الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161695
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161695 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المسبّب و هو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبوديّة الّتي لا تحصل إلّا بالإيمان و العمل الصالح.

قوله تعالى: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكّر و يؤنّث، و قال في المجمع: و الكلم جمع كلمة يقال: هذا كلم و هذه كلم فيذكّر و يؤنّث، و كلّ جمع ليس بينه و بين واحده إلّا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث انتهى.

و المراد بالكلم على أيّ حال ما يفيد معنى تامّاً كلاميّاً و يشهد به توصيفه بالطيّب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه و متكلّمه بحيث تنبسط منه و تستلذّه و تستكمل به و ذلك إنّما يكون بإفادته معنى حقّاً فيه سعادة النفس و فلاحها.

و بذلك يظهر أنّ المراد به ليس مجرّد اللفظ بل بما أنّ له معنى طيّباً فالمراد به الاعتقادات الحقّة الّتي يسعد الإنسان بالإذعان لها و بناء عمله عليها و المتيقّن منها كلمة التوحيد الّتي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقّة و هي المشمولة لقوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) إبراهيم: 25 و تسمية الاعتقاد قولاً و كلمة أمر شائع بينهم.

و صعود الكلم الطيّب إليه تعالى هو تقرّبه منه تعالى اعتلاء و هو العليّ الأعلى رفيع الدرجات، و إذ كان اعتقاداً قائماً بمعتقده فتقرّبه منه تعالى تقرّب المعتقد به منه، و قد فسّروا صعود الكلم الطيّب بقبوله تعالى له و هو من لوازم المعنى.

ثمّ إنّ الاعتقاد و الإيمان إذا كان حقّ الاعتقاد صادقاً إلى نفسه صدّقه العمل و لم يكذّبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم و آثاره الّتي لا تنفكّ عنه، و كلّما تكرّر العمل زاد الاعتقاد رسوخاً و جلاء و قوي في تأثيره فالعمل الصالح و هو العمل الحريّ بالقبول الّذي طبع عليه بذلّ العبوديّة و الإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحقّ في ترتّب أثره عليه و هو الصعود إليه تعالى و هو المعزّى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيّب.

٢١

فقد تبيّن بما مرّ معنى قوله:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) و أنّ ضمير( إِلَيْهِ ) لله سبحانه و المراد بالكلم الطيّب الاعتقاد الحقّ كالتوحيد، و بصعوده تقرّبه منه تعالى، و بالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحقّ و يلائمه و أنّ الفاعل في( يَرْفَعُهُ ) ضمير مستكنّ راجع إلى العمل الصالح و ضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيّب.

و لهم في الآية أقوال اُخر:

فقد قيل: إنّ المراد بصعود الكلم الطيّب قبوله و الإثابة عليه كما تقدّمت الإشارة إليه، و قيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان و الطاعات إلى الله سبحانه، و قيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمّي الصعود إلى السماء صعوداً إلى الله مجازاً.

و قيل: إنّ فاعل( يَرْفَعُهُ ) ضمير عائد إلى الكلم الطيّب و ضمير المفعول للعمل الصالح و المعنى أنّ الكلم الطيّب يرفع العمل الصالح أي أنّ العمل الصالح لا ينفع إلّا إذا صدر عن التوحيد، و قيل: فاعل( يَرْفَعُهُ ) ضمير مستكنّ راجع إليه تعالى و المعنى العمل الصالح يرفعه الله.

و جملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد و الأسبق إلى الذهن ما قدّمناه من المعنى.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ ) ذكروا أنّ( السَّيِّئاتِ ) وصف قائم مقام موصوف محذوف و هو المكرات، و وضع اسم الإشارة موضع الضمير في( مَكْرُ أُولئِكَ ) للدلالة على أنّهم متعيّنون لا مختلطون بغيرهم و المعنى و الّذين يمكرون المكرات السيّئات لهم عذاب شديد و مكر اُولئك الماكرين هو يبور و يهلك فلا يستعقب أثراً حيّاً فيه سعادتهم و عزّتهم.

و قد بان أنّ المراد بالسيّئات أنواع المكرات و الحيل الّتي يتّخذها المشركون وسائل لكسب العزّة، و الآية مطلقة، و قيل: المراد المكرات الّتي اتّخذتها قريش على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الندوة و غيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فردّ الله كيدهم إليهم و أخرجهم إلى بدر و قتلهم و أثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات و الإخراج و القتل

٢٢

و هذا وجه حسن لكنّ الآية مطلقة.

و وجه اتّصال ذيل الآية بصدرها أعني اتّصال قوله:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ ) إلى آخر الآية بقوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ) أنّ المشركين كانوا يعتزّون بآلهتهم كما قال تعالى:( وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) مريم: 81 فدعاهم الله سبحانه و هم يطلبون العزّ إلى نفسه بتذكيرهم أنّ العزّة لله جميعاً و بين تعالى ذلك بأنّ توحيده يصعد إليه و العمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرّب منه عزّة من منبع العزّة و أمّا الّذين يمكرون كلّ مكر سيّئ لاكتساب العزّة فلهم عذاب شديد و ما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محلّ و لا يكسب لهم عزّاً.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ) إلخ. يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب و هو المبدأ البعيد الّذي تنتهي إليه الخلقة ثمّ من نطفة و هي مبدأ قريب تتعلّق به الخلقة.

و قيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإنّ الشي‏ء يضاف إلى أصله و قيل: بل المراد خلق آدم نفسه و قيل: بل المراد خلقهم خلقاً إجمالياً من تراب في ضمن خلق آدم من تراب و الخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال:( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الفرق بين الوجوه الثلاثة أنّ في الأوّل نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقليّ، و في الثاني المراد بخلقهم خلق آدم و لا مجاز في النسبة، و في الثالث المراد خلق كلّ واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلّا أنّه خلق إجماليّ لا تفصيلي و بهذا يفارق ما قدّمناه من الوجه.

و يمكن تأييد القول الأوّل بقوله تعالى:( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) الرحمن: 14، و الثاني بنحو قوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) السجدة: 8، و الثالث بقوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الأعراف: 11 و لكلّ وجه.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ) أي ذكوراً و إناثاً، و قيل: أي قدّر بينكم الزوجيّة و زوّج بعضكم من بعض، و هو كما ترى، و قيل: أي أصنافاً و شعوباً. و هو كسابقه.

٢٣

و قوله:( وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‏ وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ) من زائدة لتأكيد النفي، و الباء في( بِعِلْمِهِ ) للمصاحبة و هو حال من الحمل و الوضع، و المعنى ما تحمل و لا تضع اُنثى إلّا و علمه يصاحب حمله و وضعه، و ذكر بعضهم أنّه حال من الفاعل و أن كونه حالاً من الحمل و الوضع و كذا من مفعوليهما أي المحمول و الموضوع خلاف الظاهر و هو ممنوع.

و قوله:( وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ) أي و ما يمدّ و يزاد في عمر أحد فيكون معمّراً و لا ينقص من عمره أي عمر أحد إلّا في كتاب.

فقوله:( وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ) من قبيل قوله:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) يوسف: 26 فوضع معمّر موضع نائب الفاعل و هو أحد بعناية أنّه بعد تعلّق التعمير به يصير معمّراً و إلّا فتعمير المعمّر لا معنى له.

و قوله:( وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) الضمير في( عُمُرِهِ ) راجع إلى( مُعَمَّرٍ ) باعتبار موصوفه المحذوف و هو أحد و المعنى و لا ينقص من عمر أحد و إلّا فنقص عمر المفروض معمّراً تناقض خارق للفرض.

و قوله:( إِلَّا فِي كِتابٍ ) و هو اللّوح المحفوظ الّذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أنّ فلاناً يزاد في عمره كذا لسبب كذا و فلاناً ينقص من عمره كذا لسبب كذا و أمّا كتاب المحو و الإثبات فهو مورد التغيّر و سياق الآية يفيد وصف العلم الثابت و لهم في قوله:( وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) وجوه اُخر ضعيفة لا جدوى في التعرّض لها.

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) تعليل و تقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان و كيفيّة إحداثه و إبقائه و المعنى أنّ هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليّات الحوادث و جزئيّاتها المقرّر كلّ شي‏ء في مقرّه على الله يسير لأنّه الله العليم القدير المحيط بكلّ شي‏ء بعلمه و قدرته فهو تعالى ربّ الإنسان كما أنّه ربّ كلّ شي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ ) إلى آخر الآية قيل: العذب من الماء طيّبه، و الفرات الماء الّذي يكسر

٢٤

العطش أو البارد كما في المجمع، و السائغ هو الّذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته و الاُجاج الّذي يحرق لملوحته أو المرّ.

و قوله:( وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) اللحم الطريّ الغضّ الجديد، و المراد لحم السمك أو السمك و الطير البحريّ، و الحلية المستخرجة من البحر اللّؤلؤ و المرجان و الأصداف قال تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ ) الرحمن: 22.

و في الآية تمثيل للمؤمن و الكافر بالبحر العذب و المالح يتبيّن به عدم تساوي المؤمن و الكافر في الكمال الفطريّ و إن تشاركاً في غالب الخواصّ الإنسانيّة و آثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصليّة ينال بها سعادة الحياة الدائمة و الكافر منحرف فيها متلبّس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانيّة و سيعذّب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة و ملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصليّة و هي العذوبة و الخروج عنها بالملوحة و إن اشتركاً في بعض الآثار الّتي ينتفع بها، فمن كلّ منهما تأكلون لحماً طريّاً و هو لحم السمك و الطير المصطاد من البحر و تستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ و المرجان و الأصداف.

فظاهر الآية أنّ الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب و البحر المالح لكن جمعاً من المفسّرين استشكلوا ذلك بأنّ اللؤلؤ و المرجان إنّما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، و قد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة.

منها أنّ الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة و إن اختصّ ببعضها كأنّه قيل: و من كلّ تنتفعون و تستفيدون كما تأكلون منهما لحماً طريّاً و تستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر.

و منها أنّه شبّه المؤمن و الكافر بالعذب و الأجاج ثمّ فضّل الأجاج على الكافر بأنّ في الاُجاج بعض النفع و الكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ثمّ قال:( وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ

٢٥

مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) البقرة: 74.

و منها أنّ قوله:( وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) من تتمّة التمثيل على معنى أنّ البحرين و إن اشتركاً في بعض المنافع تفاوتاً فيما هو المقصود بالذات لأنّ أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته و المؤمن و الكافر و إن اتّفقا أحياناً في بعض المكارم كالشجاعة و السخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصليّة دون الآخر.

و منها أنّه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة و إن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع.

و منها منع أصل الدعوى و هو كون الآية( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ) إلخ. تمثيلاً للمؤمن و الكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبيّة كقوله قبلاً:( وَ اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ) و قوله بعداً:( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ) إلخ. فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر و اختلافه بالعذوبة و الملوحة و ما فيهما من المنافع المشتركة و المختصّة.

و يؤيّد هذا الوجه أنّ نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادّة لنعم الله سبحانه و هو قوله:( وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل: 14.

و الحقّ أنّ أصل الاستشكال في غير محلّه و أنّ البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشؤن مشروح فيها(1) .

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ضمير( فِيهِ ) للبحر، و مواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشقّ عدّت السفينة ماخرة لشقّها الماء بجؤجئتها.

____________________

(1) و قد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني و ذكر أيضاً في أمريكانا Encyclopedia و بريطانيا Encyclopedia وجودها فيه و سميت عدّة من الأنهار العذبة في أمريكا و أوربا و آسيا يستخرج منها اللؤلؤ.

٢٦

قيل: إنّما اُفرد ضمير الخطاب في قوله:( تَرَى ) بخلاف الخطابات المتقدّمة و المتأخّرة لأنّ الخطاب لكلّ أحد يتأتّى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط.

و قوله:( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه و هو الرزق و رجاء أن تشكروا الله سبحانه، و قد تقدّم أنّ الترجّي الّذي تفيده( لعل ) في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلّم.

و قد قيل في هذه الآية:( وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) و في سورة النحل:( وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) فاختلفت الآيتان في تقديم( فِيهِ ) على( مَواخِرَ ) و تأخيره منه و عطف( لِتَبْتَغُوا ) و عدمه.

و لعلّ النكتة في ذلك أنّ آية النحل مصدّرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفيّة التسخير و الأنسب لذلك تأخير( فِيهِ ) ليتعلّق بمواخر و يشير إلى مخر البحر فيصرّح بالتسخير بخلاف ما ههنا ثمّ التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل و الأنسب لذلك عطف( لِتَبْتَغُوا ) على محذوف ليدلّ على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما ههنا فإنّ الغرض بيان أنّه الرازق المدبّر ليرتدع المكذّبون - و قد تقدّم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم و يكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف. و الله أعلم.

و قال في روح المعاني، في المقام: و الّذي يظهر لي في ذلك أنّ آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها و لواحقها و تعقيب الآيات بقوله سبحانه:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) فكان الأهمّ هناك تقديم ما هو نعمة و هو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنّه إنّما سيق استطراداً أو تتمّة للتمثيل كما علمت آنفاً فقدّم فيه( فِيهِ ) إيذاناً بأنّه ليس المقصود بالذات ذلك، و كان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية:( وَ لِتَبْتَغُوا ) بالواو و مخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله:( لِتَبْتَغُوا ) انتهى.

قوله تعالى: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل

٢٧

و إيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، و المراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر المستمرّ في أيّام السنة بتغيّر الأيام و لذا عبّر بقوله:( يُولِجُ ) الدالّ على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس و القمر فإنّه ثابت على حاله و لذا عبّر فيه بقوله:( وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) و العناية صوريّة مسامحيّة.

و قوله:( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) بمنزلة النتيجة لما تقدّم أي إذا كان أمر خلقكم و تدبيركم برّاً و بحراً و أرضاً و سماء منتسباً إليه مدبّراً بتدبيره فذلكم الله ربّكم الّذي يملككم و يدبّر أمركم.

و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ ) مستنتج ممّا قبله و توطئة و تمهيد لما بعده من قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

و قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة و ذلك مثل للشي‏ء الطفيف، و في المجمع: القطمير لفافة النواة.

و قيل: الحبّة في بطن النواة انتهى و الكلام على أيّ حال مبالغة في نفي أصل الملك.

و المراد بالّذين تدعون من دون الله آلهتهم الّذين كانوا يدعونها من الأصنام و أربابها.

قوله تعالى: ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ) إلخ. بيان و تقرير لما تقدّم من قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) أي تصديق كونهم لا يملكون شيئاً أنّكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأنّ الأصنام جمادات لا شعور لها و لا حسّ و أرباب الأصنام كالملائكة و القدّيسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنّهم لا يملكون سمعاً من عند أنفسهم فلا يسمعون إلّا بإسماعه.

و قوله:( وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ) إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولاً و لا فعلاً أمّا الأصنام فظاهر و أمّا أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه و لن يأذن الله لأحد

٢٨

أن يستجيب أحداً يدعوه بالربوبيّة قال تعالى:(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) النساء: 172.

و قوله:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) أي يردّون عبادتكم إليكم و يتبرّؤن منكم بدلاً من أن يكونوا شفعاء لكم( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) البقرة: 166.

فالآية في نفي الاستجابة و كفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الأحقاف: 6.

و قوله:( وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير و هو خطاب خاصّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقّههم بالبيان الحقّ أو خطاب عامّ في صورة الخطاب الخاصّ خوطب به السامع أيّ من كان كقوله:( وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ ) الآية السابقة، و قوله:( وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ ) الآية الكهف: 17، و قوله:( وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ ) الكهف: 18.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَذلِكَ النُّشُورُ: ) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل بن درّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحاً فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي رزين العقيليّ قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أ ما مررت بأرض مجدبة ثمّ مررت

٢٩

بها مخصبة تهتزّ خضراء؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى و كذلك النشور.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لكلّ قول مصداقاً من عمل يصدّقه أو يكذّبه فإذا قال ابن آدم و صدّق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، و إذا قال و خالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار.

و في التوحيد، بإسناده عن زيد بن عليّ عن أبيهعليه‌السلام في حديث قال: و إنّ لله تبارك و تعالى بقاعاً في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. أ لا تسمع الله عزّوجلّ يقول:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) و يقول في قصّة عيسى بن مريمعليهما‌السلام ( بَلْ رَفَعَهُ اللهُ ) و يقول عزّوجلّ:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

أقول: و عن الفقيه، مثله.

و في نهج البلاغة: و لو لا إقرارهنّ(1) له بالربوبيّة و إذعانهنّ له بالطواعية(2) لما جعلهنّ موضعاً لعرشه و لا مسكناً لملائكته و لا مصعداً للكلم الطيّب و العمل الصالح من خلقه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ ) الاُجاج المرّ.

و فيه في قوله:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) قال: الجلدة الرقيقة الّتي على ظهر النوى.

____________________

(1) الضمير للسماوات.

(2) الطاعة

٣٠

( سورة فاطر الآيات 15 - 26)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ  وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 15 ) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 16 ) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ( 17 ) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ  إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ  وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ  وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ( 18 ) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ( 19 ) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ( 20 ) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ( 21 ) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ  إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ  وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ( 22 ) إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ( 23 ) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا  وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ( 24 ) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ( 25 ) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا  فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 26 )

( بيان)

لمّا بيّن لهم أنّ الخلق و التدبير إليه تعالى فهو ربّهم له الملك دون الّذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئاً حتّى يقوموا بتدبيره، أخذ يبيّن ذلك ببيان آخر

٣١

مشوب بالوعيد و التهديد و هو أنّه تعالى غنيّ عنهم و هم فقراء إليه فله أن يذهبهم و يأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا.

ثمّ وجّه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما حاصله أنّ هذه المؤاخذة و الإهلاك لا يشمل إلّا هؤلاء المكذّبين دون المؤمنين الّذين يؤثّر فيهم إنذار النبيّعليه‌السلام فبينهما فرق ظاهر و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذير كالنذر الماضين و حاله كحال من قبله من المنذرين و إن يكذّبوه فقد كذّبت الأنبياء الماضين مكذّبوا اُممهم فأخذهم الله أخذاً شديداً و سيأخذ المكذّبين من هذه الاُمّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) لا ريب أنّ في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبيّن بها مضمونهما و هي مع ذلك مستقلّة في مفادها.

بيان ذلك: أنّ السياق يشعر بأنّ أعمال هؤلاء المكذّبين كانت تكشف عن أنّهم كانوا يتوهّمون أنّ لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم و أنّ لله إليهم حاجة و لذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهيّة الّتي يقوم بها رسله فهناك غنى و فقر و لهم نصيب من الغنى و لله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك.

فردّ الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَ اللهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) فقصّر الفقر فيهم و قصّر الغنى فيه سبحانه فكلّ الفقر فيهم و كلّ الغنى فيه سبحانه، و إذ كان الغنى و الفقر و هما الوجدان و الفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر و هو قصرهم في الفقر و قصره تعالى في الغنى فليس لهم إلّا الفقر و ليس له تعالى إلّا الغنى.

فالله سبحانه غنيّ بالذات له أن يذهبهم و يستغني عنهم و هم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره.

و الملاك في غناه تعالى عنهم و فقرهم أنّه تعالى خالقهم و مدبّر أمرهم و إليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم و بيان غناه، و الإشارة إلى الخلق و التدبير في قوله:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) و كذا توصيفه تعالى بالحميد و هو

٣٢

المحمود في فعله الّذي هو خلقه و تدبيره.

فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيّها الناس أنتم بما أنّكم مخلوقون مدبّرون لله الفقراء إلى الله فيكم كلّ الفقر و الحاجة و الله بما أنّه الخالق المدبّر، الغنيّ لا غنىّ سواه.

و على هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء اُريد به المكذّبون خاصّة أو عامّة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم و ذلك أنّ عموم علّة الحكم يعمّم الحكم فكأنّه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبّر لأمركم و هو الغنيّ الحميد.

و قد اُجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب:

منها أنّ في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنّهم لكثرة افتقارهم و شدّة احتياجهم هم الفقراء فحسب و أنّ افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم و لذلك قال تعالى:( خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) و لا يرد الجنّ لأنّهم لا يحتاجون في المطعم و الملبس و غيرهما كما يحتاج الإنسان.

و منها أنّ المراد الناس و غيرهم و هو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب و اُولي العلم على غيرهم.

و منها أنّ الوجه حمل اللّام في النّاس على العهد و في الفقراء على الجنس لأنّ المخاطبين في الآية هم الّذين خوطبوا في قوله:( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ) الآية أي ذلكم المعبود هو الّذي وصف بصفات الجلال لا الّذين تدعون من دونه و أنتم أشدّ الخلائق احتياجاً إليه.

و منها أنّ القصر إضافيّ بالنسبة إليه تعالى لا حقيقيّ.

و غير خفيّ عليك أنّ مفاد الآية و سياقها لا يلائم شيئاً من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدّمناه من الوجه.

و تذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنّه غنيّ محمود الأفعال إن أعطى و إن منع لأنّه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء و الشكر و كلّ بدل مفروض

٣٣

و إن منع لم يتوجّه إليه لائمة إذ لا حقّ لأحد عليه و لا يملك منه شي‏ء.

قوله تعالى: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ ما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) أي إن يرد إذهابكم يذهبكم أيّها الناس لأنّه غنيّ عنكم لا يستضرّ بذهابكم و يأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنّه حميد و مقتضاه أن يجود فيحمد و ليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنّه الله عزّ اسمه.

فقد بان أنّ مضمون الآية متفرّع على مضمون الآية السابقة فقوله:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ) متفرّع على كونه تعالى غنيّاً، و قوله:( وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) متفرّع على كونه تعالى حميداً، و قد فرّع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه و رحمته قال تعالى:( وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ) الأنعام: 133.

قوله تعالى: ( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) إلخ. قال الراغب: الوزر - بفتحتين - الملجأ الّذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:( كَلَّا لا وَزَرَ ) و الوزر - بالكسر - فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبّر به عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ) الآية كقوله:( لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ) . انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس اُخرى و لازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلّا بما حملت من إثم نفسها و اكتسبته من الوزر.

و الآية كأنّها دفع دخل يشعر به آخرها كأنّه لمّا قال: إن يشأ يذهبكم و يأت بآخرين، فهدّدهم بالإهلاك و الإفناء، قيل: هؤلاء المكذّبون اُخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين؟ أ يؤخذون بوزر غيرهم؟.

فأجيب أن لا تزر وازرة وزر اُخرى و لا تحمل نفس حمل غيرها الّذي أثقلها و إن كانت ذات قربى.

فهؤلاء المكذّبون هم المعنيّون بالتهديد و لا تنفع فيهم دعوتك و إنذارك لأنّهم مطبوع على قلوبهم، و إنّما ينفع إنذارك الّذين يخشون ربّهم بالغيب و يقيمون الصلاة و الفريقان لا يستويان لأنّ مثلهم مثل الأعمى و البصير، و الظلمات و النور، و الظلّ

٣٤

و الحرور، و الأحياء و الأموات.

فقوله:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) أي لا تحمل نفس حاملة للوزر و الإثم إثم نفس اُخرى حاملة.

و قوله:( وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى‏ حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ ) أي و إن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها و لا يحمل من حملها شي‏ء و لو كان المدعوّ ذا قربى للداعي كالأب و الاُمّ و الأخ و الأخت.

و قوله:( إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ ) أي هؤلاء المكذّبون لا ينتفعون بالإنذار و لا تتحقّق معهم حقيقة الإنذار لأنّهم مطبوع على قلوبهم إنّما تنذر و ينفع إنذارك الّذين يخشون ربّهم بالغيب و يقيمون الصلاة الّتي هي أفضل العبادات و أهمّها و بالجملة يؤمنون بالله و يعبدونه أي الّذين يخشون ربّهم بالغيب و يقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنّهم يخشون ربّهم و يصلّون ثمّ ينذرون بعد ذلك حتّى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله:( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) يوسف: 36.

و قوله:( وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) بدّل الخشية و إقامة الصلاة من التزكّي للإشارة إلى أنّ المطلوب بالدعوة و الإنذار هو التزكّي و تزكية النفس تلبّسها بالخشية من الله على الغيب و إقامة الصلاة.

و فيه تقرير و تأكيد لما تقدّم من كونه تعالى غنيّاً حميداً فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكّي بل الّذي تزكّى فإنّما يتزكّى لنفع نفسه.

و قد ختم الآية بقوله:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) للدلالة على أنّ تزكية من تزكّى لا تذهب سدى، فإنّ كلّا من الفريقين صائرون إلى ربّهم لا محالة و هو يحاسبهم و يجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكّين أحسن الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) الظاهر أنّه عطف على قوله:( وَ إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكّين لاُولئك المكذّبين، و قيل: عطف على قوله السابق:( وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ) .

٣٥

قوله تعالى: ( وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ ) تكرار حروف النفي مرّة بعد مرّة في الآية و ما يليها لتأكيد النفي.

قوله تعالى: ( وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ ) الحرور شدّة حرّ الشمس على ما قيل و قيل: هو السموم و قيل: السموم يهبّ نهاراً و الحرور يهبّ ليلاً و نهاراً.

قوله تعالى: ( وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ ) إلى آخر الآية عطف على قوله:( وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) و إنّما كرّر قوله:( ما يَسْتَوِي ) و لم يعطف( الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ ) على قوله:( الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) كرابعته لطول الفصل فاُعيد( ما يَسْتَوِي ) لئلّا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ - إلى أن قال -كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) الخ. التوبة: 8.

و الجمل المتوالية المترتّبة أعني قوله:( وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ - إلى قوله -وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ ) تمثيلات للمؤمن و الكافر و تبعات أعمالهما.

و قوله:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ) و هو المؤمن كان ميتاً فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً ) الأنعام: 122، و أمّا النبيّعليه‌السلام فإنّما هو وسيلة و الهدى هدى الله.

و قوله:( وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أي الأموات و المراد بهم الكفّار المطبوع على قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) قصر إضافيّ أي ليس لك إلّا إنذارهم و أمّا هداية من اهتدى منهم و إضلال من ضلّ و لم يهتد جزاء له بسيّئ عمله فإنّما ذلك لله سبحانه. و لم يذكر البشير مع النذير مع كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متلبّساً بالوصفين معاً لأنّ المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرّض لوصف الإنذار مع أنّه مذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) المفاد على ما يقتضيه السياق إنّا أرسلناك بالتبشير و الإنذار و ليس ببدع مستغرب فما من اُمّة من الاُمم إلّا و قد خلا و مضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه.

٣٦

و ظاهر السياق أنّ المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله و فسّر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة و الإنذار من نبيّ أو عالم غير نبيّ و هو خلاف ظاهر الآية.

نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل اُمّة من أفرادها فقد قال تعالى:( خَلا فِيها ) و لم يقل:( خلا منها) .

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) البيّنات هي الآيات المعجزة الّتي تشهد على حقّيّة الرسل، و الزبر جمع زبور و لعلّ المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف و الكتب الّتي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمّن الأحكام و الشرائع، و الكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمّن للشرائع ككتاب نوح و إبراهيم و توراة موسى و إنجيل عيسىعليهم‌السلام ، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) الأخذ كناية عن التعذيب، و النكير الإنكار، و الباقي ظاهر.

( كلام في معنى عموم الإنذار)

قد تقدّم في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوحعليه‌السلام في الجزء العاشر من الكتاب ما يدلّ من طريق العقل على عموم النبوّة و يؤيّده الكتاب.

فلا تخلو اُمّة من الاُمم الإنسانيّة عن ظهور مّا للدعوة الحقّة النبويّة فيها و أمّا كون نبي كلّ اُمّة من نفس تلك الاُمّة فلا دليل عليه، و قد عرفت أنّ قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) الآية مفاده ذلك.

و أمّا فعليّة الإنذار بحيث يبلغ كلّ فرد فرد من الاُمّة مضافاً إلى أصل الاقتضاء و اطّراد الدعوة في كلّ واحد واحد فحكومة العلل و الأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادّيّة لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامّة الّتي قدّرها الصنع كما أنّ في بنية

٣٧

كلّ مولود إنسانيّ أن يعمّر عمراً طبيعيّاً و الحوادث تحوّل بين أكثر الأفراد و بين ذلك، و كلّ مولود إنسانيّ مجهّز بجهاز التناسل للاستيلاد و الإيلاد و كثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر.

فالنبوّة و الإنذار عامّ لكلّ اُمّة و لا يستلزم استلزاماً ضروريّاً أن تبلغ الدعوة كلّ شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الاُمّة و تتخلّف عن بعض لحيلولة علل و أسباب مزاحمة بينه و بين البلوغ فمن توجّهت منهم إليه الدعوة و بلغته تمّت عليه الحجّة و من توجّهت إليه و لم تبلغه لم تتمّ عليه الحجّة و كان من المستضعفين و كان أمره إلى الله قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أخرج أحمد و الترمذيّ و صحّحه و النسائيّ و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حجّة الوداع: ألا لا يجني جان إلّا على نفسه لا يجني والد على ولده و لا مولود على والده.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) قال: هؤلاء الكفّار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوسهل السريّ بن سهل الجنديسابوريّ الخامس من حديثه من طريق عبد القدّوس عن أبي صالح عن ابن عبّاس: في قوله:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف على القتلى يوم بدر و يقول: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً يا فلان بن فلان أ لم تكفر بربّك؟ أ لم تكذّب نبيّك؟ أ لم تقطع رحمك؟ فقالوا: يا رسول الله أ يسمعون ما تقول؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول: فأنزل الله:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) مثل ضربه الله للكفّار أنّهم لا يسمعون لقوله.

٣٨

أقول: و في الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبيّعليه‌السلام أجلّ من أن يقول ما ليس له به علم من ربّه حتّى ينزّل الله عليه آية تكذّبه فيما يدّعيه و يخبر به.

على أنّ ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية 80 و ذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية 22.

على أنّ سياق الآية مكّيّ في سياق آيات سابقة و لاحقة مكّيّة.

و في الإحتجاج، في احتجاج الصادقعليه‌السلام : قال السائل: فأخبرني عن المجوس أ فبعث إليهم نبيّاً؟ فإنّي أجد لهم كتبا محكمة و مواعظ بليغة و أمثالاً شافية، و يقرّون بالثواب و العقاب، و لهم شرائع يعملون بها. قال: ما من اُمّة إلّا خلا فيها نذير، و قد بعث إليهم نبيّ بكتاب من عندالله فأنكروه و جحدوا كتابه.

٣٩

( سورة فاطر الآيات 27 - 38)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا  وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( 27 ) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ  إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ( 28 ) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ( 29 ) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ  إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 30 ) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ  إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ( 31 ) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا  فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 32 ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا  وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 33 ) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ  إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( 34 ) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا  كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ( 36 ) وَهُمْ

٤٠