الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161659
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161659 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و الظاهر من الآيات التالية أنّ مراده من النصب و العذاب ما أصابه من سوء الحال في بدنه و أهله و هو الّذي ذكره عنهعليه‌السلام في سورة الأنبياء من ندائه( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) بناء على شمول الضرّ مصيبته في نفسه و أهله و لم يشر في هذه السورة و لا في سورة الأنبياء إلى ذهاب ماله و إن وقع ذكر المال في الروايات.

و الظاهر أنّ المراد من مسّ الشيطان له بالنصب و العذاب استناد نصبه و عذابه من الشيطان بنحو من السببيّة و التأثير و هو الّذي يظهر من الروايات، و لا ينافي استناد المرض و نحوه إلى الشيطان استناده أيضاً إلى بعض الأسباب العاديّة الطبيعيّة لأنّ السببين ليساً عرضيّين متدافعين بل أحدهما في طول الآخر و قد أوضحنا ذلك في تفسير قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ) الأعراف: 96 في الجزء الثامن من الكتاب.

و لا دليل يدلّ على امتناع وقوع هذا النوع من التأثير للشيطان في الإنسان و قد قال تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) المائدة: 90 فنسبها أنفسها إليه، و قال حاكيا عن موسىعليه‌السلام :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) القصص: 15 يشير إلى الاقتتال.

و لو اُغمض عن الروايات أمكن أن يحتمل أن يكون المراد بانتساب ذلك إلى الشيطان إغراؤه الناس بوسوسته أن يتجنّبوا من الاقتراب منه و ابتعادهم و طعنهم فيه أن لو كان نبيّاً لم تحط به البليّة من كلّ جانب و لم يصر إلى ما صار إليه من العاقبة السوأى و شماتتهم و استهزاؤهم به.

و قد أنكر في الكشّاف، ما تقدّم من الوجه قائلاً: لا يجوز أن يسلّط الله الشيطان على أنبيائهعليهم‌السلام ليقضي من تعذيبهم و إتعابهم وطره و لو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلّا و قد نكبه و أهلكه، و قد تكرّر في القرآن أنّه لا سلطان له إلّا الوسوسة فحسب. انتهى.

و فيه أنّ الذي يخصّ الأنبياء و أهل العصمة أنّهم لمكان عصمتهم في أمن من تأثير الشيطان في نفوسهم بالوسوسة، و أمّا تأثيره في أبدانهم و سائر ما ينسب إليهم

٢٠١

بإيذاء أو إتعاب أو نحو ذلك من غير إضلال فلا دليل يدلّ على امتناعه، و قد حكى الله سبحانه عن فتى موسى و هو يوشع النبيّعليهما‌السلام :( فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) الكهف: 63.

و لا يلزم من تسلّطه على نبيّ بالإيذاء و الإتعاب لمصلحة تقتضيه كظهور صبره في الله سبحانه و أوبته إليه أن يقدر على ما يشاء فيمن يشاء من عباد الله تعالى إلّا أن يشاء الله ذلك و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ ) وقوع الآية عقيب ندائه و مسألته يعطي أنّه إيذان باستجابة دعائه و أنّ قوله تعالى:( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) إلخ حكاية لما اُوحي إليه عند الكشف عن الاستجابة أو هو بإضمار القول و التقدير فاستجبنا له و قلنا: اركض إلخ و سياق الأمر مشعر بل كاشف عن أنّه كان لا يقدر على القيام و المشي بقدميه و كان مصاباً في سائر بدنه فأبرأ الله ما في رجليه من ضرّ و أظهر له عينا هناك و أمره أن يغتسل منها و يشرب حتّى يبرأ ظاهر بدنه و باطنه و يتأيّد بذلك ما سيأتي من الرواية.

و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فركض برجله و اغتسل و شرب فبرّأه الله من مرضه.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى‏ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ورد في الرواية أنّه ابتلي فيما ابتلي بموت جميع أهله إلّا امرأته و أنّ الله أحياهم له و وهبهم له و مثلهم معهم، و قيل: إنّهم كانوا قد تفرّقوا عنه أيّام ابتلائه فجمعهم الله إليه بعد برئه و تناسلوا فكانوا مثلي ما كانوا عدداً.

و قوله:( رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى‏ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) مفعول له أي فعلنا به ما فعلنا ليكون رحمة منّا و ذكرى لاُولي الألباب يتذكّرون به.

قوله تعالى: ( وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) في المجمع: الضغث مل‏ء الكفّ من الشجرة و الحشيش و الشماريخ و نحو ذلك انتهى، و كانعليه‌السلام قد حلف لئن عوفي أن يجلد امرأته مائة جلدة لأمر

٢٠٢

أنكره عليها على ما سيأتي من الرواية فلمّا عافاه الله تعالى أمره أن يأخذ بيده ضغثاً بعدد ما حلف عليه من الجلدات فيضربها به و لا يحنث.

و في سياق الآية تلويح إلى ذلك و إنّما طوي ذكر المرأة و سبب الحلف تأدّباً و رعاية لجانبه.

و قوله:( إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ) أي فيما ابتليناه به من المرض و ذهاب الأهل و المال، و الجملة تعليل لقوله:( وَ اذْكُرْ ) أو لقوله:( عَبْدَنا ) أي لتسميته عبداً و إضافته إليه تعالى، و الأوّل أولى.

و قوله:( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) مدح لهعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ ) مدحهم بتوصيفهم بأنّ لهم الأيدي و الأبصار و يد الإنسان و بصره إنّما يمدحان إذا كانا يد إنسان و بصر إنسان و استعملاً فيما خلقاً له و خدماً الإنسان في إنسانيّته فتكتسب اليد صالح العمل و يجري منها الخير على الخلق و يميز البصر طرق العافية و السلامة من موارد الهلكة و يصيب الحقّ و لا يلتبس عليه الباطل.

فيكون كونهم اُولي الأيد و الأبصار كناية عن قوّتهم في الطاعة و إيصال الخير و تبصّرهم في إصابة الحقّ في الاعتقاد و العمل و قد جمع المعنيين في قوله تعالى:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ ) الأنبياء: 73 فجعلهم أئمّة و الأمر و الوحي لأبصارهم و فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة لأيديهم(1) و إليه يؤل ما في الرواية من تفسير ذلك باُولي القوّة في العبادة و البصر فيها.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) الخالصة وصف قائم مقام موصوفه، و الباء للسببيّة و التقدير بسبب خصلة خالصة، و( ذِكْرَى الدَّارِ ) بيان للخصلة و الدار هي الدار الآخرة.

و الآية أعني قوله:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ ) إلخ لتعليل ما في الآية السابقة من قوله:

____________________

(1) رواها القمّي في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام .

٢٠٣

( أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ ) أو لقوله:( عِبادَنا ) أو لقوله:( وَ اذْكُرْ ) و أوجه الوجوه أوّلها، و ذلك لأنّ استغراق الإنسان في ذكرى الدار الآخرة و جوار ربّ العالمين و ركوز همّه فيها يلازم كمال معرفته في جنب الله تعالى و إصابة نظره في حقّ الاعتقاد و التبصّر في سلوك سبيل العبوديّة و التخلّص عن الجمود على ظاهر الحياة الدنيا و زينتها كما هو شأن أبنائها قال تعالى‏:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: 30.

و معنى الآية و إنّما كانوا اُولي الأيدي و الأبصار لأنّا أخلصناهم بخصلة خالصة غير مشوبة عظيمة الشأن هي ذكرى الدار الآخرة.

و قيل: المراد بالدار هي الدنيا و المراد بالآية بقاء ذكرهم الجميل في الألسن ما دامت الدنيا كما قال تعالى:( وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ - إلى أن قال -وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) مريم: 50 و الوجه السابق أوجه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ) تقدّم أنّ الاصطفاء يلازم الإسلام التامّ لله سبحانه، و في الآية إشارة إلى قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) آل عمران: 33.

و الأخيار جمع خير مقابل الشرّ على ما قيل، و قيل: جمع خير بالتشديد أو التخفيف كأموات جمع ميّت بالتشديد أو بالتخفيف.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) معناه ظاهر.

( كلام في قصّة أيّوبعليه‌السلام في فصول)

1- قصته في القرآن: لم يذكر من قصّته في القرآن إلّا ابتلاؤه بالضرّ في نفسه و أولاده ثمّ تفريجه تعالى بمعافاته و إيتائه أهله و مثلهم معهم رحمة منه و ذكرى للعابدين (الأنبياء: 83 - 84. ص: 41 - 44).

2- جميل ثنائه: ذكره تعالى في زمرة الأنبياء من ذرّيّة إبراهيمعليهم‌السلام في

٢٠٤

سورة الأنعام و أثنى عليهم بكلّ ثناء جميل (الأنعام: 84 - 90) و ذكره في سورة ص فعده صابراً و نعم العبد و أوّاباً (ص: 44).

3- قصّته في الروايات: في تفسير القميّ، حدّثني أبي عن ابن فضّال عن عبدالله بن بحر عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن بليّة أيّوب الّتي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ قال: لنعمة أنعم الله عزّوجلّ عليه بها في الدنيا و أدّى شكرها و كان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش فلمّا صعد و رأى شكر نعمة أيّوب حسده إبليس.

فقال: يا ربّ إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا و لو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبداً فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليه شكر نعمة أبداً فقيل له: قد سلّطتك على ماله و ولده.

قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالاً و لا ولداً إلّا أعطبه فازداد أيّوب لله شكراً و حمداً، و قال: فسلّطني على زرعه يا ربّ. قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيّوب لله شكراً و حمداً فقال: يا ربّ سلّطني على غنمه فأهلكها فازداد أيّوب لله شكراً و حمداً.

فقال: يا ربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله و عينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه فبقي في ذلك دهراً طويلاً يحمد الله و يشكره حتّى وقع في بدنه الدود فكانت تخرج من بدنه فيردّها فيقول لها: ارجعي إلى موضعك الّذي خلقك الله منه، و نتن حتّى أخرجه أهل القرية من القرية و ألقوه في المزبلة خارج القرية.

و كانت امرأته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام و عليها يتصدّق من الناس و تأتيه بما تجده.

قال: فلمّا طال عليه البلاء و رأى إبليس صبره أتى أصحاباً لأيّوب كانوا رهباناً في الجبال و قال لهم: مرّوا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليّته فركبوا بغالاً شهباً و جاؤوا فلمّا دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم إلى بعض ثمّ مشوا إليه

٢٠٥

و كان فيهم شابّ حدث السنّ فقعدوا إليه فقالوا: يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله يهلكنا إذا سألناه، و ما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الّذي لم يبتل به أحد إلّا من أمر كنت تستره.

فقال أيّوب: و عزّة ربّي إنّه ليعلم أنّي ما أكلت طعاماً إلّا و يتيم أو ضعيف يأكل معي، و ما عرض لي أمران كلاهما طاعة الله إلّا أخذت بأشدّهما على بدني. فقال الشابّ: سوأة لكم عيّرتم نبيّ الله حتّى أظهر من عبادة ربّه ما كان يسترها.

فقال أيّوب: يا ربّ لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجّتي فبعث الله إليه غمامة فقال: يا أيّوب أدل بحجّتك فقد أقعدتك مقعد الحكم و ها أنا ذا قريب و لم أزل.

فقال: يا ربّ إنّك لتعلم أنّه لم يعرض لي أمران قطّ كلاهما لك طاعة إلّا أخذت بأشدّهما على نفسي. أ لم أحمدك؟ أ لم أشكرك؟ أ لم اُسبّحك؟.

قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا أيّوب من صيّرك تعبد الله و الناس عنه غافلون؟ و تحمده و تسبّحه و تكبّره و الناس عنه غافلون؟ أ تمنّ على الله بما لله فيه المنّة عليك؟ قال: فأخذ التراب و وضعه في فيه ثمّ قال: لك العتبى يا ربّ أنت فعلت ذلك بي.

فأنزل الله عليه ملكاً فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان و أطرأ، و أنبت الله عليه روضة خضراء، و ردّ عليه أهله و ماله و ولده و زرعه و قعد معه الملك يحدّثه و يؤنسه.

فأقبلت امرأته معها الكسرة(1) فلمّا انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغيّر و إذا رجلان جالسان فبكت و صاحت و قالت: يا أيّوب ما دهاك؟ فناداها أيّوب فأقبلت فلمّا رأته و قد ردّ الله عليه بدنه و نعمه سجدت لله شكراً. فرأى ذؤابتها مقطوعة و ذلك أنّها سألت قوماً أن يعطوها ما تحمله إلى أيّوب من الطعام و كانت حسنة

____________________

(1) الكسرة القطعة من الخبز.

٢٠٦

الذوائب فقالوا لها: تبيعينا ذؤابتك هذه حتّى نعطيك؟ فقطعتها و دفعتها إليهم و أخذت منهم طعاماً لأيّوب، فلمّا رآها مقطوعة الشعر غضب و حلف عليها أن يضربها مائة فأخبرته أنّه كان سببه كيت و كيت. فاغتمّ أيّوب من ذلك فأوحى الله عزّوجلّ إليه( خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ ) فأخذ عذقاً مشتملاً على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه.

أقول: و روي عن ابن عبّاس ما يقرب منه، و عن وهب أنّ امرأته كانت بنت ميشا بن يوسف، و الرواية - كما ترى - تذكر ابتلاءه بما تتنفّر عنه الطباع و هناك من الروايات ما يؤيّد ذلك لكن بعض الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ينفي ذلك و ينكره أشدّ الإنكار كما يأتي.

و عن الخصال: القطّان عن السكّريّ عن الجوهريّ عن ابن عمارة عن أبيه عن‏ جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام قال: إنّ أيّوبعليه‌السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب و إنّ الأنبياء لا يذنبون لأنّهم معصومون مطهّرون لا يذنبون و لا يزيغون و لا يرتكبون ذنباً صغيراً و لا كبيراً.

و قال: إنّ أيّوب من جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، و لا قبحت له صورة و لا خرجت منه مدّة من دم و لا قيح، و لا استقذره أحد رآه، و لا استوحش منه أحد شاهده، و لا تدوّد شي‏ء من جسده و هكذا يصنع الله عزّوجلّ بجميع من يبتليه من أنبيائه و أوليائه المكرمين عليه.

و إنّما اجتنبه الناس لفقره و ضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربّه تعالى ذكره من التأييد و الفرج، و قد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعظم الناس بلاء الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل.

و إنّما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الّذي يهون معه على جميع الناس لئلّا يدّعوا له الربوبيّة إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متى شاهدوه، و ليستدلّوا بذلك على أنّ الثواب من الله على ضربين: استحقاق و اختصاص، و لئلّا يحتقروا ضعيفاً لضعفه و لا فقيراً لفقره و لا مريضاً لمرضه، و ليعلموا أنّه يسقم من يشاء، و يشفي

٢٠٧

من يشاء متى شاء كيف شاء، بأيّ سبب شاء و يجعل ذلك عبرة لمن شاء، و شقاوة لمن شاء، و سعادة لمن شاء، و هو عزّوجلّ في جميع ذلك عدل في قضائه و حكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم و لا قوّة لهم إلّا به.

و في تفسير القميّ في قوله تعالى:( وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) الآية قال: فردّ الله عليه أهله الّذين ماتوا قبل البلاء، و ردّ عليه أهله الّذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء كلّهم أحياهم الله له فعاشوا معه.

و سئل أيّوب بعد ما عافاه الله: أيّ شي‏ء كان أشدّ عليك ممّا مرّ؟ فقال: شماتة الأعداء.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ ) الآية قيل: إنّه اشتدّ مرضه حتّى تجنّبه الناس فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه و يخرجوه من بينهم و لا يتركوا امرأته الّتي تخدمه أن تدخل عليهم فكان أيّوب يتأذّى بذلك و يتألّم به و لم يشك الألم الّذي كان من أمر الله سبحانه. قال قتادة: دام ذلك سبع سنين و روي ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

( خبر اليسع و ذي الكفلعليهما‌السلام )

ذكر سبحانه اسمهما في كلامه و عدّهما من الأنبياء و أثنى عليهما و عدّهما من الأخيار (ص: 48) و عدّ ذا الكفل من الصابرين (الأنبياء: 85) و لهما ذكر في الأخبار.

ففي البحار، عن الإحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمّد النوفليّ عن الرضاعليه‌السلام فيما احتجّ به على جاثليق النصارى أن قالعليه‌السلام : أنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسىعليهما‌السلام مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتّخذه اُمّته ربّاً، الخبر.

و عن قصص الأنبياء: الصدوق عن الدقاق عن الأسديّ عن سهل عن عبدالعظيم

٢٠٨

الحسنيّ قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني أسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ و هل كان من المرسلين؟.

فكتبعليه‌السلام بعث الله جلّ ذكره مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرين ألف نبيّ.

مرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلاً، و إنّ ذا الكفل منهم، و كان بعد سليمان بن داود، و كان يقضي بين الناس كما كان يقضي داود، و لم يغضب إلّا لله عزّوجلّ و كان اسمه عويديا و هو الّذي ذكره الله جلّت عظمته في كتابه حيث قال:( وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) .

أقول: و هناك روايات متفرّقة اُخر في قصصهماعليهما‌السلام تركنا إيرادها لضعفها و عدم الاعتماد عليها.

٢٠٩

( سورة ص الآيات 49 - 64)

هَذَا ذِكْرٌ  وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ( 49 ) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ ( 50 ) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ( 51 ) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ( 52 ) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ( 53 ) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ( 54 ) هَذَا  وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ( 55 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 56 ) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ( 57 ) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ( 58 ) هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ  لَا مَرْحَبًا بِهِمْ  إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ ( 59 ) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ  أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا  فَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 60 ) قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ( 61 ) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ ( 62 ) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ( 63 ) إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ( 64 )

( بيان)

فصل آخر من الكلام يبيّن فيه مآل أمر المتّقين و الطاغين تبشيراً و إنذاراً.

قوله تعالى: ( هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) الإشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الأوّابين من الأنبياء الكرامعليهم‌السلام ، و المراد بالذكر الشرف و الثناء الجميل أي هذا الّذي ذكر شرف و ذكر جميل و ثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبداً و لهم

٢١٠

حسن مآب من ثواب الآخرة. كذا قالوا.

و على هذا فالمراد بالمتّقين هم المذكورون من الأنبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى و هم داخلون فيهم و يكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد.

و الظاهر أنّ الإشارة بهذا إلى القرآن و المراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر و في الكلام عود إلى ما بدئ به في السورة من قوله( وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الآخرة من ثواب المتّقين و عقاب الطاغين.

و قوله:( وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) المآب المرجع و التنكير للتفخيم، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) أي جنّات استقرار و خلود و كون الأبواب مفتّحة لهم كناية عن أنّهم غير ممنوعين عن شي‏ء من النعم الموجودة فيها فهي مهيّأة لهم مخلوقة لأجلهم، و قيل المراد: أنّ أبوابها مفتّحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها و دقّها، و قيل: المراد أنّها تفتح بغير مفتاح و تغلق بغير مغلاق.

و الآية و ما بعدها بيان لحسن مآبهم.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ ) أي حال كونهم جالسين فيها بنحو الاتّكاء و الاستناد جلسة الأعزّة و الأشراف.

و قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ ) إلخ أي يتحكّمون فيها بدعوة الفاكهة و هي كثيرة و الشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعوّ فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله و يناوله.

قوله تعالى: ( وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ) الضمير للمتّقين و قاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف و التقدير و عندهم أزواج قاصرات الطرف و المراد قصور طرفهنّ على أزواجهنّ يرضين بهم و لا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهنّ ذوات غنج و دلال.

و الأتراب الأقران أي إنّهنّ أمثال لا يختلفن سناً أو جمالاً أو إنّهنّ أمثال

٢١١

لأزواجهنّ فكلّما زادوا نوراً و بهاء زدن حسناً و جمالاً.

قوله تعالى: ( هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) الإشارة إلى ما ذكر من الجنّة و نعيمها، و الخطاب للمتّقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب و النكتة فيه إظهار القرب منهم و الإشراف عليهم ليكمل نعمهم الصوريّة بهذه النعمة المعنويّة.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ) النفاد الفناء و الانقطاع، و الآية من تمام الخطاب الّذي في الآية السابقة على ما يعطيه السياق.

قوله تعالى: ( هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) الإشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتّقين أي هذا ما للمتّقين من المآب، و يمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ) الصّلي دخول النار و مقاساة حرارتها أو اتّباعها و المهاد - على ما في المجمع - الفراش الموطّأ يقال: مهّدت له تمهيداً مثل وطّأت له توطئة، و الآية و ما بعدها تفسير لمآب الطاغين.

قوله تعالى: ( هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ ) الحميم الحارّ الشديد الحرارة الغسّاق - على ما في المجمع - قيح شديد النتن، و فسّر بتفاسير اُخر، و قوله:( حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ ) بيان لهذا، و قوله:( فَلْيَذُوقُوهُ ) دالّ على إكراههم و حملهم على ذوقه و تقديم المخبر عنه و جعله اسم إشارة يؤكّد ذلك، و المعنى هذا حميم و غسّاق عليهم أن يذوقوه ليس إلّا.

قوله تعالى: ( وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ) شكل الشي‏ء ما يشابهه و جنسه و الأزواج الأنواع و الأقسام أي و هذا آخر من جنس الحميم و الغسّاق أنواع مختلفة ليذوقوها.

قوله تعالى: ( هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ - إلى قوله -فِي النَّارِ ) الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - حكاية ما يجري بين التابعين و المتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم و المجاراة.

فقوله:( هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ) خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى

٢١٢

التابعين الّذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجاً، و الاقتحام الدخول في الشي‏ء بشدّة و صعوبة.

و قوله:( لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ) جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله:( هذا فَوْجٌ ) و مرحبا تحيّة للوارد معناه عرض رحب الدار و سعتها له فقولهم:( لا مَرْحَباً بِهِمْ ) معناه نفي الرحب و السعة عنهم. و قولهم:( إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ ) أي داخلوها و مقاسوا حرارتها أو متّبعوها تعليل لتحيّتهم بنفي التحيّة.

و قوله:( قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ ) نقل كلام التابعين و هم القائلون يردّون إلى متبوعيهم نفي التحيّة و يذمّون القرار في النار.

قوله تعالى: ( قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم:( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا ) إلخ و قد ذكره في سورة الصافّات فيما حكى من تساؤلهم بقوله:( قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ) الخ: الآية 30 فقولهم:( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة.

و جملة( مَنْ قَدَّمَ ) إلخ شرط و جزاء، و الضعف المثل و( عَذاباً ضِعْفاً ) أي ذا ضعف و مثل أي ضعفين من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى‏ رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ) القائلون - على ما يعطيه السياق - مطلق أهل النار، و مرادهم بالرجال الّذين كانوا يعدّونهم من الأشرار المؤمنون و هم في الجنّة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها.

قوله تعالى: ( أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ) أي اتّخذناهم سخريّاً في الدنيا فأخطأنا و قد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار.

قوله تعالى: ( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم و بيان أنّ تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه و هو ظهور ما استقرّ في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع و التشاجر.

٢١٣

( سورة ص الآيات 65 - 88)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ  وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 65 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ( 66 ) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ( 67 ) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ( 68 ) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 69 ) إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 70 ) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ( 71 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 72 ) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 73 ) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 74 ) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ  أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ( 75 ) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ  خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( 76 ) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( 77 ) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ( 78 ) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 79 ) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ( 80 ) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( 81 ) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 82 ) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( 83 ) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ( 84 ) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ( 85 ) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( 86 ) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( 87 ) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ( 88 )

٢١٤

( بيان)

الفصل الأخير من فصول السورة المشتمل على أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ نذارته و دعوته إلى التوحيد. و أنّ الإعراض عن الحقّ و اتّباع الشيطان ينتهي بالإنسان إلى عذاب النار المقضيّ في حقّه و حقّ أتباعه و عند ذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ - إلى قوله -الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) في الآيتين أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ أنّه منذر و أنّ الله تعالى واحد في الاُلوهيّة فقوله:( إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ) يفيد قصره في كونه منذراً و نفي سائر الأغراض الّتي ربّما تتلبّس به الدعوة بين الناس من طلب مال أو جاه كما يشير إليه ما في آخر الآيات من قوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) .

و قوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ) إلى آخر الآيتين إبلاغ لتوحيده تعالى بحجّة يدلّ عليها ما اُورد من صفاته المدلول عليها بأسمائه.

فقوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ) نفي لكلّ إله - و الإله هو المعبود بالحقّ - غيره تعالى و أمّا ثبوت اُلوهيّته تعالى فهو مسلّم بانتفاء اُلوهيّة غيره إذ لا نزاع بين الإسلام و الشرك في أصل ثبوت الإله و إنّما النزاع في أنّ الإله و هو المعبود بالحقّ هو الله تعالى أو غيره. على أنّ ما ذكر في الآيتين من الصفات متضمّن لإثبات اُلوهيّته كما أنّها حجّة على انتفاء اُلوهيّة غيره تعالى.

و قوله:( الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) يدلّ على توحّده تعالى في وجوده و قهره كلّ شي‏ء و ذلك أنّه تعالى واحد لا يماثله شي‏ء في وجوده و لا تناهي كماله الّذي هو عين وجوده الواجب فهو الغنيّ بذاته و على الإطلاق و غيره من شي‏ء فقير يحتاج إليه من كلّ جهة ليس له من الوجود و آثار الوجود إلّا ما أنعم و أفاض فهو سبحانه القاهر لكلّ شي‏ء على ما يريد و كلّ شي‏ء مطيع له فيما أراد خاضع له فيما شاء.

و هذا الخضوع الذاتيّ هو حقيقة العبادة فلو جاز أن يُعبد شي‏ء في الوجود عملاً

٢١٥

بأن يؤتى بعمل يمثّل به العبوديّة و الخضوع فهي عبادته سبحانه إذ كلّ شي‏ء مفروض دونه فهو مقهور خاضع له لا يملك لنفسه و لا لغيره شيئاً و لا يستقلّ من الوجود و آثار الوجود بشي‏ء فهو سبحانه الإله المعبود بالحقّ لا غير.

و قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا ) يفيد حجّة اُخرى على توحّده تعالى في الاُلوهيّة و ذلك أنّ نظام التدبير الجاري في العالم برمّته نظام واحد متّصل غير متبعّض و لا متجزّ و هو آية وحدة المدبّر، و قد تقدّم كراراً أنّ الخلق و التدبير لا ينفكان فالتدبير خلق بوجه كما أنّ الخلق تدبير بوجه و الخالق الموجد للسماوات و الأرض و ما بينهما هو الله سبحانه - حتّى عند الخصم - فهو تعالى ربّها المدبّر لها جميعاً فهو وحده الإله الّذي يجب أن يقصد بالعبادة لأنّ العبادة تمثيل عبوديّة العابد و مملوكيّته تجاه مولويّة المعبود و مالكيّته و تصرّفه في العابد بإفاضة النعمة و دفع النقمة فهو سبحانه الإله في السماوات و الأرض و ما بينهما لا إله غيره. فافهم ذلك.

و يمكن أن يكون قوله:( رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا ) بياناً لقوله( الْقَهَّارُ ) أو( الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

و قوله:( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) يفيد حجّة اُخرى على توحّده تعالى في الاُلوهيّة و ذلك أنّه تعالى عزيز لا يغلبه شي‏ء بإكراهه على ما لم يرد أو بمنعه عمّا أراد فهو العزيز على الإطلاق و غيره من شي‏ء ذليل عنده قانت له و العبادة إظهار للمذلّة و لا يستقيم إلّا قبال العزّة و لا عزّة لغيره تعالى إلّا به.

و أيضاً غاية العبادة و هي تمثيل العبوديّة التقرّب إلى المعبود و رفع وصمة البعد عن العبد العابد و هو مغفرة الذنب و الله سبحانه هو المستقلّ بالرحمة الّتي لا تنفد خزائنها و هو الّذي يورد عباده العابدين له في الآخرة دار كرامته فهو الغفّار الّذي يجب أن يعبد طمعاً في مغفرته.

و يمكن أن يكون قوله:( الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) تلويحاً إلى وجه الدعوة إلى التوحيد أو وجوب الإيمان به المفهوم بحسب المقام من قوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) و المعنى أدعوكم إلى توحيده فآمنوا به لأنّه العزيز الّذي لا يشوبه ذلّة الغفّار

٢١٦

للذنوب و هكذا يجب أن يكون الإله.

قوله تعالى: ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) مرجع الضمير ما ذكره من حديث الوحدانيّة في قوله:( وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ) إلخ.

و قيل: الضمير للقرآن فهو النبأ العظيم الّذي أعرضوا عنه، و هو أوفق لسياق الآيات السابقة المرتبطة بأمر القرآن، و أوفق أيضاً لقوله الآتي:( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أي حتّى أخبرني به القرآن، و قيل: المراد به يوم القيامة و هو أبعد الوجوه.

قوله تعالى: ( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) الملأ الأعلى جماعة الملائكة و كأنّ المراد باختصامهم ما أشار تعالى إليه بقوله:( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) إلى آخر الآيات.

و كأنّ المعنى إنّي ما كنت أعلم اختصام الملإ الأعلى حتّى أوحى الله إليّ ذلك في كتابه فإنّما أنا منذر أتّبع الوحي.

قوله تعالى: ( إِنْ يُوحى‏ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تأكيد لقوله:( إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ) و بمنزلة التعليل لقوله:( ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى‏ ) و المعنى لم أكن أعلم ذلك لأنّ علمي ليس من قبل نفسي و إنّما هو بالوحي و ليس يوحى إليّ إلّا ما يتعلّق بالإنذار.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) الّذي يعطيه السياق أنّ الآية و ما بعدها ليست تتمّة لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ) إلخ و الشاهد عليه قوله:( رَبُّكَ ) فهو من كلامه تعالى يشير إلى زمان اختصام الملإ الأعلى و الظرف متعلّق بما تعلّق به قوله:( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) أو متعلّق بمحذوف و التقدير( اذكر إذ قال ربك للملائكة) إلخ فإنّ قوله تعالى للملائكة:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) و قوله لهم:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) متقارنان وقعا في ظرف واحد.

و على هذا يؤول معنى قوله:( إِذْ قالَ رَبُّكَ ) إلخ إلى نحو من قولنا: اذكر وقتئذ قال ربّك كذا و كذا فهو وقت اختصامهم.

٢١٧

و جعل بعضهم قوله:( إِذْ قالَ رَبُّكَ ) إلخ مفسّراً لقوله:( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) ثمّ أخذ الاختصام بعد تفسيره بالتقاول مجموع قوله تعالى للملائكة( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) و قولهم:( أَ تَجْعَلُ ) إلخ، و قوله لآدم و قول آدم لهم، و قوله تعالى لهم:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) و قول إبليس و قوله تعالى له.

و قال على تقدير كون الاختصام بمعنى المخاصمة و دلالة قوله:( إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) على كون المخاصمة بين الملائكة أنفسهم لا بينهم و بين الله سبحانه إنّ إخباره تعالى لهم بقوله:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) كان بتوسّط ملك من الملائكة و كذا قوله لآدم و لإبليس فيكون قولهم لربّهم:( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) إلخ و غيره قولا منهم للملك المتوسّط و يقع الاختصام فيما بينهم أنفسهم.

و أنت خبير بأنّ شيئاً ممّا ذكره لا يستفاد من سياق الآيات.

و قوله:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) البشر الإنسان، قال الراغب: البشر ظاهر الجلد و الأدمة باطنه. كذا قال عامّة الاُدباء، قال: و عبّر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات الّتي عليها الصوف أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثنّي فقال تعالى:( أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ ) و خصّ في القرآن كلّ موضع اعتبر من الإنسان جثّته و ظاهره بلفظ البشر. انتهى.

و قد عدّ في الآية مبدأ خلق الإنسان الطين، و في سورة الروم التراب و في سورة الحجر صلصال من حمإ مسنون، و في سورة الرحمن صلصال كالفخّار و لا ضير فإنّها أحوال مختلفة لمادّته الأصليّة الّتي منها خلق و قد اُشير في كلّ موضع إلى واحدة منها.

قوله تعالى: ( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) تسوية الإنسان تعديل أعضائه بتركيب بعضها على بعض و تتميمها صورة إنسان تامّ، و نفخ الروح فيه جعله ذا نفس حيّة إنسانيّة و إضافة الروح إليه تعالى تشريفيّة و قوله:( فَقَعُوا ) أمر من الوقوع و هو متفرّع على التسوية و النفخ.

قوله تعالى: ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ظاهر الدلالة على سجود الملائكة

٢١٨

له من غير استثناء.

قوله تعالى: ( إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) أي استكبر إبليس فلم يسجد له و كان قبل ذلك من الكافرين كما حكى سبحانه عنه في سورة الحجر قوله:( لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) الحجر: 33.

قوله تعالى: ( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) نسبة خلقه إلى اليد للتشريف بالاختصاص كما قال:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) و تثنية اليد كناية عن الاهتمام التامّ بخلقه و صنعه فإنّ الإنسان إنّما يستعمل اليدين فيما يهتمّ به من العمل فقوله:( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كقوله:( مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا ) يس: 71.

و قيل: المراد باليد القدرة و التثنية لمجرّد التأكيد كقوله:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) الملك: 3 و قد وردت به الرواية.

و قيل: المراد باليدين نعم الدنيا و الآخرة، و يمكن أن يحتمل إرادة مبدأي الجسم و الروح أو الصورة و المعنى أو صفتي الجلال و الجمال من اليدين لكنّها معان لا دليل على شي‏ء منها من اللفظ.

و قوله:( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) استفهام توبيخ أي أ كان عدم سجودك لأنّك استكبرت أم كنت من الّذين يعلون أي يعلو قدرهم أن يؤمروا بالسجود، و لذا قال بعضهم بالاستفادة من الآية إنّ العالين قوم من خلقه تعالى مستغرقون في التوجّه إلى ربّهم لا يشعرون بغيره تعالى.

و قيل: المراد بالعلوّ الاستكبار كما في قوله تعالى:( وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ ) يونس: 83 و المعنى استكبرت حين اُمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين؟.

و يدفعه أنّه لا يلائم مقتضى المقام فإنّ مقتضاه تعلّق الغرض باستعلام أصل استكباره لا تعيين كون استكباره قديماً أو حديثاً.

و قيل: المراد بالعالين ملائكة السماء فإنّ المأمورين بالسجود هم ملائكة

٢١٩

الأرض. و يدفعه ما في الآية من العموم.

قوله تعالى: ( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) تعليل عدم سجوده بما يدّعيه من شرافة ذاته و أنّه لكون خلقه من نار خير من آدم المخلوق من طين، و فيه تلويح أنّ الأمر الإلهيّ إنّما يطاع إذا كان حقّاً لا لذاته، و ليس أمره بالسجود له حقّاً، و يؤول إلى إنكار إطلاق ملكه تعالى و حكمته و هو الأصل الّذي ينتهي إليه كلّ معصية فإنّ المعصية إنّما تقع بالخروج عن حكم عبوديّته تعالى و مملوكيّته و بالإعراض عن كون تركها أولى من فعلها و اقترافها.

قوله تعالى: ( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الرجم الطرد، و يوم الدين يوم الجزاء.

و قوله:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي ) و في سورة الحجر:( وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) الآية 35 قيل في وجهه: لو كانت اللّام للعهد فلا فرق بين التعبيرين، و لو كانت للجنس فكذلك أيضاً لأنّ لعن غيره تعالى من الملائكة و الناس عليه إنّما يكون طرداً له حقيقة و إبعاداً من الرحمة إذا كان بأمر الله و بإبعاده من رحمته.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ - إلى قوله -إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) ظاهر تغيّر الغاية في السؤال و الجواب حيث قال:( إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) فاُجيب بقوله:( إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أنّ ما اُجيب إليه غير ما سأله فهو لا محالة آخر يوم يعصي فيه الناس ربّهم و هو قبل يوم البعث، و الظاهر أنّ المراد باليوم الظرف فتفيد إضافته إلى الوقت التأكيد.

قوله تعالى: ( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الباء في( فَبِعِزَّتِكَ ) للقسم أقسم بعزّته ليغوينّهم أجمعين و استثنى منهم المخلصين و هم الّذين أخلصهم الله لنفسه فلا نصيب فيهم لإبليس و لا لغيره.

قوله تعالى: ( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) جوابه تعالى لإبليس و هو يتضمّن القضاء عليه و على من تبعه بالنار.

فقوله:( فَالْحَقُّ ) مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدإ، و الفاء لترتيب ما

٢٢٠