الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161669
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161669 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و تارة بغيرها كالشفاعة.

و العقاب و المعاقبة المؤاخذة الّتي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: و العُقُب و العقبى يختصّان بالثواب نحو( خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً ) ، و قال تعالى:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) ، و العاقبة إطلاقها يختصّ بالثواب نحو( وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ، و بالإضافة قد تستعمل في العقوبة نحو( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا ) ، و قوله:( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ ) يصح أن يكون ذلك استعارة من ضدّه، و العقوبة و المعاقبة و العقاب تختصّ بالعذاب. انتهى.

فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور و الرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة.

و الطول - على ما في المجمع - الإنعام الّذي تطول مدّته على صاحبه فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنّه أخصّ من المنعم لعدم شموله النعم القصار.

و ذكر هذه الأسماء الأربعة: غافر الذنب و قابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للإشارة إلى أنّ تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقّة المبنيّ على العلم مبنيّ على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الأسماء الأربعة.

و ذلك أنّ العالم الإنسانيّ كما يتّحد قبيلاً واحداً في نيل الطول الإلهيّ و التنعّم بنعمه المستمرّة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الآخرة قسمين و ينشعب إلى شعبتين: سعيد و شقيّ و الله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه و كيف لا يعلم؟ و هو خالقها و فاعلها، و مقتضى كونه غافراً للذنب قابلاً للتوب أن يغفر لمن استعدّ للمغفرة و أن يقبل توبة التائب إليه، و مقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحقّ ذلك.

و مقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) الليل: 13، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: 9. لينقسم الناس بذلك قسمين و يتميّز عنده السعيد من الشقيّ و المهتدي من الضالّ فيرحم هذا و يعذّب ذلك.

فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبنيّ على علمه المحيط بخلقه أنّهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم و يضلّ بردّها آخرون ليغفر لقوم و يعذّب آخرين،

٣٠١

و في حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعّموا بطوله و نعمته في الدنيا ثمّ في دار القرار.

فهذا شأن كتابه المنزّل بعلمه الّذي لا يشوبه جهل و المبنيّ على الحقّ الّذي لا يداخله باطل، و أين هو من تكذيب الّذين لا يعلمون إلّا ظاهراً من الحياة و جدالهم بالباطل ليدحضوا به الحقّ.

و على هذا الّذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة:( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) فتدبّر فيه.

و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) ذكر كلمة التوحيد للإشارة إلى وجوب عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينيّة بتنزيل الكتاب، و ذكر كون مصير الكلّ و رجوعهم إليه و هو البعث للإشارة إلى أنّه هو السبب العمدة الداعي إلى الإيمان بالكتاب و اتّباعه فيما يدعو إليه لأنّ الاعتقاد بيوم الحساب هو الّذي يستتبع الخوف و الرجاء خوف العقاب و رجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه.

قوله تعالى: ( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) لمّا ذكر تنزيل الكتاب و أشار إلى الحجّة الباهرة على حقّيّته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الآيتين، الدالّة على أنّه منزّل بعلمه الّذي لا يشوبه جهل و بالحقّ الّذي لا يدحضه باطل تعرّض لحال الّذين قابلوا حججه الحقّة بباطل جدالهم فلوّح إلى أنّ هؤلاء أهل العقاب و ليسوا بفائتين و لا مغفولاً عنهم فإنّهم كما نزّل الكتاب ليغفر الذنب و يقبل التوب كذلك نزّله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدالهم و لا يغرّنّه ما يشاهده من حالهم.

فقوله:( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ ) لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدلّ على أنّ الجدال في الحقّ الّذي تدلّ عليه الآيات بما هي آيات. على أنّ طرف جدالهم هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو داع إلى الحقّ الّذي تدلّ عليه الآيات فجدالهم لدفع الحقّ لا للدفاع عن الحقّ. على أنّ الجدال في الآية التالية مقيّدة بالباطل لإدحاض الحقّ.

٣٠٢

فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لإدحاضها و دفعها و هي المذمومة و لا تشمل الجدال لإثبات الحقّ و الدفاع عنه كيف؟ و هو سبحانه يأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك إذا كان جدالاً بالّتي هي أحسن قال تعالى:( وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل: 125.

قوله:( إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) ظاهر السياق أنّهم الّذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، و قد قيل:( ما يُجادِلُ ) و لم يقل: لا يجادل، و كذا ظاهر قوله:( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) أنّ المراد بهم الكفّار المعاصرون للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن لم يكونوا من أهل مكّة.

و تقلّبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر و من نعمة إلى نعمة في سلامة و صحّة و عافية، و توجيه النهي عن الغرور إلى تقلّبهم في البلاد كناية عن نهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنّهم أعجزوه سبحانه.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) إلخ في مقام الجواب عمّا يسبق إلى الوهم أنّهم استكبروا و جادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس و سبقوا في ذلك.

و محصّل الجواب: أنّ الاُمم الماضين كقوم نوح و الأحزاب من بعدهم كعاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب و الجدال بالباطل و همّوا برسولهم ليأخذوه فحلّ بهم العقاب و كذلك قضي في حقّ الكفّار العذاب فتوهّم أنّ هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهّم باطل.

فقوله:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) دفع للدخل السابق و لذا جي‏ء بالفصل، و قوله:( وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) يقال: همّ به أي قصده و يغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الإخراج أو غيرهما كما قصّه الله تعالى في قصصهم.

و قوله:( وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) الإدحاض الإزالة و الإبطال

٣٠٣

و قوله:( فَأَخَذْتُهُمْ ) أي عذّبتهم، و فيه التفات من الغيبة إلى التكلّم وحده و النكتة فيه الإشارة إلى أنّ أمرهم في هذا الطغيان و الاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه و بينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال:( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: 14.

و قوله:( فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفيّة إهلاكهم و قطع دابرهم ليحضر شدّة ما نزل بهم و قد قصّه الله فيما قصّ من قصصهم.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) ظاهر السياق أنّ المشبّه به هو ما في الآية السابقة من أخذهم و عقابهم، و المراد بالّذين كفروا مطلق الكفّار من الماضين، و المعنى كما أخذ الله المكذّبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقّت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الآخرة، و الّذين كفروا من قومك منهم.

و قيل: المراد بالّذين كفروا كفّار مكّة، و لا يساعد عليه السياق و التشبيه لا يخلو عليه من اختلال.

و في قوله:( كَلِمَةُ رَبِّكَ ) و لم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تأييد له بالإشارة إلى أنّ الركن الّذي يركن إليه هو الشديد القويّ.

٣٠٤

( سورة غافر الآيات 7 - 12)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 7 ) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 8 ) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ  وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ  وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( 10 ) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ( 11 ) ذَٰلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ  وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا  فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ( 12 )

( بيان)

لمّا ذكر سبحانه تكذيب الّذين كفروا و جدالهم في آيات الله بالباطل و لوّح إلى أنّهم غير معجزين و لا مغفول عنهم بل معنيّون في هذه الدعوة و العناية فيهم أن يتميّزوا فيحقّ عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الّذي أشار فيه إلى أنّ تنزيل الكتاب و إقامة الدعوة لمغفرة جمع و قبول توبتهم و عقاب آخرين فذكر أنّ الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش و الحافّون به من الملائكة و هم التائبون إلى الله المتّبعون سبيله و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرّيّاتهم، و قبيل ممقوتون

٣٠٥

معذّبون و هم الكافرون بالتوحيد.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) إلى آخر الآية. لم يعرّف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم؟ و لا في كلامه تصريح بأنّهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله:( وَ مَنْ حَوْلَهُ ) عليهم و قد قال فيهم:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر: 75 أنّ حملة العرش أيضاً من الملائكة.

و قد تقدّم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب.

فقوله:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ ) أي الملائكة الّذين يحملون العرش الّذي منه تظهر الأوامر و تصدر الأحكام الإلهيّة الّتي بها يدبّر العالم، و الّذين حول العرش من الملائكة و هم المقرّبون منهم.

و قوله:( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) أي ينزّهون الله سبحانه و الحال أنّ تنزيههم له يصاحب ثناؤهم لربّهم فهم ينزّهونه تعالى عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه و من ذلك وجود الشريك في ملكه و يثنون عليه على فعله و تدبيره.

و قوله:( وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) إيمانهم به و الحال هذه الحال عرش الملك و التدبير لله و هم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقّي الأوامر و ينزّهونه عن كلّ نقص و يحمدونه على أفعاله - معناه الإيمان بوحدانيّته في ربوبيّته و اُلوهيّته ففي ذكر العرش و نسبة التنزيه و التحميد و الإيمان إلى الملائكة ردّ للمشركين حيث يعدّون الملائكة المقرّبين شركاء لله في ربوبيّته و اُلوهيّته و يتّخذونهم أرباباً آلهة يعبدونهم.

و قوله:( وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للّذين آمنوا.

و قوله:( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً ) إلخ حكاية متن استغفارهم و قد بدؤا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة و العلم، و إنّما ذكروا الرحمة و شفّعوها بالعلم لأنّه برحمته ينعم على كلّ محتاج فالرحمة مبدأ إفاضة كلّ نعمة و بعلمه يعلم حاجة كلّ محتاج مستعدّ للرحمة.

٣٠٦

و قوله:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة و العلم، و المراد بالسبيل الّتي اتّبعوها هو ما شرع لهم من الدين و هو الإسلام و اتّباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالإيمان و المعنى فاغفر للّذين رجعوا إليك بالإيمان بوحدانيّتك و سلوك سبيلك الّذي هو الإسلام و قهم عذاب الجحيم و هو غاية المغفرة و غرضها.

قوله تعالى: ( رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) إلى آخر الآية تكرار النداء بلفظة ربّنا لمزيد الاستعطاف و المراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله و في كتبه.

و قوله:( وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) عطف على موضع الضمير في قوله:( وَ أَدْخِلْهُمْ ) و المراد بالصلوح صلاحية دخول الجنّة، و المعنى و أدخل من صلح لدخول الجنّة من آبائهم و أزواجهم و ذرّيّاتهم جنّات عدن.

ثمّ من المعلوم من سياق الآيات أنّ استغفارهم لعامّة المؤمنين، و من المعلوم أيضاً أنّهم قسّموهم قسمين اثنين قسّموهم إلى الّذين تابوا و اتّبعوا سبيل الله و قد وعدهم الله جنّات عدن، و إلى من صلح و قد جعلوا الطائفة الاُولى متبوعين و الثانية تابعين.

و يظهر منه أنّ الطائفة الاُولى هم الكاملون في الإيمان و العمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم:( لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) فذكروهم و سألوه أن يغفر لهم و ينجز لهم ما وعدهم من جنّات عدن، و الطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممّن لم يستكمل الإيمان و العمل من ناقص الإيمان و مستضعف و سيّئ العمل من منسوبي الطائفة الاُولى فذكروهم و سألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الأولى الكاملين في جنّاتهم و يقيهم السيئات.

فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الطور: 21 غير أنّ الآية الّتي نحن فيها أوسع و أشمل لشمولها الآباء و الأزواج بخلاف آية سورة الطور، و المأخوذ فيها الصلوح و هو أعمّ من الإيمان المأخوذ في آية الطور.

٣٠٧

و قوله:( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) تعليل لقولهم:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا ) إلى آخر مسألتهم، و كان الّذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنّك أنت الغفور الرحيم لكنّه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لأنّه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم:( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً ) . و لازم سعة الرحمة و هي عموم الإعطاء أنّ له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء و يمنع ما يشاء ممّن يشاء و هذا معنى العزّة الّتي هي القدرة على الإعطاء و المنع، و لازم سعة العلم لكلّ شي‏ء أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئاً منها و لازمه إتقان الفعل و هو الحكمة.

فقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) في معنى الاستشفاع بسعة رحمته و سعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا و توطئة لذكر الحاجة و هي المغفرة و الجنّة.

قوله تعالى: ( وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) إلخ ظاهر السياق أنّ الضمير في( قِهِمُ ) للّذين تابوا و من صلح جميعاً.

و المراد بالسيّئات - على ما قيل - تبعات المعاصي و هي جزاؤها و سمّيت التبعات سيّئات لأنّ جزاء السيّئ سيّئ قال تعالى:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الشورى: 40.

و قيل: المراد بالسيّئات المعاصي و الذنوب نفسها و الكلام على تقدير مضاف و التقدير و قهم جزاء السيّئات أو عذاب السيّئات.

و الظاهر أنّ الآية من الآيات الدالّة على أنّ الجزاء بنفس الأعمال خيرها و شرّها، و قد تكرّر في كلامه تعالى أمثال قوله:( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: 7.

و كيف كان فالمراد بالسيّئات الّتي سألوا وقايتهم عنها هي الأهوال و الشدائد الّتي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم:( وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) ( وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ ) .

و قيل: المراد بالسيّئات نفس المعاصي الّتي في الدنيا، و قولهم:( يَوْمَئِذٍ ) إشارة إلى الدنيا، و المعنى و احفظهم من اقتراف المعاصي و ارتكابها في الدنيا بتوفيقك.

و فيه أنّ السياق يؤيّد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم:( وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) و قولهم:( وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ) إلخ فالحقّ أنّ المراد بالسيّئات

٣٠٨

ما يظهر للناس يوم القيامة من الأهوال و الشدائد.

و يظهر من هذه الآيات المشتملة على دعاء الملائكة و مسألتهم:

أوّلاً: أنّ من الأدب في الدعاء أن يبدأ بحمده و الثناء عليه تعالى ثمّ يذكر الحاجة ثمّ يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له.

و ثانياً: أنّ سؤال المغفرة قبل سؤال الجنّة و قد كثر ذكر المغفرة قبل الجنّة في كلامه تعالى إذا ذكراً معاً، و هو الموافق للاعتبار فإنّ حصول استعداد أيّ نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة.

و ذكر بعضهم أنّ في قوله:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا ) الآية دلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من الله تعالى إذ لو كان واجباً لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة.

و فيه أنّ وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحّة مسألته و طلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار:( رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) فقد سألوا لهم الجنّة مع اعترافهم بأنّ الله وعدهم إيّاها و وعده تعالى واجب الإنجاز فإنّه لا يخلف الميعاد، و أصرح من هذه الآية قوله يحكي عن المؤمنين:( رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ) آل عمران: 194.

و قبول التوبة ممّا أوجبه الله تعالى على نفسه و جعله حقّاً للتائبين عليه قال تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) النساء: 17 فطلب كلّ حقّ أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده و إظهار اشتياق للفوز بكرامته.

و كذا لا يستلزم التفضّل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبة فكلّ عطيّة من عطاياه تفضّل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه و قهره عليه إذ هو المؤثّر في كلّ شي‏ء لا يؤثّر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه و يؤول معناه إلى قضائه تعالى فعل شي‏ء من الأفعال و إفاضة عطيّة من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه

٣٠٩

إنّما يفعله بمشيّة من نفسه منزّهاً عن إلزام الغير إيّاه عليه متفضّلاً به فالفعل تفضّل منه و إن كان واجب الصدور، و أمّا لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضّلاً أوضح.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ) المقت أشدّ البغض. لمّا ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم.

و ظاهر الآية و الآية التالية أنّ هذا النداء المذكور فيها إنّما ينادون به في الآخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أنّ كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الأنبياء إلى الإيمان كان مقتا و شدّة بغض منهم لأنفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم.

و ينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: اُقسم لمقت الله و شدّة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم و شدّة بغضكم لها إذ تدعون - حكاية حال ماضية - إلى الإيمان من قبل الأنبياء فتكفرون.

قوله تعالى: ( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) سياق الآية و ما قبلها يشعر بأنّهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، و إنّما يقولونه و هم في النار بدليل قولهم:( فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) .

و تقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب و توسّل إلى التخلّص من العذاب و لات حين مناص، و ذلك أنّهم كانوا - و هم في الدنيا - في ريب من البعث و الرجوع إلى الله فأنكروه و نسوا يوم الحساب و كان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب و ذهابهم لوجوههم في المعاصي و نسيان يوم الحساب مفتاح كلّ معصية و ضلال قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: 26.

ثمّ لمّا أماتهم الله إماتة بعد إماتة و أحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث و الرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت و الحياة بعد الحياة و قد كانوا

٣١٠

يرون أنّ الموت فناء، و يقولون إن هي إلّا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين.

و بالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين و بقيت الذنوب و المعاصي و لذلك توسّلوا إلى التخلّص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) الم السجدة: 12، و تارة اعترفوا بذنوبهم كما في الآية المبحوث عنها و قد كانوا يرون أنّهم أحرار مستقلّون في إرادتهم و أفعالهم لهم أن يشاؤا ما شاؤا و أن يفعلوا ما فعلوا و لا حساب و لا ذنب.

و من ذلك يظهر وجه ترتّب قولهم:( فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا ) على قولهم:( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) فالاعتراف في الحقيقة مترتّب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات و ذنوباً.

و المراد بقولهم:( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) - كما قيل - الإماتة عن الحياة الدنيا و الإحياء للبرزخ ثمّ الإماتة عن البرزخ و الإحياء للحساب يوم القيامة فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا و الإماتة بعد الحياة البرزخيّة و إلى الإحياء في البرزخ و الإحياء ليوم القيامة و لو لا الحياة البرزخيّة لم تتحقّق الإماتة الثانية لأنّ كلّا من الإماتة و الإحياء يتوقّف تحقّقه على سبق خلافه.

و لم يتعرّضوا للحياة الدنيا و لم يقولوا: و أحييتنا ثلاثاً و إن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الّذي هو حال عدم ولوج الروح لأنّ مرادهم ذكر الإحياء الّذي هو سبب الإيقان بالمعاد و هو الإحياء في البرزخ ثمّ في القيامة و أمّا الحياة الدنيويّة فإنّها و إن كانت إحياء لكنّها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد و هم أحياء في الدنيا.

و بما تقدّم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنّه لو كان المراد بالإحياءتين ما كان في البرزخ و في الآخرة لكان من الواجب أن يقال:( أمتّنا اثنتين و أحييتنا ثلاثاً) إذ ليس المراد إلّا ذكر ما مرّ عليهم من الإماتة و الإحياءة و ذلك إماتتان اثنتان و إحياءات ثلاث.

٣١١

و الجواب أنّه ليس المراد هو مجرّد ذكر الإماتة و الإحياء اللّتين مرّتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثاً لليقين بالمعاد، و ليس الإحياء الدنيويّ على هذه الصفة.

و قيل: المراد بالإماتة الاُولى حال النطفة قبل ولوج الروح، و بالإحياءة الاُولى ما هو حال الإنسان بعد ولوجها، و بالإماتة الثانية إماتته في الدنيا، و بالإحياءة الثانية إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، و الآية منطبقة على ما في قوله تعالى:( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) البقرة: 28.

و لمّا أحسّوا بعدم صدق الإماتة على حال الإنسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقّفها على سبق الحياة تمحّلوا في تصحيحه تمحّلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشّاف، و شروحه.

على أنّك قد عرفت أنّ ذكرهم ما مرّ عليهم من الإماتة و الإحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد و الحياة الدنيا و الموت الّذي قبلها لا أثر لهما في ذلك.

و قيل: إنّ الحياة الاُولى في الدنيا و الثانية في القبر، و الموتة الاُولى في الدنيا و الثانية في القبر و لا تعرّض في الآية لحياة يوم البعث، و يرد عليه ما تقدّم أنّ الحياة الدنيا لا تعلّق لها بالغرض فلا موجب للتعرّض لها، و الحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك.

و قيل: المراد بالإحياءتين إحياء البعث و الإحياء الّذي قبله و إحياء البعث قسمان إحياء في القبر و إحياء عند البعث و لم يتعرّض لهذا التقسيم في الآية فتشمل الآية الإحياءات الثلاث و الإماتتين جميعاً.

و يرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافاً إلى ما اُورد عليه أنّ ذكر الإماتة الثانية الّتي في القبر دليل على أنّ التقسيم ملحوظ و المراد التعدّد الشخصيّ لا النوعيّ.

و قيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذرّ ثمّ الإماتة ثمّ الإحياء في الدنيا ثمّ الإماتة ثمّ الإحياء للبعث، و يرد عليه ما يرد على سوابقه.

و قيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى:( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ )

٣١٢

الملك: 4، و المعنى أمتّنا إماتة و أحييتنا إحياءة بعد إحياءة.

و اُورد عليه أنّه إنّما يتمّ لو كان القول: أمتّنا إماتتين و أحييتنا إحياءتين أو كرّتين مثلاً لكن المقول نفس العدد و هو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله:( إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ) النحل: 51.

و قولهم:( فَهَلْ إِلى‏ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) دعاء و مسألة في صورة الاستفهام، و في تنكير الخروج و السبيل إشارة إلى رضاهم بأيّ نوع من الخروج كان من أيّ سبيل كانت فقد بلغ بهم الجهد و اليوم يوم تقطّعت بهم الأسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلّصهم من العذاب.

قوله تعالى: ( ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ) إلخ خطاب تشديد للكفّار موطنه يوم القيامة، و يحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك.

و الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ ) إلى ما هم فيه من الشدّة، و في قوله:( وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ ) دلالة على الاستمرار، و الكلام مسوق لبيان معاندتهم للحقّ و معاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكلّ ما يلوح فيه أثر التوحيد و يؤمنون بكلّ ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقّاً و لا يحترمون له جانباً فالله سبحانه يحرّم عليهم رحمته و لا يراعي في حكمه لهم جانباً.

و بهذا المعنى يتّصل قوله:( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) بأوّل الآية و يتفرّع عليه كأنّه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرّة و كفرتم بكلّ ما يريده و آمنتم بكلّ ما يكرهه فهو يقطع عنكم و يحكم فيكم بما يحكم من غير أيّ رعاية لحالكم.

فالآية في معنى قوله:( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة: 67، و الجملة أعني قوله:( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) خاصّة بحسب السياق و إن كانت عامّة في نفسها، و فيها تهديد و يتأكّد التهديد باختتامها بالاسمين العليّ الكبير.

٣١٣

( سورة غافر الآيات 13 - 20)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا  وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ( 13 ) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 14 ) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ( 15 ) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ  لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ  لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ  لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 16 ) الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ  لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ  إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 17 ) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ  مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ( 18 ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( 19 ) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ  وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ  إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 20 )

( بيان)

احتجاج على التوحيد و إنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متّبع سبيله و مكذّب بالآيات مجادل بالباطل.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ) إلى آخر الآية المراد بالآيات هي العلائم و الحجج الدالّة على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة بدليل ما سيجي‏ء من تفريع قوله:( فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) عليه، و الآيات مطلقة شاملة للآيات الكونيّة المشهودة في العالم لكلّ إنسان صحيح الإدراك و الآيات الّتي تجري على

٣١٤

أيدي الرسل و الحجج القائمة من طريق الوحي.

و الجملة مشتملة على حجّة فإنّه لو كان هناك إله تجب عبادته على الإنسان و كانت عبادته كمالاً للإنسان و سعادة له كان من الواجب في تمام التدبير و كامل العناية أن يهدي الإنسان إليه، و الّذي تدلّ الآيات الكونيّة على ربوبيّته و اُلوهيّته و يؤيّد دلالتها الرسل و الأنبياء بالدعوة و الإتيان بالآيات هو الله سبحانه، و أمّا آلهتهم الّذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدلّ على شي‏ء فالله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، و إلى هذه الحجّة يشير عليّعليه‌السلام بقوله‏ فيما روي عنه:( لو كان لربّك شريك لأتتك رسله‏) .

و قوله:( وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ) حجّة اُخرى على وحدانيّته تعالى من جهة الرزق فإنّ رزق العباد من شؤن الربوبيّة و الاُلوهيّة و الرزق من الله دون شركائهم فهو الربّ الإله دونهم.

و قد فسّروا الرزق بالمطر و السماء بجهة العلو، و لا يبعد أن يراد بالرزق نفس الأشياء الّتي يرتزق بها و بنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21.

و قوله:( وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ) معترضة تبيّن أنّ حصول التذكّر بهذه الحجج إنّما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل و هم المنيبون الراجعون إلى ربّهم دون المجادلين الكافرين فإنّ الكفر و الجحود يبطل استعداد التذكّر بالحجّة و الاتّباع للحقّ.

قوله تعالى: ( فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) الأنسب للسياق أن يكون الخطاب عامّاً للمؤمنين و غيرهم متفرّعاً على الحجّة السابقة غير أنّه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الآية و هم المكذّبون المجادلون بالباطل.

كأنّه قيل: إذا كانت الآيات تدلّ على وحدانيّته تعالى و هو الرازق فعلى غير الكافرين الّذين كذّبوا و جادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، و أمّا الكافرون الكارهون

٣١٥

للتوحيد فلا مطمع فيهم و لا آية تفيدهم و لا حجّة تقنعهم فاعبدوه بالإخلاص و دعوا الكافرين يكرهون ذلك.

قوله تعالى: ( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلخ صفات ثلاث له تعالى و كلّ منها خبر بعد خبر للضمير في قوله:( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ) و الآية و ما بعدها مسوقة للإنذار.

و قد أوردوا لقوله:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ) تفاسير شتّى فقيل: معناه رافع درجات الأنبياء و الأولياء في الجنّة، و قيل: رافع السماوات السبع الّتي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، و قيل: رفيع مصاعد عرشه، و قيل: كناية عن رفعة شأنه و سلطانه.

و الّذي يعطيه التدبّر أنّ الآية و ما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أنّ له عرشاً تجتمع فيه أزمّة اُمور الخلق و يتنزّل منه الأمر متعالياً بدرجات رفيعة هي مراتب خلقه و لعلّها السماوات الّتي وصفها في كلامه بأنّها مساكن ملائكته و أنّ أمره يتنزّل بينهنّ و هي الّتي تحجب عرشه عن الناس.

ثمّ إنّ له يوماً هو يوم التلاق يرفع فيه الحجاب ما بينه و بين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم و طيّ السماوات بيمينه و إظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنّه هو المليك على كلّ شي‏ء لا ملك إلّا ملكه فيحكم بينهم.

فالمراد بالدرجات الدرجات الّتي يرتقى منها إلى عرشه و يعود قوله:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) كناية استعاريّة عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق و غيبته و احتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة و مراحل بعيدة.

و قوله:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إشارة إلى أمر الرسالة الّتي من شأنها الإنذار، و تقييد الروح بقوله:( مِنْ أَمْرِهِ ) دليل على أنّ المراد بها الروح الّتي ذكرها في قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الإسراء: 85، و هي الّتي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا ) النحل: 2.

فالمراد بإلقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، و المراد

٣١٦

بقوله:( مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) الرسل الّذين اصطفاهم الله لرسالته، و في معنى الروح الملقاة على النبيّ أقوال اُخر لا يعبؤ بها.

و قوله:( لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) و هو يوم القيامة سمّي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق و المخلوق أو لالتقاء أهل السماء و الأرض أو لالتقاء الظالم و المظلوم أو لالتقاء المرء و عمله و لكلّ من هذه الوجوه قائل.

و يمكن أن يتأيّد القول الثاني بما تكرّر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله:( بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ) الروم: 8، و قوله:( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) هود: 29، و قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و معنى اللقاء تقطّع الأسباب الشاغلة و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين و بروزهم لله.

قوله تعالى: ( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) إلخ تفسير ليوم التلاق، و معنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم و ارتفاع الأسباب الوهميّة الّتي كانت تجذبهم إلى نفسها و تحجبهم عن ربّهم و تغفلهم عن إحاطة ملكه و تفرّده في الحكم و توحّده في الربوبيّة و الاُلوهيّة.

فقوله:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ) إشارة إلى ارتفاع كلّ سبب حاجب، و قوله:( لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) تفسير لمعنى بروزهم لله و توضيح فقلوبهم و أعمالهم بعين الله و ظاهرهم و باطنهم و ما ذكروه و ما نسوه مكشوفة غير مستورة.

و قوله:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) سؤال و جواب من ناحيته سبحانه تبيّن بهما حقيقة اليوم و هي ظهور ملكه و سلطانه تعالى على الخلق على الإطلاق.

و في توصيفه تعالى بالواحد القهّار تعليل لانحصار الملك فيه لأنّه إذ قهر كلّ شي‏ء ملكه و تسلّط عليه بسلب الاستقلال عنه و هو واحد فله الملك وحده.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) الباء في( بِما كَسَبَتْ ) للصلة و المراد بيان خصيصة اليوم و هي أنّ كلّ نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: 7.

٣١٧

و قوله:( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) تعليل لنفي الظلم في قوله:( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) أي إنّه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب اُخرى حتّى يخطئ فيجزي نفساً غير جزائها فيظلمها.

و هذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشئ عن الخطإ و أمّا الظلم عن عمد و علم فانتفاؤه مفروغ عنه لأنّ الجزاء لمّا كان بنفس العمل لم يتصوّر معه ظلم.

قوله تعالى: ( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ) إلى آخر الآية. الآزفة من أوصاف القيامة و معناها القريبة الدانية قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) المعارج: 7.

و قوله:( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ) الحناجر جمع حنجرة و هي رأس الغلصمة من خارج و كون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنّها تزول عن مقرّها و تبلغ الحناجر من شدّة الخوف، و كاظمين من الكظم و هو شدّة الاغتمام.

و قوله:( ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ ) الحميم القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحميّة القرابة قال تعالى:( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) المؤمنون: 101، و لا شفيع يطاع في شفاعته.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ ) قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو، و ليس المراد بخائنة الأعين كلّ معصية من معاصيها بل المعاصي الّتي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور.

و قيل:( خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، و لازمه كون العلم بمعنى المعرفة و المعنى يعرف الأعين الخائنة، و الوجه هو الأوّل.

و قوله:( وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ ) و هو ما تسرّه النفس و تستره من وجوه الكفر و النفاق و هيئات المعاصي.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ‏ءٍ ) إلخ هذه حجّة اُخرى على توحّده تعالى بالاُلوهيّة أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار

٣١٨

الملك فيه يوم القيامة و علمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور تمهيداً و توطئة.

و محصّلها أنّ من اللّازم الضروريّ في الاُلوهيّة أن يقضي الإله في عباده و بينهم و الله سبحانه هو يقضي بين الخلق و فيهم يوم القيامة و الّذين يدعون من دونه لا يقضون بشي‏ء لأنّهم عباد مملوكون لا يملكون شيئاً.

و من قضائه تعالى تدبيره جزئيّات اُمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنّه مصداق القضاء و الحكم قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82، و قال:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: 47، و لا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء.

و من قضائه تعالى تشريع الدين و ارتضاؤه سبيلاً لنفسه قال تعالى:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) الآية الإسراء: 23.

و قوله:( إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي له حقيقة العلم بالمسموعات و المبصرات لذاته، و ليس لغيره من ذلك إلّا ما ملّكه الله و أذن فيه لا لذاته.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) قال: روح القدس و هو خاصّ برسول الله و الأئمّة (صلوات الله و سلامه عليهم).

و في المعاني، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و أهل الأرض.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، مضمراً مرسلاً.

و في التوحيد، بإسناده عن ابن فضّال عن الرضا عن آبائه عن عليّعليهم‌السلام في حديث قال: و يقول الله عزّوجلّ:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) ثمّ ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون:( لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) ثمّ يقول الله جلّ جلاله:( الْيَوْمَ تُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) الآية.

و في نهج البلاغة: و إنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شي‏ء معه، كما كان

٣١٩

قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا زمان و لا حين و لا مكان، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و الساعات، فلا شي‏ء إلّا الله الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الاُمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها

و في تفسير القميّ، بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء.

ثمّ ذكرعليه‌السلام كيفيّة النفخ و موت أهل الأرض و السماء - إلى أن قال - فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثمّ يأمر السماء فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله:( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) يعني يبسط و( تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أوّل مرّة، و يعيد عرشه على الماء كما كان أوّل مرّة مستقلّاً بعظمته و قدرته.

قال: فعند ذلك ينادي الجبّار جلّ جلاله بصوت من قبله جهوريّ يسمع أقطار السماوات و الأرضين( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبّار عزّوجلّ مجيباً لنفسه( لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) الحديث.

أقول: التدبّر في الروايات الثلاث الأخيرة يهدي إلى أنّ الّذي يفنى من الخلق استقلال وجودها و النسب و روابط التأثير الّتي بينها كما تفيده الآيات القرآنيّة و أنّ الأرواح لا تموت، و أن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، و في الروايات لطائف من الإشارات تظهر للمتدبّر، و فيها ما يخالف بظاهره ما تقدّم.

و في روضة الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلّا أساءه ذلك و ندم عليه و قد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( كفى بالندم توبة) و قال:( من سرّته حسنته و ساءته سيّئته فهو مؤمن) فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له شفاعة و كان ظالماً و الله تعالى يقول:( ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ ) .

و في المعاني، بإسناده إلى عبدالرحمن بن سلمة الحريريّ قال: سألت أباعبدالله

٣٢٠