الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 168147 / تحميل: 6004
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

( بيان)

تتكلّم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصليّ و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثمّ يعود إليه فصلاً بعد فصل فقد افتتح بقوله:( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إلخ ثمّ قيل:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) إلخ، و قيل - و هو في خاتمة الكلام -:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) إلخ.

و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الاُصول الثلاثة الّتي هي أساس دعوته الحقّة و هي الوحدانيّة و النبوّة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمّنته التبشير و الإنذار.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزّل من الرحمن الرحيم، و التعرّض للصفتين الكريمتين: الرحمن الدالّ على الرحمة العامّة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالّة على الرحمة الخاصّة بالمؤمنين للإشارة إلى أنّ هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم.

قوله تعالى: ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكّن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقّل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١، و قوله:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و قوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حال من الكتاب أو من آياته، و قوله:( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

٣٦١

اللّام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول( يَعْلَمُونَ ) إمّا محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الّذي نزّل به و هم العرب و إمّا متروك و المعنى لقوم لهم علم.

و لازم المعنى الأوّل أن يكون هناك عناية خاصّة بالعرب في نزول القرآن عربيّاً و هو الّذي يشعر به أيضاً قوله الآتي:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ) الآية و قريب منه قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١٩٩.

و لا ينافي ذلك عموم دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعامّة البشر لأنّ دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مرتّبة على مراحل فأوّل ما دعي دعي الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثمّ كان يدعو بعد ذلك سرّاً مدّة ثمّ أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) الشعراء: ٢١٤ ثمّ اُمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: ٩٤ ثمّ اُمر بدعوة الناس عامّة كما يشير إليه قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: ١٥٨، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩.

على أنّ من المسلّم تاريخاً أنّه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيّاً، و بلال و كان حبشيّاً، و صهيب و كان روميّاً، و دعوته لليهود و وقائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كلّ ذلك دليل على عموم الدعوة.

قوله تعالى: ( بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ( بَشِيراً وَ نَذِيراً ) حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفيّ سمع القبول كما يدلّ عليه قرينة الإعراض.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية. قال الراغب: الكنّ ما يحفظ فيه الشي‏ء قال: الكنان الغطاء الّذي يكنّ فيه الشي‏ء و الجمع أكنّة نحو غطاء و أغطية قال تعالى:( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) . انتهى.

٣٦٢

فقوله:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه من التوحيد كأنّها مغطّاة بأغطية لا يتطرّق إليها شي‏ء من خارج.

و قوله:( وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ ) أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئاً من هذه الدعوة، و قوله:( وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ ) أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شي‏ء ممّا تريد فقد أيأسوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبول دعوته بما أخبروه أوّلاً بكون قلوبهم في أكنّة فلا تقع فيها دعوته حتّى يفقهوها، و ثانياً بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثاً بأنّ بينهم و بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجاباً مضروباً لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس.

و قوله:( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإنّنا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإنّنا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) في مقام الجواب عن قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) على ما يعطيه السياق فمحصّله قل لهم: إنّما أنا بشر مثلكم اُعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضاً و اُكلّمكم كما يكلّم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتّى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أنّ الّذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إليّ و هو إنّما إلهكم الّذي يستحقّ أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرّقون.

و قوله:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) أي فإذا لم يكن إلّا إلهاً واحداً لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ )

٣٦٣

تهديد للمشركين الّذين يثبتون لله شركاء و لا يوحّدونه، و قد وصفهم من أخصّ صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة.

و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإنّ الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكّيّة.

و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيّباً بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

و قوله:( وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنّهم معروفون بالكفر بالآخرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع بل متّصل دائم كما فسّره بعضهم، و فسّره آخرون بغير معدود كما قال تعالى:( يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: ٤٠.

و جوّز أن يكون المراد أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجّه هذا الوجه بأنّ في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى:( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: ٢٢.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) الآية. أمره ثانياً أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانيّة في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أوّلاً بدفع قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) إلخ.

و الاستفهام للتعجيب و لذا اُكّد المستفهم عنه بإنّ و اللّام كأنّ المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المَحَجّة و استقامة الحجّة.

٣٦٤

و قوله:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ) إلخ، و الأنداد جمع ندّ و هو المثل، و المراد بجعل الأنداد له اتّخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبيّة و الاُلوهيّة.

و قوله:( ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى و تنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو ربّ العالمين المدبّر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوّغ لأن يتوهّم ربّاً آخر سواه و إلهاً آخر غيره.

و المراد باليوم في قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) برهة من الزمان دون مصداق اليوم الّذي نعهده و نحن على بسيط أرضنا هذه و هو مقدار حركة الكرة الأرضيّة حول نفسها مرّة واحدة فإنّه ظاهر الفساد، و إطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، و من ذلك قوله تعالى:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) آل عمران: ١٤٠، و قوله:( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) يونس: ١٠٢، و غير ذلك.

فاليومان اللّذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تمّ فيهما تكوّن الأرض أرضاً تامّة، و في عدّهما يومين لا يوماً واحداً دليل على أنّ الأرض لاقت زمان تكوّنها الأوّليّ مرحلتين متغايرتين كمرحلة الني‏ء و النضج أو الذوبان و الانعقاد أو نحو ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ) إلى آخر الآية. معطوف على قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) و لا ضير في تخلّل الجملتين:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) بين المعطوف و المعطوف عليه لأنّ الاُولى تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ ) و الثانية تقرير للتعجيب الّذي يفيده الاستفهام.

و الرواسي صفة لموصوف محذوف و التقدير جبالاً رواسي أي ثابتات على الأرض و ضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض.

و قوله:( وَ بارَكَ فِيها ) أي جعل فيها الخير الكثير الّذي ينتفع به ما على الأرض من نبات و حيوان و إنسان في حياته أنواع الانتفاعات.

٣٦٥

و قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) قيل: الظرف أعني قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) بتقدير مضاف و هو متعلّق بقدّر، و التقدير قدّر الأقوات في تتمّة أربعة أيّام من حين بدء الخلق - فيومان لخلق الأرض و يومان - و هما تتمّة أربعة أيّام - لتقدير الأقوات.

و قيل: متعلّق بحصول الأقوات و تقدير المضاف على حاله، و التقدير قدّر حصول أقواتها في تتمّة أربعة أيّام - فيها خلق الأرض و أقواتها جميعاً -.

و قيل: متعلّق بحصول جميع الاُمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها و التقدير و حصول ذلك كلّه في تتمّة أربعة أيّام و فيه حذف و تقدير كثير.

و جعل الزمخشريّ في الكشّاف، الظرف متعلّقاً بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف و التقدير كلّ ذلك كائن في أربعة أيّام فيكون قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) من قبيل الفذلكة كأنّه قيل: خلق الأرض في يومين و أقواتها و غير ذلك في يومين فكلّ ذلك في أربعة أيّام.

قالوا: و إنّما لم يجز حمل الآية على أنّ جعل الرواسي و ما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيّام لأنّ لازمه كون خلق الأرض و ما فيها في ستّة أيّام و قد ذكر بعده أنّ السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيّام و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّه خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف و التقدير.

و الإنصاف أنّ الآية أعني قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) ظاهرة في غير ما ذكروه و القرائن الحافّة بها تؤيّد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة الّتي يكونها ميل الشمس الشماليّ و الجنوبيّ بحسب ظاهر الحسّ فالأيّام الأربعة هي الفصول الأربعة.

و الّذي ذكر في هذه الآيات من أيّام خلق السماوات و الأرض أربعة أيّام يومان لخلق الأرض و يومان لتسوية السماوات سبعاً بعد كونها دخاناً و أمّا أيّام الأقوات فقد

٣٦٦

ذكرت أيّاماً لتقديرها لا لخلقها، و ما تكرّر في كلامه تعالى هو خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام لا مجموع خلقها و تقدير أمرها فالحقّ أنّ الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط و لا حذف و لا تقدير في الآية و المراد بيان تقدير أقوات الأرض و أرزاقها في الفصول الأربعة من السنة.

و قوله:( سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي استوت الأقوات المقدّرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدّرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا و تكفيهم من دون زيادة أو نقيصة.

و السائلون هم أنواع النبات و الحيوان و الإنسان فإنّهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق و الأقوات فهم سائلون ربّهم(١) قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩، و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: ٣٤.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) تعم النبات و الإتيان بضمير أولي العقل للتغليب.

الاستواء - على ما ذكره الراغب - إذا عدّي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ‏، و إذا عدّي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه.

و أيضاً في المفردات، أنّ الكره بفتح الكاف المشقّة الّتي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، و الكُره بضمّ الكاف ما تناله من ذاته و هو يعافه.

فقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) أي توجّه إليها و قصدها بالخلق دون القصد المكانيّ الّذي لا يتمّ إلّا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان و من جهة إلى جهة لتنزّهه تعالى على ذلك.

و ظاهر العطف بثمّ تأخّر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل: إنّ( ثُمَّ ) لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود و التحقّق و يؤيّده قوله تعالى:( أَمِ السَّماءُ بَناها - إلى أن قال -وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها

____________________

(١) ظاهر الآيتين و إن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنّهما و خاصّة الثانية تفيدان أنّ المراد بالسؤال هو الحاجة و الاستعداد و عليه فالآية

٣٦٧

وَ الْجِبالَ أَرْساها ) النازعات: ٣٢ فإنّه يفيد تأخّر الأرض عن السماء خلقاً.

و الاعتراض عليه بأنّ مفاده تأخّر دحو الأرض عن بناء السماء و دحوها غير خلقها مدفوع بأنّ الأرض كريّة فليس دحوها و بسطها غير تسويتها كرة و هو خلقها على أنّه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها و مرعاها و إرساء جبالها و هذه بعينها جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها الّتي ذكرها في الآيات الّتي نحن فيها مع خلق الأرض و عطف عليها خلق السماء بثمّ فلا مناص عن حمل ثمّ على غير التراخي الزماني فإنّ قوله في آية النازعات:( بَعْدَ ذلِكَ ) أظهر في التراخي الزمانيّ من لفظة( ثُمَّ ) فيه في آية حم السجدة و الله أعلم.

و قوله:( وَ هِيَ دُخانٌ ) حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئاً سمّاه الله دخاناً و هو مادّتها الّتي ألبسها الصورة و قضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميّزاً بعضها من بعض، و لذا أفرد السماء فقال:( اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) .

و قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تفريع على استوائه إلى السماء و المورد مورد التكوين بلا شكّ فقوله لها و للأرض:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كلمة إيجاد و أمر تكوينيّ كقوله لشي‏ء أراد وجوده: كن، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: ٨٣.

و مجموع قوله لهما:( ائْتِيا ) إلخ و قولهما له:( أَتَيْنا ) إلخ تمثيل لصفة الإيجاد و التكوين على الفهم الساذج العرفيّ و حقيقة تحليليّة بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات و كون تكليم كلّ شي‏ء بحسب ما يناسب حاله، و قد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدّم من المباحث، و سيجي‏ء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الآية ٢١ من السورة إن شاء الله.

و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ائْتِيا ) إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار و المنافع دون الأمر بأن توجداً و تكوّناً مدفوع بأنّ تكوّن السماء مذكور فيما

٣٦٨

بعد و لا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار و المنافع قبل ذكر التكوّن.

و في قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) إيجاب الإتيان عليهما و تخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، و لعلّ المراد بالطوع و الكره - و هما بوجه قبول الفعل و نوع ملاءمة و عدمه - هو الاستعداد السابق للكون و عدمه فيكون قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص و أنّه أمر لا يتخلّف البتّة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق و قبول ذاتيّ و سؤال فطريّ إذ قالتا:( أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

و قول بعضهم: إنّ قوله:( طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تمثيل لتحتّم تأثير قدرته تعالى فيهما و استحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع و الكره لهما. مدفوع بقوله بعد:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلاً فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه.

و قوله:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) جواب السماء و الأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع، و التعبير باللفظ الخاصّ باُولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة و الجواب و هما من خواصّ اُولي العقل، و التعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعلّه تواضع منهما بعدّ أنفسهما غير متميّزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) الحمد: ٥.

ثمّ إنّ تشريك الأرض مع السماء في خطاب( ائْتِيا ) إلخ مع ذكر خلقها و تدبير أمرها قبلاً لا يخلو من إشعار بأنّ بينهما نوع ارتباط في الوجود و اتّصال في النظام الجاري فيهما و هو كذلك فإنّ الفعل و الانفعال و التأثير و التأثّر دائر بين أجزاء العالم المشهود.

و في قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ) تلويح على أيّ حال إلى كون( ثُمَّ ) في قوله:( ثُمَّ اسْتَوى) للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها )

٣٦٩

الأصل في معنى القضاء فصل الأمر، و ضمير( هُنَّ ) للسماء على المعنى، و( سَبْعَ سَماواتٍ ) حال من الضمير و( فِي يَوْمَيْنِ ) متعلّق بقضاهنّ فتفيد الجملة أنّ السماء لمّا استوى سبحانه إليها و هي دخان كان أمرها مبهما غير مشخّص من حيث فعليّة الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين.

و قيل: إنّ القضاء في الآية مضمّن معنى التصيير و( سَبْعَ سَماواتٍ ) مفعوله الثاني، و قيل فيها وجوه أخر لا يهمّنا إيرادها.

و الآية و ما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما اُجمل في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: ٣٠.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) قيل: المراد بأمر السماء ما تستعدّ له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب و ما أشبه ذلك، و الوحي هو الخلق و الإيجاد، و الجملة معطوفة على قوله:( فَقَضاهُنَّ ) مقيّدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، و المعنى و خلق في كلّ سماء ما فيها من الملائكة و الكواكب و غيرها.

و أنت خبير بأنّ إرادة الخلق من الوحي و أمثال الملك و الكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلّا بدليل بيّن، و كذا تقيّد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها.

و قيل: المراد بالأمر التكليف الإلهيّ المتوجّه إلى أهل كلّ سماء من الملائكة و الوحي بمعناه المعروف و المعنى و أوحى إلى أهل كلّ سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة.

و فيه أنّ ظاهر الآية و قد قال تعالى:( فِي كُلِّ سَماءٍ ) و لم يقل: إلى كلّ سماء لا يوافقه تلك الموافقة.

و قيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، و هذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد الوجهين السابقين فإن اُريد بالوحي الخلق و الإيجاد رجع إلى أوّل الوجهين و إن اُريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.

و الّذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلّق بوجه بالسماء يلوّح إلى معنى

٣٧٠

أدقّ ممّا ذكروه فقد قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: ٥، و قال:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: ١٢، و قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) المؤمنون: ١٧.

دلت الآية الاُولى على أنّ السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه و الثانية على أنّ الأمر يتنزّل بين السماوات من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى الأرض، و الثالثة على أنّ السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: ٤، و قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان: ٤.

و لو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكوينيّ و هو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: ٨٢، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أنّ الأمر الإلهيّ الّذي مضيه في العالم الأرضيّ هو خلق الأشياء و حدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى و تسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزّله من سماء إلى سماء حتّى تنتهي به إلى الأرض.

و إنّما تحمله ملائكة كلّ سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) سبأ: ٢٣ و قد تقدّم الكلام فيه و السماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله:( وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ) النجم: ٢٦، و قوله:( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى‏ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) الصافّات: ٨.

فللأمر نسبة إلى كلّ سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، و نسبة إلى كلّ قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم و هو وحيه إليهم فإنّ الله سبحانه سمّاه قولاً كما قال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ ) النحل: ٤٠.

فتحصّل بما مرّ أنّ معنى قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) أوحى في كلّ

٣٧١

سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهيّ. المنسوب إلى تلك السماء المتعلّق بها، و أمّا كون اليومين المذكورين في الآية ظرفاً لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعاً فلا دليل عليه من لفظ الآية.

قوله تعالى: ( وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنّها أقرب السماوات من الأرض و هي طباق بعضها فوق بعض كما قال:( خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) الملك: ٣.

و الظاهر من معنى تزيينها بمصابيح و هي الكواكب كما قال:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: ٦ أنّ الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلّقة و لو كانت متفرّقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفّافة كما قيل كانت زينة لجميعها و لم تختصّ الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنّها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدّت زينة لها.

و أمّا قوله:( أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: ١٦ فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل و النهار كقوله:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) النبأ: ١٣.

و قوله:( وَ حِفْظاً ) أي و حفظناها من الشياطين حفظا كما قال:( وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) الحجر: ١٨.

و قوله:( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) إشارة إلى ما تقدّم من النظم و الترتيب.

( كلام فيه تتميم)

( في معنى السماء)

قد تحصّل ممّا تقدّم:

أوّلاً: أنّ المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - و ليست بنصّ - أنّ السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم و الكواكب فوقنا.

٣٧٢

و ثانياً: أنّ هذه السماوات السبع المذكورة جميعاً من الخلق الجسمانيّ فكأنّها طبقات سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منّا عالم النجوم و الكواكب، و لم يصف القرآن شيئاً من السماوات الستّ الباقية دون أن ذكر أنّها طباق.

و ثالثاً: أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلويّة أو خصوص بعضها كالشمس و القمر أو غيرهما.

و رابعاً: أنّ ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة و أنّهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له و يعرجون إليها بكتب الأعمال، و أنّ للسماء أبواباً لا تفتّح للكفّار و أنّ الأشياء و الأرزاق تنزل منها و غير ذلك ممّا تشير إليه متفرّقات الآيات و الروايات يكشف عن أنّ لهذه الاُمور نوع تعلّق بهذه السماوات لا كتعلّق ما نراه من الأجسام بمحالها و أماكنها الجسمانيّة الموجبة لحكومة النظام المادّيّ فيها و تسرّب التغيّر و التبدّل و الدثور و الفتور إليها.

و ذلك أنّ من الضروريّ اليوم أنّ لهذه الأجرام العلويّة كائنة ما كانت كينونة عنصريّة جسمانيّة تجري فيها نظائر الأحكام و الآثار الجارية في عالمنا الأرضيّ العنصريّ و النظام الّذي يثبت للسماء و أهلها و الاُمور الجارية فيها ممّا أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصريّ المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أنّ الملائكة خلقوا من نور، و أنّ غذاءهم التسبيح، و ما ورد من توصيف خلقهم، و ما ورد في توصيف خلق السماوات و ما خلق فيها إلى غير ذلك.

فللملائكة عوالم ملكوتيّة سبعة مترتّبة سمّيت سماوات سبعاً و نسبت ما لها من الخواصّ و الآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلوّ و الإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلاً للفهم الساذج.

٣٧٣

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو يعلى و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و أبونعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل و ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الّذي قد فرّق جماعتنا، و شتّت أمرنا و عاب ديننا فليكلّمه و لينظر ما ذا يردّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أباالوليد.

فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم عبدالله؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة الّتي عبدت و إن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلّم حتّى نسمع منك.

أما و الله ما رأينا سلحة قطّ أشأم على قومك منك فرّقت جماعتنا، و شتّت أمرنا و عبت ديننا، و فضحتنا في العرب حتّى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً، و أنّ في قريش كاهناً و الله ما ننتظر إلّا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتّى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً و إن كان نما بك الباءة فاختر أيّ نساء قريش شئت فلنزوّجك عشراً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) حتّى بلغ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) .

فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنّكم تكلّمون به إلّا كلّمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: و الّذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً ممّا قال غير أنّه قال:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قالوا: ويلك يكلّمك الرجل بالعربيّة و ما تدري ما قال؟ قال: لا و الله ما فهمت شيئاً ممّا قال غير ذكر الصاعقة.

٣٧٤

أقول: و رواه عن عدّة من الكتب قريباً منه‏، و في بعض الطرق: قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: و الله إنّي قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قطّ، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و الله ليكونّن لقوله الّذي سمعت نبأ، و في بعضها غير ذلك.

و في تلاوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات أوّل السورة على الوليد بن المغيرة رواية اُخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدّثّر في ذيل قوله تعالى:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) الآيات.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟ فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد و الإثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق المدائن و الأقوات و الأنهار و عمرانها و خرابها يوم الأربعاء، و خلق السماوات و الملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، و خلق في أوّل ساعة الآجال و في الثانية الآفة و في الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تمّمت فعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله( وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) .

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عبّاس و عبدالله بن سلام و عن عكرمة و غيره و قد ورد في بعض أخبار الشيعة، و قوله: قالوا: صدقت إن تمّمت أي تمّمت كلامك في الخلق بأن تقول: إنّه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه.

و الروايات لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق و هو مخالف لما ورد في أوّل سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنّه خلق النور و الظلمة - النهار و الليل - يوم الأحد، و خلق السماء يوم الإثنين، و خلق الأرض و البحار و النبات يوم الثلاثاء و خلق الشمس و القمر و النجوم يوم الأربعاء و خلق دوابّ البحر و الطير يوم الخميس، و خلق حيوان البرّ و الإنسان يوم الجمعة و فرغ من الخلق يوم السبت فاستراح فيه، و القول بأنّ التوراة الحاضرة غير ما كان

٣٧٥

في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ترى.

و أمّا ثانياً: فلأنّ اليوم من الأسبوع و هو نهار مع ليلته يتوقّف في كينونته على حركة الأرض الوضعيّة دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين و لم يخلق السماء و السماويّات بعد و لا تمّت الأرض كرة متحرّكة؟ و نظير الإشكال جارّ في خلق السماء و السماويّات و منها الشمس و لا يوم حيث لا شمس بعد.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه عدّ فيها يوم لخلق الجبال و قد جزم الفحص العلميّ بأنّها تخلق تدريجاً، و نظير الإشكال جار في خلق المدائن و الأنهار و الأقوات.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن عطيّة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: و خلق الشي‏ء الّذي جميع الأشياء منه و هو الماء الّذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كلّ شي‏ء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، و خلق الريح من الماء.

ثمّ سلّط الريح على الماء فشقّقت الريح متن الماء حتّى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضاً بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثمّ طواها فوضعها فوق الماء.

ثمّ خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتّى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله:( السَّماءُ بَناها ) .

أقول: و في هذه المعنى بعض روايات اُخر، و يمكن تطبيق ما في الرواية و كذا مضامين الآيات على ما تسلّمته الأبحاث العلميّة اليوم في خلق العالم و هيئته غير أنّا تركنا ذلك احترازاً من تحديد الحقائق القرآنيّة بالأحداس و الفرضيّات العلميّة ما دامت فرضيّة غير مقطوع بها من طريق البرهان العلميّ.

و في نهج البلاغة: فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهنّ له بالربوبيّة، و إذعانهنّ له بالطواعية لما جعلهنّ موضعاً لعرشه، و لا مسكناً لملائكته و لا مصعداً للكلم الطيّب و العمل الصالح من خلقه.

٣٧٦

و في كمال الدين، بإسناده إلى فضيل الرسّان قال: كتب محمّد بن إبراهيم إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الكواكب جعلت أماناً لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جعل أهل بيتي أماناً لاُمّتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء اُمّتي ما كانوا يوعدون.

أقول: و ورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات.

و في البحار، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام كم بين السماء و الأرض؟ قال: مدّ البصر و دعوة المظلوم.

أقول: و هو من لطائف كلامهعليه‌السلام يشير به إلى ظاهر السماء و باطنها كما تقدّم.

٣٧٧

( سورة فصّلت الآيات ١٣ - ٢٥)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( ١٣ ) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ  قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( ١٤ ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ١٥ ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ  وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ( ١٦ ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ١٧ ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( ١٨ ) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( ١٩ ) حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٠ ) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا  قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢١ ) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( ٢٢ ) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ

٣٧٨

أأَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( ٢٣ ) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ  وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ( ٢٤ ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ٢٥ )

( بيان)

الآيات تتضمّن الإنذار بالعذاب الدنيويّ الّذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الاُخروي الّذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفيّة إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال في المجمع: الصاعقة المهلكة من كلّ شي‏ء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله:( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ) و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) و العذاب كقوله:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) و النار كقوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإنّ الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ثمّ يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شي‏ء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى.

و على ما مرّ تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله:( أَنْذَرْتُكُمْ ) للدلالة على التحقّق و الوقوع.

قوله تعالى: ( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإنّ الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها

٣٧٩

فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ.

و نسبة المجي‏ء إلى الرسل و هو جمع - مع أنّ الّذي ذكر في قصّتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أنّ الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين و كذا القوم المكذّبون لأحدهم مكذّبون لآخرين قال تعالى:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: ١٢٣ و قال:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: ١٤١، و قال:( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: ١٦٠ إلى غير ذلك.

و قول بعضهم: إنّ إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالحعليهما‌السلام و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله:( إِذْ جاءَتْهُمُ ) إلى عاد و ثمود.

ممنوع بما تقدّم، و أمّا إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنّما هو لكون مجموع الجمعين جمعاً مثلهما.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوّز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله:( جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسّر مجيئهم كذلك بعد بقوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و هو التوحيد.

و قوله:( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) ردّ منهم لرسالتهم بأنّ الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدّم كراراً معنى قولهم هذا و أنّه مبنيّ على إنكارهم نبوّة البشر.

و قوله:( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنّا بما اُرسلتم به و هو التوحيد كافرون.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كلّ الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله:( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قيد توضيحيّ للاستكبار في الأرض فإنّه بغير الحقّ دائماً، و الباقي ظاهر.

٣٨٠

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) إلخ فسّر الصرصر بالريح الشديدة السموم، و بالريح الشديدة البرد، و بالريح الشديدة الصوت و تلازم شدّة الهبوب، و النحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحساً خلاف سعد فالأيّام النحسات الأيّام المشؤمات.

و قيل: أيّام نحسات أي ذوات الغبار و التراب لا يرى فيها بعضهم بعضاً، و يؤيّده قوله في سورة الأحقاف:( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف: 24.

و قوله:( وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ ) أي لا منج ينجيهم و لا شفيع يشفع لهم. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏ ) إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق و دلالتهم على الحقّ ببيان حقّ الاعتقاد و العمل لهم، و المراد بالاستحباب الإيثار و الاختيار، و لعلّه بالتضمين و لذا عدّي إلى المفعول الثاني بعلى و المراد بالعمى الضلال استعارة، و في مقابله الهدى له إيماء إلى أنّ الهدى بصر كما أنّ الضلالة عمى، و الهون مصدر بمعنى الذلّ و توصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي و التقدير صاعقة العذاب ذي الهون.

و المعنى: و أمّا قوم ثمود فدللناهم على طريق الحقّ و عرّفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الّذي هو عمى على الهدى الّذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلّة - أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب و الإضافة بيانيّة - بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ( وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) ضمّ التقوى إلى الإيمان معبّراً عن التقوى بقوله:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) الدالّ على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان و العمل الصالح و ذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله:( ‏وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: 47.

و الظاهر أنّ الآية متعلّقة بالقصّتين جميعاً متمّمة لهما و إن كان ظاهر المفسّرين

٣٨١

تعلّقها بالقصّة الثانية.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) الحشر إخراج الجماعة عن مقرّهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. كذا قال الراغب، و( يُوزَعُونَ ) من الوزع و هو حبس أوّل القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.

قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال و الحساب، و جعل النار غاية لحشرهم لأنّ عاقبتهم إليها، و الدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنّها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.

و قيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها و من الممكن أن يستشهد عليهم مرّتين مرّة في الموقف و مرّة على شفير جهنّم و هو كما ترى.

و المراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذّبون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مشركي قومه لا مطلق الكفّار و الدليل عليه قوله الآتي:( وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ ) الآية.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ( ما ) في( إِذا ما جاؤُها ) زائد للتأكيد و الضمير للنار.

و شهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها و إخبارها ما تحمّلته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحمّلته، و لو لا التحمّل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعوراً و نطقاً يوم القيامة فعلمت ثمّ أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتاً يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، و لا تمّت بذلك على العبد المنكر حجّة و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إنّ الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علماً و قدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها و هو شهادتها و قول بعضهم: إنّه يخلق عندها أصواتاً في صورة كلام مدلوله الشهادة، و كذا قول بعضهم: إنّ معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائيّة منهم.

و ظاهر الآية أنّ شهادة السمع و البصر أداؤهما ما تحمّلاه و إن لم يكن معصية

٣٨٢

مأتيّاً بها بواسطتهما كشهادة السمع أنّه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنّه سمع صاحبه يتكلّم بكلمة الكفر، و شهادة البصر أنّه رأى الآيات الدالّة على وحدانيّة الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنّه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حدّ قوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36.

و على هذا يختلف السمع و الأبصار و الجلود فيما شهدت عليه فالسمع و الأبصار تشهد على معصية العبد و إن لم تكن بسببهما و الجلود تشهد على المعصية الّتي كانت هي آلات لها بالمباشرة، و هذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم:( لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) على ما سيجي‏ء.

و المراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود و شهادتها على أنواع المعاصي الّتي تتمّ بالجلود من التمتّعات المحرّمة كالزنا و نحوه، و يمكن حينئذ أن تعمّم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي و الأرجل المذكورة في قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65 على بعد.

و قيل: المراد بالجلود الفروج و قد كنّي بها عنها تأدّباً.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) اعتراض و عتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، و قيل: الاستفهام للتعجّب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجّب و إنّما خصّوها بالسؤال دون سمعهم و أبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأنّ الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسباباً و آلات مباشرة له بخلاف السمع و الأبصار فإنّها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.

و قيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم و زيادة تشنيع و فضاحة و خاصّة لو كان المراد بالجلود الفروج و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ إرجاع ضمير اُولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة و النطق إليها و ذلك من شؤن اُولي العقل.

و المتيقّن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوّز هو إظهار ما

٣٨٣

في الضمير من طريق التكلّم فيتوقّف على علم و كشفه لغيره، قال الراغب: و لا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلّا تبعا و بنوع من التشبيه و ظاهر سياق الآيات و ما فيها من ألفاظ القول و التكلّم و الشهادة و النطق أنّ المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.

فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقاً و تكلّماً حقيقة عن علم تحمّلته سابقاً بدليل قولها:( أَنْطَقَنَا اللهُ ) . ثمّ إنّ قولها:( أَنْطَقَنَا اللهُ ) جواباً عن قول المجرمين:( لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) ؟ إراءة منها للسبب الّذي أوجب نطقها و كشف عن العلم المدّخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجأة إلى التكلّم و النطق، و لا يضرّ ذلك نفوذ شهادتها و تمام الحجّة بذلك فإنّها إنّما اُلجئت إلى الكشف عمّا في ضميرها لا على الستر عليه و الإخبار بخلافه كذباً و زوراً حتّى ينافي جواز الشهادة و تمام الحجّة.

و قوله:( الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) توصيف لله سبحانه و إشارة إلى أنّ النطق ليس مختصّاً بالأعضاء حتّى تختصّ هي بالسؤال بل هو عامّ شامل لكلّ شي‏ء و السبب الموجب له هو الله سبحانه.

و قوله:( وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) من تتمّة الكلام السابق أو هو من كلامه، و هو احتجاج على علمه بأعمالهم و قد أنطق الجوارح بما علم.

يقول: إنّ وجودكم يبتدئ منه تعالى و ينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم - و هو خلقكم أوّل مرّة - يعطيكم الوجود و يملّككم الصفات و الأفعال فتنسب إليكم ثمّ ترجعون و تنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلّا و هو لله سبحانه.

فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أوّلاً و آخراً فما عندكم من شي‏ء في أوّل وجودكم هو الّذي أعطاكموه و ملّكه لكم و هو أعلم بما أعطى و أودع، و ما عندكم من شي‏ء حينما ترجعون إليه هو الّذي يقبضه منكم إليه و يملكه فكيف لا يعلمه، و انكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم و شهادتكم على أنفسكم عنده.

و بما مرّ من البيان يظهر وجه تقييد قوله:( وَ هُوَ خَلَقَكُمْ ) بقوله:( أَوَّلَ مَرَّةٍ ) فالمراد به أوّل وجودهم.

٣٨٤

و لهم في قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ ) في معنى الإنطاق نظائر ما تقدّم في قوله:( شَهِدَ عَلَيْهِمْ ) من الأقوال فمن قائل: إنّ الله يخلق لهم يومئذ العلم و القدرة على النطق فينطقون، و من قائل: إنّه يخلق عند الأعضاء أصواتاً شبيهة بنطق الناطقين و هو المراد بنطقهم، و من قائل: إنّ المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.

و كذا في عموم قوله:( أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) فقيل: هو مخصّص بكلّ حيّ نطق إذ ليس كلّ شي‏ء و لا كلّ حيّ ينطق بالنطق الحقيقيّ و مثل هذا التخصيص شائع و منه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد:( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأحقاف: 25.

و قيل: النطق في( أَنْطَقَنَا ) بمعناه الحقيقيّ و في قوله:( أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.

و يرد عليهما أنّ تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازيّ مبنيّ على تسلّم كون غير ما نعدّه من الأشياء حيّاً ناطقاً كالإنسان و الحيوان و الملك و الجنّ فاقداً للعلم و النطق على ما نراه من حالها.

لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور و الإرادة سوى أنّا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطّلاع على حقيقة حالها، و الآيات القرآنيّة و خاصّة الآيات المتعرّضة لشؤن يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.

( بحث إجمالي قرآني)

( في سراية العلم)

كرّرنا الإشارة في الأبحاث المتقدّمة إلى أنّ الظاهر من كلامه تعالى أنّ العلم صار في الموجودات عامّة كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: 44 فإنّ قوله:( وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ ) نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم و إرادة لا بلسان الحال.

و من هذا القبيل قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) و قد تقدّم تفسيره في السورة.

٣٨٥

و من هذا القبيل قوله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الأحقاف: 6 فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي و غيرها، و قوله:( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: 5.

و من هذا القبيل الآيات الدالّة على شهادة الأعضاء و نطقها و تكليمها لله و السؤال منها و خاصّة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفاً من قوله:( أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الآية.

لا يقال: لو كان غير الإنسان و الحيوان كالجماد و النبات ذا شعور و إرادة لبانت آثاره و ظهر منها ما يظهر من الإنسان و الحيوان من الأعمال العلميّة و الأفعال و الانفعالات الشعوريّة.

لأنّه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتّى تتشابه الآثار المترشّحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.

على أنّ الآثار و الأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات و سائر الأنواع الطبيعيّة في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها و نظمها و ترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان و الحيوان.

( بحث إجمالي فلسفي)

( في سراية العلم)

حقّق في مباحث العلم من الفلسفة أنّ العلم و هو حضور شي‏ء لشي‏ء يساوق الوجود المجرّد لكونه ما له من فعليّة الكمال حاضراً عنده من غير قوّة فكلّ وجود مجرّد يمكنه أن يوجد حاضراً لمجرّد غيره أو يوجد له مجرّد غيره و ما أمكن لمجرّد بالإمكان العامّ فهو له بالضرورة.

فكلّ عالم فهو مجرّد و كذا كلّ معلوم و ينعكسان بعكس النقيض إلى أنّ

٣٨٦

المادّة و ما تألّف منها ليس بعالم و لا معلوم.

فالعلم يساوق الوجود المجرّد، و الوجودات المادّيّة لا يتعلّق بها علم و لا لها علم بشي‏ء لكنّ لها، على كونها مادّيّة متغيّرة متحرّكة لا تستقرّ على حال، ثبوتاً من غير تغيّر و لا تحوّل لا ينقلب عمّا وقع عليه.

فلها من هذه الجهة تجرّد و العلم سار فيها كما هو سار في المجرّدات المحضة العقليّة و المثاليّة فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ ) إلخ لا شكّ أنّ الله سبحانه خالق كلّ شي‏ء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه و بينه شي‏ء و لا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كلّ شي‏ء أينما كان و كيفما كان قال تعالى:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) الحجّ: 17 و قال:( وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رَقِيباً ) الأحزاب: 52.

فالإنسان أينما كان كان الله معه، و أيّ عمل عمله كان الله مع عمله، و أيّ عضو من أعضائه استعمله و أيّ سبب أو أداة أو طريق اتّخذه لعمله كان مع ذلك العضو و السبب و الأداة و الطريق قال تعالى:( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) الحديد: 4، و قال:( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) الرعد: 33، و قال:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: 14.

و من هنا يستنتج أنّ الإنسان - و هو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كلّ منها ربّه و يرقبه و يشهده فمرتكب المعصية و هو متوغّل في سيّئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربّه و استهانة به سبحانه و هو يرصده و يرقبه.

و هذه الحقيقة هي الّتي تشير إليه الآية أعني قوله:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) إلخ على ما يعطيه السياق.

فقوله:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) نفي لاستتارهم و هم في المعاصي قبلاً و هم في الدنيا و قوله:( أَنْ يَشْهَدَ ) إلخ منصوب بنزع الخافض و التقدير من أن يشهد إلخ.

٣٨٧

و قوله:( وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ ) استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدلّ عليه صدر الآية، و التقدير و لم تظنّوا أنّها لا تعلم أعمالكم و لكن ظننتم إلخ و الآية تقريع و توبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجّه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.

و محصّل المعنى و ما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم الّتي تستعملونها في معصية الله و لم يكن ذلك لظنّكم أنّها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنّكم أنّ الله لا يعلم كثيراً ممّا تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم و إنّما استهنتم بشهادتنا.

فالاستدراك و معنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى:( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال: 17، و قوله:( وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة: 57.

و قوله:( كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) و لم يقل: لا يعلم ما تعملون و لعلّ ذلك لكونهم معتقدين بالله و بصفاته العليا الّتي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.

و يستفاد من الآية أنّ شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى:( وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) يونس: 61.

و لهم في توجيه معنى الآية أقوال اُخر لا يساعد عليها السياق و لا تخلو من تكلّف أضربنا عن التعرّض لها.

قوله تعالى: ( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و( ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ ) مبتدأ و خبر و( أَرْداكُمْ ) خبر بعد خبر، و يمكن أن يكون( ظَنُّكُمُ ) بدلاً من( ذلِكُمْ ) .

و معنى الآية على الأوّل و ذلكم الظنّ الّذي ذكر ظنّ ظننتموه لا يغني من الحقّ شيئاً و العلم و الشهادة على حالها أهلككم ذلك الظنّ فأصبحتم من الخاسرين.

٣٨٨

و على الثاني و ظنّكم الّذي ظننتم بربّكم أنّه لا يعلم كثيراً ممّا تعملون أهلككم إذ هوّن عليكم أمر المعاصي و أدّى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.

قوله تعالى: ( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) في المفردات: الثواء الإقامة مع الاستقرار. انتهى، و في المجمع، الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا و هو الاسترضاء، و الإعتاب الإرضاء، و أصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثمّ أستعير فيما يستعطف به البعض بعضاً لإعادته ما كان من الإلفة. انتهى.

و معنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم و مستقرّهم و إن يطلبوا الرضا و يعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممّن يرضى عنهم و يقبل أعتابهم و معذرتهم فالآية في معنى قوله:( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) الطور: 16.

قوله تعالى: ( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) إلى آخر الآية. أصل التقييض - كما في المجمع - التبديل، و القرناء جمع قرين و هو معروف.

فقوله:( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ) إشارة إلى أنّهم لو آمنوا و اتّقوا لأيّدهم الله بمن يسدّدهم و يهديهم كما قال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: 22 لكنّهم كفروا و فسقوا فبدّل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم و يلازمونهم، و إنّما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم و فسوقهم.

و قيل: المعنى بدّلناهم قرناء سوء من الجنّ و الإنس مكان قرناء الصدق الّذين اُمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، و لعلّ ما قدّمناه أحسن.

و قوله:( فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) لعلّ المراد التمتّعات المادّيّة الّتي هم مكبّون عليها في الحال و ما تعلّقت به آمالهم و أمانيّهم في المستقبل.

و قيل: ما بين أيديهم ما قدّموه من أعمالهم السيّئة حتّى ارتكبوها، و ما خلفهم ما سنّوه لغيرهم ممّن يأتي بعدهم، و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.

٣٨٩

و قيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، و ما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنّه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنّة و لا نار، و هو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنّها زيّنت له.

و قوله:( وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) أي ثبت و وجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في اُمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجنّ و الإنس و كلمة العذاب قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: 39 كقوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: 85. و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدّم.

و يظهر من الآية أنّ حكم الموت جار في الجنّ مثل الإنس.

( بحث روائي)

في الفقيه، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في وصيّته لابن الحنفيّة: قال الله تعالى:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ ) يعني بالجلود الفروج.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية: يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ.

و في المجمع، قال الصادقعليه‌السلام : ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة إنّ الله تعالى يقول:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) الآية، ثمّ قال: إنّ الله عند ظنّ عبده إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالرحمن بن الحجّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام في

٣٩٠

حديث قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من عبد يظنّ بالله عزّوجلّ خيراً إلّا كان عند ظنّه به و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ و عبد بن حميد و مسلم و أبوداود و ابن ماجة و ابن حبّان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يموتنّ أحدكم إلّا و هو يحسن الظنّ بالله فإنّ قوماً قد أرداهم سوء ظنّهم بالله عزّوجلّ قال الله:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده.

٣٩١

( سورة فصّلت الآيات 26 - 39)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( 26 ) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 27 ) ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ  لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ  جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 28 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ( 29 ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( 30 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ  وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( 31 ) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ( 32 ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 ) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ  ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 ) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 36 ) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ  لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن

٣٩٢

كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 37 ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ  ( 38 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ  إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )

( بيان)

رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أوّل السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجّته، و في الآيات ذكر الكفّار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرّقات اُخر.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.

و الآية تدلّ على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجّة تعارضه حتّى أمر بعضهم بعضاً أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن ليختلّ به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة.

قوله تعالى: ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ) إلخ اللام للقسم، و المراد بالّذين كفروا بحسب مورد الآية هم الّذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.

و قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) قيل: المراد العمل السيّئ الّذي

٣٩٣

كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ ) إلخ( ذلِكَ جَزاءُ ) مبتدأ و خبر و( النَّارُ ) بدل أو عطف بيان من( ذلِكَ ) أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره( لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ) .

و قوله:( لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ) أي النار محيطة بهم جميعاً و لكلّ منهم فيها دار تخصّه خالداً فيها.

و قوله:( جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدّم أعني قوله:( ذلِكَ جَزاءُ ) نظير قوله:( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: 63.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجنّ و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالاً لهما و تشديداً لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلاً:( نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الّذي يكون على خطّ مستو، و به شبّه طريق الحقّ نحو( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) . قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) . انتهى. و في الصحاح: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر. انتهى.

فالمراد بقوله:( ثُمَّ اسْتَقامُوا ) لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الّذي قالوه، قال تعالى:( فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ) التوبة: 7 و قال:( وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) الشورى: 15 و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.

٣٩٤

و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.

و قوله:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) إخبار عمّا سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة.

فالملائكة يؤمّنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنّما يكون من مكروه متوقّع كالعذاب الّذي يخافونه و الحرمان من الجنّة الّذي يخشونه، و الحزن إنّما يكون من مكروه واقع و شرّ لازم كالسيّئات الّتي يحزنون من اكتسابها و الخيرات الّتي يحزنون لفوتها عنهم فيطيّب الملائكة أنفسهم أنّهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشي‏ء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم.

ثمّ يبشّرونهم بالجنّة الموعودة بقولهم:( وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) و في قولهم:( كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) دلالة على أنّ تنزّلهم بهذه البشرى عليهم إنّما هو بعد الحياة الدنيا.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) إلخ من تتمّة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدّم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أنّ ولاية الآخرة مترتّبة على ولاية الدنيا فكأنّه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنّا - لما كنّا - أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولّى أمركم بعد هذا كما تولّيناه قبل.

و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الوليّ لأنّهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شي‏ء، و لعلّ ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حقّ أعدائه:( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ) إلخ و قال في حقّ أوليائه عن لسان ملائكته:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ‏ ) .

و بالمقابلة يستفاد أنّ المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإنّ الملائكة المسدّدين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أمّا الملائكة الحرّس و موكّلوا الأرزاق

٣٩٥

و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر.

و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة.

و قوله:( وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ‏ ) ضمير( فِيها ) في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوّة من قواها إلى ما تريده تلك القوّة و تلتذّ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء - و هو افتعال من الدعاء - هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله:( وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ‏ ) أوسع نطاقاً من الاُولى أعني قوله:( لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ‏ ) فإنّ الشهوة طلب خاصّ و مطلق الطلب أعمّ منها.

فالآية تبشّرهم بأنّ لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلّق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك نطاقاً و أعلى كعباً و هو أنّ لهم ما يشاؤن فيها كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الآية اتّصال بقوله السابق:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ ) الآية فإنّهم كانوا يخاصمون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أوّل السورة قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) الآية فأيّد سبحانه في هذه الآية نبيّه بأنّ قوله و هو دعوته أحسن القول.

فقوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ) المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان لفظ الآية يعمّ كلّ من دعا إلى الله و لمّا أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة الّتي هذا شأنها من القول الأحسن قيّده بقوله:( وَ عَمِلَ صالِحاً ) فإنّ العمل الصالح يكشف عن نيّة صالحة غير أنّ العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحقّ و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيّده بقوله:( وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق.

فإذا تمّ الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثمّ دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأنّ أحسن القول أحقّه و أنفعه و لا قول أحقّ من كلمة التوحيد و لا أنفع منها

٣٩٦

و هي الهادية للإنسان إلى حاقّ سعادته.

قوله تعالى: ( لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) الآية لمّا ذكر أحسن القول و أنّه الدعوة إلى الله و القائم به حقّاً هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله:( لا تَسْتَوِي ) إلخ.

فقوله:( لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) أي الخصلة الحسنة و السيّئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و( لا ) في( لَا السَّيِّئَةُ ) زائدة لتأكيد النفي.

و قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) استئناف في معنى دفع الدخل كأنّ المخاطب لمّا سمع قوله:( لا تَسْتَوِي ) إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل:( ادْفَعْ ) إلخ و المعنى ادفع بالخصلة الّتي هي أحسن الخصلة السيّئة الّتي تقابلها و تضادّها فادفع بالحقّ الّذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا.

و قوله:( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنّك إن دفعت بالّتي هي أحسن فاجأك أنّ عدوّك صار كأنّه وليّ شفيق. قيل:( الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ ) أبلغ من( عدوّك) و لذا اختاره عليه مع اختصاره.

ثمّ عظّم الله سبحانه الدفع بالّتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله:( وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانيّة و خصال الخير.

و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أنّ الحظّ العظيم إنّما يوجد لأهل الصبر خاصّة.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) النزغ النخس و هو غرز جنب الدابّة أو مؤخّرها بقضيب و نحوه ليهيج، و( إِمَّا ) في( إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ) زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ.

و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأوّل هو الأنسب لمقام النبيّ

٣٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنّه يمكن أن يقلّب له الاُمور بالوسوسة على المدعوّين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقّتهم و إيذائهم له فلا يؤثّر فيهم الدفع بالأحسن و يؤل هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله:( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) يوسف: 100، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) الآية الحجّ: 52.

و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعيّن حمله على مطلق الدستور تتميماً للأمر، و هو بوجه من باب( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) .

و قوله:( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجئ بالله من نزغه إنّه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) إلخ لمّا ذكر سبحانه كون دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحسن القول و وصّاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتجّ على الوحدانيّة و المعاد في هذه الآيات الثلاث.

فقوله:( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ ) إلخ احتجاج بوحدة التدبير و اتّصاله على وحدة الربّ المدبّر، و بوحدة الربّ على وجوب عبادته وحده، و لذلك عقّبه بقوله( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ ) إلخ.

فالكلام في معنى دفع الدخل كأنّه لما قيل:( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ ) إلخ فأثبت وحدته في ربوبيّته قيل: فما ذا نصنع؟ فقيل( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ ) هما مخلوقان مدبّران من خلقه بل خصّوه بالسجدة و اعبدوه وحده، و عامّة الوثنيّين كانوا يعظّمون الشمس و القمر و إن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، و ضمير( خَلَقَهُنَّ ) للّيل و النهار و الشمس و القمر.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أي إنّ عبادته لا تجامع عبادة غيره.

قوله تعالى: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ

٣٩٨

لا يَسْأَمُونَ ) السأمة الملال، و المراد( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) الملائكة و المخلصون من عباد الله و قد تقدّم كلام في ذلك في تفسير قوله:( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف: 206.

و قوله:( يُسَبِّحُونَ لَهُ ) و لم يقل: يسبّحونه للدلالة على الحصر و الاختصاص أي يسبّحونه خاصّة، و قوله:( بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) أي دائماً لا ينقطع فإنّ الملائكة ليس عندهم ليل و لا نهار.

و المعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفّار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبّحه تسبيحاً دائماً لا ينقطع من غير سأمة و هم الّذين عند ربّك.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ) إلخ الخشوع التذلّل، و الاهتزاز التحرّك الشديد، و الربو النشوء و النماء و العلوّ، و اهتزاز الأرض و ربوها تحرّكها بنباتها و ارتفاعه.

و في الآية استعارة تمثيليّة شبّهت فيها الأرض في جدبها و خلوّها عن النبات ثمّ اخضرارها و نموّ نباتها و علوّه بشخص كان وضيع الحال رثّ الثياب متذلّلاً خاشعاً ثمّ أصاب مالاً يقيم أوده فلبس أفخر الثياب و انتصب ناشطاً متبختراً يعرف في وجهه نضرة النعيم.

و الآية مسوقة للاحتجاج على المعاد، و قد تكرّر البحث عن مضمونها في السور المتقدّمة.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا ) يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية: روي ذلك عن عليّعليه‌السلام .

أقول: و لعلّه من نوع الجري فالآية عامّة.

و فيه في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) روي عن أنس

٣٩٩

قال: قرأ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ثمّ قال: قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتّى يموت فقد استقام عليها.

و فيه في قوله تعالى:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) يعني عند الموت: عن مجاهد و السدّيّ و روي ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) قال: كنّا نحرسكم من الشياطين( وَ فِي الْآخِرَةِ ) أي عند الموت.

و في المجمع في الآية قيل:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي نحرسكم في الدنيا و عند الموت في الآخرة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: ادفع سيّئة من أساء إليك بحسنتك حتّى يكون الّذي بينك و بينه عداوة كأنّه وليّ حميم.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419