلاة حتّى فات وقتها بغروب الشمس، و إنّما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيّأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنّه يعدّ الصلاة أهمّ.

و قيل: ضمير( تَوارَتْ ) للخيل و ذلك أنّه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتّى غابت عن نظره و توارت بحجاب البعد، و قد تقدّم أنّ ذكر العشيّ يؤيّد المعنى السابق و لا دليل على ما ذكره من حديث الأمر بالجري من لفظ الآية.

قوله تعالى: ( رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ ) قيل: الضمير في( رُدُّوها ) للشمس و هو أمر منه للملائكة بردّ الشمس ليصلّي صلاته في وقتها، و قوله:

١٩٤

( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ ) أي شرع يمسح ساقيه و عنقه و يأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم و أعناقهم و كان ذلك وضوءهم ثمّ صلّى و صلّوا، و قد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قيل: الضمير للخيل و المعنى قال: ردّوا الخيل فلمّا ردّت. شرع يمسح مسحاً بسوقها و أعناقها و يجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.

و قيل: الضمير للخيل و المراد بمسح أعناق الخيل و سوقها ضربها بالسيف و قطعها و المسح القطع فهوعليه‌السلام غضب عليها في الله لمّا شغلته عن ذكر الله فأمر بردّها ثمّ ضرب بالسيف أعناقها و سوقها فقتلها جميعاً.

و فيه أنّ مثل هذا الفعل ممّا تتنزّه ساحة الأنبياءعليهم‌السلام عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتّى تؤاخذ بأشدّ المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم.

و أمّا استدلال بعضهم عليه‏ برواية أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ ) قطع سوقها و أعناقها بالسيف‏ ثمّ أضاف إليها و قد جعلها بذلك قرباناً لله و كان تقريب الخيل مشروعاً في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث و لا في غيره.

على أنّهعليه‌السلام لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدّمت الإشارة إليه.

فالمعوّل عليه هو أوّل الوجوه إن ساعده لفظ الآية و إلّا فالوجه الثاني.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ) الجسد هو الجسم الّذي لا روح فيه.

قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيّه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به و تقدير الكلام ألقيناه على كرسيّه جسداً أي كجسد لا روح فيه من شدّة المرض.

و فيه أنّ حذف الضمير من( ألقيناه) و إخراج الكلام على صورته الّتي في الآية الظاهرة في أنّ الملقى هو الجسد مخلّ بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه.

١٩٥

و لسائر المفسّرين أقوال مختلفة في المراد من الآية تبعاً للروايات المختلفة الواردة فيها و الّذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالاً أنّه كان جسد صبيّ له أماته الله و ألقى جسده على كرسيّه، و لقوله:( ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ) إشعار أو دلالة على أنّه كان لهعليه‌السلام فيه رجاء أو اُمنيّة في الله فأماته الله سبحانه و ألقاه على كرسيّه فنبّهه أن يفوّض الأمر إلى الله و يسلّم له.

قوله تعالي: ( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ظاهر السياق أنّ الاستغفار مرتبط بما في الآية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيّه، و الفصل لكون الكلام في محلّ دفع الدخل كأنّه لمّا قيل:( ثُمَّ أَنابَ ) قيل: فما ذا قال؟ فقيل:( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ) إلخ.

و ربّما استشكل في قوله:( وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) أنّ فيه ضنّاً و بخلاً، فإنّ فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما اُوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره.

و يدفعه أنّ فيه سؤال ملك يختصّ به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه و يحرمه ففرق بين أن يسأل ملكاً اختصاصيّاً و أن يسأل الاختصاص بملك اُوتيه.

قوله تعالى: ( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) متفرّع على سؤاله الملك و إخباره عن إجابة دعوته و بيان الملك الّذي لا ينبغي لأحد غيره و هو تسخير الريح و الجنّ.

و الرخاء بالضمّ اللينة و الظاهر أنّ المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لأمره و سهولة جريانها على ما يريدهعليه‌السلام فلا يرد أنّ توصيف الريح ههنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله:( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) الأنبياء: 81 بكونها عاصفة.

و ربّما اُجيب عنه بأنّ من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة و عاصفة اُخرى حسب ما أراد سليمانعليه‌السلام .

و قوله:( حَيْثُ أَصابَ ) أي حيث شاء سليمانعليه‌السلام و قصد و هو متعلّق بتجري.

١٩٦

قوله تعالى: ( وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ ) أي و سخّرنا له الشياطين من الجنّ كلّ بنّاء منهم يبني له في البرّ و كلّ غوّاص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالئ و غيرها.

قوله تعالى: ( وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) الأصفاد جمع صفد و هو الغلّ من الحديد، و المعنى سخّرنا له آخرين منهم مجموعين في الأغلال مشدودين بالسلاسل.

قوله تعالى: ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) أي هذا الّذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب و الظاهر أنّ المراد بكونه بغير حساب أنّه لا ينفد بالعطاء و المنّ و لذا قيل:( فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ) أي إنّهما يستويان في عدم التأثير فيه.

و قيل: المراد بغير حساب أنّك لا تحاسب عليه يوم القيامة، و قيل: المراد أنّ إعطاءه تفضّل لا مجازاة و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى‏ وَ حُسْنَ مَآبٍ ) تقدّم معناه.

( بحث روائي)

و في المجمع في قوله تعالى:( فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) الآية قيل: إنّ هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها: عن عليّعليه‌السلام و في رواية أصحابنا: أنّه فاته أوّل الوقت.

و فيه، قال ابن عبّاس: سألت عليّاً عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعت كعباً يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة فقال: ردّوها عليّ يعني الأفراس و كانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوماً لأنّه ظلم الخيل بقتلها.

فقال عليّ: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنّه أراد جهاد العدوّ حتّى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكّلين بالشمس: ردّوها عليّ فردّت فصلّى العصر في وقتها و إنّ أنبياء الله لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم

١٩٧

لأنّهم معصومون مطهّرون.

أقول: و قول كعب الأحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الّذي سنشير إليه.

و في الفقيه، روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: إنّ سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردّوا الشمس عليّ حتّى اُصلّي صلاتي في وقتها فردّوها فقام و مسح ساقيه و عنقه بمثل ذلك و كان ذلك وضوءهم للصلاة ثمّ قام فصلّى فلمّا فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول الله عزّوجلّ:( وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ - إلى قوله -مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ ) .

أقول: و الرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الآية أعني قوله:( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ ) على ما فيها من المعنى، و أمّا مسألة ردّ الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الأنبياء، و قد ورد ردّها لغيرهعليه‌السلام كيوشع بن نون و عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام في النقل المعتبر و لا يعبؤ بما أورده الرازيّ في تفسيره الكبير،.

و أمّا عقرهعليه‌السلام الخيل و ضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدّة روايات من طرق أهل السنّة و أورده القمّيّ في تفسيره، و كأنّها تنتهي إلى كعب كما مرّ في رواية ابن عبّاس المتقدّمة و كيف كان فلا يعبؤ بها كما تقدّم.

و قد بلغ من إغراقهم في القصّة أن رووا أنّ الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنة و مثله ما روي في قوله:( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) عن كعب أنّه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرّت السماء.

و مثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى:( وَ أَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ) الآية كما روي: أنّه ولد له ولد فأمر بإرضاعه و حفظه في السحاب إشفاقاً عليه من مردة الجنّ و في بعضها خوفاً عليه من ملك الموت فوقع يوماً جسده على كرسيّه ميتاً.

و ما روي: أنّه قال يوماً: لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كلّ واحدة منهنّ لي فارساً يجاهد في سبيل الله و لم يستثن فلم تحمل منهنّ إلّا واحدة بشقّ

١٩٨

من ولد و كان يحبّه فخبأه له بعض الجنّ من ملك الموت فأخذه من مخبإه و قبضه على كرسيّ سليمان.

و ما روي في روايات كثيرة تنتهي عدّة منها إلى ابن عبّاس و هو يصرّح في بعضها أنّه أخذه عن كعب: أنّ ملك سليمان كان في خاتمه فتخطّفه شيطان منه فزال ملكه و تسلّط الشيطان على ملكه أيّاماً ثمّ أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك‏، و قد أوردوا في القصّة اُموراً ينبغي أن تنزّه ساحة الأنبياءعليهم‌السلام عن ذكرها فضلاً عن نسبتها إليهم. قالوا: و جلوس الشيطان على كرسيّ سليمان هو المراد بقوله تعالى:( وَ أَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ) الآية.

فهذه(1) كلّها ممّا لا يعبؤ بها على ما تقدّمت الإشارة إليه و إنّما هي ممّا لعبت بها أيدي الوضع.

____________________

(1) ليراجع في الحصول على عامّة هذه الروايات الدرّ المنثور.

١٩٩

( سورة ص الآيات 41 - 48)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( 41 ) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ  هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( 42 ) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( 43 ) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ  إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا  نِّعْمَ الْعَبْدُ  إِنَّهُ أَوَّابٌ ( 44 ) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ( 45 ) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( 46 ) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ( 47 ) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ  وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ( 48 )

( بيان)

القصّة الثالثة ممّا اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصبر و يذكرها و هي قصّة أيّوب النبيّعليه‌السلام و ما ابتلي به من المحنة ثمّ أكرمه الله بالعافية و العطيّة. ثمّ الأمر بذكر إبراهيم و خمسة من ذرّيّته من الأنبياءعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ ) دعاء منهعليه‌السلام و سؤال للعافية و أن يكشف عنه ربّه ما أصابه من سوء الحال، و لم يصرّح بما يريده و يسأله تواضعاً و تذلّلاً غير أنّ نداءه تعالى بلفظ ربّي يشعر بأنّه يناديه لحاجة.

و النصب التعب، و قوله:( إِذْ نادى‏ ) إلخ بدل اشتمال من( عَبْدَنا ) أو( أَيُّوبَ ) و قوله:( أَنِّي مَسَّنِيَ ) إلخ حكاية ندائه.

٢٠٠