الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 167805 / تحميل: 5997
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

٦٦ - عن عليّ مرفوعاً: أوَّل من يحاسب يوم القيمة أبو بكر. يأتي بطوله.

هذه غياهب الإفك والإحن، وأغشية التمويه والدجل، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، أو قل: هي أساطير الأوَّلين التي اكتتبوها، أحاديث الغلوِّ وقصص الخرافة لفَّقتها يد الأمانة الخائنة على السنَّة النبويَّة تقوُّلاً على مولانا أمير المؤمنين، لقد فصَّلنا القول فيها في طيّات أجزاء(١) كتابنا هذا، وإنَّهم ليقولون منكراً من القول وزورا.

- ٦٧ -

ليلة الغار والخليفة فيها

أخرجها أبو نعيم الإصبهاني في حلية الأولياء ١: ٢٢ عن عبد الله بن محمّد بن جعفر عن محمّد بن العباس بن أيوب عن أحمد بن محمّد بن حبيب المؤدب عن أبي معاوية عن هلال بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي ميمونة أبي معاذ عن أنس بن مالك قال: لما كان ليلة الغار قال: أبو بكر يا رسول الله! دعني فلأدخل قبلك فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبلك. قال: ادخل، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه، فكلما رأى جحراً جاء بثوبه فشقَّه ثمَّ ألقمه الجحر حتّى فعل ذلك بثوبه أجمع، قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه، ثمَّ أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلمّا أصبح قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: فأين ثوبك يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع، فرفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده فقال: اللهمَّ اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليه: إنَّ الله قد استجاب لك.

وقال ابن هشام في السيرة ٢: ٩٨: حدَّثني بعض أهل العلم إنَّ الحسن البصري قال: إنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبعٌ أو حيّةٌ يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.

وذكره ابن كثير في تاريخه ٣: ١٧٩ فقال: فيه إنقطاعٌ من طرفيه.

وفي مرسل المحبِّ الطبري في الرياض ١: ٦٥: دخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه جحراً إلّا أدخل إصبعه فيه حتّى أتى على جحر كبير فأدخل رجله فيه إلى فخذه ثمَّ قال: اُدخل يا رسول الله! فقد مهَّدت لك الموضع تمهيداً.

وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى فلمّا أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما

____________________

١ - تجد بسط المقال حول جلها في الجزء الخامس ص ٢٩٧ ٣٧٥ ط ٢.

٤١

هذا يا أبا بكر؟ وقد تورَّم جسده فقال: يا رسول الله! الأفعى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلّا أعلمتني؟ فقال أبو بكر: كرهت أن أفسد عليك، فأمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على أبي بكر فاضمحلَّ ما كان بجسده من الألم وكأنّه أُنشط من عقال.

وقال في مرسل آخر عن عمر في ص ٦٨: كان في الغار خروقٌ فيها حيّات وأفاعي فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيءٌ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيّات والأفاعي، وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أبا بكر! لا تحزن إنَّ الله معنا فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة لأبي بكر.

والذي صحّحه الحاكم في المستدرك من طريق عمر من الحديث قوله: فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله! حتّى استبرئ الحجرة فدخل واستبرأ ثمَّ قال: أنزل يا رسول الله! فنزل فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر. فقال الحاكم: صحيحٌ لولا إرسالٌ فيه.

وفي حديث زيَّفه ابن كثير بالإرسال أيضاً: قال أبو بكر: كما أنت حتّى أدخل يدي فأحسَّه وأقصه فإن كانت فيه دابَّة أصابتني قبلك. قال نافع: فبلغني إنَّه كان في الغار جحرٌ فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوّفاً أن يخرج منه دابَّةٌ أو شيءٌ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظ: لما دخل الغار سدَّد تلك الأجحر كلّها وبقي منها جحرٌ واحدٌ، فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل «تاريخ ابن كثير ٣: ١٨٠» فقال: في هذا السياق غرابة ونكارة.

وزاد عليه الحلبي في السيرة: قد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأُمِّي، فتفل رسول الله على محلِّ اللدغة فذهب ما يجده.

وقال: زاد في رواية: وإنَّه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال: من لدغة الحية فقال: هلّا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم.

٤٢

وقال: قال بعضهم: والسرُّ في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيماً للحيَّة التي لدغت أبا بكر في الغار، لأنَّهم يزعمون أنَّ ذلك على صورة تلك الحيَّة.

السيرة الحلبيّة ٢: ٣٩، ٤٠، السيرة النبويَّة لزيني دحلان هامش الحلبيَّة ١: ٣٤٢.

قال الأميني: للباحث حقُّ النظر في هذه الرواية من عدَّة نواحي، أوّلاً من حيث رجال السند ولا إسناد لها منذ يوم وضعت، ولا تروى في كتب السلف والخلف إلّا مرسلة إمّا من الطرفين كرواية ابن هشام، وإمّا من طرف واحد كإسناد الحاكم وأبي نعيم، ومن الغريب جدّاً أنَّ القضيَّة مشتركةٌ بين اثنين ليس إلّا، وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وروايتها بطبع الحال تنحصر بهما غير أنَّها لم تنقل عنهما ولم يوجد لهما ذكرٌ في أيِّ سند، والدواعي في مثلها متوفّرةٌ لأن يذكر مع الأبد، وتتداولها الألسن، إذ فيها من أعلام النبوَّة، وكرامة مع ذلك لأبي بكر.

وإسناد أبي نعيم المذكور لا يعوَّل عليه لمكان عبد الله بن محمّد بن جعفر، قال ابن يونس: خلط في الآخر، ووضع أحاديث على متون معروفة، وزاد في نسخ مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه.

وقال الحاكم عن الدار قطني: كذّابٌ ألَّف كتاب سنن الشافعي وفيها نحو مائتي حديث لم يحدِّث بها الشافعي.

وقال الدارقطني: وضع في نسخة عمرو بن الحارث أكثر من مائة حديث.

وقال عليُّ بن رزيق: كان إذا حدَّث يقول: لأبي جعفر ابن البرقي في حديث بعد حديث: كتبت هذا عن أحد. فكان يقول نعم عن فلان وفلان. فاتّهمه الناس بأنَّه يفتعل الأحاديث، ويدَّعيها ابن البرقي كعادته في الكذب. قال: وكان يصحِّف أسماء الشيوخ(١) .

على أنَّ عبد الله بن محمّد توفي سنة ٣١٥ كما في لسان الميزان فلا تتمُّ رواية أبي نعيم عنه وهو من مواليد ٣٣٦.

____________________

١ - لسان الميزان ٣: ٣٤٥.

٤٣

وفيه: محمّد بن العباس بن أيّوب الحافظ الشهير بابن الأخزم، قال أبو نعيم نفسه: اختلط قبل موته بسنة كما في لسان الميزان ٥: ٢١٦ ولما لم يُعلم تاريخ صدور الرواية منه أهو قبل الاختلاط أم بعده؟ - إن لم تعدّ الرواية من بيِّنات الاختلاطه - سقطت عن الاعتبار كما هو الشأن في رواية كلِّ من اختلط. عن:

أحمد بن محمّد بن حبيب المؤدّب، أحسبه السرخسي، أخرج الخطيب في تاريخه ٥: ١٤٠ حديثاً من طريقه فقال: رجاله كلهم ثقات معروفون بالثقة إلّا المؤدّب. عن:

أبي معاوية محمّد بن خازم، مرجئٌ مدلِّسٌ رئيس المرجئة بالكوفة كما في تهذيب التهذيب ٩: ١٣٩. عن:

هلال بن عبد الرحمن قال العقيلي: منكر الحديث، وقال بعد ما ذكر له أحاديث: كلّ هذه مناكير لا أُصول لها ولا يتابع عليها. وقال الذهبي: الضعف على أحاديثه لائحٌ فليترك. «لسان الميزان ٦: ٢٠٢» عن:

عطاء بن أبي ميمون. ثقةٌ صالحٌ قدريٌّ لا يحتجُّ بحديثه، راجع تهذيب التهذيب ٧: ٢١٥.

ولَمَّا لم يصحّ شيءٌ من أسانيد الرواية ومتونها لم يوعز إليها السيوطي في الخصايص الكبرى في باب ما وقع في الهجرة النبويَّة من الآيات والمعجزات، وقد ذكر فيه أحاديث ضعيفة مع النصِّ على ضعفها، فكأنَّه عرف بأنَّ ذكر هذه الرواية تمسُّ كرامة المؤلِّف وتحطّ مكانة تأليفه عن الأنظار، وهكذا لم يذكرها أحدٌ ممَّن ألَّف في أعلام النبوَّة ومعاجز النبيِّ الأعظم.

ثانياً: إنَّ الأُصول القديمة في القرون الأُولى لا يوجد فيها إلّا أنَّ أبا بكر دخل الغار قبل النبيِّ صلى الله عليه وآله لينظر أفيه سبعُ أو حيَّة كما في سيرة ابن هشام، ولم يصحّ عند الحاكم من القصّة إلّا هذا المقدار كما سمعت ولو صحَّ شيء زايدٌ على هذا لما فاتته روايته ولو مرسلة.

وزيدت في القرن الرابع قصّة الثوب وبقاء جحر وإتّكاء أبي بكر عليه بعقبه ودعاء النبيِّ صلى الله عليه وآله له لاتّقائه عنه صلى الله عليه وآله بثوبه عن لدغ الحشرات المزعومة.

٤٤

وجدِّدت النغمات في قرن المحبِّ الطبري المتخصّص الفنّان في رواية الموضوعات وجمع شتاتها، فجاء في روايته ما سمعت غير أنَّ ألفاظه مع وجازته مضطربةٌ جدًّا لا يلتئم شيءٌ منها مع الآخر.

ثمَّ جاء الحلبي فنوَّم رسول الله صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر أبي بكر، وسقى وجه رسوله الكريم بدموع أبي بكر المتساقطة من الألم، كلُّ هذه لم يبرّد كبد الحلبي وما شافي غليله، فوجه قوارصه على الرافضة وألبس رؤوسهم لباداً مقصّصاً على صورة تلك الحيّة الموهومة التي لم يزعن رافضيّ قطُّ بوجوده.

ثمَّ لما أدخل أبو بكر رجله في الجحر ونزل النبيُّ صلى الله عليه وآله ووجده قاعداً لا يتحرَّك، ورام أن ينام، ووضع رأسه الشريف في حجره، هلّا سأل صلى الله عليه وآله صاحبه عن حالته العجيبة وجلوسه المستغرب الذي لا يقوم عنه؟ وهل يمكن له أن يستر على صاحبه كلّما فعل وهو معه ينظر إليه من كَثب؟.

وأيّ لديغ هذا؟ وأيّ تصبّر وتجلّد؟ وأيّ منظر مهول؟ رِجل الرجل في الجحر إلى فخذه ولا ثوب عليه، ورأس النبيِّ العظيم في حجره، والأفاعي والحيّات تلدغه وتلسعه من هنا وهنا، لا اللديغ يتململ السليم، حتّى يحرِّك رِجله أو عقبه فتجد تلكم الحشرات مسرحاً فتبعد عنه، ولا يأنُّ ولا يحنُّ ولا تُسمع له زفرةٌ وإن الدموع تتحادر حتّى يستيقظ النبيّ الذي تنام عينه ولا ينام قلبه(١) فينجي صاحبه الذي اختاره لصحبته من لسعة الحيّات والأفاعي.

وهل من العدل والعقل والمنطق أن يحفظ الله نبيَّه عن كلِّ هاتيك النوازل؟ ويري له في الدرأ عنه آيةً بعد آيةً في سويعات؟ مِن ستره عن أعين مشركي قريش لما مرَّ بهم من بين أيديهم، وإنباته شجرةً في وجهه تستره بها، وإيقاعه حمامتين وحشيَّتين بفم الغار، ونسج العناكيب باب الغار بأمر منه تعالى شأنه(٢) ، ويدع صاحبه الذي اتَّخذه بأمره، وتفانى في حبِّ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وعرَّض نفسه للمهالك دونه بدخوله الغار قبله، فلم يدفع عنه لدغ الحيّات والأفاعي، ولا يرحمه في تلك الحالة التي تكسر

____________________

١ - أخرج الشيخان في الصحيحين مرفوعاً: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي، وأخرجا أيضاً مرفوعاً: إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.

٢ - طبقات ابن سعد ١: ٢١٣، الخصايص الكبرى ١: ١٨٥: ١٨٦.

٤٥

القلوب، وتشجي الأفؤدة، وينظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقول له: لا تحزن إنَّ الله معنا. والمسكين يبكي وتسيل دموعه.

م- وهلّا كان يعلم أبو بكر أنَّ الله الذي أمر نبيَّه بالهجرة وأدخله الغار يكلأه عن لدغ الحيات والأفاعي بقدرته كما أعمى عنه عيون البشر الضاري، وقصَّر عن النيل منه مخالب تلك الفئة الجاهلة؟.

وهلّا كان يؤمن بأنَّ صاحبه المفدّى لو اطّلع على حاله لينجيه بمسحة مسيحيَّة أو بدعوة مستجابة؟ فكلّ ما حُكي عنه لماذا؟]

نعم: أعمى الحبُّ مختلق الرواية وأصمَّه فجاء بالتافهات غلوّاً في الفضائل.

- ٦٨ -

الشيطان لا يتمثّل بأبي بكرِ

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه ٨: ٣٣٤ عن محمّد بن الحسين قطيط أبي الفتح شيباني الذي ترجمه في تاريخه ولم يذكره بثقة. عن:

٢ - خلف بن عامر الضرير، قال الذهبي في ميزانه ١: فيه جهالةٌ، قال ابن الجوزي: روى حديثاً منكراً «يعني هذا الحديث»(١) . عن:

٣ - محمّد بن إسحاق بن مهران أبي بكر الشافعي قال الخطيب في تاريخه ١: ٢٥٨: حديثه كثير المناكير. وحسبك في عرفان حاله حديثه الذي أخرجه الخطيب في ترجمته مرفوعاً: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنَّه أمينٌ مأمونٌ. فراوٍ يكون هذا حديثه لا يرتاب من كذبه ووضعه. عن:

٤ - أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ذكره ياقوت في المعجم ٣: ٢٢٨ وقال: قالوا: كان ضعيفاً فيما يرويه. قال ابن عدي الحافظ: يحدِّث عن الأصمعي والقرقساني بمناكير

وقال أبو أحمد الحافظ: لا يتابع على جلِّ حديثه.

وحكى ابن حجر في تهذيب التهذيب ١: ٦٠ كلمة ابن عدي وأبي أحمد وزاد عليها: قال الحاكم أبو عبد الله: سكت مشايخنا عن الرواية عنه، وقال ابن حبّان: ربّما خالف، قال الذهبي: ليس بعمدة.

____________________

١ - لسان الميزان ٢: ٤٠٣.

٤٦

وقال السيوطي في بغية الوعاة ٥: ١٤٤: قال ابن عيسى: يحدِّث بمناكير. عن رجال ثقات عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثّل بي، ومن رأى أبا بكر الصدِّيق في المنام فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثل به.

قال الأميني: لم يدع القوم خاصَّة للأنبياء أماثل البشر إلّا وقد أشركوا بهم فيها أناساً ليسوا أمثالهم في العصمة والقداسة والنفسيات الكريمة والملكات الفاضلة، أخرج الشيخان حديث من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثَّل بي. ورواه الحفّاظ من طرق صحيحة لا مغمز لها، ونصَّ السيوطي كما في شرح المناوي على تواتره، ورآه أئمة الفنِّ من خاصَّة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن فضائله التي تخصُّ به، وفصَّلوا القول في بيان أسراره، وعدَّه السيوطي من خصائصه صلى الله عليه وآله في الخصايص الكبرى ٢: ٢٥٨ تحت عنوان «باب ومن خصائصه إنَّ رويته في المنام حقّ» ولم أجد أحداً من شرّاح الحديث سلفاً وخلفاً يوعز إلى هذه الموضوعة التي جاء بها الخطيب في القرن الخامس، فكأنَّ الكلَّ ضربوا عنها صفحاً وعرفوا إنَّها مكذوبةٌ مختلقةٌ، غير انَّ الخطيب راقه أن يرويها ويسكت عمّا في إسنادها من العلل شأنه في فضائل غير العترة الطاهرة، وأعجب منه إن ابن حجر ذكرها في لسان الميزان ٢: ٤٠٣ في ترجمة خلف بن عامر فقال: روى عن محمّد بن إسحاق بن مهران بسند صحيح. وهو الذي ترجم ثلاثةً من رجال السند بما سمعت، هكذا تخطُّ يد الغلوِّ في الفضائل الجانبية على ودايع العلم والدين،( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) (١) .

- ٦٩ -

أبو بكر لم يسؤ النبيَّ قطُّ

أخرج الخلعي وابن مندة وغيرهما من طريق سهل بن مالك قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجَّة الوداع صعد المنبر فقال: أيّها الناس إنَّ أبا بكر لم يسؤني قطُّ فاعرفوا له ذلك(٢) .

____________________

١ - سورة البقرة: ٧٩.

٢ - الرياض النضرة ١: ١٢٧، الإصابة ٢: ٩٠.

٤٧

قال ابن منده: غريبٌ لا نعرفه إلّا من وجه خالد بن عمرو الأموي. وقال ابن حجر بعد نقله: قلت: خالد بن عمرو متروكٌ واهي الحديث إلى أن قال نقلاً عن أبي عمر: ومدار حديثه(١) على خالد بن عمرو وهو متروكٌ وإسناد حديثه مجهولون ضعفاء يدور على سهل بن يوسف أو مالك بن يوسف(٢) .

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ٣: ١٠٩ في ترجمة خالد بن عمرو: قال أحمد منكر الحديث، ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل، وعن يحيى بن معين قال: ليس حديثه بشيء، كان كذّاباً يكذب، حدَّث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري والساجي وأبو زرعة: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: متروك الحديث ضعيفٌ. وقال أبو داود: ليس بشيء وقال النسائي: ليس بثقة. وقال صالح بن محمّد البغدادي: كانَ يضع الحديث. وقال ابن حبّان: كان يتفرَّد عن الثقات بالموضوعات لا يحلُّ الاحتجاج بخبره. وقال ابن عدي: روى عن الليث وغيره أحاديث مناكير وأورد له أحاديث من روايته عن الليث عن يزيد ثمَّ قال: وهذه الأحاديث كلّها باطلةٌ، وعندي إنّه وضعها على الليث ونسخة الليث عن يزيد عندنا ليس فيها من هذا شيءٌ وله غير ما ذكرت وعامّتها أو كلّها موضوعةٌ، وهو بيّن الأمر من الضعفاء، وعن أحمد بن حنبل أنّه قال: أحاديثه موضوعةٌ. الخ.

قال الأميني: إقرأ ثمَّ انظر إلى أمانة الحافظ المحبّ الطبري يروي هذه الأُكذوبة محذوف الاسناد مرسِلاً إيّاها إرسال المسلّم ويعدّها من فضائل أبي بكر، وتبعه في جنايته هذه غير واحد من المؤلِّفين، وهم يحسبون إنّهم يحسنون صنعاً، ويحسبون إنّهم على شيء ألا إنّهم هم الكاذبون.

- ٧٠ -

الآيات النازلة في أبي بكر

قال العبيدي المالكي في عمدة التحقيق ص ١٣٤: عن الشيخ زين العابدين البكري إنّه لما قرأت عليه قصيدة جدِّه محمّد البكري ومنها:

____________________

١ - يعني حديث سهل.

٢ - الإصابة ٢: ٩٠.

٤٨

لإن كان مدح الأوَّلين صحائفاً

فإنّا لِآيات الكتاب فواتحُ

قال المراد: بأوَّل الكتاب: ألم ذلك الكتاب. فالألف أبو بكر، واللام لله، والميم محمّد.

وذكر البغوي: إنَّ المراد من قوله تعالى:( وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ) (١) هو أبو بكر

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى:( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ ) : إنّه الصدّيق. قال الشيخ محمّد زين العابدين: كان للصدِّيق ثلثمائة كرسي وستون كرسيّاً على كلِّ كرسي حلّة بألف دينار.

قال الأميني: هاهنا نُنهي البحث عن فضائل أبي بكر، ولا يسعنا الولوج في الكلام حول الآيات التي تقوَّل القوم نزولها فيه، وقد حرَّفوا آياً كثيرة، وقالوا في كتاب الله ما سوَّلت لهم الميول والشهوات، وراقهم الغلوُّ في الفضائل لدة ما سمعت من المخازي، كما لا نفيض القول في الغلوِّ الفاحش فيه بالقريض مثل قول الشاعر العلّامة الملّا حسن أفندي البزّاز الموصلي في ديوانه ص ٤٢:

إنَّ قدر الصدِّيق جلَّ فأضحى

كلُّ مدحٍ مقصَّراً عن عُلاهُ

ليت شعري ما قيمة الشعر فيمن

جاء في محكم الكتاب ثناهُ؟

كلُّ من في الوجود يبغي رضا

الله تعالى والله يبغي رضاهُ

وقوله في مدحه أيضا:

إنَّ ذكر الصدِّيق ما دار إلّا

ملأ الكون هيبةً ووقارا

صاحب الغار كان للسيِّد

المختار والله صاحباً مختارا

تاهَ في ذكره الوجود فلولا

هيبة منه أو قرته لطارا

نعم لنا حقّ النظر في ثروة أبي بكر التي منحوه بها، فكانت من جرّائها له المنن على رسول الله وعلى الدين والمسلمين، تلك الثروة الطائلة التي هيئت له ألف ألف أوقية - كما جاء فيما أخرجه النسائي(٢) عن عائشة قالت: فخرت بمال أبي في الجاهليَّة وكان ألف ألف

____________________

١ - سورة لقمان: ١٥.

٢ - ميزان الاعتدال ٢: ٣٤١، تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٥.

٤٩

أوقية(١) - ونضَّدت له ثلثماة وستّين كرسيّاً في داره، وأسدلت على كلِّ كرسي حلّة بألف دينار، كما سمعته عن الشيخ محمّد زين العابدين البكري، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمّل من لوازم وآثار، وأثاث ورياش، ومناضد وأواني وفرش، لا تقصر عنها في القيمة، وما يلزم من خَدم وحشم، وقصور شاهقة، وغرف مشيَّدة، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواشي وضيعة وعقار، إلى غيرها من توابع الجاه والمال.

أنا لا أدري أيّ باحة كانت تقلّ ذلك كلّه؟ ولم يفز بمثلها يومئذ أحدٌ من ملوك الدنيا، وهل كانت الكراسي المذكورة منضَّدة في غرفة واحدة؟ فما أكبرها من غرفة؟ تضاهي ميادين القتال، ومفازات البراري، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها؟ وأيّ يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي، ولِمَ لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليوم ركزا؟ أكان في أفواه الجالسين عليها أوكية عن نقل شيء من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد العظيم المتكرّر في كلِّ أسبوع، وعلى الأقلِّ في كلِّ شهر. وأقلّ منه في كلِّ سنة، ولا أقلّ من إنعقاده في العمر مرَّة، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره، ولا يستسهل المؤرّخ تركه، لكنك بالرغم من ذلك كلّه لا تجد عنه إلّا همساً يتخافت به العبيدي بعد لأي من عمر الدهر.

ومن أيِّ حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل على الرجل مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذ يوم فاقة لقريش، وكانوا كما وصفتهم الصديقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه: كنتم تشربون الطرق(٢) وتقتالون الورق، أذلَّة خاشعين تخافون أن يتخطَّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله(٣) .

ولعلَّ في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوَّة ص ١٤٦ من طريق مالك بن أنس إنَّه بلغه إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله

____________________

١ - الأوقية: أربعون درهماً.

٢ - الطرق بفتح المهملة: الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب.

٣ - بلاغات النساء ص ١٣، أعلام النساء ٣: ١٢٠٨.

٥٠

عنهما فسألهما فقال: ما أخرجكما؟ فقالا: أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيها فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل. الحديث.

ثمَّ متى أدركت عائشة العهد الجاهلي؟ وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين(١) وهل كانت تفخر في دور الاسلام بثروة بائدة في الجاهليَّة وصاحبها جائعٌ في الحال الحاضر؟.

ولست أدري ما الذي قضى على تلكم الآلاف المؤلَّفة؟ وما الذي أفناها وأبادها وأفقر صاحبها؟ حتّى أصبح ولا يملك شيئاً، أو كان لا يملك يوم هجرته إلّا أربعة أو خمسة أو ستة آلاف من الدراهم - إن كان ملكها - ولو كان أنفق أيّ أحدُ عشر معشار ذلك المال لدوَّخ العالم صيته، وكان يومئذ يُعدُّ في الرعيل الأوَّل من أجواد الدنيا ولم يوجد في صحيفة التاريخ ذكر من تلكم الآلاف والكراسي والحلل، هب أنّ الذهبي قال في حديث عائشة: ألف الثانية باطلة قطعاً فإنَّ ذلك لا يهيَّأ لسلطان العصر. وأقرَّ ابن حجر تعقيبه في تهذيب التهذيب(٢) فأين قصَّة ألف أوقية الصحيحة في صحائف التاريخ؟.

وإن صحَّت الأحلام، وصُدِّقت هذه القصص الوهميَّة، وكان لأبي بكر ذلك المال الطائل الخيالي لَما افتقر أبو قحافة والده لأن يكون أجير عبد الله بن جذعان للنداء على طعامه، ولم يكن يقتني بتلك الخسَّة لماظةً من العيش كما قاله الكلبي في المثالب وأشار إليه أُميَّة بن الصلت في قصيدة يمدح بها ابن جذعان بقوله:

له داعٍ بمكّة مشمعلّ

وآخر فوق دارته ينادي

إلى ردحٍ من الشيزى عليها

لباب البرّ يلبك بالشهادِ(٣)

قال الكلبي: المشمعل هو: سفيان بن عبد الأسد. وآخر: أبو قحافة، وفي تعليق مسامرة الأوائل ص ٨٨: يقال: إنَّ الداعي هو أبو قحافة والد الصدِّيق.

____________________

١ - الإصابة ٤: ٣٥٩، ويستفاد ذلك من صحيح البخاري في باب زواج عائشة، وتاريخ ابن عساكر ١: ٣٠٤، والاستيعاب.

٢ - ميزان الاعتدال للذهبي ٢: ٣٤١، تهذيب التهذيب ٨: ٣٢٥.

٣ - مثالب الكلبي، الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ٨: ٤، مسامرة الأوائل ص ٨٨.

٥١

بل يحقُّ على صاحب ألف ألف أوقية، وثلثمائة وستين كرسيّاً محلّىً بالديباج أن ينادي على الطعام في دور ضيافته عشرة مثل أبي قحافة فضلاً عن أن يكون أجير أناس آخرين بدراهم زهيدة، أو بشبع من الطوى.

وإن كان لأبي بكر عندئذ ما حسبوه من الثروة أو شطرٌ منها لما احتاج إلى أن يبتاع للهجرة مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلتين بثمانمائة درهم(١) ثمَّ قدَّم إحديهما لرسول الله صلى الله عليه وآله فلم يقبلها إلّا بالثمن، وقال صلى الله عليه وآله: إنِّي لا أركب بعيراً ليس لي، قال أبو بكر: فهو لك يا رسول الله! بأبي أنت وأُمِّي قال: لا، ولكن ما الثمن الذي إبتعتها به؟ قال: كذا وكذا قال: قد أخذتها بذلك(٢) .

ولم يكن ردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله إيّاها إلّا لضعف حال أبي بكر من ناحية المال، أو إنَّه لم يرقه أن يكون لأحد عليه منّة حتّى لا يُفتعل عليه بعد ملاوة من الدهر بقول مَن افتعل عليه: إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر. كما مرَّ في ص ٣٣ من هذا الجزء.

على إنَّ للنظر في رواية الراحلتين مجالاً واسعاً بما رواه ابن الصباغ في الفصول المهمَّة والحلبي في السيرة ٢: ٤٤ من أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمر أسماء بنت أبي بكر أن تأتي عليّاً وتخبر بموضعهما وتقول له: يستأجر لهما دليلاً ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضيِّ ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة، فجاءت أسماء إلى عليّ كرّم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلاً يقال له: الأُريقط بن عبد الله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل، فجاء بهنَّ إلى أسفل الجبل ليلاً فلمّا سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه.

وفيه صراحة بأنَّه لم تكن هناك راحلتين لأبي بكر معبَّأتين بركوبهما، وإنَّما جئ بالرواحل مستأجرة، وقد جمع الحلبي بين هذا وبين حديث الراحلتين بأنَّ المراد باستيجار عليّ رضي الله عنه إعطاؤه الأجرة. وهذا الجمع يأباه لفظ الحديثين كما ترى.

____________________

١ - طبقات ابن سعد ١: ٢١٢ تاريخ ابن كثير ٣: ١٧٧، ١٧٨.

٢ - صحيح البخاري ٦: ٤٧ تاريخ الطبري ٢: ٢٤٥، سيرة ابن هشام ٣: ٩٨، ١٠٠، طبقات ابن سعد ١: ٢١٣، تاريخ ابن كثير ٣: ١٨٤ ١٨٨.

٥٢

ولقد روي كما يأتي إنَّ الذي استصحبه أبو بكر من المال - يوم هاجر من المدينة - وهو كلُّ ما يملكه أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، فأين هذا من الألف ألف أُوقية؟ والكراسي المذكورة وحللها المقوَّمة بثلاثمائة وستين ألف دينار وما يتبعها؟ وأيّ نسبة بين صاحب تلك الثروة وبين ما لا يملك إلّا هذه الدراهم المعدودة؟

وأيّ نسبة بينها وبين أيَّامه وأيَّام أبيه بمكّة وبين ما كان يحترف به في المدينة من بيع الابراد والأقمشة على عنقه وعلى صاعده وحرفةً ضئيلة يدور بها في الأزقَّة و الأسواق من دون أن يستقرَّ في متجر أو حانوت.

أخرج ابن سعد من طريق عطاء قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتَّجر بها فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا؟ وقد وليت أمر المسلمين. قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتّى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كلَّ يوم شطر شاة وما كسوه في الرأس والبطن.

وروى من طريق عمير بن إسحاق: إنَّ رجلاً رأى على عنق أبي بكر الصديق عباءة فقال: ما هذا؟ هاتها أكفيكها. فقال: إليك عنّي لا تغرَّني أنت وابن الخطاب من عيالي.

وفي لفظ آخر لابن سعد أيضاً: إنَّ أبا بكر لما استخلف راح إلى السوق يحمل أبراداً له وقال: لا تغرّوني من عيالي.

وفي لفظ الحلبي. لَمّا بويع أبو بكر بالخلافة أصبح رضي الله عنه على ساعده قماشٌ وهو ذاهبٌ إلى السوق فقال له عمر: أين تريد؟. الخ(١) .

ثمَّ متى كان إنفاقه لثروته الطائلة على النبيِّ صلى الله عليه وآله وفي مناجحه ومصالحه، حتّى كان به أمنَّ الناس عليه بماله؟ وكيف أنفق ولم يره أحد ولا رواه أيّ ابن أُنثى؟ ولِمَ لم يذكر التاريخ مورداً من موارد نفقاته؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة للنبيِّ صلى الله عليه وآله مع ردِّه إيّاها وأخذه ثمنها، كما حفظ لكلِّ مَن أنفق شيئاً في مهمّات الرسول

____________________

١ - راجع طبقات ابن سعد ط ليدن ٣: ١٣٠: ١٣١، صفة الصفوة لابن الجوزي ١: ٩٧، السيرة الحلبية ٢: ٣٨٨.

٥٣

صلى الله عليه وآله وسلم وغزواته ومصالح الاسلام والمسلمين.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتاجه في شخصيّاته وما يتعلّق بها بمكّة قبل الهجرة فإنَّ عمَّه أبا طالب سلام الله عليه كان متكفِّلاً لذلك كلّه قبل زواجه بخديجة، وبعده كان مال خديجة تحت يده وهي في طوعه، وإنَّما وقعت الحاجة بعد الهجرة لتوسّع نطاق الاسلام، وتمطُّط أمره فكان يحتاج إلى تجهيز الجيوش وقيادة العساكر، وهؤلاء رجال بني سالم بن عوف، ورجال بني بياضة، ورجال بني ساعدة وفي مقدّمهم سعيد بن عبادة، ورجال بني الحرث بن الخزرج، ورجال بني عديّ أخوال رسول الله الأكرمين كلٌّ منهم رفع عقيرته يوم دخوله صلى الله عليه وآله المدينة بقوله هلّم إلينا إلى العَدَد والعُدّة والمنعة(١) .

ولم يكن عند أبي بكر يومئذ من المال غير ما جاء به من مكة أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهماً - إن كان جاء به وأنّى لك بإثباته؟ - وما عساها أن تجدي نفعاً وما هي وما قيمتها تجاه ذلك السلطان العظيم؟ لكنّا مع غضّ النظر عن ذلك نسائل أيضاً مدَّعي الانفاق إنَّه متى أنفقها؟ وفي أيِّ مصرف أدرَّها؟ وفي أيِّ أمر بذلها؟ ولأيِّ حاجة سمح بها؟ ولِمَ خفي ذلك على خلق الله من أولئك الصحابة؟ ولماذا عزب عن المؤرِّخين؟ فلم يسطروها في صحائف التاريخ ولا ذكروها في فضائل الخليفة، وهل قام عمود الاسلام وتمَّ أمره بهذه الدريهمات المجهول مصرفها؟ وعاد أبو بكر أمنَّ الناس على رسول الله بماله؟.

والعجب كلّ العجب إنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كانت له أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم جهراً، فأنزل الله فيه القرآن فقال:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢) سورة البقرة ٢٧٤.

____________________

١ - أسلفنا حديثه في الجزء السابع ص ٢٦٩.

٢ - أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر وابن جرير. راجع تفسير القرطبي ٣: ٣٤٧، تفسير البيضاوي ١: ١٨٥، تفسير الزمخشري ١: ٢٨٦، تفسير الرازي ٢: ٣٦٩، تفسير ابن كثير ١: ٣٢٦، تفسير الدر المنثور ١: ٣٦٣، تفسير الخازن ١: ٢٠٨، تفسير الشوكاني ١: ٢٦٥، تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٥٤

وهو سلام الله عليه تصدَّق بخاتمه للسائل فذكره تعالى في كتابه العزيز بقوله:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (١) سورة المائدة: ٥٥.

وأطعم هو وأهله مسكيناً ويتيماً وأسيراً فأنزل الله فيهم قوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) «سورة هل أتى» وقد أسلفنا تفصيل أمرهم هذا في الجزء الثالث ص ١٠٦ - ١١١ ط ٢.

وأمّا أبو بكر فينفق جميع ماله في سبيل الله ويراه النبيُّ الأعظم أمنَّ الناس عليه في صحبته وماله، ولم يوجد له مع ذلك كلّه ذكرٌ في الكتاب العزيز، هذا لماذا؟ أنت تدري.

والأعجب: أنَّ أبا بكر غدا أمنَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله بإنفاق أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهماً - إن كانت له - ولم يكن عثمان كذلك وقد أنفق أضعاف ما أنفقه أبو بكر، وبعث إلى رسول الله في غزوة بعشرة آلاف دينار كما جاء في مكذوبة أبي يعلى(٢) فوضعها بين يديه فجعل صلى الله عليه وآله وسلم يقلّبها ويدعو له بقوله: غفر الله لك يا عثمان! ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة(٣) ، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها.

وإنِّي أرى الأنجح للمدَّعي أن يسحب كلامه ويقول: لا أعلم بشيء من ذلك، ولا أُثبت شيئاً منه، وإنّما اختلقه الغلوُّ في الفضائل.

ولعلَّ الباحث يقف على ما أخرجه الحافظان: الحاكم وأبو نعيم أو على ما جاء به البيضاوي والزمخشري، فيقع ذلك منه موقعاً حسناً ويطالبني المخرج منه، فإليك البيان:

أمّا الأخيران فقد ذكر البيضاوي في تفسيره ١: ١٨٥، والزمخشري في الكشاف ١: ٢٨٦: إنَّ قوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللّيلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ

____________________

١ - راجع ما مرَّ في الجزء الثاني ص ٤٧ و ج ٣: ١٥٥ - ١٦٣ ط ٢.

٢ - أخرجه بإسناد واه وذكره ابن كثير في تاريخه ٧: ٦١٢.

٣ - هذه الجملة توهن متن الرواية، وتعرب عن إنها مكذوبة على رسول الله:

٥٥

عِندَ رَبّهِمْ ) . الآية. نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسرِّ، وعشرة بالعلانية.

هذه المرسلة التي لم أعرف قائلها ومن الصحابة والتابعين ولم أقف على عزوها إلى أحد من السلف في كتب القوم إلّا سعيد بن المسيّب المعروف بانحرافه عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، اختلقتها يد الوضع تجاه ما أخرجه الحفّاظ من نزولها في عليّ أمير المؤمنين ومنحت فيها لأبي بكر أربعين ألف دينار لتقريب نزول الآية فيمن أنفق كميَّة كبيرة كهذه إلى فهم بسطاء الأُمَّة دون مُنفق أربعة دراهم، ذاهلاً عمّا هو المتسالم عليه عند القوم من أخذ أبي بكر يوم هجرته إلى المدينة أربعة أو خمسة أو ستة آلاف درهم، وهي جميع ما كان يملكه. والآية المذكورة في سورة البقرة، وقد أصفقت أئمَّة الحديث والتفسير على نزولها بالمدينة في أُوليات الهجرة(١) . قال ابن كثير في تفسيره: هكذا قال غير واحد من الأئمَّة والعلماء والمفسِّرين، ولا خلاف فيه. فأنّى لأبي بكر عند نزول الآية الأربعون ألف ديناراً؟ تصدَّق بها أم لم يتصدَّق، ولم يكن يملك إلّا دريهمات إن صحَّ حديثها أيضاً، وستعرف إنَّه لا يصحُّ.

تعقّب السيوطي هذه المرسلة بقوله: خبر إنَّ الآية نزلت فيه لم أقف عليه، وكأنَّ من ادَّعى ذلك فهمه ممّا أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قُبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمَّ قال: أيّها الناس إنَّ بعض الطمع فقرٌ، وإنَّ بعض اليأس غنى، وإنَّكم تجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أنَّ بعضاً من الشحِّ شعبةٌ من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرأ الآية الكريمة، وأنت تعلم أنَّها لا دلالة فيها على المدَّعى.اهـ(٢)

وجاء مختلقٌ آخر(٣) فروى عن سعيد بن المسيِّب مرسلاً من الطرفين: إنَّ الآية

____________________

١ - تفسير القرطبي ١، ١٣٢، تفسير ابن كثير ١: ٣٥، تفسير الخازن ١: ٩١، تفسير الشوكاني ١: ٦١.

٢ - راجع تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٣ - راجع تفسير الشوكاني ١: ٢٦٥، تفسير الآلوسي ٣: ٤٨.

٥٦

المذكورة نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرَّحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة يوم غزوة تبوك.

وذكر الرازي في تفسيره ٢: ٣٤٧ فقال: إنَّ اللتي نزلت في عثمان لإنفاقه جيش العسرة هي قوله تعالى:( الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلاَ أَذىً ) . الآية.

وقد أعمى الحبُّ بصائر القوم، فحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا في كتاب الله ما زيَّن لهم الشيطان، خفي على المغفَّلين إنَّ الآيتين من سورة البقرة آية ٢٦٢ و٢٧٤ وهي أوَّل سورة نزلت بالمدينة المشرَّفة كما قاله المفسِّرون(١) وقد نزلت قبل غزوة تبوك وجيشها - جيش العسرة الواقعة في شهر رجب سنة تسع - بعدَّة سنين، فلا يصحُّ نزول أيّ من الآيتين في عثمان.

*(وأمّا ما أخرجه الحافظان)*

١ - فأخرج أبو نعيم في الحلية ١: ٣٣ عن محمّد بن أحمد بن محمّد الورّاق عن إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي عن سلمة بن حفص السعدي عن يونس بن بكير عن محمّد بن إسحق عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كانت يد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مال أبي بكر ويد أبي بكر واحدة حين حجّا.

*(رجال السند)*:

١ - محمّد بن أحمد الورّاق. كذَّبه أبو بكر بن إسحاق قاله الحاكم. لسان الميزان ٥: ٥١.

٢ - إبراهيم بن عبد الله المخرمي قال الدار قطني: ليس بثقة حدَّث عن الثقات بأحاديث باطلة. لسان الميزان ١: ٧٢.

٣ - سلمة بن حفص السعدي، شيخٌ كوفيٌّ قال ابن حبان: كان يضع الحديث فذكر له حديثاً منكراً. وقال: لا يحلُّ الاحتجاج به ولا الرواية عنه. وروى عنه حديثاً فقال: لا أصل له. لسان الميزان ٣: ٦٧.

____________________

١ - راجع تفسير القرطبي ١: ١٣٢، تفسير الخازن ١: ١٩، تفسير الشوكاني ١: ١٦.

٥٧

٢ - أخرج الحاكم في المستدرك ٣: من طريق أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمّد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما توجَّه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة ألف أو ستة ألف(١) درهم فأتاني جدّي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: إنَّ هذا والله قد فجعكم بماله مع نفسه، فقلت: كلّا يا أبت! قد ترك لنا خيراً كثيراً، فعمدت إلى أحجار فجعلتهنَّ في كوَّة البيت، وكان أبو بكر يجعل أمواله فيها وغطَّيت على الأحجار بثوب ثمَّ جئت فأخذت بيده فوضعتها على الثوب فقال: أمّا إذا ترك هذا فنعم قالت: ووالله ما ترك قليلاً ولا كثيراً.

*(رجال السند)*:

١ - أحمد بن عبد الجبار أبو عمر الكوفي. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه وأمسكت عن الرواية عنه لكثرة كلام الناس فيه، وقال مطين: كان يكذب. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويِّ عندهم تركه ابن عقدة. وقال ابن عدي: رأيت أهل العراق مجمعين على ضعفه، وكان ابن عقدة لا يحدِّث عنه. وكان أحمد يلعب بالحمام الهدّى(٢) .

٢ - محمّد بن إسحاق. أسلفنا في الجزء السابع صفحة ٣١٩ ط ٢ كلمات الحفّاظ فيه وإنَّه كذّابٌ دجّالٌ مدلّسٌ لا يحتجُّ به.

٣ - أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء ١: ٣٢: من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أرقم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق ووافق ذلك مال عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: ما أبقيت لأهلك؟ قال: فقلت: مثله وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أُسابقك إلى شيء أبداً.

ورواه من طريق عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر.

كفى الاسناد ضعفاً هشام بن سعد أبو عباد المدني. كان يحيى بن سعد لا يروي عنه

____________________

١ - كذا في الموضعين والصحيح: آلاف. كما في جميع المصادر.

٢ - تاريخ الخطيب ٤: ٢٦٣، تهذيب التهذيب ١: ٥١.

٥٨

وعن أحمد قال: ليس هو محكم الحديث. وقال حرب: لم يرضه أحمد، وقال ابن معين: ضعيفٌ، ليس بذلك القوي. ليس بشيء حديثه مختلط، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال النسائي: ضعيفٌ. وقال مرّة: ليس بالقويِّ. وقال ابن سعد: كثير الحديث يستضعف وكان متشيِّعاً. وقال ابن المديني: صالحٌ وليس بالقويِّ. وقال الخليلي: أنكر الحفّاظ حديثه في المواقع. وذكره ابن سفيان في الضعفاء(١) .

وأمّا عبد الله بن عمر العمري فقال أبو زرعة الدمشقي عن أحمد: كان يزيد في الأسانيد ويخالف وكان رجلاً صالحاً. وقال ابن المديني: ضعيفٌ. وعن يحيى بن سعيد: لا يحدَّث عنه. وقال صالح جزرة: لين مختلط الحديث. وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد. كثير الحديث يستضعف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وقال ابن حبان: كان ممَّن غلب عليه الصَّلاح حتّى غفل عن الضبط فاستحق الترك. وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن شيبة: يزيد في الأسانيد كثيراً(٢)

وأمّا زيد بن أرقم فالصحيح: زيد بن أسلم مولى عمر ففي النسخة تصحيفٌ.

( لَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ

ـ وَإِذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ

سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )

«القصص: ٥١، ١٥٥»

____________________

١ - تهذيب التهذيب ١١: ٤٠.

٢ - تهذيب التهذيب ٥: ٣٢٧.

٥٩

الغلو في فضايل عمر

قدَّمنا في الجزء السّادس من نفسيّات الخليفة الثاني وملكاته من فقهه وعلمه وعمله وخطواته الواسعة في شتَّى النواحي ما يوقفك على أنَّ كلّ ما نسرد هاهنا من ولائد الغلوّ في الفضائل، وقد إلتمط بحياته الروحيَّة من أوَّل يومه إلى أن تسنَّم عرش الخلافة بإدلاء من الخليفة الأوَّل إليه حصوله على لماظة من العيش يقتاب بها.

كان ردحاً من الزمن يرعى الإبل في وادي ضجنان(١) يُرعب ويُتعب إذا عمل. ويُضرب إذا قصر(٢) .

وآونةً كان يحتطب ويحمل فوق رأسه حزمة من الحطب مع أبيه الخطاب وما منهما إلّا في نمرة(٣) لا يبلغ(٤) رسغيه(٥) .

وكان مدّةً يقف في سوق عكاظ وبيده عصا ترع الصبيان به، وكان يوم ذاك يُسمّى عميراً(٦) .

وكان برهةً من أيّام إسلامه يمتهن بالبرطشة، وكان مبرطشاً يلهيه عن أخذ الكتاب والسَّنة الصفق بالأسواق(٧) .

____________________

١ - جبل بناحية مكة.

٢ - الاستيعاب ٢: ٤٢٨، الرياض النضرة ٢: ٥٠، تاريخ أبي الفدا ج ١: ١٦٥، الخلفاء للنجار ص ١١٣، وأوعز إلى حديثه ابن منظور في لسان العرب ١٧: ١١٢، والزبيدي في تاج العروس ٩: ٢٦٢.

٣ - النمرة في القاموس: بردة من صوف تلبسها الأعراب. وفي الفائق للزمخشري: بردة تلبسها الإماء فيها تخطيط.

٤ - الرسغ: مفصل ما بين الساعد والكتف، والساق والقدم.

٥ - العقد الفريد ١: ٩١، شرح ابن أبي الحديد ١: ٥٨، فائق الزمخشري ٢: ٢٨.

٦ - الاستيعاب هامش الإصابة ٤: ٢٩١، الإصابة ٤: ٢٩، الفتوحات الإسلامية ٢: ٤٢٣، وفيه تحريف نلفت إليه الأنظار.

٧ - مرَّ تفصيله في الجزء السادس ص ١٤٦، ٢٨٧، ٣٠٢ ط ١.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) إلخ فسّر الصرصر بالريح الشديدة السموم، و بالريح الشديدة البرد، و بالريح الشديدة الصوت و تلازم شدّة الهبوب، و النحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحساً خلاف سعد فالأيّام النحسات الأيّام المشؤمات.

و قيل: أيّام نحسات أي ذوات الغبار و التراب لا يرى فيها بعضهم بعضاً، و يؤيّده قوله في سورة الأحقاف:( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف: ٢٤.

و قوله:( وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ ) أي لا منج ينجيهم و لا شفيع يشفع لهم. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏ ) إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق و دلالتهم على الحقّ ببيان حقّ الاعتقاد و العمل لهم، و المراد بالاستحباب الإيثار و الاختيار، و لعلّه بالتضمين و لذا عدّي إلى المفعول الثاني بعلى و المراد بالعمى الضلال استعارة، و في مقابله الهدى له إيماء إلى أنّ الهدى بصر كما أنّ الضلالة عمى، و الهون مصدر بمعنى الذلّ و توصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي و التقدير صاعقة العذاب ذي الهون.

و المعنى: و أمّا قوم ثمود فدللناهم على طريق الحقّ و عرّفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الّذي هو عمى على الهدى الّذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلّة - أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب و الإضافة بيانيّة - بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ( وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) ضمّ التقوى إلى الإيمان معبّراً عن التقوى بقوله:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) الدالّ على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان و العمل الصالح و ذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله:( ‏وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧.

و الظاهر أنّ الآية متعلّقة بالقصّتين جميعاً متمّمة لهما و إن كان ظاهر المفسّرين

٣٨١

تعلّقها بالقصّة الثانية.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ) الحشر إخراج الجماعة عن مقرّهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها. كذا قال الراغب، و( يُوزَعُونَ ) من الوزع و هو حبس أوّل القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.

قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال و الحساب، و جعل النار غاية لحشرهم لأنّ عاقبتهم إليها، و الدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنّها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.

و قيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها و من الممكن أن يستشهد عليهم مرّتين مرّة في الموقف و مرّة على شفير جهنّم و هو كما ترى.

و المراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذّبون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مشركي قومه لا مطلق الكفّار و الدليل عليه قوله الآتي:( وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ ) الآية.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ( ما ) في( إِذا ما جاؤُها ) زائد للتأكيد و الضمير للنار.

و شهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها و إخبارها ما تحمّلته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحمّلته، و لو لا التحمّل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعوراً و نطقاً يوم القيامة فعلمت ثمّ أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتاً يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، و لا تمّت بذلك على العبد المنكر حجّة و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إنّ الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علماً و قدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها و هو شهادتها و قول بعضهم: إنّه يخلق عندها أصواتاً في صورة كلام مدلوله الشهادة، و كذا قول بعضهم: إنّ معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائيّة منهم.

و ظاهر الآية أنّ شهادة السمع و البصر أداؤهما ما تحمّلاه و إن لم يكن معصية

٣٨٢

مأتيّاً بها بواسطتهما كشهادة السمع أنّه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنّه سمع صاحبه يتكلّم بكلمة الكفر، و شهادة البصر أنّه رأى الآيات الدالّة على وحدانيّة الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنّه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حدّ قوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: ٣٦.

و على هذا يختلف السمع و الأبصار و الجلود فيما شهدت عليه فالسمع و الأبصار تشهد على معصية العبد و إن لم تكن بسببهما و الجلود تشهد على المعصية الّتي كانت هي آلات لها بالمباشرة، و هذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم:( لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) على ما سيجي‏ء.

و المراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود و شهادتها على أنواع المعاصي الّتي تتمّ بالجلود من التمتّعات المحرّمة كالزنا و نحوه، و يمكن حينئذ أن تعمّم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي و الأرجل المذكورة في قوله:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: ٦٥ على بعد.

و قيل: المراد بالجلود الفروج و قد كنّي بها عنها تأدّباً.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) اعتراض و عتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، و قيل: الاستفهام للتعجّب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجّب و إنّما خصّوها بالسؤال دون سمعهم و أبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأنّ الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسباباً و آلات مباشرة له بخلاف السمع و الأبصار فإنّها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.

و قيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم و زيادة تشنيع و فضاحة و خاصّة لو كان المراد بالجلود الفروج و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ إرجاع ضمير اُولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة و النطق إليها و ذلك من شؤن اُولي العقل.

و المتيقّن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوّز هو إظهار ما

٣٨٣

في الضمير من طريق التكلّم فيتوقّف على علم و كشفه لغيره، قال الراغب: و لا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلّا تبعا و بنوع من التشبيه و ظاهر سياق الآيات و ما فيها من ألفاظ القول و التكلّم و الشهادة و النطق أنّ المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.

فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقاً و تكلّماً حقيقة عن علم تحمّلته سابقاً بدليل قولها:( أَنْطَقَنَا اللهُ ) . ثمّ إنّ قولها:( أَنْطَقَنَا اللهُ ) جواباً عن قول المجرمين:( لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ) ؟ إراءة منها للسبب الّذي أوجب نطقها و كشف عن العلم المدّخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجأة إلى التكلّم و النطق، و لا يضرّ ذلك نفوذ شهادتها و تمام الحجّة بذلك فإنّها إنّما اُلجئت إلى الكشف عمّا في ضميرها لا على الستر عليه و الإخبار بخلافه كذباً و زوراً حتّى ينافي جواز الشهادة و تمام الحجّة.

و قوله:( الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) توصيف لله سبحانه و إشارة إلى أنّ النطق ليس مختصّاً بالأعضاء حتّى تختصّ هي بالسؤال بل هو عامّ شامل لكلّ شي‏ء و السبب الموجب له هو الله سبحانه.

و قوله:( وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) من تتمّة الكلام السابق أو هو من كلامه، و هو احتجاج على علمه بأعمالهم و قد أنطق الجوارح بما علم.

يقول: إنّ وجودكم يبتدئ منه تعالى و ينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم - و هو خلقكم أوّل مرّة - يعطيكم الوجود و يملّككم الصفات و الأفعال فتنسب إليكم ثمّ ترجعون و تنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلّا و هو لله سبحانه.

فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أوّلاً و آخراً فما عندكم من شي‏ء في أوّل وجودكم هو الّذي أعطاكموه و ملّكه لكم و هو أعلم بما أعطى و أودع، و ما عندكم من شي‏ء حينما ترجعون إليه هو الّذي يقبضه منكم إليه و يملكه فكيف لا يعلمه، و انكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم و شهادتكم على أنفسكم عنده.

و بما مرّ من البيان يظهر وجه تقييد قوله:( وَ هُوَ خَلَقَكُمْ ) بقوله:( أَوَّلَ مَرَّةٍ ) فالمراد به أوّل وجودهم.

٣٨٤

و لهم في قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ ) في معنى الإنطاق نظائر ما تقدّم في قوله:( شَهِدَ عَلَيْهِمْ ) من الأقوال فمن قائل: إنّ الله يخلق لهم يومئذ العلم و القدرة على النطق فينطقون، و من قائل: إنّه يخلق عند الأعضاء أصواتاً شبيهة بنطق الناطقين و هو المراد بنطقهم، و من قائل: إنّ المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.

و كذا في عموم قوله:( أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) فقيل: هو مخصّص بكلّ حيّ نطق إذ ليس كلّ شي‏ء و لا كلّ حيّ ينطق بالنطق الحقيقيّ و مثل هذا التخصيص شائع و منه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد:( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الأحقاف: ٢٥.

و قيل: النطق في( أَنْطَقَنَا ) بمعناه الحقيقيّ و في قوله:( أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.

و يرد عليهما أنّ تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازيّ مبنيّ على تسلّم كون غير ما نعدّه من الأشياء حيّاً ناطقاً كالإنسان و الحيوان و الملك و الجنّ فاقداً للعلم و النطق على ما نراه من حالها.

لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور و الإرادة سوى أنّا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطّلاع على حقيقة حالها، و الآيات القرآنيّة و خاصّة الآيات المتعرّضة لشؤن يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.

( بحث إجمالي قرآني)

( في سراية العلم)

كرّرنا الإشارة في الأبحاث المتقدّمة إلى أنّ الظاهر من كلامه تعالى أنّ العلم صار في الموجودات عامّة كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: ٤٤ فإنّ قوله:( وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ ) نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم و إرادة لا بلسان الحال.

و من هذا القبيل قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) و قد تقدّم تفسيره في السورة.

٣٨٥

و من هذا القبيل قوله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الأحقاف: ٦ فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي و غيرها، و قوله:( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥.

و من هذا القبيل الآيات الدالّة على شهادة الأعضاء و نطقها و تكليمها لله و السؤال منها و خاصّة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفاً من قوله:( أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الآية.

لا يقال: لو كان غير الإنسان و الحيوان كالجماد و النبات ذا شعور و إرادة لبانت آثاره و ظهر منها ما يظهر من الإنسان و الحيوان من الأعمال العلميّة و الأفعال و الانفعالات الشعوريّة.

لأنّه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتّى تتشابه الآثار المترشّحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.

على أنّ الآثار و الأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات و سائر الأنواع الطبيعيّة في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها و نظمها و ترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان و الحيوان.

( بحث إجمالي فلسفي)

( في سراية العلم)

حقّق في مباحث العلم من الفلسفة أنّ العلم و هو حضور شي‏ء لشي‏ء يساوق الوجود المجرّد لكونه ما له من فعليّة الكمال حاضراً عنده من غير قوّة فكلّ وجود مجرّد يمكنه أن يوجد حاضراً لمجرّد غيره أو يوجد له مجرّد غيره و ما أمكن لمجرّد بالإمكان العامّ فهو له بالضرورة.

فكلّ عالم فهو مجرّد و كذا كلّ معلوم و ينعكسان بعكس النقيض إلى أنّ

٣٨٦

المادّة و ما تألّف منها ليس بعالم و لا معلوم.

فالعلم يساوق الوجود المجرّد، و الوجودات المادّيّة لا يتعلّق بها علم و لا لها علم بشي‏ء لكنّ لها، على كونها مادّيّة متغيّرة متحرّكة لا تستقرّ على حال، ثبوتاً من غير تغيّر و لا تحوّل لا ينقلب عمّا وقع عليه.

فلها من هذه الجهة تجرّد و العلم سار فيها كما هو سار في المجرّدات المحضة العقليّة و المثاليّة فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ ) إلخ لا شكّ أنّ الله سبحانه خالق كلّ شي‏ء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه و بينه شي‏ء و لا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كلّ شي‏ء أينما كان و كيفما كان قال تعالى:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) الحجّ: ١٧ و قال:( وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رَقِيباً ) الأحزاب: ٥٢.

فالإنسان أينما كان كان الله معه، و أيّ عمل عمله كان الله مع عمله، و أيّ عضو من أعضائه استعمله و أيّ سبب أو أداة أو طريق اتّخذه لعمله كان مع ذلك العضو و السبب و الأداة و الطريق قال تعالى:( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) الحديد: ٤، و قال:( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) الرعد: ٣٣، و قال:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و من هنا يستنتج أنّ الإنسان - و هو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كلّ منها ربّه و يرقبه و يشهده فمرتكب المعصية و هو متوغّل في سيّئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربّه و استهانة به سبحانه و هو يرصده و يرقبه.

و هذه الحقيقة هي الّتي تشير إليه الآية أعني قوله:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) إلخ على ما يعطيه السياق.

فقوله:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) نفي لاستتارهم و هم في المعاصي قبلاً و هم في الدنيا و قوله:( أَنْ يَشْهَدَ ) إلخ منصوب بنزع الخافض و التقدير من أن يشهد إلخ.

٣٨٧

و قوله:( وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ ) استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدلّ عليه صدر الآية، و التقدير و لم تظنّوا أنّها لا تعلم أعمالكم و لكن ظننتم إلخ و الآية تقريع و توبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجّه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.

و محصّل المعنى و ما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم الّتي تستعملونها في معصية الله و لم يكن ذلك لظنّكم أنّها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنّكم أنّ الله لا يعلم كثيراً ممّا تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم و إنّما استهنتم بشهادتنا.

فالاستدراك و معنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى:( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال: ١٧، و قوله:( وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) البقرة: ٥٧.

و قوله:( كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) و لم يقل: لا يعلم ما تعملون و لعلّ ذلك لكونهم معتقدين بالله و بصفاته العليا الّتي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.

و يستفاد من الآية أنّ شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى:( وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) يونس: ٦١.

و لهم في توجيه معنى الآية أقوال اُخر لا يساعد عليها السياق و لا تخلو من تكلّف أضربنا عن التعرّض لها.

قوله تعالى: ( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و( ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ ) مبتدأ و خبر و( أَرْداكُمْ ) خبر بعد خبر، و يمكن أن يكون( ظَنُّكُمُ ) بدلاً من( ذلِكُمْ ) .

و معنى الآية على الأوّل و ذلكم الظنّ الّذي ذكر ظنّ ظننتموه لا يغني من الحقّ شيئاً و العلم و الشهادة على حالها أهلككم ذلك الظنّ فأصبحتم من الخاسرين.

٣٨٨

و على الثاني و ظنّكم الّذي ظننتم بربّكم أنّه لا يعلم كثيراً ممّا تعملون أهلككم إذ هوّن عليكم أمر المعاصي و أدّى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.

قوله تعالى: ( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ) في المفردات: الثواء الإقامة مع الاستقرار. انتهى، و في المجمع، الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا و هو الاسترضاء، و الإعتاب الإرضاء، و أصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثمّ أستعير فيما يستعطف به البعض بعضاً لإعادته ما كان من الإلفة. انتهى.

و معنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم و مستقرّهم و إن يطلبوا الرضا و يعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممّن يرضى عنهم و يقبل أعتابهم و معذرتهم فالآية في معنى قوله:( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) الطور: ١٦.

قوله تعالى: ( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) إلى آخر الآية. أصل التقييض - كما في المجمع - التبديل، و القرناء جمع قرين و هو معروف.

فقوله:( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ) إشارة إلى أنّهم لو آمنوا و اتّقوا لأيّدهم الله بمن يسدّدهم و يهديهم كما قال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ لكنّهم كفروا و فسقوا فبدّل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم و يلازمونهم، و إنّما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم و فسوقهم.

و قيل: المعنى بدّلناهم قرناء سوء من الجنّ و الإنس مكان قرناء الصدق الّذين اُمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، و لعلّ ما قدّمناه أحسن.

و قوله:( فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ ) لعلّ المراد التمتّعات المادّيّة الّتي هم مكبّون عليها في الحال و ما تعلّقت به آمالهم و أمانيّهم في المستقبل.

و قيل: ما بين أيديهم ما قدّموه من أعمالهم السيّئة حتّى ارتكبوها، و ما خلفهم ما سنّوه لغيرهم ممّن يأتي بعدهم، و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.

٣٨٩

و قيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، و ما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنّه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنّة و لا نار، و هو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنّها زيّنت له.

و قوله:( وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) أي ثبت و وجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في اُمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجنّ و الإنس و كلمة العذاب قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩ كقوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥. و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ ) تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدّم.

و يظهر من الآية أنّ حكم الموت جار في الجنّ مثل الإنس.

( بحث روائي)

في الفقيه، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في وصيّته لابن الحنفيّة: قال الله تعالى:( وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ ) يعني بالجلود الفروج.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية: يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ.

و في المجمع، قال الصادقعليه‌السلام : ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنّة إنّ الله تعالى يقول:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) الآية، ثمّ قال: إنّ الله عند ظنّ عبده إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن عبدالرحمن بن الحجّاج عن أبي عبداللهعليه‌السلام في

٣٩٠

حديث قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من عبد يظنّ بالله عزّوجلّ خيراً إلّا كان عند ظنّه به و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ و عبد بن حميد و مسلم و أبوداود و ابن ماجة و ابن حبّان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يموتنّ أحدكم إلّا و هو يحسن الظنّ بالله فإنّ قوماً قد أرداهم سوء ظنّهم بالله عزّوجلّ قال الله:( وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده.

٣٩١

( سورة فصّلت الآيات ٢٦ - ٣٩)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( ٢٦ ) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٧ ) ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ  لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ  جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( ٢٨ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ( ٢٩ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( ٣٠ ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ  وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ( ٣١ ) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ( ٣٢ ) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ٣٣ ) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ  ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( ٣٤ ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( ٣٥ ) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٦ ) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ  لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن

٣٩٢

كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( ٣٧ ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ  ( ٣٨ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ  إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ )

( بيان)

رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أوّل السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجّته، و في الآيات ذكر الكفّار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرّقات اُخر.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.

و الآية تدلّ على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجّة تعارضه حتّى أمر بعضهم بعضاً أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن ليختلّ به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة.

قوله تعالى: ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ) إلخ اللام للقسم، و المراد بالّذين كفروا بحسب مورد الآية هم الّذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.

و قوله:( وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) قيل: المراد العمل السيّئ الّذي

٣٩٣

كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ ) إلخ( ذلِكَ جَزاءُ ) مبتدأ و خبر و( النَّارُ ) بدل أو عطف بيان من( ذلِكَ ) أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره( لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ) .

و قوله:( لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ) أي النار محيطة بهم جميعاً و لكلّ منهم فيها دار تخصّه خالداً فيها.

و قوله:( جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدّم أعني قوله:( ذلِكَ جَزاءُ ) نظير قوله:( فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) إسراء: ٦٣.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجنّ و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالاً لهما و تشديداً لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلاً:( نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الّذي يكون على خطّ مستو، و به شبّه طريق الحقّ نحو( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) . قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) . انتهى. و في الصحاح: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر. انتهى.

فالمراد بقوله:( ثُمَّ اسْتَقامُوا ) لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الّذي قالوه، قال تعالى:( فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ) التوبة: ٧ و قال:( وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) الشورى: ١٥ و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.

٣٩٤

و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.

و قوله:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) إخبار عمّا سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة.

فالملائكة يؤمّنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنّما يكون من مكروه متوقّع كالعذاب الّذي يخافونه و الحرمان من الجنّة الّذي يخشونه، و الحزن إنّما يكون من مكروه واقع و شرّ لازم كالسيّئات الّتي يحزنون من اكتسابها و الخيرات الّتي يحزنون لفوتها عنهم فيطيّب الملائكة أنفسهم أنّهم في أمن من أن يخافوا شيئاً أو يحزنوا لشي‏ء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم.

ثمّ يبشّرونهم بالجنّة الموعودة بقولهم:( وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) و في قولهم:( كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) دلالة على أنّ تنزّلهم بهذه البشرى عليهم إنّما هو بعد الحياة الدنيا.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) إلخ من تتمّة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدّم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أنّ ولاية الآخرة مترتّبة على ولاية الدنيا فكأنّه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنّا - لما كنّا - أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولّى أمركم بعد هذا كما تولّيناه قبل.

و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الوليّ لأنّهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شي‏ء، و لعلّ ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حقّ أعدائه:( وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ) إلخ و قال في حقّ أوليائه عن لسان ملائكته:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ‏ ) .

و بالمقابلة يستفاد أنّ المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإنّ الملائكة المسدّدين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أمّا الملائكة الحرّس و موكّلوا الأرزاق

٣٩٥

و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر.

و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة.

و قوله:( وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ‏ ) ضمير( فِيها ) في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوّة من قواها إلى ما تريده تلك القوّة و تلتذّ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء - و هو افتعال من الدعاء - هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله:( وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ‏ ) أوسع نطاقاً من الاُولى أعني قوله:( لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ‏ ) فإنّ الشهوة طلب خاصّ و مطلق الطلب أعمّ منها.

فالآية تبشّرهم بأنّ لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلّق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك نطاقاً و أعلى كعباً و هو أنّ لهم ما يشاؤن فيها كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: ٣٥.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) الآية اتّصال بقوله السابق:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ ) الآية فإنّهم كانوا يخاصمون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أوّل السورة قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) الآية فأيّد سبحانه في هذه الآية نبيّه بأنّ قوله و هو دعوته أحسن القول.

فقوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ) المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان لفظ الآية يعمّ كلّ من دعا إلى الله و لمّا أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة الّتي هذا شأنها من القول الأحسن قيّده بقوله:( وَ عَمِلَ صالِحاً ) فإنّ العمل الصالح يكشف عن نيّة صالحة غير أنّ العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحقّ و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيّده بقوله:( وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق.

فإذا تمّ الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثمّ دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأنّ أحسن القول أحقّه و أنفعه و لا قول أحقّ من كلمة التوحيد و لا أنفع منها

٣٩٦

و هي الهادية للإنسان إلى حاقّ سعادته.

قوله تعالى: ( لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) الآية لمّا ذكر أحسن القول و أنّه الدعوة إلى الله و القائم به حقّاً هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله:( لا تَسْتَوِي ) إلخ.

فقوله:( لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) أي الخصلة الحسنة و السيّئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و( لا ) في( لَا السَّيِّئَةُ ) زائدة لتأكيد النفي.

و قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) استئناف في معنى دفع الدخل كأنّ المخاطب لمّا سمع قوله:( لا تَسْتَوِي ) إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل:( ادْفَعْ ) إلخ و المعنى ادفع بالخصلة الّتي هي أحسن الخصلة السيّئة الّتي تقابلها و تضادّها فادفع بالحقّ الّذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا.

و قوله:( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنّك إن دفعت بالّتي هي أحسن فاجأك أنّ عدوّك صار كأنّه وليّ شفيق. قيل:( الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ ) أبلغ من( عدوّك) و لذا اختاره عليه مع اختصاره.

ثمّ عظّم الله سبحانه الدفع بالّتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله:( وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانيّة و خصال الخير.

و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أنّ الحظّ العظيم إنّما يوجد لأهل الصبر خاصّة.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) النزغ النخس و هو غرز جنب الدابّة أو مؤخّرها بقضيب و نحوه ليهيج، و( إِمَّا ) في( إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ) زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ.

و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأوّل هو الأنسب لمقام النبيّ

٣٩٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنّه يمكن أن يقلّب له الاُمور بالوسوسة على المدعوّين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقّتهم و إيذائهم له فلا يؤثّر فيهم الدفع بالأحسن و يؤل هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله:( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) يوسف: ١٠٠، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) الآية الحجّ: ٥٢.

و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعيّن حمله على مطلق الدستور تتميماً للأمر، و هو بوجه من باب( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة) .

و قوله:( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجئ بالله من نزغه إنّه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) إلخ لمّا ذكر سبحانه كون دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحسن القول و وصّاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتجّ على الوحدانيّة و المعاد في هذه الآيات الثلاث.

فقوله:( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ ) إلخ احتجاج بوحدة التدبير و اتّصاله على وحدة الربّ المدبّر، و بوحدة الربّ على وجوب عبادته وحده، و لذلك عقّبه بقوله( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ ) إلخ.

فالكلام في معنى دفع الدخل كأنّه لما قيل:( وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ ) إلخ فأثبت وحدته في ربوبيّته قيل: فما ذا نصنع؟ فقيل( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ ) هما مخلوقان مدبّران من خلقه بل خصّوه بالسجدة و اعبدوه وحده، و عامّة الوثنيّين كانوا يعظّمون الشمس و القمر و إن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، و ضمير( خَلَقَهُنَّ ) للّيل و النهار و الشمس و القمر.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أي إنّ عبادته لا تجامع عبادة غيره.

قوله تعالى: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ

٣٩٨

لا يَسْأَمُونَ ) السأمة الملال، و المراد( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) الملائكة و المخلصون من عباد الله و قد تقدّم كلام في ذلك في تفسير قوله:( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف: ٢٠٦.

و قوله:( يُسَبِّحُونَ لَهُ ) و لم يقل: يسبّحونه للدلالة على الحصر و الاختصاص أي يسبّحونه خاصّة، و قوله:( بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) أي دائماً لا ينقطع فإنّ الملائكة ليس عندهم ليل و لا نهار.

و المعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفّار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبّحه تسبيحاً دائماً لا ينقطع من غير سأمة و هم الّذين عند ربّك.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ) إلخ الخشوع التذلّل، و الاهتزاز التحرّك الشديد، و الربو النشوء و النماء و العلوّ، و اهتزاز الأرض و ربوها تحرّكها بنباتها و ارتفاعه.

و في الآية استعارة تمثيليّة شبّهت فيها الأرض في جدبها و خلوّها عن النبات ثمّ اخضرارها و نموّ نباتها و علوّه بشخص كان وضيع الحال رثّ الثياب متذلّلاً خاشعاً ثمّ أصاب مالاً يقيم أوده فلبس أفخر الثياب و انتصب ناشطاً متبختراً يعرف في وجهه نضرة النعيم.

و الآية مسوقة للاحتجاج على المعاد، و قد تكرّر البحث عن مضمونها في السور المتقدّمة.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا ) يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أوّل من أبدع المعصية: روي ذلك عن عليّعليه‌السلام .

أقول: و لعلّه من نوع الجري فالآية عامّة.

و فيه في قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) روي عن أنس

٣٩٩

قال: قرأ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ثمّ قال: قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم فمن قالها حتّى يموت فقد استقام عليها.

و فيه في قوله تعالى:( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) يعني عند الموت: عن مجاهد و السدّيّ و روي ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) قال: كنّا نحرسكم من الشياطين( وَ فِي الْآخِرَةِ ) أي عند الموت.

و في المجمع في الآية قيل:( نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي نحرسكم في الدنيا و عند الموت في الآخرة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال: ادفع سيّئة من أساء إليك بحسنتك حتّى يكون الّذي بينك و بينه عداوة كأنّه وليّ حميم.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419