الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161679
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161679 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بيان)

تتكلّم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصليّ و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثمّ يعود إليه فصلاً بعد فصل فقد افتتح بقوله:( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إلخ ثمّ قيل:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) إلخ، و قيل - و هو في خاتمة الكلام -:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) إلخ.

و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الاُصول الثلاثة الّتي هي أساس دعوته الحقّة و هي الوحدانيّة و النبوّة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمّنته التبشير و الإنذار.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزّل من الرحمن الرحيم، و التعرّض للصفتين الكريمتين: الرحمن الدالّ على الرحمة العامّة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالّة على الرحمة الخاصّة بالمؤمنين للإشارة إلى أنّ هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم.

قوله تعالى: ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكّن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقّل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: 1، و قوله:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4.

و قوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حال من الكتاب أو من آياته، و قوله:( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

٣٦١

اللّام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول( يَعْلَمُونَ ) إمّا محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الّذي نزّل به و هم العرب و إمّا متروك و المعنى لقوم لهم علم.

و لازم المعنى الأوّل أن يكون هناك عناية خاصّة بالعرب في نزول القرآن عربيّاً و هو الّذي يشعر به أيضاً قوله الآتي:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ) الآية و قريب منه قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: 199.

و لا ينافي ذلك عموم دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعامّة البشر لأنّ دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مرتّبة على مراحل فأوّل ما دعي دعي الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثمّ كان يدعو بعد ذلك سرّاً مدّة ثمّ أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) الشعراء: 214 ثمّ اُمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94 ثمّ اُمر بدعوة الناس عامّة كما يشير إليه قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: 158، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: 19.

على أنّ من المسلّم تاريخاً أنّه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيّاً، و بلال و كان حبشيّاً، و صهيب و كان روميّاً، و دعوته لليهود و وقائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كلّ ذلك دليل على عموم الدعوة.

قوله تعالى: ( بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ( بَشِيراً وَ نَذِيراً ) حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفيّ سمع القبول كما يدلّ عليه قرينة الإعراض.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية. قال الراغب: الكنّ ما يحفظ فيه الشي‏ء قال: الكنان الغطاء الّذي يكنّ فيه الشي‏ء و الجمع أكنّة نحو غطاء و أغطية قال تعالى:( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) . انتهى.

٣٦٢

فقوله:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه من التوحيد كأنّها مغطّاة بأغطية لا يتطرّق إليها شي‏ء من خارج.

و قوله:( وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ ) أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئاً من هذه الدعوة، و قوله:( وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ ) أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شي‏ء ممّا تريد فقد أيأسوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبول دعوته بما أخبروه أوّلاً بكون قلوبهم في أكنّة فلا تقع فيها دعوته حتّى يفقهوها، و ثانياً بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثاً بأنّ بينهم و بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجاباً مضروباً لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس.

و قوله:( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإنّنا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإنّنا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) في مقام الجواب عن قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) على ما يعطيه السياق فمحصّله قل لهم: إنّما أنا بشر مثلكم اُعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضاً و اُكلّمكم كما يكلّم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتّى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أنّ الّذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إليّ و هو إنّما إلهكم الّذي يستحقّ أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرّقون.

و قوله:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) أي فإذا لم يكن إلّا إلهاً واحداً لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ )

٣٦٣

تهديد للمشركين الّذين يثبتون لله شركاء و لا يوحّدونه، و قد وصفهم من أخصّ صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة.

و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإنّ الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكّيّة.

و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيّباً بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

و قوله:( وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنّهم معروفون بالكفر بالآخرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع بل متّصل دائم كما فسّره بعضهم، و فسّره آخرون بغير معدود كما قال تعالى:( يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: 40.

و جوّز أن يكون المراد أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجّه هذا الوجه بأنّ في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى:( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: 22.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) الآية. أمره ثانياً أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانيّة في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أوّلاً بدفع قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) إلخ.

و الاستفهام للتعجيب و لذا اُكّد المستفهم عنه بإنّ و اللّام كأنّ المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المَحَجّة و استقامة الحجّة.

٣٦٤

و قوله:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ) إلخ، و الأنداد جمع ندّ و هو المثل، و المراد بجعل الأنداد له اتّخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبيّة و الاُلوهيّة.

و قوله:( ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى و تنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو ربّ العالمين المدبّر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوّغ لأن يتوهّم ربّاً آخر سواه و إلهاً آخر غيره.

و المراد باليوم في قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) برهة من الزمان دون مصداق اليوم الّذي نعهده و نحن على بسيط أرضنا هذه و هو مقدار حركة الكرة الأرضيّة حول نفسها مرّة واحدة فإنّه ظاهر الفساد، و إطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، و من ذلك قوله تعالى:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) آل عمران: 140، و قوله:( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) يونس: 102، و غير ذلك.

فاليومان اللّذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تمّ فيهما تكوّن الأرض أرضاً تامّة، و في عدّهما يومين لا يوماً واحداً دليل على أنّ الأرض لاقت زمان تكوّنها الأوّليّ مرحلتين متغايرتين كمرحلة الني‏ء و النضج أو الذوبان و الانعقاد أو نحو ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ) إلى آخر الآية. معطوف على قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) و لا ضير في تخلّل الجملتين:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) بين المعطوف و المعطوف عليه لأنّ الاُولى تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ ) و الثانية تقرير للتعجيب الّذي يفيده الاستفهام.

و الرواسي صفة لموصوف محذوف و التقدير جبالاً رواسي أي ثابتات على الأرض و ضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض.

و قوله:( وَ بارَكَ فِيها ) أي جعل فيها الخير الكثير الّذي ينتفع به ما على الأرض من نبات و حيوان و إنسان في حياته أنواع الانتفاعات.

٣٦٥

و قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) قيل: الظرف أعني قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) بتقدير مضاف و هو متعلّق بقدّر، و التقدير قدّر الأقوات في تتمّة أربعة أيّام من حين بدء الخلق - فيومان لخلق الأرض و يومان - و هما تتمّة أربعة أيّام - لتقدير الأقوات.

و قيل: متعلّق بحصول الأقوات و تقدير المضاف على حاله، و التقدير قدّر حصول أقواتها في تتمّة أربعة أيّام - فيها خلق الأرض و أقواتها جميعاً -.

و قيل: متعلّق بحصول جميع الاُمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها و التقدير و حصول ذلك كلّه في تتمّة أربعة أيّام و فيه حذف و تقدير كثير.

و جعل الزمخشريّ في الكشّاف، الظرف متعلّقاً بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف و التقدير كلّ ذلك كائن في أربعة أيّام فيكون قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) من قبيل الفذلكة كأنّه قيل: خلق الأرض في يومين و أقواتها و غير ذلك في يومين فكلّ ذلك في أربعة أيّام.

قالوا: و إنّما لم يجز حمل الآية على أنّ جعل الرواسي و ما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيّام لأنّ لازمه كون خلق الأرض و ما فيها في ستّة أيّام و قد ذكر بعده أنّ السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيّام و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّه خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف و التقدير.

و الإنصاف أنّ الآية أعني قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) ظاهرة في غير ما ذكروه و القرائن الحافّة بها تؤيّد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة الّتي يكونها ميل الشمس الشماليّ و الجنوبيّ بحسب ظاهر الحسّ فالأيّام الأربعة هي الفصول الأربعة.

و الّذي ذكر في هذه الآيات من أيّام خلق السماوات و الأرض أربعة أيّام يومان لخلق الأرض و يومان لتسوية السماوات سبعاً بعد كونها دخاناً و أمّا أيّام الأقوات فقد

٣٦٦

ذكرت أيّاماً لتقديرها لا لخلقها، و ما تكرّر في كلامه تعالى هو خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام لا مجموع خلقها و تقدير أمرها فالحقّ أنّ الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط و لا حذف و لا تقدير في الآية و المراد بيان تقدير أقوات الأرض و أرزاقها في الفصول الأربعة من السنة.

و قوله:( سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي استوت الأقوات المقدّرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدّرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا و تكفيهم من دون زيادة أو نقيصة.

و السائلون هم أنواع النبات و الحيوان و الإنسان فإنّهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق و الأقوات فهم سائلون ربّهم(1) قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: 29، و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: 34.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) تعم النبات و الإتيان بضمير أولي العقل للتغليب.

الاستواء - على ما ذكره الراغب - إذا عدّي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ‏، و إذا عدّي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه.

و أيضاً في المفردات، أنّ الكره بفتح الكاف المشقّة الّتي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، و الكُره بضمّ الكاف ما تناله من ذاته و هو يعافه.

فقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) أي توجّه إليها و قصدها بالخلق دون القصد المكانيّ الّذي لا يتمّ إلّا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان و من جهة إلى جهة لتنزّهه تعالى على ذلك.

و ظاهر العطف بثمّ تأخّر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل: إنّ( ثُمَّ ) لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود و التحقّق و يؤيّده قوله تعالى:( أَمِ السَّماءُ بَناها - إلى أن قال -وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها

____________________

(1) ظاهر الآيتين و إن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنّهما و خاصّة الثانية تفيدان أنّ المراد بالسؤال هو الحاجة و الاستعداد و عليه فالآية

٣٦٧

وَ الْجِبالَ أَرْساها ) النازعات: 32 فإنّه يفيد تأخّر الأرض عن السماء خلقاً.

و الاعتراض عليه بأنّ مفاده تأخّر دحو الأرض عن بناء السماء و دحوها غير خلقها مدفوع بأنّ الأرض كريّة فليس دحوها و بسطها غير تسويتها كرة و هو خلقها على أنّه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها و مرعاها و إرساء جبالها و هذه بعينها جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها الّتي ذكرها في الآيات الّتي نحن فيها مع خلق الأرض و عطف عليها خلق السماء بثمّ فلا مناص عن حمل ثمّ على غير التراخي الزماني فإنّ قوله في آية النازعات:( بَعْدَ ذلِكَ ) أظهر في التراخي الزمانيّ من لفظة( ثُمَّ ) فيه في آية حم السجدة و الله أعلم.

و قوله:( وَ هِيَ دُخانٌ ) حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئاً سمّاه الله دخاناً و هو مادّتها الّتي ألبسها الصورة و قضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميّزاً بعضها من بعض، و لذا أفرد السماء فقال:( اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) .

و قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تفريع على استوائه إلى السماء و المورد مورد التكوين بلا شكّ فقوله لها و للأرض:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كلمة إيجاد و أمر تكوينيّ كقوله لشي‏ء أراد وجوده: كن، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: 83.

و مجموع قوله لهما:( ائْتِيا ) إلخ و قولهما له:( أَتَيْنا ) إلخ تمثيل لصفة الإيجاد و التكوين على الفهم الساذج العرفيّ و حقيقة تحليليّة بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات و كون تكليم كلّ شي‏ء بحسب ما يناسب حاله، و قد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدّم من المباحث، و سيجي‏ء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الآية 21 من السورة إن شاء الله.

و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ائْتِيا ) إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار و المنافع دون الأمر بأن توجداً و تكوّناً مدفوع بأنّ تكوّن السماء مذكور فيما

٣٦٨

بعد و لا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار و المنافع قبل ذكر التكوّن.

و في قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) إيجاب الإتيان عليهما و تخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، و لعلّ المراد بالطوع و الكره - و هما بوجه قبول الفعل و نوع ملاءمة و عدمه - هو الاستعداد السابق للكون و عدمه فيكون قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص و أنّه أمر لا يتخلّف البتّة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق و قبول ذاتيّ و سؤال فطريّ إذ قالتا:( أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

و قول بعضهم: إنّ قوله:( طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تمثيل لتحتّم تأثير قدرته تعالى فيهما و استحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع و الكره لهما. مدفوع بقوله بعد:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلاً فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه.

و قوله:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) جواب السماء و الأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع، و التعبير باللفظ الخاصّ باُولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة و الجواب و هما من خواصّ اُولي العقل، و التعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعلّه تواضع منهما بعدّ أنفسهما غير متميّزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) الحمد: 5.

ثمّ إنّ تشريك الأرض مع السماء في خطاب( ائْتِيا ) إلخ مع ذكر خلقها و تدبير أمرها قبلاً لا يخلو من إشعار بأنّ بينهما نوع ارتباط في الوجود و اتّصال في النظام الجاري فيهما و هو كذلك فإنّ الفعل و الانفعال و التأثير و التأثّر دائر بين أجزاء العالم المشهود.

و في قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ) تلويح على أيّ حال إلى كون( ثُمَّ ) في قوله:( ثُمَّ اسْتَوى) للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها )

٣٦٩

الأصل في معنى القضاء فصل الأمر، و ضمير( هُنَّ ) للسماء على المعنى، و( سَبْعَ سَماواتٍ ) حال من الضمير و( فِي يَوْمَيْنِ ) متعلّق بقضاهنّ فتفيد الجملة أنّ السماء لمّا استوى سبحانه إليها و هي دخان كان أمرها مبهما غير مشخّص من حيث فعليّة الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين.

و قيل: إنّ القضاء في الآية مضمّن معنى التصيير و( سَبْعَ سَماواتٍ ) مفعوله الثاني، و قيل فيها وجوه أخر لا يهمّنا إيرادها.

و الآية و ما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما اُجمل في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: 30.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) قيل: المراد بأمر السماء ما تستعدّ له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب و ما أشبه ذلك، و الوحي هو الخلق و الإيجاد، و الجملة معطوفة على قوله:( فَقَضاهُنَّ ) مقيّدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، و المعنى و خلق في كلّ سماء ما فيها من الملائكة و الكواكب و غيرها.

و أنت خبير بأنّ إرادة الخلق من الوحي و أمثال الملك و الكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلّا بدليل بيّن، و كذا تقيّد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها.

و قيل: المراد بالأمر التكليف الإلهيّ المتوجّه إلى أهل كلّ سماء من الملائكة و الوحي بمعناه المعروف و المعنى و أوحى إلى أهل كلّ سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة.

و فيه أنّ ظاهر الآية و قد قال تعالى:( فِي كُلِّ سَماءٍ ) و لم يقل: إلى كلّ سماء لا يوافقه تلك الموافقة.

و قيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، و هذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد الوجهين السابقين فإن اُريد بالوحي الخلق و الإيجاد رجع إلى أوّل الوجهين و إن اُريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.

و الّذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلّق بوجه بالسماء يلوّح إلى معنى

٣٧٠

أدقّ ممّا ذكروه فقد قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: 5، و قال:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: 12، و قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) المؤمنون: 17.

دلت الآية الاُولى على أنّ السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه و الثانية على أنّ الأمر يتنزّل بين السماوات من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى الأرض، و الثالثة على أنّ السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: 4، و قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان: 4.

و لو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكوينيّ و هو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: 82، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أنّ الأمر الإلهيّ الّذي مضيه في العالم الأرضيّ هو خلق الأشياء و حدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى و تسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزّله من سماء إلى سماء حتّى تنتهي به إلى الأرض.

و إنّما تحمله ملائكة كلّ سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) سبأ: 23 و قد تقدّم الكلام فيه و السماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله:( وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ) النجم: 26، و قوله:( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى‏ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) الصافّات: 8.

فللأمر نسبة إلى كلّ سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، و نسبة إلى كلّ قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم و هو وحيه إليهم فإنّ الله سبحانه سمّاه قولاً كما قال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ ) النحل: 40.

فتحصّل بما مرّ أنّ معنى قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) أوحى في كلّ

٣٧١

سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهيّ. المنسوب إلى تلك السماء المتعلّق بها، و أمّا كون اليومين المذكورين في الآية ظرفاً لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعاً فلا دليل عليه من لفظ الآية.

قوله تعالى: ( وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنّها أقرب السماوات من الأرض و هي طباق بعضها فوق بعض كما قال:( خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) الملك: 3.

و الظاهر من معنى تزيينها بمصابيح و هي الكواكب كما قال:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: 6 أنّ الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلّقة و لو كانت متفرّقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفّافة كما قيل كانت زينة لجميعها و لم تختصّ الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنّها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدّت زينة لها.

و أمّا قوله:( أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: 16 فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل و النهار كقوله:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) النبأ: 13.

و قوله:( وَ حِفْظاً ) أي و حفظناها من الشياطين حفظا كما قال:( وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) الحجر: 18.

و قوله:( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) إشارة إلى ما تقدّم من النظم و الترتيب.

( كلام فيه تتميم)

( في معنى السماء)

قد تحصّل ممّا تقدّم:

أوّلاً: أنّ المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - و ليست بنصّ - أنّ السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم و الكواكب فوقنا.

٣٧٢

و ثانياً: أنّ هذه السماوات السبع المذكورة جميعاً من الخلق الجسمانيّ فكأنّها طبقات سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منّا عالم النجوم و الكواكب، و لم يصف القرآن شيئاً من السماوات الستّ الباقية دون أن ذكر أنّها طباق.

و ثالثاً: أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلويّة أو خصوص بعضها كالشمس و القمر أو غيرهما.

و رابعاً: أنّ ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة و أنّهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له و يعرجون إليها بكتب الأعمال، و أنّ للسماء أبواباً لا تفتّح للكفّار و أنّ الأشياء و الأرزاق تنزل منها و غير ذلك ممّا تشير إليه متفرّقات الآيات و الروايات يكشف عن أنّ لهذه الاُمور نوع تعلّق بهذه السماوات لا كتعلّق ما نراه من الأجسام بمحالها و أماكنها الجسمانيّة الموجبة لحكومة النظام المادّيّ فيها و تسرّب التغيّر و التبدّل و الدثور و الفتور إليها.

و ذلك أنّ من الضروريّ اليوم أنّ لهذه الأجرام العلويّة كائنة ما كانت كينونة عنصريّة جسمانيّة تجري فيها نظائر الأحكام و الآثار الجارية في عالمنا الأرضيّ العنصريّ و النظام الّذي يثبت للسماء و أهلها و الاُمور الجارية فيها ممّا أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصريّ المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أنّ الملائكة خلقوا من نور، و أنّ غذاءهم التسبيح، و ما ورد من توصيف خلقهم، و ما ورد في توصيف خلق السماوات و ما خلق فيها إلى غير ذلك.

فللملائكة عوالم ملكوتيّة سبعة مترتّبة سمّيت سماوات سبعاً و نسبت ما لها من الخواصّ و الآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلوّ و الإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلاً للفهم الساذج.

٣٧٣

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو يعلى و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و أبونعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل و ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الّذي قد فرّق جماعتنا، و شتّت أمرنا و عاب ديننا فليكلّمه و لينظر ما ذا يردّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أباالوليد.

فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم عبدالله؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة الّتي عبدت و إن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلّم حتّى نسمع منك.

أما و الله ما رأينا سلحة قطّ أشأم على قومك منك فرّقت جماعتنا، و شتّت أمرنا و عبت ديننا، و فضحتنا في العرب حتّى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً، و أنّ في قريش كاهناً و الله ما ننتظر إلّا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتّى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً و إن كان نما بك الباءة فاختر أيّ نساء قريش شئت فلنزوّجك عشراً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) حتّى بلغ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) .

فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنّكم تكلّمون به إلّا كلّمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: و الّذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً ممّا قال غير أنّه قال:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قالوا: ويلك يكلّمك الرجل بالعربيّة و ما تدري ما قال؟ قال: لا و الله ما فهمت شيئاً ممّا قال غير ذكر الصاعقة.

٣٧٤

أقول: و رواه عن عدّة من الكتب قريباً منه‏، و في بعض الطرق: قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: و الله إنّي قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قطّ، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و الله ليكونّن لقوله الّذي سمعت نبأ، و في بعضها غير ذلك.

و في تلاوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات أوّل السورة على الوليد بن المغيرة رواية اُخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدّثّر في ذيل قوله تعالى:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) الآيات.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟ فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد و الإثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق المدائن و الأقوات و الأنهار و عمرانها و خرابها يوم الأربعاء، و خلق السماوات و الملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، و خلق في أوّل ساعة الآجال و في الثانية الآفة و في الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تمّمت فعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله( وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) .

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عبّاس و عبدالله بن سلام و عن عكرمة و غيره و قد ورد في بعض أخبار الشيعة، و قوله: قالوا: صدقت إن تمّمت أي تمّمت كلامك في الخلق بأن تقول: إنّه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه.

و الروايات لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق و هو مخالف لما ورد في أوّل سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنّه خلق النور و الظلمة - النهار و الليل - يوم الأحد، و خلق السماء يوم الإثنين، و خلق الأرض و البحار و النبات يوم الثلاثاء و خلق الشمس و القمر و النجوم يوم الأربعاء و خلق دوابّ البحر و الطير يوم الخميس، و خلق حيوان البرّ و الإنسان يوم الجمعة و فرغ من الخلق يوم السبت فاستراح فيه، و القول بأنّ التوراة الحاضرة غير ما كان

٣٧٥

في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ترى.

و أمّا ثانياً: فلأنّ اليوم من الأسبوع و هو نهار مع ليلته يتوقّف في كينونته على حركة الأرض الوضعيّة دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين و لم يخلق السماء و السماويّات بعد و لا تمّت الأرض كرة متحرّكة؟ و نظير الإشكال جارّ في خلق السماء و السماويّات و منها الشمس و لا يوم حيث لا شمس بعد.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه عدّ فيها يوم لخلق الجبال و قد جزم الفحص العلميّ بأنّها تخلق تدريجاً، و نظير الإشكال جار في خلق المدائن و الأنهار و الأقوات.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن عطيّة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: و خلق الشي‏ء الّذي جميع الأشياء منه و هو الماء الّذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كلّ شي‏ء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، و خلق الريح من الماء.

ثمّ سلّط الريح على الماء فشقّقت الريح متن الماء حتّى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضاً بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثمّ طواها فوضعها فوق الماء.

ثمّ خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتّى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله:( السَّماءُ بَناها ) .

أقول: و في هذه المعنى بعض روايات اُخر، و يمكن تطبيق ما في الرواية و كذا مضامين الآيات على ما تسلّمته الأبحاث العلميّة اليوم في خلق العالم و هيئته غير أنّا تركنا ذلك احترازاً من تحديد الحقائق القرآنيّة بالأحداس و الفرضيّات العلميّة ما دامت فرضيّة غير مقطوع بها من طريق البرهان العلميّ.

و في نهج البلاغة: فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهنّ له بالربوبيّة، و إذعانهنّ له بالطواعية لما جعلهنّ موضعاً لعرشه، و لا مسكناً لملائكته و لا مصعداً للكلم الطيّب و العمل الصالح من خلقه.

٣٧٦

و في كمال الدين، بإسناده إلى فضيل الرسّان قال: كتب محمّد بن إبراهيم إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الكواكب جعلت أماناً لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جعل أهل بيتي أماناً لاُمّتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء اُمّتي ما كانوا يوعدون.

أقول: و ورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات.

و في البحار، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام كم بين السماء و الأرض؟ قال: مدّ البصر و دعوة المظلوم.

أقول: و هو من لطائف كلامهعليه‌السلام يشير به إلى ظاهر السماء و باطنها كما تقدّم.

٣٧٧

( سورة فصّلت الآيات 13 - 25)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( 13 ) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ  قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( 14 ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 15 ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ  وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ( 16 ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 18 ) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 19 ) حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 20 ) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا  قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 21 ) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( 22 ) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ

٣٧٨

أأَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 ) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ  وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ( 24 ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 25 )

( بيان)

الآيات تتضمّن الإنذار بالعذاب الدنيويّ الّذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الاُخروي الّذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفيّة إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال في المجمع: الصاعقة المهلكة من كلّ شي‏ء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله:( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ) و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) و العذاب كقوله:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) و النار كقوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإنّ الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ثمّ يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شي‏ء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى.

و على ما مرّ تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله:( أَنْذَرْتُكُمْ ) للدلالة على التحقّق و الوقوع.

قوله تعالى: ( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإنّ الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها

٣٧٩

فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ.

و نسبة المجي‏ء إلى الرسل و هو جمع - مع أنّ الّذي ذكر في قصّتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أنّ الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين و كذا القوم المكذّبون لأحدهم مكذّبون لآخرين قال تعالى:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 123 و قال:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 141، و قال:( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 160 إلى غير ذلك.

و قول بعضهم: إنّ إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالحعليهما‌السلام و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله:( إِذْ جاءَتْهُمُ ) إلى عاد و ثمود.

ممنوع بما تقدّم، و أمّا إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنّما هو لكون مجموع الجمعين جمعاً مثلهما.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوّز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله:( جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسّر مجيئهم كذلك بعد بقوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و هو التوحيد.

و قوله:( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) ردّ منهم لرسالتهم بأنّ الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدّم كراراً معنى قولهم هذا و أنّه مبنيّ على إنكارهم نبوّة البشر.

و قوله:( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنّا بما اُرسلتم به و هو التوحيد كافرون.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كلّ الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله:( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قيد توضيحيّ للاستكبار في الأرض فإنّه بغير الحقّ دائماً، و الباقي ظاهر.

٣٨٠