الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 419

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 419
المشاهدات: 161631
تحميل: 5473


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 161631 / تحميل: 5473
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 17

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

به أو أنّه أراد به أن يغضبهم و يشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنّه رأى أنّهم بصدد الإيقاع بهم. هذا.

و فيه أنّه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله:( بِرَبِّكُمْ ) فإنّ القوم ما كانوا يتّخذونه تعالى ربّاً لهم و إنّما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه.

و ردّ بأنّ المعنى إنّي آمنت بربّكم الّذي قامت الحجّة على ربوبيّته لكم و هو الله سبحانه. و فيه أنّه تقييد من غير مقيّد.

قوله تعالى: ( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) الخطاب للرجل و هو - كما يفيده السياق - يلوّح إلى أنّ القوم قتلوه فنودي من ساحة العزّة أن ادخل الجنّة كما يؤيّده قوله بعد:( وَ ما أَنْزَلْنا عَلى‏ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ فوضع قوله:( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) موضع الإخبار عن قتلهم إيّاه إشارة إلى أنّه لم يكن بين قتله بأيديهم و بين أمره بدخول الجنّة أيّ فصل و انفكاك كأنّ قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنّة.

و المراد بالجنّة على هذا جنّة البرزخ دون جنّة الآخرة، و قول بعضهم: إنّ المراد بها جنّة الآخرة و المعنى سيقال له: ادخل الجنّة يوم القيامة و التعبير بالماضي لتحقّق الوقوع تحكّم من غير دليل كما قيل: إنّ الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنّة فهو حيّ يتنعّم فيها إلى قيام الساعة، و هو تحكّم كسابقه.

و قيل: إنّ القائل:( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء و فيه أنّه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد:( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) إلخ فإنّ ظاهره أنّه تمنّى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) و لم يسبق من الكلام ما يصحّ أن يبتني عليه قوله ذاك.

و قوله:( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل؟ فقيل:( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) ثمّ قيل: فما ذا كان بعد؟ فقيل:( قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) إلخ و هو نصح منه لقوله ميّتاً كما كان ينصحهم حيّاً.

٨١

و( بِما ) في قوله:( بِما غَفَرَ لِي ) إلخ مصدريّة، و قوله:( وَ جَعَلَنِي ) عطف على( غَفَرَ ) و المعنى بمغفرة ربّي لي و جعله إيّاي من المكرمين.

و موهبة الإكرام و إن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الفجر: 15 و قوله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: 13 فإنّ كرامة العبد عندالله إكرام منه له لكنّه لم يعدّ من المكرمين بوصف الإطلاق إلّا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27، و الكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللّام كما في قوله:( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) المعارج: 35، أو من المخلصين بفتح اللّام كما في قوله:( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ - إلى أن قال -وَ هُمْ مُكْرَمُونَ ) الصافات: 42.

و الآية من أدلّة وجود البرزخ.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنْزَلْنا عَلى‏ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ ) الضميران للرجل، و( مِنْ بَعْدِهِ ) أي من بعد قتله، و( مِنْ ) الاُولى و الثالثة لابتداء الغاية، و الثانية مزيدة لتأكيد النفي.

و الآية توطئة للآية التالية، و هي مسوقة لبيان هوان أمر القوم و الانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه و أنّه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدّة و عدّة حتّى ينزّل من السماء جنداً من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم و لا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الاُمم الماضين و إنّما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم.

قوله تعالى: ( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) أي ما كان الأمر الّذي كان سبب إهلاكهم بمشيّتنا إلّا صيحة واحدة، و تأنيث الفعل لتأنيث الخبر و تنكير( صَيْحَةً ) و توصيفها بالوحدة للاستحقار، و الخمود السكون و استئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل: فما ذا كان سبب إهلاكهم؟ فقيل: إن كانت إلّا صيحة واحدة.

و المعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر و هي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا

٨٢

ساكنين لا يسمع لهم حسّ و هم عن آخرهم موتى لا يتحرّكون.

قوله تعالى: ( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي يا ندامة العباد و نداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، و سبب الحسرة ما يتضمّنه قوله:( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ) إلخ.

و من هذا السياق يستفاد أنّ المراد بالعباد عامّة الناس و تتأكّد الحسرة بكونهم عباداً فإنّ ردّ العبد دعوة مولاه و تمرّده عنه أشنع من ردّ غيره نصيحة الناصح.

و بذلك يظهر سخافة قول من قال: إنّ المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما جميعاً. و كذا قول من قال: إنّ المراد بالعباد الناس لكنّ المتحسّر هو الرجل.

و ظهر أيضاً أنّ قوله:( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ) إلخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) توبيخ لاُولئك الّذين نودي عليهم بالحسرة، و( مِنَ الْقُرُونِ ) بيان لكم، و القرون جمع قرن و هو أهل عصر واحد.

و قوله:( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) بيان لقوله:( كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) ضمير الجمع الأوّل للقرون و الثاني و الثالث للعباد.

و المعنى: أ لم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية و أنّهم مأخوذون بأخذ إلهيّ لا يتمكّنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه؟

و للقوم في مراجع الضمائر و في معنى الآية أقوال اُخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) لفظة( إِنْ ) حرف نفي و( كُلٌّ ) مبتدأ تنوينه عوض عن المضاف إليه، و( لَمَّا ) بمعنى إلّا، و جميع بمعنى مجموع، و لدينا ظرف متعلّق به، و محضرون خبر بعد خبر و هو جميع، و احتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع.

و المعنى: و ما كلّهم إلّا مجموعون لدينا محضرون للحساب و الجزاء يوم القيامة فالآية في معنى قوله:( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) هود 103.

٨٣

( بحث روائي)

في المجمع، قالوا: بعث عيسى رسولين من الحواريّين إلى مدينة أنطاكيّة فلمّا قرباً من المدينة رأياً شيخاً يرعى غنيمات له و هو حبيب صاحب يس فسلّما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولاً عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال: أ معكما آية؟ قالا نعم نحن نشفي المريض و نبرئ الأكمه و الأبرص بإذن الله تعالى فقال الشيخ: إنّ لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزل نتطلّع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحاً ففشا الخبر في المدينة و شفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى.

و كان لهم ملك يعبد الأصنام فاُنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولاً عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر. قال الملك: و لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك و آلهتك. قال: قوماً حتّى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما.

قال وهب بن منبّه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكيّة فأتياها و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّراً و ذكرا الله فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة.

فلمّا كذّب الرسولان و ضرباً، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريّين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكّراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه. ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما.

فدعاهما الملك فقال لها شمعون: من أرسلكما إلى ههنا؟ قالا: الله الّذي خلق كلّ شي‏ء لا شريك له. قال: و ما آتاكما؟ قالا: ما تتمنّاه، فأمر الملك حتّى جاؤا

٨٤

بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالاً يدعوان الله حتّى انشقّ موضع البصر فأخذاً بندقتين من الطين فوضعاً في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجّب الملك ثمّ قال شمعون للملك: أ رأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعاً مثل هذا؟ فيكون لك و لإهلك شرفاً. فقال الملك: ليس لي عنك سرّ إنّ إلهنا الّذي نعبده لا يضرّ و لا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به و بكما. قالا: إلهنا قادر على كلّ شي‏ء فقال، الملك إنّ ههنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه و كان غائباً فجاؤا بالميّت و قد تغيّر و أروح فجعلاً يدعوان ربّهما علانية و جعل شمعون يدعو ربه سرّاً فقام الميّت و قال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام و اُدخلت في سبعة أودية من النار و أنا اُحذّركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجّب الملك، فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك دعاه إلى الله فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.

قال: و قد روى مثل ذلك العيّاشيّ بإسناده عن الثماليّ و غيره عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام إلّا أنّ في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكيّة ثمّ بعث الثالث و في بعضها أنّ عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثمّ بعث وصيّه شمعون ليخلّصهما، و أنّ الميت الّذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك و أنّه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بنيّ ما حالك؟ قال: كنت ميّتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بنيّ فتعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل فمرّ أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثمّ مرّ الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و قومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكّرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.

أقول: سياق آيات القصّة لا يلائم بعض هذه الروايات.

٨٥

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و أبونعيم و ابن عساكر و الديلميّ عن أبي ليلى قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الصدّيقين ثلاثة حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الّذي قال:( يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، و حزقيل مؤمن آل فرعون الّذي قال:( أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) ، و عليّ بن أبي طالب و هو أفضلهم.

أقول: و رواه أيضاً عن البخاريّ في تأريخه عن ابن عبّاس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظه: الصدّيقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون و حبيب النجّار صاحب آل ياسين و عليّ بن أبي طالب.

في المجمع، عن تفسير الثعلبيّ بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: سبّاق الاُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين عليّ بن أبي طالب و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصدّيقون و عليّ أفضلهم.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن الطبرانيّ و ابن مردويه و ضعّفه عن ابن عبّاس عنهعليه‌السلام و لفظه: السبّق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون و السابق إلى عيسى صاحب يس و السابق إلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب.

٨٦

( سورة يس الآيات 33 - 47)

وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 ) لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ  أَفَلَا يَشْكُرُونَ ( 35 ) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ( 36 ) وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ( 37 ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا  ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 ) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 ) لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ  وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 ) وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 ) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 ) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ( 43 ) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ ( 44 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 ) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 47 )

٨٧

( بيان)

بعد ما قصّ عليهم قصّة أصحاب القرية و ما آل إليه أمرهم في الشرك و تكذيب الرسل و وبّخهم على الاستهانة بأمر الرسالة، و أنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذّبين من القرون الاُولى، و بأنّهم جميعاً محضرون للحساب و الجزاء.

أورد آيات من الخلق و التدبير تدلّ على ربوبيّته و اُلوهيّته تعالى وحده لا شريك له ثمّ وبّخهم على ترك النظر في آيات الوحدانيّة و المعاد و الإعراض عنها و الاستهزاء بالحقّ و الإمساك عن الإنفاق للفقراء و المساكين.

قوله تعالى: ( وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) يذكر سبحانه في الآية و اللّتين بعدها آية من آيات الربوبيّة و هي تدبير أمر أرزاق الناس و تغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب و التمر و العنب و غيرها.

فقوله:( وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ) و إن كان ظاهره أنّ الآية هي الأرض إلّا أنّ الجملتين توطئتان لقوله:( وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا ) إلخ و مسوقتان للإشارة إلى أنّ هذه الأغذية النباتيّة من آثار نفخ الحياة في الأرض الميتة و تبديلها حبّاً و ثمراً يأكلون من ذلك فالآية بنظر هي الأرض الميتة من حيث ظهور هذه الخواصّ فيها و تمام تدبير أرزاق الناس بها.

و قوله:( وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا ) أي و أخرجنا من الأرض بإنبات النبات حبّاً كالحنطة و الشعير و الاُرز و سائر البقولات.

و قوله:( فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) تفريع على إخراج الحبّ و بالأكل يتمّ التدبير، و ضمير( فَمِنْهُ ) للحبّ.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ) قال الراغب: الجنّة كلّ بستان ذي شجر تستر بأشجاره الأرض انتهى. و النخيل جمع نخل و هو معروف، و الأعناب جمع عنب يطلق على الشجرة و هي الكرم و على الثمرة.

٨٨

و قال الراغب: العين الجارحة - إلى أن قال - و يستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال - و يقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، و التفجير في الأرض شقّها لإخراج المياه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ ) اللّام لتعليل ما ذكر في الآية السابقة أي جعلنا فيها جنّات و فجّرنا فيها العيون بشقّها ليأكل الناس من ثمره.

و قوله:( مِنْ ثَمَرِهِ ) قيل: الضمير للمجعول من الجنّات و لذا اُفرد و ذكّر و لم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنّات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل و الأعناب.

و قيل: الضمير للمذكور و قد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة:

فيها خطوط من سواد و بلق

كأنّه في الجلد توليع البهق

فقد روي أنّ أباعبيدة سأله عن قوله ( كأنّه ) فقال: كأنّ ذاك.

و في مرجع ضمير( مِنْ ثَمَرِهِ ) أقوال اُخر رديئة كقول بعضهم: إنّ الضمير للنخيل فقط، و قول آخر: إنّه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف و التقدير ماء العيون و قول آخر: إنّ الضمير للتفجير المفهوم من( فَجَّرْنا ) و المراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، و قول آخر: إنّ الضمير له تعالى و إضافته إليه لأنّه خلقه و ملكه.

و قوله:( وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) العمل هو الفعل و الفرق بينهما - على ما ذكره الراغب - أنّ أكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد و الإرادة، و لذلك يشذّ استعماله في الحيوان و الجماد، و لذلك أيضاً يتّصف العمل بالصلاح و خلافه فيقال. عمل صالح و عمل طالح و لا يتّصف بهما مطلق الفعل.

و( ما ) في( وَ ما عَمِلَتْهُ ) نافية و المعنى و لم يعمل الثمر بأيديهم حتّى يشاركونا في تدبير الأرزاق بل هو ممّا اختصصنا بخلقه و تتميم التدبير به من دون أن نستعين بهم

٨٩

فما بالهم لا يشكرون؟

و يؤيّد هذا المعنى قوله في أواخر السورة و هو يمتنّ عليهم بخلق الأنعام لتدبير أمر رزقهم و حياتهم:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً - إلى أن قال -وَ مِنْها يَأْكُلُونَ وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ ) .

و احتمل بعضهم كون( ما ) في( وَ ما عَمِلَتْهُ ) موصولة معطوفة على( ثَمَرِهِ ) و المعنى ليأكلوا من ثمره و من الّذي عملته أيديهم من ثمره كالخلّ و الدبس المأخوذين من التمر و العنب و غير ذلك.

و هذا الوجه و إن عدّه بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإنّ المقام مقام بيان آيات دالّة على ربوبيّته تعالى بذكر اُمور من التدبير يخصّه تعالى و لا يناسبه ذكر شي‏ء من تدبير الغير معه و تتميم الحجّة بذلك، و لو كان المراد ذكر عملهم بما أنّه منته إلى خلقه تعالى و جزء من التدبير العامّ كان الأنسب أن يقال: و ما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدّي معناه لينتفي به توهّم الشركة في التدبير.

و احتمل بعضهم كون( ما ) نكرة موصوفة معطوفة على( ثَمَرِهِ ) و المعنى ليأكلوا من ثمره و من شي‏ء عملته أيديهم. هذا و يرد عليه ما يرد على سابقه.

و قوله:( أَ فَلا يَشْكُرُونَ ) توبيخ و استقباح لعدم شكره و شكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولاً و فعلاً أي إظهارهم أنّهم عباد له مدبّرون بتدبيره و هو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيّته و اتّخاذه إلهاً معبوداً.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) إنشاء لتنزيهه تعالى، لمّا ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات و رزقهم من الحبوب و الأثمار، و إنّما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال:( وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) ق: 7 أشار إلى ما هو أعظم و أوسع من خلق أزواج النبات و هو خلق الأزواج كلّها و تنظيم العالم المشهود باستيلاد كلّ شي‏ء من فاعل و منفعل قبله هما أبواه كالذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات، و كلّ فاعل و منفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمراً ثالثاً، أشار

٩٠

تعالى إلى ذلك فنزّه نفسه بقوله:( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ) إلخ. فقوله:( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ) إنشاء تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار.

و قوله:( مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ) هو و ما بعده بيان للأزواج و الّذي تنبت الأرض هو النبات و لا يبعد شموله الحيوان و قد قال تعالى في الإنسان و هو من أنواع الحيوان( وَ اللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) نوح: 17 و يؤيّد ذلك أنّ ظاهر سياق البيان استيعابه للمبيّن مع عدم ذكر الحيوان في عدد الأزواج.

و قوله:( وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) أي الناس، و قوله:( وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) و هو الّذي يجهله الإنسان من الخليقة أو يجهل كيفيّة ظهوره أو ظهور الكثرة فيه.

و ربّما قيل في الآية: إنّ المراد بالأزواج الأنواع و الأصناف، و لا يساعد عليه الآيات الّتي تذكر خلق الأزواج كقوله تعالى:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات: 49 و المقارنة و نوع من التألّف و التركّب من لوازم مفهوم الزوجيّة.

قال الراغب: يقال لكلّ واحد من القرينين من الذكر و الاُنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكلّ قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخفّ و النعل، و لكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، قال: و قوله:( خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) فبيّن أنّ كلّ ما في العالم زوج من حيث إنّ له ضدّاً ما أو مثلاً مّا أو تركيباً ما بل لا ينفكّ بوجه من تركيب. انتهى.

فزوجيّة الزوج هي كونه مفتقراً في تحقّقه إلى تألّف و تركّب و لذلك يقال لكلّ واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، و كذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحقّقه زوجاً إلى التألّف و التركّب فكون الأشياء أزواجاً مقارنة بعضها بعضاً لإنتاج ثالث أو كونه مولّداً من تألّف اثنين.

قوله تعالى: ( وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) آية اُخرى من آيات الربوبيّة الدالّة على وقوع التدبير العامّ السماويّ للعالم الإنسانيّ مذكورة في أربع آيات.

٩١

و لا شكّ أنّ الآية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، و السلخ في الآية بمعنى الإخراج و لذلك عدّي بمن و لو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الإهاب عن الشاة تعيّن تعدّيه بعن دون من.

و يؤيّد ذلك أنّه تعالى عبّر في مواضع من كلامه عن ورود كلّ من الليل و النهار عقيب الآخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه:( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) الحجّ: 61 فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجاً للنهار في الليل اعتباراً كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجاً للنهار من الليل اعتباراً.

كأنّ الليل أطبق عليهم و أحاطت بهم ظلمته ثمّ ولج فيه النهار فوسعهم نوره و ضياؤه ثمّ خرج منه ففاجأهم الليل ثانياً بانطباق الظلام و إحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية.

و لعلّ فيما ذكرناه من الوجه كفاية عمّا أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثمّ مفاجأة الليل.

قوله تعالى: ( وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) جريها حركتها و قوله( لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) اللّام بمعنى إلى أو للغاية، و المستقرّ مصدر ميميّ أو اسم زمان أو مكان، و المعنى أنّها تتحرّك نحو مستقرّها أو حتّى تنتهي إلى مستقرّها أي استقرارها و سكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محلّه.

و أمّا جريها و هو حركتها فظاهر النظر الحسّيّ يثبت لها حركة دوريّة حول الأرض لكنّ الأبحاث العلميّة تقضي بالعكس و تكشف أنّ لها مع سيّاراتها حركة انتقاليّة نحو النسر الواقع.

و كيف كان فمحصّل المعنى أنّ الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيويّ على حاله حتّى تستقرّ و تسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا و يبطل هذا النظام، و هذا المعنى يرجع بالمال إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت و غيرهم:( و الشمس تجري لا مستقرّ لها) كما قيل.

و أمّا حمل جريها على حركتها الوضعيّة حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري

٩٢

الدالّ على الانتقال من مكان إلى مكان.

و قوله:( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) أي الجري المذكور تقدير و تدبير ممّن لا يغلبه غالب في إرادته و لا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول و الظاهر أنّ المراد به المنازل الثمانية و العشرون الّتي تقطعها القمر في كلّ ثمانية و عشرين يوماً و ليلة تقريباً.

و العرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته و هو عود أصفر مقوّس يشبه الهلال، و القديم العتيق.

و قد اختلفت الأنظار في معنى الآية للاختلاف في تركيبها، و أقرب التقديرات من الفهم قول من قال: إنّ التقدير و القمر قدّرناه ذا منازل أو قدّرنا له منازل حتّى عاد هلالاً يشبه العرجون العتيق المصفرّ لونه.

تشير الآية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الأرض فإنّ نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريباً و ما يقرب من النصف الآخر غير المسامت للشمس مظلم ثمّ يتغيّر موضع الاستنارة و لا يزال كذلك حتّى يعود إلى الوضع الأوّل و يعرض ذلك أن يظهر لأهل الأرض في صورة هلال ثمّ لا يزال ينبسط عليه النور حتّى يتبدّر ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود إلى ما كان عليه أوّلاً.

و لاختلاف صوره آثار بارزة في البرّ و البحر و حياة الناس على ما بيّن في الأبحاث المربوطة.

فالآية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الأرض و أهلها دون حاله في نفسه و دون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط.

و من هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى:( وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) أنّ المراد بقوله:( تَجْرِي ) الإشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحسّ من حركتها اليوميّة و الفصليّة و السنويّة و هي حالها بالنسبة إلينا، و بقوله:( لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) حالها في نفسها و هي سكونها بالنسبة إلى سيّاراتها المتحرّكة حولها كأنّه قيل: و آية لهم أنّ الشمس

٩٣

على استقرارها تجري عليهم و قد دبّر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الأرضيّ و حياة أهله و الله أعلم.

قوله تعالى: ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) لفظة ينبغي تدلّ على الترجّح و نفي ترجّح الإدراك من الشمس نفي وقوعه منها، و المراد به أنّ التدبير ليس ممّا يجري يوماً و يقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختلّ و لا منقوض حتّى ينقضي الأجل المضروب منه تعالى لذلك.

فالمعنى أنّ الشمس و القمر ملازمان لما خطّ لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتّى يختلّ بذلك التدبير المعمول بهما و لا الليل سابق النهار و هما متعاقبان في التدبير فيتقدّم الليل و النهار فيجتمع ليلتان ثمّ نهاران بل يتعاقبان.

و لم يتعرّض لنفي إدراك القمر للشمس و لا لنفي سبق النهار الليل لأنّ المقام مقام بيان انحفاظ النظم الإلهيّ عن الاختلال و الفساد فنفى إدراك ما هو أعظم و أقوى و هو الشمس لما هو أصغر و أضعف و هو القمر، و يعلم منه حال العكس و نفى سبق الليل الّذي هو افتقاده للنهار الّذي هو ليله و الليل مضاف إليه متأخّر طبعاً منه و يعلم به حال العكس.

و قوله:( وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) أي كلّ من الشمس و القمر و غيرهما من النجوم و الكواكب يجرون في مجرى خاصّ به كما يسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائيّ الّذي يتحرّك فيه الجرم العلويّ، و لا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكلّ كلّ من الشمس و القمر و الليل و النهار و إن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك.

و الإتيان بضمير الجمع الخاصّ بالعقلاء في قوله( يَسْبَحُونَ ) لعلّه للإشارة إلى كونها مطاوعة لمشيّته مطيعة لأمره تعالى كالعقلاء كما في قوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) حم السجدة: 11.

و للمفسّرين في جمل الآية آراء اُخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف

٩٤

عليها فليراجع المفصّلات.

قوله تعالى: ( وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) قال الراغب: الذرّيّة أصلها الصغار من الأولاد، و تقع في التعارف على الصغار و الكبار معاً، و يستعمل للواحد و الجمع و أصله للجمع. انتهى، و الفلك السفينة، و المشحون المملوء.

آية اُخرى من آيات ربوبيّته تعالى و هو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذرّيّتهم في الفلك المشحون بهم و بأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة و غيرها، و لا حامل لهم فيه و لا حافظ لهم عن الغرق إلّا هو تعالى و الخواصّ الّتي يستفيدون منها في ركوب البحر اُمور مسخّرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أنّ هذه الأسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلاً.

و إنّما نسبت الحمل إلى الذرّيّة دونهم أنفسهم فلم يقل: إنّا حملناهم لإثارة الشفقة و الرحمة.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ) المراد به - على ما فسّروه - الأنعام قال تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) الزخرف: 12 و قال:( وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) المؤمن: 80.

و فسّر بعضهم الفلك المذكور في الآية السابقة بسفينة نوحعليه‌السلام و ما في هذه الآية بالسفن و الزوارق المعمولة بعدها و هو تفسير ردي‏ء و مثله تفسير ما في هذه الآية بالإبل خاصّة.

و ربّما فسّر ما في هذه الآية بالطيّارات و السفن الجوّيّة المعمولة في هذه الأعصار و التعميم أولى.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ ) الصريخ هو الّذي يجيب الصراخ و يغيث، الاستغاثة و الإنقاذ هو الإنجاء من الغرق.

و الآية متّصلة بقوله السابق:( أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) أي إنّ الأمر إلى مشيّتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث و لا ينقذهم منقذ.

قوله تعالى: ( إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى‏ حِينٍ ) استثناء مفرّغ و التقدير

٩٥

لا ينجون بسبب من الأسباب و أمر من الاُمور إلّا لرحمة منّا تنالهم و لتمتّع إلى حين الأجل المسمّى الّذي قدّرناه لهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لمّا ذكر الآيات الدالّة على الربوبيّة ذمّهم على عدم رعايتهم حقّها و عدم إقبالهم عليها و عدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الآيات البيّنات ناطقة أنّ ربّكم الله فاتّقوا معصيته في حالكم الحاضرة و ما قدّمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك و المعاصي الّتي أنتم مبتلون بها و ما خلّفتم وراءكم، أو اتّقوا ما بين أيديكم من الشرك و المعاصي في الحياة الدنيا و ما خلفكم من العذاب في الآخرة، أعرضوا عنه و لم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الآيات الّتي ذكّروا بها.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ المراد بما بين أيديهم و ما خلفهم الشرك و المعاصي الّتي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة و ما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الّذي استوجبوه بذلك و المآل واحد، أو الشرك و المعاصي في الدنيا و العذاب في الآخرة و هو أوجه الوجوه.

و ثانياً: أنّ حذف جواب إذا للدلالة على أنّ حالهم بلغت من الجرأة على الله و الاستهانة بالحقّ مبلغاً لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحقّ إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفاً و لا يذكر، و قد دلّ عليه بقوله:( وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) المراد بإتيان الآيات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة و الذكر، و أيضاً هي أعمّ من أن تكون آية آفاقيّة أو أنفسيّة، أو تكون آية معجزة كالقرآن فهم معرضون عنها جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إلى آخر الآية كان قوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ ) متعرّضاً لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله و هي أحد ركني الدين الحقّ، و هذه الآية تعرّضت لجوابهم إذا دعوا إلى

٩٦

الشفقة على خلق الله و هو الركن الآخر و معلوم أنّ جوابهم الردّ دون القبول.

فقوله:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) يتضمّن دعوتهم إلى الإنفاق على الفقراء و المساكين من أموالهم و في التعبير عن الأموال بما رزقهم الله إشعار بأنّ المالك لها حقيقة هو الله الّذي رزقهم بها و سلّطهم عليها، و هو الّذي خلق الفقراء و المساكين و أقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الّذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم و ليحسنوا و ليجملوا و الله يحبّ الإحسان و جميل الفعل.

و قوله:( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ) جوابهم للدعوة إلى الإنفاق، و إنّما أظهر القائل - الّذين كفروا - و مقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أنّ كفرهم بالحقّ و إعراضهم عنه باتّباع الشهوات هو الّذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبنيّ على الإعراض عمّا تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله و إصلاح ما فسد في المجتمع كما أنّ الإظهار في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) للإشارة إلى أنّ قائل( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) هم الّذين آمنوا.

و في قولهم:( أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ ) إشعار بأنّ المؤمنين إنّما قالوا لهم:( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) بعنوان أنّه ممّا يشاؤه الله و يريده حكماً دينيّاً فردّوه بأنّ إرادة الله لا تتخلّف عن مراده فلو شاء أن يُطعمهم أطعمهم أي وسّع في رزقهم و جعلهم أغنياء.

و هذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعيّة المبنيّة على الابتلاء و الامتحان و هداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم و آخرتهم و من الجائز أن تتخلّف عن المراد بالعصيان، و بين الإرادة التكوينيّة الّتي لا تتخلّف عن المراد و من المعلوم أنّ مشيّة الله و إرادته المتعلّقة بإطعام الفقراء و الإنفاق عليهم من المشيّة التشريعيّة دون التكوينيّة فتخلّفها في مورد الفقراء إنّما يدلّ على عصيان الّذين كفروا و تمرّدهم عمّا اُمروا به لا على عدم تعلّق الإرادة به و كذب مدّعيه.

و هذه مغالطة بنوا عليها جلّ ما افتعلوه من سنن الوثنيّة و قد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ

٩٧

وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) النحل: 35، و قوله:( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: 148، و قوله:( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) الزخرف: 20.

و قوله:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) من تمام قول الّذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنّكم في ضلال مبين في دعواكم أنّ الله أمرنا بالإنفاق و شاء منّا ذلك.

( بحث روائي)

في المجمع، روي عن عليّ بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر و جعفر الصادقعليهم‌السلام :( لا مستقرّ لها) بنصب الراء.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد البخاريّ و مسلم و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ عن أبي ذرّ قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى:( وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) قال: مستقرّها تحت العرش.

أقول: و قد روي هذا المعنى عن أبي ذرّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق الخاصّة و العامّة مختصرة و مطوّلة، و في بعضها أنّها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتّى تصل إلى ما دون العرش فتسجد و تستأذن في الطلوع و تبقى على ذلك حتّى تكسى نوراً و يؤذن لها في الطلوع.

و الرواية إن صحّت فهي مؤوّلة.

و في روضة الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ خلق الشمس قبل القمر و خلق النور قبل الظلمة.

و في المجمع، روى العيّاشيّ في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا و الفضل بن سهل و المأمون في الأيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ رجلاً من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ قال: و أداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شي‏ء.

٩٨

فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل أنّ طالع الدنيا السرطان و الكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان و المشتري في السرطان و المرّيخ في الجدي و الشمس في الحمل و الزهرة في الحوت و عطارد في السنبلة و القمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، و من القرآن قوله تعالى:( وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) أي الليل قد سبقه النهار.

أقول: نقل الآلوسيّ في روح المعاني، هذا الحديث‏ ثمّ قال: و في الاستدلال بالآية بحث ظاهر، و أمّا بالحساب فله وجه في الجملة و رأى المنجّمون أنّ ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر و الّذي يغلب على الظنّ عدم صحّة الخبر من مبتدئه فالرضا أجلّ من أن يستدلّ بالآية على ما سمعت من دعواه انتهى.

و قد اختلط عليه الأمر في تحصيل حقيقة معنى الليل و النهار:

توضيحه: أنّ الليل و النهار متقابلان تقابل العدم و الملكة كالعمى و البصر فكما أنّ العمى ليس مطلق عدم البصر حتّى يكون الجدار مثلاً أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر ممّا من شأنه أن يتّصف بالبصر كالإنسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الأرض بنور الشمس و من المعلوم أنّ عدم الملكة يتوقّف في تحقّقه على تحقّق الملكة المقابلة له قبله حتّى يتعيّن بالإضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقّق عمى و لو لا النهار لم يتحقّق الليل.

فمطلق الليل بمعناه الّذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار و قوله:( وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) و إن كان ناظراً إلى الترتيب المفروض بين النهر و الليالي و أنّ هناك نهاراً و ليلاً و نهاراً و ليلاً و أنّ واحداً من هذه الليالي لا يسبق النهار الّذي بجنبه.

لكنّه تعالى أخذ في قوله:( وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) مطلق الليل و نفى تقدّمه على مطلق النهار و لم يقل: إنّ واحداً من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله.

فالحكم في الآية مبنيّ على ما يقتضيه طبيعة الليل و النهار بحسب التقابل الّذي

٩٩

أودعه الله بينهما و قد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل و النهار فإنّ كلّ ليل هو افتقاد النهار الّذي هو يتلوه فلا يتقدّم عليه و إلى هذا يشيرعليه‌السلام بعد ذكر الآية بقوله:( أي الليل قد سبقه النهار) يعني أنّ سبق النهار الليل هو خلقه قبله و ليس كما يتوهّم أنّ هناك نهر أو ليالي موجودة ثمّ يتعيّن لكلّ منها محلّه.

و قول المعترض:( و أمّا بالحساب فله وجه في الجملة) لا يدرى وجه قوله: في الجملة و هو وجه تامّ مبنيّ على تسليم اُصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة.

و كذا قوله:( و رأى المنجّمون أنّ ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر) لا محصّل له لأنّ دائرة نصف النهار و هي الدائرة المارّة على القطبين و نقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعيّن لها نقطة معيّنة في السماء دون نقطة اُخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهاراً للأرض دون الاُخرى.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ ) روى الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: معناه اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة.

١٠٠