الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161694
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161694 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( 47 ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 48 ) فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ  بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( 49 ) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 50 ) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا  وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ( 51 ) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 )

( بيان)

في الآيات كرّة اُخرى على المشركين بالاحتجاج على توحّده تعالى في الربوبيّة و أنّه لا يصلح لها شركاؤهم و أنّ الشفاعة الّتي يدعونها لشركائهم لا يملكها إلّا الله سبحانه و فيها اُمور اُخر متعلّقة بالدعوة من موعظة و إنذار و تبشير.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) إلى آخر الآية شروع في إقامة الحجّة و قد قدّم لها مقدّمة تبتني الحجّة عليها و هي مسلّمة عند الخصم و هي أنّ خالق العالم هو الله سبحانه فإنّ الخصم لا نزاع له في أنّ الخالق هو الله وحده لا شريك له و إنّما يدّعي لشركائه التدبير دون الخلق.

و إذا كان الخلق إليه تعالى فما في السماوات و الأرض من عين و لا أثر إلّا و ينتهي

٢٦١

وجوده إليه تعالى فما يصيب كلّ شي‏ء من خير أو شرّ كان وجوده منه تعالى و ليس لأحد أن يمسك خيراً يريده تعالى له أو يكشف شرّاً يريده تعالى له لأنّه من الخلق و الإيجاد و لا شريك له تعالى في الخلق و الإيجاد حتّى يزاحمه في خلق شي‏ء أو يمنعه من خلق شي‏ء أو يسبقه إلى خلق شي‏ء و التدبير نظم الاُمور و ترتيب بعضها على بعض خلق و إيجاد فالله الخالق لكلّ شي‏ء كاف في تدبير أمر العالم لأنّه الخالق لكلّ شي‏ء و ليس وراء الخلق شي‏ء حتّى يتوهّم استناده إلى غيره فهو الله ربّ كلّ شي‏ء و إلهه لا ربّ سواه و لا إله غيره.

فقوله:( قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي أقم الحجّة عليهم بانياً لها على هذه المقدّمة المسلّمة عندهم أنّ الله خالق كلّ شي‏ء و قل مفرّعاً عليه أخبروني عمّا تدعون من دون الله، و التعبير عن آلهتهم بلفظة( ما ) دون( من ) و نحوه يفيد تعميم البيان للأصنام و أربابها جميعاً فإنّ الخواصّ منهم و إن قصروا العبادة على الأرباب من الملائكة و غيرهم و اتّخذوا الأصنام قبلة و ذريعة إلى التوجّه إلى أربابها لكن عامّتهم ربّما أخذوا الأصنام نفسها أرباباً و آلهة يعبدونها و نتيجة الحجّة عامّة تشمل الجميع.

و قوله:( إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ) الضرّ كالمرض و الشدّة و نحوهما و ظاهر مقابلته الرحمة عمومه لكلّ مصيبة، و إضافة الضرّ و الرحمة إلى ضميره تعالى في( كاشِفاتُ ضُرِّهِ ) و( مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ) لحفظ النسبة لأنّ المانع من كشف الضرّ و إمساك الرحمة هو نسبتهما إليه تعالى.

و تخصيص الضرّ و الرحمة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عموم الحجّة له و لغيره لكونه المخاصم الأصيل لهم و قد خوّفوه بآلهتهم من دون الله.

و إرجاع ضمير الجمع المؤنّث إلى ما يدعونه من دون الله لتغليب جانب غير اُولي العقل من الأصنام و هو يؤيّد ما قدّمناه في قوله:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أنّ التعبير بما لتعميم الحجّة للأصنام و أربابها.

و قوله:( قُلْ حَسْبِيَ اللهُ ) أمر بالتوكّل عليه تعالى كما يدلّ عليه قوله بعده:( عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) و هو موضوع موضع نتيجة الحجّة كأنّه قيل: قل لهم:

٢٦٢

إنّي اتّخذت الله وكيلاً لأنّ أمر تدبيري إليه كما أنّ أمر خلقي إليه فهو في معنى قولنا: فقد دلّت الحجّة على ربوبيّته و صدّقت ذلك عملاً باتّخاذه وكيلاً في اُموري.

و قوله:( عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) تقديم الظرف على متعلّقه للدلالة على الحصر أي عليه يتوكّلون لا على غيره، و إسناد الفعل إلى الوصف من مادّته للدلالة على كون المراد المتوكّلين بحقيقة معنى التوكّل ففي الجملة ثناء عليه تعالى بأنّه الأهل للتوكّل عليه يتوكّل أهل البصيرة في التوكّل فلا لوم عليّ إن توكّلت عليه و قلت: حسبي الله.

قوله تعالى: ( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ - إلى قوله -عَذابٌ مُقِيمٌ ) المكانة هي المنزلة و القدر و هي في المعقولات كالمكان في المحسوسات فأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم معناه أمرهم أن يستمرّوا على الحالة الّتي هم عليها من الكفر و العناد و الصدّ عن سبيل الله.

و قوله:( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ) الظاهر أنّ( مَنْ ) استفهاميّة لا موصولة لظهور العلم فيما يتعلّق بالجملة لا بالمفرد.

و قوله:( وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) أي دائم و هو المناسب للحلول، و تفكيك أمر العذابين يشهد أنّ المراد بالأوّل عذاب الدنيا و بالثاني عذاب الآخرة، و في الكلام أشدّ التهديد.

و المعنى قل مخاطباً للمشركين من قومك: يا قوم اعملوا - مستمرّين - على حالتكم الّتي أنتم عليها من الكفر و العناد إنّي عامل - كما اُؤمر غير منصرف عنه - فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يذلّه؟ و هو عذاب الدنيا كما في يوم بدر و يحلّ عليه و لا يفارقه عذاب دائم و هو عذاب الآخرة.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية. في مقام التعليل للأمر الّذي في الآية السابقة، و اللّام في قوله:( لِلنَّاسِ ) للتعليل أي لأجل الناس أن تتلوه عليهم و تبلّغهم ما فيه، و الباء في قوله:( بِالْحَقِّ ) للملابسة أي ملابساً للحقّ لا يشوبه باطل.

و قوله:( فَمَنِ اهْتَدى‏ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) أي

٢٦٣

يتفرّع على هذا الإنزال أنّ من اهتدى فإنّما يعود نفعه من سعادة الحياة و ثواب الدار الآخرة إلى نفسه، و من ضلّ و لم يهتد به فإنّما يعود شقاؤه و وباله من عقاب الدار الآخرة إلى نفسه فالله سبحانه أجلّ من أن ينتفع بهداهم أو يتضرّر بضلالهم.

و قوله:( وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) أي مفوّضاً إليه أمرهم قائماً بتدبير شؤنهم حتّى توصل ما فيه من الهدى إلى قلوبهم.

و المعنى إنّما أمرناك أن تهدّدهم بما قلنا لأنّا نزّلنا عليك الكتاب بالحقّ لأجل أن تقرأه على الناس لا غير فمن اهتدى منهم فإنّما يعود نفعه إلى نفسه و من ضلّ و لم يهتد به فإنّما يعود ضرره إلى نفسه و ما أنت وكيلاً من قبلنا عليهم تدبّر شؤنهم فتوصل الهدى إلى قلوبهم فليس لك من الأمر شي‏ء.

قوله تعالى: ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) إلى آخر الآية، قال في المجمع: التوفّي قبض الشي‏ء على الإيفاء و الإتمام يقال: توفّيت حقّي من فلان و استوفيته بمعنى. انتهى. تقديم المسند إليه في الآية يفيد الحصر أي هو تعالى المتوفّي لها لا غير و إذا انضمت الآية إلى مثل قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة: 11، و قوله:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) الأنعام: 61 أفادت معنى الأصالة و التبعيّة أي إنّه تعالى هو المتوفّي بالحقيقة و ملك الموت و الملائكة الّذين هم أعوانه أسباب متوسّطة يعملون بأمره.

و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) المراد بالأنفس الأرواح المتعلّقة بالأبدان لا مجموع الأرواح و الأبدان لأنّ المجموع غير مقبوض عند الموت و إنّما المقبوض هو الروح يقبض من البدن بمعنى قطع تعلّقه بالبدن تعلّق التصرّف و التدبير و المراد بموتها موت أبدانها إمّا بتقدير المضاف أو بنحو المجاز العقليّ، و كذا المراد بمنامها.

و قوله:( وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) معطوف على الأنفس في الجملة السابقة، و الظاهر أنّ المنام اسم زمان و في منامها متعلّق بيتوفّى و التقدير و يتوفّى الأنفس الّتي لم تمت في وقت نومها.

ثمّ فصّل تعالى في القول في الأنفس المتوفّاة في وقت النوم فقال:( فَيُمْسِكُ الَّتِي

٢٦٤

قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى‏ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي فيحفظ النفس الّتي قضى عليها الموت كما يحفظ النفس الّتي توفّاها حين موتها و لا يردّها إلى بدنها، و يرسل النفس الاُخرى الّتي لم يقض عليها الموت إلى بدنها إلى أجل مسمّى تنتهي إليه الحياة.

و جعل الأجل المسمّى غاية للإرسال دليل على أنّ المراد بالإرسال جنسه بمعنى أنّه يرسل بعض الأنفس إرسالاً واحداً و بعضها إرسالاً بعد إرسال حتّى ينتهي إلى الأجل المسمّى.

و يستفاد من الآية أوّلاً: أنّ النفس موجود مغاير للبدن بحيث تفارقه و تستقلّ عنه و تبقى بحيالها.

و ثانياّ: أنّ الموت و النوم كلاهما توفّ و إن افترقا في أنّ الموت توفّ لا إرسال بعده و النوم توفّ ربّما كان بعده إرسال.

ثمّ تمّم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيتذكّرون أنّ الله سبحانه هو المدبّر لأمرهم و أنّهم إليه راجعون سيحاسبهم على ما عملوا.

قوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ ) إلخ( أَمِ ) منقطعة أي بل اتّخذ المشركون من دون الله شفعاء و هم آلهتهم الّذين يعبدونهم ليشفعوا لهم عندالله سبحانه كما قال في أوّل السورة:( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) و قال:( يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) يونس: 18.

و قوله:( قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ ) أمر بأن يردّه عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم فإنّ من البديهيّ أنّ الشفاعة تتوقّف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد؟ و ممّن يريد؟ و لمن يريد؟ فلا معنى لشفاعة الجهاد الّذي لا شعور له و كذا تتوقّف على أن يملك الشفيع الشفاعة و يكون له حقّ أن يشفع و لا ملك لغير الله إلّا أن يملّكه الله شيئاً و يأذن له في التصرّف فيه فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقاً الشامل لما لا يملكونه و لا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرّص.

فالاستفهام في( أَ وَ لَوْ كانُوا ) إلخ للإنكار و المعنى قل لهم: هل تتّخذونهم شفعاء لكم و لو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئاً كالملائكة و لا يعقلون شيئاً كالأصنام؟ فإنّه سفه.

٢٦٥

قوله تعالى: ( قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ توضيح و تأكيد لما مرّ من قوله:( قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً ) و اللّام في( لِلَّهِ ) للملك، و قوله:( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) في مقام التعليل للجملة السابقة، و المعنى كلّ شفاعة فإنّها مملوكة لله فإنّه المالك لكلّ شي‏ء إلّا أن يأذن لأحد في شي‏ء منها فيملّكه إيّاها، و أمّا استغلال بعض عباده كالملائكة يملك الشفاعة مطلقاً كما يقولون فممّا لا يكون قال تعالى:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: 3.

و للآية معنى آخر أدقّ إذا انضمّت إلى مثل قوله تعالى:( لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ ) الأنعام: 51 و هو أنّ الشفيع بالحقيقة هو الله سبحانه و غيره من الشفعاء لهم الشفاعة بإذن منه فقد تقدّم في بحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ الشفاعة ينتهي إلى توسّط بعض صفاته تعالى بينه و بين المشفوع له لإصلاح حاله كتوسّط الرحمة و المغفرة بينه و بين عبده المذنب لإنجائه من وبال الذنب و تخليصه من العذاب.

و الفرق بين هذا الملك و ما في الوجه السابق أنّ المالك لا يتّصف بمملوكه في الوجه السابق كما في ملك زيد للدار بخلاف الملك في هذا الوجه فإنّ المالك فيه يتّصف بمملوكه كملك زيد الشجاع لشجاعته.

و قوله:( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) تعليل آخر لكونه يملك الشفاعة جميعاً الدالّ على الحصر و ذلك أنّ الشفاعة إنّما يملكها الّذي ينتهي إليه أمر المشفوع له إن شاء قبلها و أصلح حال المشفوع له و أمّا غيره فإنّما يملكها إذا رضي بها و أذن فيها و الله سبحانه هو الّذي يرجع إليه العباد دون الّذين يدعون من دون الله فالله هو المالك للشفاعة جميعاً فقولهم بكون أوليائهم شفعاء لهم مطلقاً ثمّ عبادتهم لهم كذلك بناء بلا مبني يعتمد عليه.

و قيل: قوله:( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) تهديد لهم كأنّه قيل: ثمّ إليه ترجعون فتعلمون أنّهم لا يشفعون لكم و يخيب سعيكم في عبادتهم.

و قيل: يحتمل أن يكون تنصيصاً على مالكيّة الآخرة الّتي فيها معظم نفع الشفاعة و إيماء إلى انقطاع الملك الصوريّ عمّا سواه تعالى، و الوجه ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ )

٢٦٦

إلخ المراد من ذكره تعالى وحده جعله مفرداً بالذكر من غير ذكر آلهتهم و من مصاديقه قول لا إله إلّا الله، و الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشي‏ء.

و إنّما ذكر من وصفهم عدم إيمانهم بالآخرة لأنّ ذلك هو الأصل في اشمئزازهم و لو كانوا مؤمنين بالآخرة و أنّهم يرجعون إلى الله فيجازيهم بأعمالهم عبدوه دون أوليائهم و لم يرغبوا عن ذكره وحده.

و قوله:( وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) المراد بالّذين من دونه آلهتهم، و الاستبشار سرور القلب بحيث يظهر أثره في الوجه.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ ) إلخ لمّا بلغ الكلام مبلغاً لا يرجى معه فيهم خير لنسيانهم أمر الآخرة و إنكارهم الرجوع إليه تعالى حتّى كانوا يشمئزّون من ذكره تعالى وحده أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكره تعالى وحده و يذكّرهم حكمه بين عباده فيما اختلفوا فيه في صورة الالتجاء إليه تعالى على ما فيه من الإقرار بالبعث و قد وصف الله تعالى بأنّه فاطر السماوات و الأرض أي مخرجها من كتم العدم إلى ساحة الوجود، و عالم الغيب و الشهادة فلا يخفى عليه شي‏ء، و لازمه أن يحكم بالحقّ و ينفذ حكمه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) إلخ المراد بالّذين ظلموا هم الّذين ظلموا في الدنيا فالفعل يفيد مفاد الوصف، و الظالمون هم المنكرون للمعاد كما قال:( أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) الأعراف: 45.

و المعنى: و لو أنّ للظالمين المنكرين للمعاد ضعفي ما في الأرض من أموال و ذخائر و كنوز لجعلوه فدية من سوء العذاب.

و قوله:( وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) البداء و البدوّ بمعنى الظهور و الحساب و الحسبان العدّ، و الاحتساب الاعتداد بالشي‏ء بمعنى البناء على عدّه شيئاً و كثيراً ما يستعمل الحسبان و الاحتساب بمعنى الظنّ كما قيل و منه قوله:( ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) أي ما لم يكونوا يظنّون لكن فرّق الراغب بين الحسبان و الظنّ

٢٦٧

حيث قال: و الحسبان أن يحكم لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله و يكون بعرض أن يعتريه فيه شكّ، و يقارب ذلك الظنّ لكنّ الظنّ أن يخطر النقيضين بباله فيغلّب أحدهما على الآخر. انتهى.

و مقتضى سياق الآية أنّ المراد بيان أنّهم سيواجهون يوم القيامة اُموراً على صفة هي فوق ما تصوّروه و أعظم و أهول ممّا خطر ببالهم لا أنّهم يشاهدون اُموراً ما كانوا يعتقدونها و يذعنون بها و بالجملة كانوا يسمعون أنّ لله حساباً و وزناً للأعمال و قضاء و ناراً و ألواناً من العذاب فيقيسون ما سمعوه - على إنكار منهم له - على ما عهدوه من هذه الاُمور في الدنيا فلمّا شاهدوها إذ ظهرت لهم وجدوها أعظم ممّا كان يخطر ببالهم من صفتها فهذه الآية في وصف عذابه نظير قوله في وصف نعيم أهل الجنّة:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) السجدة: 17.

و أيضاً مقتضى السياق أنّ البدوّ المذكور من قبيل الظهور بعد الخفاء و الانكشاف بعد الاستتار كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

قوله تعالى: ( وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) إلى آخر الآية أي ظهر لهم سيّئات أعمالهم بعد ما كانت خفيّة عليهم فهو كقوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: 30.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي و نزل عليهم و أصابهم ما كانوا يستهزؤن به في الدنيا إذا سمعوه من أولياء الدين من شدائد يوم القيامة و أهواله و أنواع عذابه.

قوله تعالى: ( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) إلخ الآية في مقام التعليل البياني لما تقدّم من وصف الظالمين و لذا صدّرت بالفاء لتتفرّع على ما تقدّم تفرّع البيان على المبيّن.

فهو تعالى لمّا ذكر من حالهم أنّهم أعرضوا عن كلّ آية دالّة على الحقّ و لم يصغوا إلى الحجج المقامة عليهم و لم يسمعوا موعظة و لم يعتدّوا بعبرة فجحدوا ربوبيّته

٢٦٨

تعالى و أنكروا البعث و الحساب و بلغ بهم ذلك أن اشمأزّت قلوبهم إذا ذكر الله وحده.

بيّن أنّ ذلك ممّا يستدعيه طبع الإنسان المائل إلى اتّباع هوى نفسه و الاغترار بما زيّن له من نعم الدنيا و الأسباب الظاهريّة الحافّة بها فالإنسان حليف النسيان إذا مسّه الضرّ أقبل إلى ربّه و أخلص له و دعاه ثمّ إذا خوّله ربّه نعمة نسبه إلى علم نفسه و خبرته و نسي ربّه و جهل أنّها فتنة فتن بها.

فقوله:( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ) أي مرض أو شدّة( دَعانا ) أي خصّنا بالدعاء و انقطع عن غيرنا.

و قوله:( ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) التخويل الإعطاء على نحو الهبة، و تقييد النعمة بقوله:( مِنَّا ) للدلالة على كون وصف النعمة محفوظاً لها و المعنى خوّلناه نعمة ظاهراً كونها نعمة.

و ضمير( أُوتِيتُهُ ) للنعمة بما أنّه شي‏ء أو مال و العناية في ذلك بالإشارة إلى أنّه لا يعترف بكونها نعمة منّا بل يقطعها عنّا فيُسمّيها شيئاً أو مالاً و نحوه و لا يسمّيها نعمة حتّى يضطرّه ذلك إلى الاعتراف بمنعم و الإشارة إليه كما قال:( أُوتِيتُهُ ) فصفح عن الفاعل لذلك و التعبيران أعني( نِعْمَةً مِنَّا ) ( إِنَّما أُوتِيتُهُ ) من لطيف تعبير القرآن، و قد وجّهوا تذكير الضمير في( أُوتِيتُهُ ) بوجوه اُخر غير موجهة من أرادها فليرجع إلى المفصّلات.

و الملائم لسياق الآية أن يكون معنى( عَلى‏ عِلْمٍ ) على علم منّي أي اُوتيت هذا الّذي اُوتيت على علم منّي و خبرة بطرق كسب المعاش و اقتناء الثروة و جمع المال.

و قيل: المراد إنّما اُوتيته على علم من الله بخير عندي أستحقّ به أن يؤتيني النعمة، و قيل: المراد على علم منّي برضي الله عنّي، و أنت خبير بأنّ ما تقدّم من معنى قوله:( ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ ) لا يلائم شيئاً من القولين.

و قوله:( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي بل النعمة الّتي خوّلناه منّا فتنة أي ابتلاء و امتحان نمتحنه بذلك و لكنّ أكثرهم لا يعلمون بذلك.

٢٦٩

و قيل: معناه بل تلك النعمة عذاب لهم، و قيل: المعنى بل هذه المقالة فتنة لهم يعاقبون عليها و الوجهان بعيدان سيمّا الأخير.

قوله تعالى: ( قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) ضمير( قَدْ قالَهَا ) راجع إلى القول السابق باعتبار أنّه مقالة أو كلمة.

و الآية ردّ لقولهم و إثبات لكونها فتنة يمتحنون بها بأنّهم لو اُوتوها على علم منهم و اكتسبوها بحولهم و قوّتهم لأغنى عنهم كسبهم و لم يصبهم سيّئات ما كسبوا و حفظوها لأنفسهم و تنعّموا بها و لم يهلكوا دونها و ليس كذلك فهؤلاء الّذين قبلهم قالوا هذه المقالة فما أغنى عنهم كسبهم و أصابهم سيّئات ما كسبوا.

و الظاهر أنّ الآية تشير بقوله:( قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلى قارون و أمثاله و قد حكي عنه قول( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) في قصّته من سورة القصص.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) الإشارة بهؤلاء إلى قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى أنّ هؤلاء الّذين ظلموا من قومك سبيلهم سبيل من قبلهم سيصيبهم سيّئات كسبهم و وبالات عملهم و ما هم بمعجزين لله.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) إلخ جواب آخر عن قول القائل منهم:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) و قد كان الجواب الأوّل( قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) إلخ جواباً من طريق النقض و هذا جواب من طريق المعارضة بالإشارة إلى دلالة الدليل على أنّ الله سبحانه هو الّذي يبسط الرزق و يقدر.

بيان ذلك: أنّ سعي الإنسان عن علم و إرادة لتحصيل الرزق ليس سبباً تامّاً موجباً لحصول الرزق و إلّا لم يتخلّف و من البيّن خلافه فكم من طالب رجع آيساً و ساع خاب سعيه.

فهناك علل و شرائط زمانيّة و مكانيّة و موانع مختلفة باختلاف الظروف خارجة عن حدّ الإحصاء إذا اجتمعت و توافقت أنتج ذلك حصول الرزق.

٢٧٠

و ليس اجتماع هذه العلل و الشرائط على ما فيها من الاختلاف و التشتّت و التفرّق من مادّة و زمان و مكان و مقتضيات اُخر مرتبطة بها مقارنة أو متقدّمة و علل العلل و مقدّماتها الذاهبة إلى ما لا يحصى، اجتماعاً و توافقاً على سبيل الاتفاق فإنّ الاتّفاق لا يكون دائميّاً و لا أكثريّاً و قانون ارتزاق المرتزقين الشامل للموجودات الحيّة بل المنبسط على أقطار العالم المشهود و أرجائه ثابت محفوظ في نظام جار على ما فيه من السعة و الانبساط و لو انقطع لهلكت الأشياء لأوّل لحظة و من فورها.

و هذا النظام الجاري بوحدته و تناسب أجزائه و تلاؤمها يكشف عن وحدانيّة ناظمه و فردانيّة مدبّره و مديره الخارج عن أجزاء العالم المحفوظة بنفس النظام الباقية به و هو الله عزّ اسمه.

على أنّ النظام من التدبير و التدبير من الخلق كما مرّ مراراً فخالق العالم مدبّره و مدبّره رازقه و هو الله تعالى شأنه.

و يشير إلى هذا البرهان في الآية قوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) فإنّه إذا كان بسط الرزق و قدره بمشيّته تعالى لم يكن بمشيّة الإنسان الّذي يتبجّح بعلمه و سعيه و لا بمشيّة شي‏ء من العلل و الأسباب و إيجابه كما هو ظاهر و ليس من قبيل الاتّفاق بل هو على نظام جار فهو بمشيّة جاعل النظام و مجريه و هو الله سبحانه.

و قد تقدّم كلام في معنى الرزق في ذيل قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ) آل عمران: 27 و سيأتي كلام فيه في تفسير قوله:( فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) الذاريات: 23 إن شاء الله تعالى.

( بحث روائي)

في التوحيد، عن عليّعليه‌السلام في حديث: و قد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات قال: و أمّا قوله:( يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) و قوله:( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) و قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ

٢٧١

ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) و قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) فإنّ الله تبارك و تعالى يدبّر الأمر كيف يشاء و يوكّل من خلقه من يشاء بما يشاء أمّا ملك الموت فإنّ الله يوكّله بخاصّته ممّن يشاء من خلقه و يوكّل رسله من الملائكة خاصّة بمن يشاء من خلقه.

و ليس كلّ العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسّره لكلّ الناس لأنّ فيهم القويّ و الضعيف، و لأنّ منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطاق حمله إلّا أن يسهّل الله له حمله و أعانه عليه من خاصّة أوليائه.

و إنّما يكفيك أن تعلم أنّ الله المحيي المميت، و أنّه يتوفّى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم.

و في الخصال، عن عليّعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: لا ينام المسلم و هو جنب لا ينام إلّا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمّم بالصعيد فإنّ روح المؤمن ترفع إلى الله تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع اُمنائه من ملائكته فيردّونها في جسده.

و في المجمع: روى العيّاشيّ بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت عن أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإن أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس و إن أذن الله في ردّ الروح أجابت النفس الروح و هو قوله سبحانه:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الآية.

فمهما رأت في ملكوت السموات فهو ممّا له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو ممّا يخيّله الشيطان و لا تأويل له.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سليم بن عامر أنّ عمر بن الخطّاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنّه يبيت فيرى الشي‏ء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد و يرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئاً.

فقال عليّ بن أبي طالب: أ فلا اُخبرك بذلك يا أميرالمؤمنين يقول الله تعالى:

٢٧٢

( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى‏ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) فالله يتوفّى الأنفس كلّها فما رأت و هي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، و ما رأت إذا اُرسلت إلى أجسادها تلقّيها الشياطين في الهواء فكذبتها و أخبرتها بالأباطيل فعجب عمر من قوله.

أقول: تقدم تفصيل الكلام في الرؤيا في سورة يوسف و الرجوع إليه يعين في فهم معنى الروايتين، و قد اُطلق فيهما السماء على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأعظم و ما بين السماء و الأرض على ما اصطلح عليه بعالم المثال الأصغر فتبصّر.

٢٧٣

( سورة الزمر الآيات 53 - 61)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ  إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 53 ) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ( 54 ) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( 55 ) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ( 56 ) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 57 ) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 58 ) بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 59 ) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ  أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60 ) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 61 )

( بيان)

في الآيات أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام و اتّباع ما أنزل الله و يحذّرهم عمّا يستعقبه إسرافهم على أنفسهم من الحسرة و الندامة يوم لا ينفعهم ذلك مع استكبارهم في الدنيا على الحقّ و الفوز و النجاة يومئذ للمتّقين و النار و الخسران للكافرين، و في لسان الآيات من الرأفة و الرحمة ما لا يخفى.

٢٧٤

قوله تعالى: ( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) إلخ أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعوهم من قبله و يناديهم بلفظة يا عبادي و فيه تذكير بحجّة الله سبحانه على دعوتهم إلى عبادتهم و ترغيب لهم إلى استجابة الدعوة أمّا التذكير بالحجّة فلأنّه يشير إلى أنّهم عباده و هو مولاهم و من حقّ المولى على عبده أن يطيعه و يعبده فله أن يدعوه إلى طاعته و عبادته، و أمّا ترغيبهم إلى استجابة الدعوة فلما فيه من الإضافة إليه تعالى الباعث لهم إلى التمسّك بذيل رحمته و مغفرته.

و قوله:( الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الإسراف - على ما ذكره الراغب - تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان و إن كان ذلك في الإنفاق أشهر، و كأنّ الفعل مضمّن معنى الجناية أو ما يقرب منها و لذا عدّي بعلى و الإسراف على النفس هو التعدّي عليها باقتراف الذنب أعمّ من الشرك و سائر الذنوب الكبيرة و الصغيرة على ما يعطيه السياق.

و قال جمع: إنّ المراد بالعباد المؤمنون و قد غلب استعماله فيهم مضافاً إليه تعالى في القرآن فمعنى( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) أيّها المؤمنون المذنبون.

و يدفعه أنّ قوله:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ) إلى تمام سبع آيات ذو سياق واحد متّصل يفصح عن دعوتهم و قوله في ذيل الآيات:( بَلى‏ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ ) إلخ كالصريح أو هو صريح في شمول العباد للمشركين.

و ما ورد في كلامه تعالى من لفظ( عِبادِيَ ) و المراد به المؤمنون بضعة عشر مورداً جميعها محفوفة بالقرينة و ليس بحيث ينصرف عند الإطلاق إلى المؤمنين كما أنّ الموارد الّتي اُطلق فيها و اُريد به الأعمّ من المشرك و المؤمن في كلامه كذلك.

و بالجملة شمول( عِبادِيَ ) في الآية للمشركين لا ينبغي أن يرتاب فيه، و القول بأنّ المراد به المشركون خاصّة نظراً إلى سياق الآيات كما نقل عن ابن عبّاس أقرب إلى القبول من تخصيصه بالمؤمنين.

و قوله:( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) القنوط اليأس، و المراد بالرحمة بقرينة خطاب المذنبين و دعوتهم هو الرحمة المتعلّقة بالآخرة دون ما هي أعمّ الشاملة للدنيا و الآخرة

٢٧٥

و من المعلوم أنّ الّذي يفتقر إليه المذنبون من شؤن رحمة الآخرة بلا واسطة هو المغفرة فالمراد بالرحمة المغفرة و لذا علّل النهي عن القنوط من الرحمة بقوله:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) .

و في الآية التفات من التكلّم إلى الغيبة حيث قيل:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ ) و لم يقل: إنّي أغفر و ذلك للإشارة إلى أنّه الله الّذي له الأسماء الحسنى و منها أنّه غفور رحيم كأنّه يقول لا تقنطوا من رحمتي فإنّي أنا الله أغفر الذنوب جميعاً لأنّ الله هو الغفور الرحيم.

و قوله:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً تعليل للنهي عن القنوط و إعلام بأنّ جميع الذنوب قابلة للمغفرة فالمغفرة عامّة لكنّها تحتاج إلى سبب مخصّص و لا تكون جزافاً، و الّذي عدّه القرآن سبباً للمغفرة أمران: الشفاعة(1) و التوبة لكن ليس المراد في قوله:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) المغفرة الحاصلة بالشفاعة لأنّ الشفاعة لا تنال‏ الشرك بنصّ القرآن في آيات كثيرة و قد مرّ أيضاً أنّ قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: 48 ناظر إلى الشفاعة و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) موردها الشرك و سائر الذنوب.

فلا يبقى إلّا أن يكون المراد المغفرة الحاصلة بالتوبة و كلامه تعالى صريح في مغفرة الذنوب جميعاً حتّى الشرك بالتوبة.

على أنّ الآيات السبع - كما عرفت - كلام واحد ذو سياق واحد متّصل ينهى عن القنوط - و هو تمهيد لما يتلوه - و يأمر بالتوبة و الإسلام و العمل الصالح و ليست الآية الاُولى كلاماً مستقلّاً منقطعاً عمّا يتلوه حتّى يحتمل عدم تقيّد عموم المغفرة فيها بالتوبة و أيّ سبب آخر مفروض للمغفرة.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) من معارك الآراء بينهم فقد ذهب قوم إلى تقييد عموم المغفرة فيها بالشرك و سائر الكبائر الّتي وعد الله عليها النار مع عدم تقييد العموم بالتوبة فالمغفرة لا تنال إلّا الصغائر من الذنوب.

____________________

(1) و قد مرّ الكلام فيها في مباحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٢٧٦

و ذهب آخرون إلى إطلاق المغفرة و عدم تقيّدها بالتوبة و لا بسبب آخر من أسباب المغفرة غير أنّهم قيّدوها بالشرك لصراحة قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) الآية فاستنتجوا عموم المغفرة و إن لم يكن هناك سبب مخصّص يرجّح المذنب المغفور له على غيره في مغفرته كالتوبة و الشفاعة و هي المغفرة الجزافيّة و قد استدلّوا على(1) ذلك بوجوه غير سديدة.

و أنت خبير بأنّ مورد الآية هو الشرك و سائر الذنوب، و من المعلوم من كلامه تعالى أنّ الشرك لا يغفر إلّا بالتوبة فتقيّد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة ممّا لا مفرّ منه.

قوله تعالى: ( وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) عطف على قوله:( لا تَقْنَطُوا ) ، و الإنابة إلى الله الرجوع إليه و هو التوبة، و قوله:( إِلى‏ رَبِّكُمْ ) من وضع الظاهر موضع المضمر و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و أنيبوا إليه و الوجه فيه الإشارة إلى التعليل فإنّ الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبيّة.

و المراد بالإسلام التسليم لله و الانقياد له فيما يريد، و إنّما قال:( وَ أَسْلِمُوا لَهُ ) و لم يقل: و آمنوا به لأنّ المذكور قبل الآية و بعدها استكبارهم على الحقّ و المقابل له الإسلام.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) متعلّق بقوله:( أَنِيبُوا و أَسْلِمُوا ) و المراد بالعذاب عذاب الآخرة بقرينة الآيات التالية، و يمكن على بعد أن يراد مطلق العذاب الّذي لا تقبل معه التوبة و منه عذاب الاستئصال قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: 85.

و المراد بقوله:( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) أنّ المغفرة لا تدرككم بوجه لعدم تحقّق سببها فالتوبة مفروضة العدم و الشفاعة لا تشمل الشرك.

____________________

(1) و قد استدلّ الآلوسيّ في روح المعاني على عدم تقيّد إطلاق المغفرة في الآية بالتوبة بسبعة عشر وجهاً لا تغني طائلاً، و ناقش في كون المغفرة لا عن سبب مرجح من التوبة و غيرها منافياً للحكمة ثمّ قيّد الآية بتقدير ( لِمَنْ يَشاءُ ) لوقوعه في بعض القراءات غير المشهورة فراجعه إن شئت.

٢٧٧

قوله تعالى: ( وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) الخطاب عامّ للمؤمن و الكافر كالخطابات السابقة و القرآن قد اُنزل إلى الفريقين جميعاً.

و في الآية أمر باتّباع أحسن ما اُنزل من الله قيل: المراد به اتّباع الأحكام من الحلال و الحرام دون القصص، و قيل: اتّباع ما اُمر به و نهي عنه كإتيان الواجب و المستحبّ و اجتناب الحرام و المكروه دون المباح، و قيل: الاتّباع في العزائم و هي الواجبات و المحرّمات، و قيل: اتّباع الناسخ دون المنسوخ، و قيل: ما اُنزل هو جنس الكتب السماويّة و أحسنها القرآن فاتّباع أحسن ما اُنزل و هو اتّباع القرآن.

و الإنصاف أنّ قوله في الآية السابقة:( وَ أَسْلِمُوا لَهُ ) يشمل مضمون كلّ من هذه الأقوال فحمل قوله:( وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) على شي‏ء منها لا يخلو عن تكرار من غير موجب.

و لعلّ المراد من أحسن ما اُنزل الخطابات الّتي تشير إلى طريق استعمال حقّ العبوديّة في امتثال الخطابات الإلهيّة الاعتقاديّة و العمليّة و ذلك كالخطابات الداعية إلى ذكر الله تعالى بالاستغراق و إلى حبّه و إلى تقواه حقّ تقاته و إلى إخلاص الدين له فإنّ اتّباع هذه الخطابات يحيي الإنسان حياة طيّبة و ينفخ فيه روح الإيمان و يصلح أعماله و يدخله في ولاية الله تعالى و هي الكرامة ليست فوقها كرامة.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) أنسب لهذا المعنى فإنّ الدعوة إلى عمل بالتخويف من مفاجأة الحرمان و مباغتة المانع إنّما تكون غالباً فيما يساهل المدعوّ في أمره و يطيّب نفسه بسوف و لعلّ، و هذا المعنى أمسّ بإصلاح الباطن منه بإصلاح الظاهر و الإتيان بأجساد الأعمال، و يقرب منه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) الأنفال: 24.

قوله تعالى: ( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) إلخ قال

٢٧٨

في المجمع: التفريط إهمال ما يجب أن يتقدّم فيه حتّى يفوت وقته، و قال: التحسّر الاغتمام ممّا فات وقته لانحساره عنه بما لا يمكن استدراكه. انتهى. و قال الراغب: الجنب الجارحة. قال: ثمّ يستعار في الناحية الّتي تليها لعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين و الشمال. انتهى. فجنب الله جانبه و ناحيته و هي ما يرجع إليه تعالى ممّا يجب على العبد أن يعامله و مصداق ذلك أن يعبده وحده و لا يعصيه و التفريط في جنب الله التقصير في ذلك.

و قوله:( وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) ( أَنْ ) مخفّفة من الثقيلة، و الساخرين اسم فاعل من سخر بمعنى استهزأ.

و معنى الآية إنّما نخاطبكم بهذا الخطاب حذر أن تقول أو لئلّا تقول نفس منكم يا حسرتا على ما قصّرت في جانب الله و إنّي كنت من المستهزئين، و موطن القول يوم القيامة.

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) ضمير تقول للنفس، و المراد بالهداية الإرشاد و إراءة الطريق، و المعنى ظاهر و هو قطع للعذر.

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) لو للتمنّي و الكرّة الرجعة، و المعنى أو تقول نفس متمنّية حين ترى العذاب يوم القيامة: ليت لي رجعة إلى الدنيا فأكون من المحسنين.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) ردّ لها و جواب لخصوص قولها ثانياً:( لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) و موطن الجواب يوم القيامة كما أنّ موطن القول ذلك و لسياق الجواب شهادة عليه.

و قد فصل بين قولها و جوابه بقوله:( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ) إلخ و لم يجب إلّا عن قولها:( لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي ) إلخ.

و الوجه في الفصل أنّ الأقوال الثلاثة المنقولة عنها مرتّبة على ترتيب صدورها عن المجرمين يوم القيامة فإذا قامت القيامة و رأى المجرمون أنّ اليوم يوم الجزاء بالأعمال و قد فرّطوا فيها و فاتهم وقتها تحسّروا على ما فرّطوا و نادوا بالحسرة على

٢٧٩

تفريطهم( يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ ) قال تعالى:( حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى‏ ما فَرَّطْنا فِيها ) الأنعام: 31.

ثمّ إذا حوسبوا و اُمر المتّقون بدخول الجنّة و قيل:( وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) يس: 59 تعلّلوا بقولهم:( لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .

ثمّ إذا أمروا بدخول النار فاُوقفوا عليها ثمّ اُدخلوا فيها تمنّوا الرجوع إلى الدنيا ليحسنوا فيها فيسعدوا( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ) قال تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الأنعام: 27، و قال حاكياً عنهم:( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) المؤمنون: 107.

ثمّ لمّا نقل الأقوال على ما بينها من الترتيب أخذ في الجواب و لو اُخّر القول المجاب عنه حتّى يتّصل بالجواب أو قدّم الجواب حتّى يتّصل به اختلّ النظم(1) .

و قد خصّ قولهم الثاني:( لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي ) إلخ بالجواب و أمسك عن جواب قولهم الأوّل و الثالث لأنّ في الأوّل حديث استهزائهم بالحقّ و أهله و في الثالث تمنّيهم للرجوع إلى الدنيا و الله سبحانه يزجر هؤلاء يوم القيامة و يمنعهم أن يكلّموه و لا يجيب عن كلامهم كما يشير إلى ذلك قوله‏:( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) المؤمنون: 111.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) الكذب على الله هو القول بأنّ له شريكاً و أنّ له ولداً و منه البدعة في الدين.

____________________

(1) و أصل الوجه مأخوذ من تفسير أبي السعود بإصلاح منّا.

٢٨٠