الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161657
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161657 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد بان بما تقدّم أنّ قوله:( فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) من وضع السبب موضع المسبّب الّذي هو الجزاء.

و الآية أعني قوله تعالى:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ) إلخ. واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدّر ناش عن الآية السابقة فإنّه تعالى لمّا أنذر أهل المكر و التكذيب من المشركين بالمؤاخذة و استشهد بما جرى في الاُمم السابقة و ذكر أنّه لا يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض كأنّه قيل: فإذا لم يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ و ما ذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب أنّه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذّبين ما ترك على ظهر الأرض أحداً منهم يدبّ و يتحرّك - و قد قضى سبحانه أن يعيشوا في الأرض و يعمروها إذ قال:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: 36 فلا يؤاخذهم و لكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى و هو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنّه كان بعباده بصيراً.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريّا الكوفيّ عن رجل حدّثه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إيّاكم و المكر السيّئ فإنّه لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله و لهم من الله طالب.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن النوفليّ عن السكونيّ عن جعفر عن أبيهعليهما‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبق العلم، و جفّ القلم، و مضى القضاء و تمّ القدر بتحقيق الكتاب، و تصديق الرسل، و بالسعادة من الله لمن آمن و اتّقى و بالشقاء لمن كذّب و كفر، و بالولاية من الله عزّوجلّ للمؤمنين، و بالبراءة منه المشركين.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزّوجلّ يقول: يا ابن آدم بمشيّتي كنت

٦١

أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الّذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بقوّتي و عصمتي و عافيتي أدّيت إليّ فرائضي و أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بذنبك منّي، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به و الشرّ منك إليك بما جنيت جزاء و بكثير من تسلّطي لك انطويت على طاعتي، و بسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي.

فلي الحمد و الحجّة عليك بالبيان، و لي السبيل عليك بالعصيان، و لك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك، و لم آخذك عند غرّتك و هو قوله عزّوجلّ:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) ، لم اُكلّفك فوق طاقتك، و لم أحملك من الأمانة إلّا ما أقررت بها على نفسك، و رضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك منّي ثمّ قال عزّوجلّ:( وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) .

٦٢

( سورة يس مكّيّة و هي ثلاث و ثمانون آية)

( سورة يس الآيات 1 - 12)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 4 ) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 ) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 7 ) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ ( 8 ) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ( 9 ) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 10 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ  فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( 11 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ  وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ( 12 )

( بيان)

غرض السورة بيان الاُصول الثلاثة للدين فهي تبتدئ بالنبوّة و تصف حال الناس في قبول الدعوة و ردّها و أنّ غاية الدعوة الحقّة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة و تحقيق القول على آخرين و بعبارة اُخرى تكميل الناس في طريقي السعادة و الشقاء.

٦٣

ثمّ تنتقل السورة إلى التوحيد فتعدّ جملة من آيات الوحدانيّة ثمّ تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء و امتياز المجرمين يومئذ من المتّقين و تصف ما تؤل إليه حال كلّ من الفريقين.

ثمّ ترجع إلى ما بدأت فتلخّص القول في الاُصول الثلاثة و تستدلّ عليها و عند ذلك تختتم السورة.

و من غرر الآيات فيها قوله تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فالسورة عظيمة الشأن تجمع اُصول الحقائق و أعراقها و قد ورد من طرق العامّة و الخاصّة: أنّ لكلّ شي‏ء قلباً و قلب القرآن يس(1) .

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - إلى قوله -فَهُمْ غافِلُونَ ) إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المرسلين، و قد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرّاً فيه الحكمة و هي حقائق المعارف و ما يتفرّع عليها من الشرائع و العبر و المواعظ.

و قوله:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) مقسم عليه كما تقدّم.

و قوله:( عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) خبر بعد خبر لقوله:( إِنَّكَ ) ، و تنكير الصراط - كما قيل - للدلالة على التفخيم و توصيفه بالمستقيم للتوضيح فإنّ الصراط هو الطريق‏ الواضح المستقيم، و المراد به الطريق الّذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الإنسانيّة الّتي فيها كمال العبوديّة لله و القرب، و قد تقدّم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام.

و قوله:( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) وصف للقرآن مقطوع عن الوصفيّة منصوب على المدح، و المصدر بمعنى المفعول و محصّل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الّذي

____________________

(1) رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن أبي عبداللهعليه‌السلام و السيوطي في الدرّ المنثور عن أنس و أبي هريرة و معقل بن يسار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦٤

أنزله الله العزيز الرحيم الّذي استقرّ فيه العزّة و الرحمة.

و التذييل بالوصفين للإشارة إلى أنّه قاهر غير مقهور و غالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديّته و لا يستذلّه جحود الجاحدين و تكذيب المكذّبين، و أنّه ذو رحمة واسعة لمن يتّبع الذكر و يخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم و كمالهم فهو بعزّته و رحمته أرسل الرسول و أنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحقّ كلمة العذاب على بعضهم و يشمل الرحمة منهم آخرين.

و قوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) تعليل للإرسال و التنزيل و( قَوْماً ) نافية و الجملة صفة لقوله:( قَوْماً ) و المعنى إنّما أرسلك و أنزل عليك القرآن لتنذر و تخوّف قوماً لم ينذر آباؤهم فهم غافلون.

و المراد بالقوم إن كان هو قريش و من يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون فإنّ الأبعدين من آبائهم كان فيهم النبيّ إسماعيل ذبيح الله، و قد اُرسل إلى العرب رسل آخرون كهود و صالح و شعيبعليهم‌السلام ، و إن كان المراد جميع الناس المعاصرين نظراً إلى عموم الرسالة فكذلك أيضاً فآخر رسول معروف بالرسالة قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عيسىعليه‌السلام و بينهما زمان الفترة.

و اعلم أنّ ما ذكرناه في تركيب الآيات هو الّذي يسبق منها إلى الفهم و قد أوردوا في ذلك وجوها اُخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) اللّام للقسم أي اُقسم لقد ثبت و وجب القول على أكثرهم، و المراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول.

و المراد بالقول الّذي حقّ عليهم كلمة العذاب الّتي تكلّم بها الله سبحانه في بدء الخلقة مخاطباً بها إبليس:( فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: 85 و المراد بتبعيّة إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة و التسويل بحيث تثبت الغواية و ترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطاباً لإبليس:( إِنَّ

٦٥

عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: 43.

و لازمه الطغيان و الاستكبار على الحقّ كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين و التابعين في النار:( بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) الصافّات: 32، و قوله:( وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) الزمر: 72.

و لازمه الانكباب على الدنيا و الإعراض عن الآخرة بالمرّة و رسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى:( وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) النحل: 108 فيطبع الله على قلوبهم و من آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) يونس: 96.

و بما تقدّم ظهر أنّ الفاء في قوله:( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) الأعناق جمع عنق بضمّتين و هو الجيد، و الأغلال جمع غلّ بالكسر و هي على ما قيل ما تشدّ به اليد إلى العنق للتعذيب و التشديد، و مقمحون اسم مفعول من الإقماح و هو رفع الرأس كأنّهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رؤسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتّى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها و يميّزوها من غيرها.

و تنكير قوله:( أَغْلالًا ) للتفخيم و التهويل.

و الآية في مقام التعليل لقوله السابق:( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) السدّ الحاجز بين الشيئين، و قوله:( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ )

٦٦

كناية عن جميع الجهات، و الغشي و الغشيان التغطية يقال: غشيه كذا أي غطّاه و أغشى الأمر فلاناً أي جعل الأمر يغطّيه، و الآية متمّمة للتعليل السابق و قوله:( جَعَلْنا ) معطوف على( جَعَلْنا ) المتقدّم.

و عن الرازيّ في تفسيره في معنى التشبيه في الآيتين أنّ المانع عن النظر في الآيات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبّه ذلك بالغلّ الّذي يجعل صاحبه مقمحاً لا يرى نفسه و لا يقع بصره على بدنه، و قسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبّه ذلك بالسدّ المحيط فإنّ المحاط بالسدّ لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلّيّة.

و معنى الآيتين أنّهم لا يؤمنون لأنّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً نشدّ بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مرفوعة رؤسهم باقون على تلك الحال و جعلنا من جميع جهاتهم سدّاً فجعلناه يغطّيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون.

ففي الآيتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الإيمان و تحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم و غوايتهم و طغيانهم في ذلك.

و قد تقدّم في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) البقرة: 26 في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ ما وقع في القرآن من هذه الأوصاف و نظائرها الّتي وصف بها المؤمنون و الكفّار يكشف عن حياة اُخرى للإنسان في باطن هذه الحياة الدنيويّة مستورة عن الحسّ المادّيّ ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، و عليه فالكلام في أمثال هذه الآيات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم.

قوله تعالى: ( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) عطف تفسير و تقرير لما تتضمّنه الآيات الثلاث المتقدّمة و تلخيص للمراد و تمهيد لما يتلوه من قوله:( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) الآية.

و احتمل أن يكون عطفاً على قوله:( لا يُبْصِرُونَ ) و المعنى فهم لا يبصرون و يستوي عليهم إنذارك و عدم إنذارك لا يؤمنون و الوجه الأوّل أقرب إلى الفهم.

٦٧

قوله تعالى: ( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ ) القصر للإفراد، و المراد بالإنذار الإنذار النافع الّذي له أثر، و بالذكر القرآن الكريم، و باتّباعه تصديقه و الميل إليه إذا تليت آياته، و التعبير بالماضي للإشارة إلى تحقّق الوقوع، و المراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب و قبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، و قيل: أي حال غيبته من النّاس بخلاف المنافق و هو بعيد.

و قد علّقت الخشية على اسم الرحمن الدالّ على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للإشعار بأنّ خشيتهم خوف مشوب برجاء و هو الّذي يقرّ العبد في مقام العبوديّة فلا يأمن و لا يقنط.

و تنكير( بِمَغْفِرَةٍ ) و( أَجْرٍ كَرِيمٍ ) للتفخيم أي فبشّره بمغفرة عظيمة من الله و أجر كريم لا يقدر قدره و هو الجنّة، و الدليل على جميع ما تقدّم هو السياق.

و المعنى: إنّما تنذر الإنذار النافع الّذي له أثر، من اتّبع القرآن إذا تليت عليه آياته و مال إليه و خشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشّره بمغفرة عظيمة و أجر كريم لا يقادر قدره.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء.

و المراد بما قدّموا الأعمال الّتي عملوها قبل الوفاة فقدّموها على موتهم، و المراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلّى فيه أو ميضاة يتوضّأ فيها، أو شرّ يعمل به كوضع سنّة مبتدعة يستنّ بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها.

و ربّما قيل: إنّ المراد بما قدّموا النيّات و بآثارهم الأعمال المترتّبة المتفرّعة عليها و هو بعيد من السياق.

و المراد بكتابة ما قدّموا و آثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم و ضبطها فيها بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة و هذه الكتابة غير كتابة الأعمال و إحصائها في الإمام المبين

٦٨

الّذي هو اللّوح المحفوظ و إن توهّم بعضهم أنّ المراد بكتابة ما قدّموا و آثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين و ذلك أنّه تعالى يثبت في كلامه كتاباً يحصي كلّ شي‏ء ثمّ لكلّ اُمّة كتاباً يحصي أعمالهم ثمّ لكلّ إنسان كتاباً يحصي أعماله كما قال:( وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) الأنعام: 59، و قال:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: 28، و قال:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) الإسراء: 13، و ظاهر الآية أيضاً يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الأعمال و الإمام المبين حيث فرّق بينهما بالخصوص و العموم و اختلاف التعبير بالكتابة و الإحصاء.

و قوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) هو اللّوح المحفوظ من التغيير الّذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كلّ شي‏ء و قد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللّوح المحفوظ و اُمّ الكتاب و الكتاب المبين و الإمام المبين كلّ منها بعناية خاصّة.

و لعلّ العناية في تسميته إماماً مبيناً أنّه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم و كتب الأعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية: 29.

و قيل: المراد بالإمام المبين صحف الأعمال و ليس بشي‏ء، و قيل: علمه تعالى و هو كسابقه نعم لو اُريد به العلم الفعلي كان له وجه.

و من عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أنّ الّذي كتب في اللّوح المحفوظ هو ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الآبدين و ذلك أنّ اللّوح عند المسلمين جسم و كلّ جسم متناهي الأبعاد كما يشهد به الأدلّة و بيان كلّ شي‏ء فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفاً لغير المتناهي و هو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كلّ شي‏ء و القول بأنّ المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا. و هو تحكّم و سنتعرّض له تفصيلاً.

و الآية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدّمها كأنّه تعالى يقول: ما أخبرنا به

٦٩

و وصفناه من حال اُولئك الّذين حقّ عليهم القول و هؤلاء الّذين يتّبعون الذكر و يخشون ربّهم بالغيب هو كذلك لأنّ أمر حياة الكلّ إلينا و أعمالهم و آثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم و خبرة بما تؤل إليه حال كلّ من الفريقين.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال: قد رفعوا رؤسهم.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) الهدى، أخذ الله سمعهم و أبصارهم و قلوبهم و أعمالهم عن الهدى.

نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته و ذلك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام يصلّي و قد حلف أبوجهل لعنه الله لئن رآه يصلّي ليدمغه(1) فجاءه و معه حجر و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يصلّي فجعل كلّما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عزّوجلّ يده إلى عنقه و لا يدور الحجر بيده فلمّا رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده.

ثمّ قام رجل آخر و هو رهطه أيضاً فقال أنا أقتله فلمّا دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال: حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدّم.

و قوله تعالى:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فلم يؤمن من اُولئك الرهط من بني مخزوم أحد.

أقول: و روي نحواً منه في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس و فيه: أنّ ناسا من بني مخزوم تواطؤا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتلوه منهم أبوجهل و الوليد بن المغيرة فبينا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يصلّي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتّى أتى المكان الّذي يصلّي فيه فجعل يسمع قراءته و لا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك

____________________

(1) دمغه أي شجه حتّى بلغت الشجة دماغه.

٧٠

فأتوه فلمّا انتهوا إلى المكان الّذي يصلّي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضاً من‏ خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلاً. فذلك قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتّى تأذّى به ناس من قريش حتّى قاموا ليأخذوه و إذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم و إذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: ننشدك الله و الرحم يا محمّد و لم يكن بطن من بطون قريش إلّا و للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم قرابة فدعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى ذهب ذلك عنهم فنزلت:( يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ - إلى قوله -أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

أقول: و قد رووا القصّة بأشكال مختلفة في بعضها أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ الآيات فاحتجب منهم فلم يروه و دفع الله عنه شرّهم و كيدهم، و في بعضها أنّ الآيات - من أوّل السورة إلى قوله:( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) - نزلت في القصّة فقوله:( إِنَّا جَعَلْنا ) إلى آخر الآيتين يقصّ صنع الله بهم في ستر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبصارهم و قوله:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ ) إلخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر.

و أنت خبير بأنّ سياق الآيات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصّة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس و هم الّذين حقّ عليهم القول فهم لا يؤمنون و الّذين يتّبعون الذكر و يخشون ربّهم بالغيب.

و أين ذلك من حمل قوله:( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ ) على الناس المنذرين و حمل قوله:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ ) و( جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) الآيتين على قصّة أبي جهل و رهطه، و حمل قوله:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ) على رهطه و أضف إلى ذلك حمل قوله:( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) على قصّة قوم من الأنصار بالمدينة و سيوافيك خبره فيختلّ بذلك السياق و تنثلم وحدة النظم.

فالحقّ أنّ الآيات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس و تفرّقهم عند بلوغ الدعوة و وقوع الإنذار على فرقتين، و لا مانع من وقوع القصّة و احتجاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٧١

من أعدائه بالآيات.

و فيه، أخرج عبدالرزّاق و الترمذيّ و حسّنه و البزّار و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله:( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) فدعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّه يكتب آثاركم ثمّ قرأ عليهم الآية فتركوا.

و فيه، أخرج الفاريابيّ و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريباً من المسجد فنزلت( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) فقالوا: بل نمكث مكاننا.

أقول: و الكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدّمهما.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبدالله البجليّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سنّ سنّة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من اُجورهم شي‏ء. و من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شي‏ء. ثمّ تلا هذه الآية( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) .

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) أي في كتاب مبين و هو محكم، و ذكر ابن عبّاس عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : أنا و الله الإمام المبين اُبين الحقّ من الباطل ورثته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في معاني الأخبار، بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث: أنّه قال في عليّعليه‌السلام إنّه الإمام الّذي أحصى الله تبارك و تعالى فيه علم كلّ شي‏ء.

أقول: الحديثان لو صحّاً لم يكونا من التفسير في شي‏ء بل مضمونهما من بطن القرآن و إشاراته، و لا مانع من أن يرزق الله عبداً وحّده و أخلص العبوديّة له العلم بما في الكتاب المبين و هوعليه‌السلام سيّد الموحّدين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٧٢

( سورة يس الآيات 13 - 32)

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( 13 ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ( 14 ) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ( 15 ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( 16 ) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( 17 ) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ  لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 18 ) قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ  أَئِن ذُكِّرْتُم  بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ( 19 ) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( 20 ) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ( 21 ) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 22 ) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ( 23 ) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 24 ) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 ) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ  قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27 ) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ( 28 ) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 ) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ  مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ( 31 ) وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 )

٧٣

( بيان)

مثل مشتمل على الإنذار و التبشير ضربه الله سبحانه لعامّة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهيّة و ما تستتبعه الدعوة الحقّة من المغفرة و الأجر الكريم لمن آمن بها و اتّبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب، و من العذاب الأليم لمن كفر و كذّب بها فحقّ عليه القول، و فيه إشارة إلى وحدانيّته تعالى و معاد الناس إليه جميعاً.

و لا منافاة بين إخباره بأنّهم لا يؤمنون سواء اُنذروا أم لم ينذروا و بين إنذارهم لأنّ في البلاغ إتماماً للحجّة و تكميلاً للسعادة أو الشقاوة قال تعالى:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) الأنفال: 42، و قال:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) الإسراء: 82.

قوله تعالى: ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) المثل كلام أو قصّة يمثّل به مقصد من المقاصد فيتّضح للمخاطب، و لمّا كانت قصّتهم توضح ما تقدّم من الوعد و الوعيد أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضربها مثلاً لهم.

و الظاهر أنّ( مَثَلًا ) مفعول ثان لقوله:( اضْرِبْ ) و مفعوله الأوّل قوله:( أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ) و المعنى و اضرب لهم أصحاب القرية و حالهم هذه الحال مثلاً و قد قدّم المفعول الثاني تحرّزاً عن الفصل المخلّ.

قوله تعالى: ( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) التعزيز من العزّة بمعنى القوّة و المنعة، و قوله:( إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ ) بيان تفصيليّ لقوله:( إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) .

و المعنى: و اضرب لهم مثلاً أصحاب القرية و هم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذّبوهما أي الرسولين فقوّيناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنّا إليكم مرسلون من جانب الله.

قوله تعالى: ( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) كانوا يرون أنّ البشر لا ينال النبوّة و الوحي، و يستدلّون على ذلك

٧٤

بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئاً من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أنّ حكم الأمثال واحد.

و على هذا التقرير يكون معنى قوله:( وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) لم ينزل الله وحياً و لو نزّل شيئاً على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدّعون أنتم ذلك، و تعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنّما هو لكونهم كسائر الوثنيّين معترفين بالله سبحانه و اتّصافه بكرائم الصفات(1) كالخلق و الرحمة و الملك غير أنّهم يرون أنّه فوّض أمر التدبير إلى مقرّبي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبّرون و الآلهة المعبودون، و أمّا الله عزّ اسمه فهو ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و من الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكيّ فيكون التعبير به لحلمه و رحمته تعالى قبل إنكارهم و تكذيبهم للحقّ الصريح.

و قوله:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) بمنزلة النتيجة لصدر الآية، و محصّل قولهم إنّكم بشر مثلنا و لا نجد نحن على بشريّتنا في نفوسنا شيئاً من الوحي النازل الّذي تدّعونه و أنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئاً من الوحي فدعواكم كاذبة و إذ ليس لكم إلّا هذه الدعوى فإن أنتم إلّا تكذبون.

و يظهر بما تقدّم نكتة الحصر في قوله:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) و كذا الوجه في نفي الفعل و لم يقل: إن أنتم إلّا كاذبون لأنّ المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار و الاستقبال.

قوله تعالى: ( لُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏ ) لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جواباً عن حجّة قومهم ما( أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) إلخ. كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الاُمم الدارجة لمّا احتجّت اُممهم بمثل هذه الحجّة( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) فردّتها رسلهم بقولهم:( إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إبراهيم: 11 و قد مرّ تقريره.

____________________

(1) لكنّهم مختلفون في تفسيرها و الصابئون يفسّرونها بالنفي فمعنى العالم و القادر عندهم من ليس بجاهل و عاجز.

٧٥

بل حكى عنهم أنّهم ذكروا للقوم أنّهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلّا ذلك و أنّهم في غنى عن تصديقهم لهم و إيمانهم بهم و يكفيهم فيه أن يعلم ربّهم بأنّهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك.

فقوله:( قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) إخبار عن رسالتهم و قد اُكّد الكلام بأنّ المشدّدة المكسورة و اللّام، و الاستشهاد بعلم ربّهم بذلك، و قوله:( رَبُّنا يَعْلَمُ ) معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنّا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة و يكفينا في ذلكم علم ربّنا الّذي أرسلنا بها و لا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا و لا نفع لنا فيه من أجر و نحوه و لا يهمّنا تحصيله منكم بل الّذي يهمّنا هو تبليغ الرسالة و إتمام الحجّة.

و قوله:( وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) البلاغ هو التبليغ و المراد به تبليغ الرسالة أي لم نؤمر و لم نكلّف إلّا بتبليغ الرسالة و إتمام الحجّة.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) القائلون أصحاب القرية و المخاطبون هم الرسل، و التطيّر هو التشؤم و قولهم:( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا ) إلخ. تهديد منهم للرسل.

و المعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنّا تشأمنا بكم و نقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ و لم تكفّوا عن الدعوة لنرجمنّكم بالحجارة و ليصلنّ إليكم و ليقعنّ بكم منّا عذاب أليم.

قوله تعالى: ( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية.

و قوله:( طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) الطائر في الأصل هو الطير و كان يتشاءم به ثمّ توسّع و استعمل في كلّ ما يتشاءم به، و ربّما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث، و ربّما يستعمل في البخت الشقيّ الّذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان و حرمانه من كلّ خير.

و كيف كان فقوله:( طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) ظاهر معناه أنّ الّذي ينبغي أن تتشأموا

٧٦

به هو معكم و هو حالة إعراضكم عن الحقّ الّذي هو التوحيد و إقبالكم إلى الباطل الّذي هو الشرك.

و قيل: المعنى طائركم أي حظّكم و نصيبكم من الخير و الشرّ معكم من أفعالكم إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، هذا و هو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد:( أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أنسب بالنسبة إلى المعنى الأوّل.

و قوله:( أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ ) استفهام توبيخيّ و المراد بالتذكير تذكيرهم بالحقّ من وحدانيّته تعالى و رجوع الكلّ إليه و نحوهما و جزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحاً إلى أنّه ممّا لا ينبغي أن يذكر أو يتفوّه به و التقدير أ إن ذكّرتم بالحقّ قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع و الصنيع الفظيع من التطيّر و التوعّد.

و قوله:( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أي مجاوزون للحدّ في المعصية و هو إضراب عمّا تقدّم و المعنى بل السبب الأصلي في جحودكم و تكذيبكم للحقّ أنّكم قوم تستمرّون على الإسراف و مجاوزة الحدّ.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى‏ قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدإ مفروض، و قد بدّلت القرية في أوّل الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها و السعي هو الإسراع في المشي.

و وقع نظير هذا التعبير في قصّة موسى و القبطيّ و فيها( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) فقدم( رجل ) هناك و اُخّر ههنا و لعلّ النكتة في ذلك أنّ الاهتمام هناك بمجي‏ء الرجل و إخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدّم الرجل ثمّ اُشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر و إبلاغه فجي‏ء بقوله:( يَسْعى) حالاً مؤخّراً بخلاف ما ههنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه و بين الرسل في أمر الدعوة فقدّم( مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ ) و اُخّر الرجل و سعيه.

و قد اشتدّ الخلاف بينهم في اسم الرجل و اسم أبيه و حرفته و شغله و لا يهمّنا الاشتغال بذلك في فهم المراد و لو توقّف عليه الفهم بعض التوقّف لأشار سبحانه في كلامه إليه و لم يهمله.

٧٧

و إنّما المهمّ هو التدبّر في حظّه من الإيمان في هذا الموقف الّذي انتهض فيه لتأييد الرسلعليهم‌السلام و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبّر في المنقول من كلامه رجلاً نوّر الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعاً في جنّة أو خوفاً من نار بل لأنّه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلّا ملائكته المقرّبين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلّق به القوم من الحجّة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدّق الرسل في دعواهم الرسالة ثمّ آمن بهم.

قوله تعالى: ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) بيان لقوله:( اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) و في وضع قوله:( مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) في هذه الآية موضع قوله:( الْمُرْسَلِينَ ) في الآية السابقة إشعار بالعلّيّة و بيانها أنّ عدم جواز اتّباع قائل في قوله إنّما يكون لأحد أمرين: إمّا لكون قوله ضلالاً و القائل به ضالّاً و لا يجوز اتّباع الضالّ في ضلاله، و إمّا لأنّ القول و إن كان حقّاً و الحقّ واجب الاتّباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسّل إليه بكلمة الحقّ كاقتناء المال و اكتساب الجاه و المقام و نحو ذلك، و أمّا إذا كان القول حقّاً و كان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزّها من الكيد و المكر و الخيانة كان من الواجب اتّباعه في قوله، و هؤلاء الرسل مهتدون في قولهم: لا تعبدوا إلّا الله، و هم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتّبعوهم في قولهم:

أمّا أنّهم مهتدون فلقيام الحجّة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد و كونه حقّاً، و الحجّة هي قوله:( وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ ) إلى تمام الآيتين.

و أمّا أنّهم لا يريدون منكم أجراً فلمّا دلّ عليه قولهم:( رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) و قد تقدّم تقريره.

و بهذا البيان يتأيّد ما قدّمناه من كون قولهم:( رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) مسوقاً لنفي إرادتهم من القوم أجراً أو غير ذلك.

قوله تعالى: ( وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ

٧٨

آلِهَةً - إلى قوله -وَ لا يُنْقِذُونِ ) شرع في استفراغ الحجّة على التوحيد و نفي الآلهة في آيتين و اختار لذلك سياق التكلّم وحده إلّا في جملة اعترض بها في خلال الكلام و هي قوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) و ذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنّه إنسان أوجده الله و فطره حتّى يجري في كلّ إنسان هو مثله و الأفراد أمثال فقوله:( وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ ) إلخ. في معنى و ما للإنسان لا يعبد إلخ. أ يتّخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ.

و قد عبّر عنه تعالى بقوله:( الَّذِي فَطَرَنِي ) للإشعار بالعليّة فإنّ فطره تعالى للإنسان و إيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كلّ ما للإنسان من ذات و صفات و أفعال إليه تعالى و قيامه به و ملكه له فليس للإنسان إلّا العبوديّة محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبوديّة و يظهرها بالنسبة إليه تعالى و هذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنّه أهل لها.

و هذا هو الّذي أشرنا إليه آنفاً أنّ الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعاً في جنّة و لا خوفاً من نار بل لأنّه أهل للعبادة.

و إذ كان الإيمان به تعالى و عبادته هكذا أمراً لا يناله عامّة الناس فإنّ الأكثرين منهم إنّما يعبدون خوفاً أو طمعاً أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يريد به إنذارهم بيوم الرجوع و أنّه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوئ أعمالهم فقوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي.

ثمّ إنّ الآيتين حجّتان قائمتان على إبطال ما احتجّ به الوثنيّة و بنوا على ذلك عبادة الأصنام و أربابها.

توضيح ذلك أنّهم قالوا: إنّ الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به حسّ أو خيال أو عقل لا يناله شي‏ء من القوى الإدراكيّة فلا يمكن التوجّه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجّه إلى مقرّبي حضرته و الأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام و الجنّ و القدّيسين من البشر حتّى يكونوا شفعاء لنا عندالله في إيصال الخيرات و دفع الشرور و المكاره.

٧٩

و الجواب عن اُولى الحجّتين بما حاصله أنّ الإنسان و إن كان لا يحيط علماً بالذات المتعالية لكنّه يعرفه تعالى بصفاته الخاصّة به مثل كونه فاطراً له موجداً إيّاه فله أن يتوجّه إليه من طريق هذه الصفات و إنكار إمكانه مكابرة، و هذا الجواب هو الّذي أشار إليه بقوله:( وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

و عن الثانية أنّ هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت ممّا أفاضه الله عليهم و الله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلّا فيما لا تتعلّق به منه إرادة حاتمة و لازمه أنّ شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: 3 أمّا إذا أراد الله شيئاً إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئاً في المنع عن نفوذها فاتّخاذهم آلهة و عدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شرّ، و إلى ذلك أشار بقوله:( أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ ) .

و تعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته و كثرتها و أنّ النعم كلّها من عنده و تدبير الخير و الشرّ إليه و يتحصّل من هنا برهان آخر على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة، إذ لمّا كان جميع النعم و كذا النظام الجاري فيها، من رحمته و قائمة به من غير استقلال في شي‏ء منها كان المستقلّ بالتدبير هو تعالى حتّى أنّ تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشي‏ء من رحمته و تدبيره تعالى و كانت الربوبيّة له تعالى وحده و كذا الاُلوهيّة.

قوله تعالى: ( إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) تسجيل للضلال على اتّخاذ الآلهة.

قوله تعالى: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) من كلام الرجل خطاباً للرسل و قوله:( فَاسْمَعُونِ ) كناية عن الشهادة بالتحمّل، و قوله:( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) إلخ. تجديد الشهادة بالحقّ و تأكيد للإيمان فإنّ ظاهر السياق أنّه إنّما قال:( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) بعد محاجّته خطاباً للرسل ليستشهدهم على إيمانه و ليؤيّدهم بإيمانهم بمرئى من القوم و مسمع.

و قيل: إنّه خطاب للقوم تأييداً للرسل، و المعنى إنّي آمنت بالله فاسمعوا منّي فإنّي لا اُبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إنّي آمنت بالله فاسمعوا منّي و آمنوا

٨٠