فدك في التاريخ

فدك في التاريخ0%

فدك في التاريخ مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 148

فدك في التاريخ

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف:

الصفحات: 148
المشاهدات: 12409
تحميل: 11736

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 148 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12409 / تحميل: 11736
الحجم الحجم الحجم
فدك في التاريخ

فدك في التاريخ

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

ـ على حد التعبير ابن العباس لعمر ـ(1) من أهل الحل والعقد إذا صحّ ان في الإسلام طبقة مستأثرة بالحل والعقد.

وقد جر وضع هذه الكلمة في قاموس الحياة الإسلامية إلى تهيئة الجو لارستقراطية هي أبعد ما تكون عن روح الإسلام وواقعه المصفى من الطبقية والعنعنات.

وهل كانت تلك الثروات الضخمة التي امتلأت بها أكياس عبد الرحمن بن عوف وطلحة واضرابهما إلا بسبب هذا اللقب المشؤوم على الإسلام الذي لقبوا به فرأوا انّهم من الطراز الرفيع الذي يستحق أن يملك الملايين ويتحكم في حقوق الناس كما يريد.

وقالوا : ان الاكثرية هي مقياس الحكومة الشرعية والمبدأ الذي لابد أن تقوم على اساسه الخلافة.

وقد استهان القرآن الكريم بالأكثرية ولم يجعل منها في حال من الأحوال دليلاً وميزانا صحيحاً إذا جاء فيه :

( ان تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) .

( وأكثرهم للحقّ كارهون ) .

( وما يتبع أكثرهم إلا ظنّاً ) .

( ولكن أكثرهم يجهلون ) .

وقد روي عن رسول الله (ص) في صحاح السنة انّه قال : بينا أنا قائم ( يعني يوم القيامة على الحوض ) فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج

__________________

(1) اذ قال له : أما أهل الحجى والنهى فانهم ما زالوا يعدونه ـ أي علياً ـ كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام ولكنهم يعدونه محروماً مجدوداً راجع شرح النهج ج 3 ص 115.

١٠١

رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت أين ؟ فقال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال انّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ إلى أن قال ـ : فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم.

ولا يمكن ان تكون هذه الاكثرية الجهنمية التي حدث عنها رسول الله (ص) مصدر السلطة في الإسلام لأنّها لا تنشئ بطبيعة الحال إلا خلافة مطبوعة بطابعها.

واذا خرجنا بالأكثرية عن حدود المدنيين الذين عرفنا آنفاً مراكزهم الجهنمية على الأغلب في الحياة الخالدة واعتبرنا اكثرية المسلمين عموماً هي المقياس الصحيح فلا بد أن نلاحظ ان المدينة هل كانت وحدها مسكن المسلمين ليكتمل النصاب المفروض بالأكثرية المدنية أو انّ أبا بكر لم يكتف بها وانّما بعث إلى المسلمين المنتشرين في أرجاء المملكة بالخير ليأخذ آراءهم ويستشيرهم ؟ كلا لم يحدث شيء من ذلك وانّما فرض حكومته على آفاق المملكة كلّها فرضاً لا يقبل مراجعة ولا جدالاً حتى أصبح التردد في الخضوع لها جريمة لا تغتفر.

وقالوا : ان الخلافة تحصل ببيعة بعض المسلمين ولا ريب ان ذلك قد حصل لأبي بكر.

ولكن هذا مما لا يقره المنطق السياسي السليم لأنّ البعض لا يمكن ان يتحكم في شؤون الأمة كلّها ولأن حياة الأمة لا يمكن ان تعلق على خيط ضعيف كهذا الخيط ويركن في حفظ مقدساتها ومقامها إلى حكومة أنشأها جماعة من الصحابة لم يزكهم اجماع شعبي ولا نص مقدس بل هم أناس عاديون من الصحابة. ونحن نعلم ان ( منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقنّ ولنكوننّ من الصالحين. فلمّا آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما

١٠٢

وعدوه وبما كانوا يكذبون ) ومنهم من خصّ الله تعالى نفسه بالاطلاع على سرائرهم ونفاقهم فقال لرسوله :( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) .

فجماعة فيها المنافق وفيها من يؤذي رسول الله وفيها الكاذب لا يمكن أن يعتبر رأي بعضهم أيا كان ملاكاً للمنصب الأول في العالم الإسلامي.

وتعليقاً على هذه الملعومات نقول : انّ خلافة الصديق لم تكن خلافة نصّ ولا خلافة أكثريّة ولا نتيجة انتخاب مباشر ولا غير مباشر ، نعم بذل في سبيلها بعض المسلمين جهوداً رائعة والتفت حولها طائفة من الناس وانتصرت لها جماعات عديدة في المدينة ولكن هؤلاء جميعاً ليسوا إلا بعض المسلمين والبعض ليس له حكم مطاع في الموضوع لأنّ الحكم الذي يستمدّ معنويّته القانونيّة من الأمّة يلزم ان يكون صاحبه ممثلاً للامة بجميع عناصرها أو أكثر عناصرها هذا أولا وأما ثانياً فلأن في المسلمين منافقين لا يعلمهم إلا الله بنص القرآن الكريم وتنزيه هذا البعض المتوفر على انشاء الكيان السياسي للأمّة حينئذ عن النفاق لابد أن يكون عن طريق النصّ أو الامّة.

واذن فليسمح لنا الطريق أن نميل إلى رأي الزهراء بعض الميل أو كل الميل ، لأنّنا لا نجد للفتنة واقعاً أوضح من تسلط رجل بلا وجه قانوني على أمة وتصرفه في مرافقها الحيوية جميعاً كالصديق (رض) في أيّام خلافته أو في الأشهر الأولى أو في الأسابيع الأولى من حكومته التي خطبت فيها الزهراء ـ على أقل تقدير ـ.

وما أدري هل خطرت للمتسرعين المستبدين نتائج استبدادهم واستقلالهم عن العناصر التي كان من الطبيعي ان يكون لها رأي في

١٠٣

الموضوع لو قامت تلك العناصر بالمعارضة واستعد الهاشميون للمقاومة وقد كان تقدير هذا المعنى قريباً ومعقولاً إلى حد بعيد فكيف لم يحتاطوا له وانتهوا إلى نتيجتهم المطلوبة في مدة قد لا تزيد على ساعة.

ولماذا نقدس الموقف أكثر مما قدسه ابطاله فقد بلغ من تقديس الفاروق انّه أمر بقتل من عاد إلى مثل بيعة أبي بكر وكرر ذلك الموقف.

واذا اردنا أن نأخذ هذا الكلام ونفهمه على انّه كلام امام يراعي دستور الإسلام ، فمعنى ذلك انّه رأى موقف أبي بكر واصحابه في السقيفة فتنة وفساداً لأنّ القتل لا يجوز بغير ذلك من الأسباب.

وهي بعد ذلك كله أم الفتن لأنّها هي التي جعلت الخلافة سلطان الله الذي يأتيه البر والفاجر كما صرحت بذلك السيدة عائشة (رض) التي كانت بلا شك تمثل نظريات الحزب الحاكم(1) .

وهي التي فتحت للاهواء والاطماع السياسية ميدانها الواسع فتولدت الأحزاب وتناحرت السياسات وتفرق المسلمون وانقسموا شر انقسام ذهب بكيانهم الجبّار ومجدهم في التاريخ.

وماذا ظنّك بهذه الأمة التي أنشأت في ربع قرن المملكة الأولى في ارجاء العالم بسبب أن زعيم المعارضة للحكومة في ذلك الحين اعني علياً ـ لم يتخذ للمعارضة أسبابها المزعزعة لكيان الأمة ووحدتها.

( أقول ) : ماذا تقدر لها من مجد وسلطان وهيمنة على العالم لو لم تبتل بعشاق الملك المتضاربين والامراء السكارى بنشوة السلطان ولم تكن مسرحاً للمعارك الدامية التي يقل نظيرها في التاريخ ولم يستغل

__________________

(1) راجع الدر المنثور ج 6 ص 19.

١٠٤

حكّامها الغاشمون إمكانيات الأمة للذاتهم وهنائهم ويستهينون بعد ذلك بمقدراتها جميعاً.

لم ينظر الصدّيق والفاروق إلا إلى زمانهما الخاص فتصورا ان في طاقتهما حماية الكيان الإسلامي ولكنّهما لو تعمّقا في نظرتهما كما تعمّقت الزهراء وتوسعا في مطالعة الموقف لعرفا صدق الانذار الذي انذرتهما به الزهراء.

١٠٥

ـ 5 ـ

محكمة الكتاب

انّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل انّ الله نعمّا يعظكم به انّ الله كان سميعاً بصيراً

( القرآن الكريم )

١٠٦

اذا أردنا ان نرتفع بمستوى دراستنا إلى مصاف الدراسات الدقيقة فلابد أن نأخذ انفسنا بمناهج البحث العلمي في درس ناحيتين :

الناحية الأولى : موقف الخليفة تجاه ميراث الزهراء الذي كان يستند فيه إلى ما رواه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في موضوع الميراث بأساليب متعددة وصور مختلفة لتعدد مواجهات الخصمين فجاءت الأحاديث التي تنقل روايته وهي لا تتفق على حد تعبير واحد ولا تجمع على لفظ معين لاختلاف المشاهد التي ترويها واختصاص كل منها بصيغة خاصة للحديث على حسب ما كان يحضر الخليفة من عبائر أو تعدد الروايات التي رواها في المسألة.

1 ـ وقبل كل شيء نريد ان نلاحظ مقدار تأكد الخليفة من صحة الحديث الذي رآه دالاً على نفي توريث التركة النبويّة واطمئنانه إلى سماع ذلك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وثباته عليه ويمكننا فهم ذلك مما تحدثنا به الروايات(1) من أنّ الخليفة سلّم فدكاً للحوراء وكاد الأمر ان يتمّ لولا ان دخل عمر وقال له : ما هذا ؟ فقال له : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ثم أخذ الكتاب فشقه ، ونحن ننقل هذه الرواية

__________________

(1) ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية ج 3 ص 391.

١٠٧

في تحفظ وان كنا نستقرب صحّتها لأنّ كل شيء كان يشجع على عدم حكاية هذه القصّة لو لم يكن لها نصيب من الواقع. واذا صحّت فهي تدلّ على أنّ أمر التسليم وقع بعد الخطبة الفاطمية الخالدة ونقل الخليفة لحديث نفي الإرث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ حروب الردة التي أشار إليها عمر في كلامه ابتدأت بعد يوم السقيفة بعشرة أيّام(1) خطبة الزهراء قد كانت في اليوم العاشر أيضاً كما سبق(2) .

2 ـ وقد أظهر الخليفة الندم في ساعة وفاته على عدم تسليم فدك لفاطمة(3) وقد بلغ به التأثر حيناً ان قال للناس وقد اجتمعوا حوله أقيلوني بيعتي ، وندرك من هذا انّ الخليفة كان يطوي نفسه على قلق عظيم مرده إلى الشعور بنقص مادي في حكمه على فاطمة وضعف في المدرك الذي استند إليه ويثور به ضميره أحياناً فلا يجد في مستنداته ما يهدئ نفسه المضطربة وقد ضاق بهذه الحالة المريرة فطفحت نفسه في الساعة الأخيرة بكلام يندم فيه على موقفه من الزهراء تلك الساعة الحرجة التي يتمثل فيها للانسان ما مثله على مسرح الحياة من فصول أو شكّ الستار ان يسدل عليها وتجتمع في ذاكرته خيوط حياته بألوانها المختلفة التي آن لها أن تنقطع فلا يبقى منها إلا التبعات.

3 ـ ولا ننسى انّ أبا بكر أوصى أن يدفن إلى جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يصحّ ذلك إلا إذا كان قد عدل عن اعتبار روايته مدركاً قانونيا في الموضوع واستأذن ابنته في أن يدفن فيما ورثته

__________________

(1) راجع مروج الذهب ج 2 ص 193.

(2) ولعلّ هذا يضعف من شأن الرواية لانّ الخليفة لو كان مستعدّاً للتراجع لأجاب الزهراء إلى ما تطلب في المسجد حينما خطبت واسمعته من التأنيب والتقريع الشيء الكثير.

(3) رواه الطبري كما في ص 18 من سمو المعنى في سمو الذات للأستاذ الكبير الشيخ عبدالله العلائلي.

١٠٨

من أرض الحجرة ـ إذا كان للزوجة نصيب في الأرض وكان نصيب عائشة يسع ذلك ـ ولو كان يرى ان تركة النبي (ص) صدقة مشتركة بين المسلمين عامة للزمه الاستئذان منهم ، وهب ان البالغين اجازوا ذلك فكيف بالأطفال والقاصرين ممن كانوا في ذلك الحين.

4 ـ ونحن نعلم أيضاً ان الخليفة لم ينتزع من نساء النبي بيوتهن ومساكنهن التي كن يسكن فيها في حياة رسول الله (ص) فما عساه ان يكون سبب التفريق الذي انتج انتزاع فدك من الزهراء وتخصيص حاصلاتها للمصالح العامّة وابقاء بيوت نساء النبي (ص) لهن يتصرفن فيها كما يتصرف المالك في ماله ؟ حتى تستأذن عائشة في الدفن في حجرتها أكان الحكم بعدم التوريث مختصاً ببضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أن بيوت الزوجات كانت نحلة لهن فلنا ان نستفهم عمّا اثبت ذلك عند الخليفة ولم تقم بيّنة عليه ولا ادّعته واحدة منهنّ وليست حيازتهنّ للبيوت في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على ملكيتهنّ لها لأنّها ليس حيازة استقلالية بل من شؤون حيازة النبي (ص) ككلّ زوجة بالنسبة إلى زوجها. كما انّ نسبة البيوت اليهنّ في الآية الكريمة ـ وقرن في بيوتكنّ ـ لا يدلّ على ذلك لأنّ الإضافة يكفي في صحبتها أدنى ملابسة وقد نسبت إلى النبي (ص) في القرآن الكريم بعد تلك الآية بمقدار قليل اذ قال الله تبارك وتعالى :يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم فإذا كان الترتيب القرآني حجّة لزم الأخذ بما تدلّ عليه هذه الآية وورد في صحّاح السنّة عن رسول الله (ص) اسناد البيت إليه في قوله : انّ ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة.

5 ـ ولنتساءل عمّا إذا كان الحكم بعدم توريث الأنبياء الذي ذهب إليه الخليفة مما اختزنه الوحي لخاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله واقتضت المصلحة تأخيره عن وقت الحاجة واجراءه على الصدّيقة دون سائر ورثة الأنبياء أو انّ الرسل السابقين قد اهملوا تبليغه وتعريف

١٠٩

خلفائهم وورثتهم به طمعاً بالمادة الزائفة واستبقاء لها في أولادهم وآلهم أو انّهم كانوا قد انتهجوا هذا الطريق ونفذوا الحكم بعدم التوريث ومع ذلك لم يؤثر في التواريخ جميعاً أو أنّ السياسة السائدة يومذاك هي التي انشأت هذا الحكم ؟

6 ـ ومن جهة أخرى هل يمكننا ان نقبل انّ رسول الله (ص) يجر على أحبّ الناس إليه واقربهم منه البلايا والشدائد وهي التي يغضب لغضبها ويسرّ لسرورها وينقبض لإنقباضها(1) ولم يكن ليكلفه دفع هذه المحن عنها أكثر من اعلامها بحقيقة الأمر لئلا تطلب ما ليس لها بحقّ وكأنّ رسول الله (ص) لذ له ان ترزي ابنته ثم تتّسع هذه الرزيّة فتكون أداة اختلاف وصخب بين المسلمين عامّة وهو الذي أرسل رحمة للعالمين فبقي مصرّاً على كتمان الخبر عنها مع الاسرار به إلى أبي بكر.

* * *

1 ـ لأجل ان نلقي نظرة على الحديث من الناحية المعنويّة بعد الملاحظات التي أسلفناها نقسم الصيغة التي جاءت في رواية الموضوع إلى قسمين : ـ

( الأول ) ما جاء في بعضها من انّ أبا بكر بكى لما كلّمته فاطمة ثم قال يا بنت رسول الله والله ما ورث أبوك ديناراً ولا درهماً وانّه قال : انّ الأنبياء لا يورثون وما ورد في حديث الخطبة من قوله : انّي سمعت رسول الله (ص) يقول : انّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً لكنّما نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنّة.

( الثاني ) التعبير الذي تنقله عدة اخبار عن الخليفة وهو ما رواه عن رسول الله (ص) من انا لا نورث ما تركناه صدقة.

__________________

(1) هذه صيغ أحاديث متعددة وردت في الصحاح عن النبي.

١١٠

2 ـ والنقطة المهمة في هذا البحث هي معرفة ما إذا كانت هذه الصيغ تدلّ بوضوح لا يقبل تشكيكاً ولا تأويلاً ـ وهو النصّ في العرف العلمي ـ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تورث تركته أو ما إذا كانت تصلح للتعبير بها عن معنى آخر وان كانت للتعبير بها عن الحكم بعدم التوريث أصلح ـ وهو الظاهر في الاصطلاح ـ وللمسألة تقدير ثالث وهو أن لا يرجع المعنى الذي هو في صالح الخليفة على ما قد يؤدّي باللفظ من معان اخر ـ وهو المجمل ـ.

3 ـ إذا لاحظنا القسم الأول من صيغ الحديث وجدنا رواياته تقبل ان تكون بياناً لعدم تشريع توريث الأنبياء كما فهمه الخليفة ويمكن ان تكون كناية عن معنى لا يبعد ان يقع في نفس رسول الله (ص) بيانه وهو تعظيم مقام النبوّة وتجليل الأنبياء. وليس من مظهر للجلالة الروحية والعظمة الإلهية اجلى دلالة واكثر مادية من الزهد في الدنيا ولذائذها الزائفة ومتعها الفانية فلماذا لا يجوز لنا افتراض انّ النبي (ص) أراد ان يشير إلى ان الأنبياء أناس ملائكيون وبشر من الطراز الأسمى الذي لا تشوبه الأنانيّات الأرضيّة والأهواء البشريّة لأنّ طبيعتهم قد اشتقّت من عناصر السماء ـ بمعناها الرمزي ـ المتدفقة بالخير لا من مواد هذا العالم الارضي فهم أبداً ودائماً منابع الخير والطالعون بالنور والموروثون للايمان والحكمة والمركزون للسلطان الإلهي في الأرض وليسوا مصادر للثروة بمعناها المصطلح عليه في عرف الناس ولا بالساعين وراء نفائسها ولماذا لا يكون قوله : انّا معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ولا ارضاً ولا عقاراً ولا داراً كناية عن هذا المعنى لأن توريثهم لهذه الأشياء انّما يكون بحيازتهم لها وتركهم إيّاها بعد موتهم وهم منصرفون عنها لا يحسبون لها حساباً ولا يقيمون لها وزناً ليحصلوا على شيء منها فما هو تحت اللفظ نفي التوريث لعدم وجود التركة كما إذا قلنا : انّ الفقراء لا يورثون لا انّهم يختصون عن سائر الناس بحكم يقضي

١١١

بعدم جريان أحكام الإرث على تركاتهم. والهدف الأصلي من الكلام بيان جلال الأنبياء. وهذا الأسلوب من البيان مما يتّفق مع الأساليب النبويّة الرائعة التي تطفح بالمعاني الكبار وتزخر بأسماها في موجاتها اللفظية القصيرة.

4 ـ ولكي تتّفق معي على تفسير معين للحديث يلزم ان نعرف معنى التوريث لنفهم الجملة النافية له كما يلزم. ومعنى التوريث جعل شيء ميراثاً فالمورث من يكون سبباً لانتقال المال من الميّت إلى قريبه. وهذا الانتقال يتوقف على أمرين : ـ

( أحدهما ) وجود التركة.

( والآخر ) القانون الذي يجعل للوارث حصّة من مال الميّت ويحصل الأول بسبب نفس الميّت والثاني بسبب المشروع الذي وضع قانون الوراثة سواء أكان فرداً اسندت إليه الناس الصلاحيات التشريعية أو هيئة تقوم على ذلك أو نبياً يشرع بوحي من السماء فكلّ من الميّت والمشرع له نصيب من ايجاد التوارث ولكن المورث الحقيقي الذي يستحقّ التعبير عنه بهذا اللفظ بحقّ هو الميّت الذي أوجد مادة الإرث لأنّه هو الذي هيأ للإرث شرطه الأخير بما خلفه من ثروة واما المشرع فليس مورثاً من ذلك الطراز لأنّه لم يجعل بوصفه للقانون ميراثاً معيناً بالفعل بل شرع نظاماً يقضي بأن الميّت إذا كان قد ملك شيئاً وخلفه بعد موته فهو لأقاربه وهذا وحده لا يكفي لايجاد مال موروث في الخارج بل يتوقف على ان يكون الميّت قد أصاب شيئاً من المال وخلفه بعده.

فالواضع التشريعي نظير من يضيف عنصراً خاصاً إلى طبيعة من الطبائع فيجعلها قابلة لاحراق ما يلاقيها فإذا القيت إليها بورقة فاحترقت كنت انت الذي احرقتها لا من اضاف ذلك العنصر المحرق إلى الطبيعة والقاعدة التي تعلل ذلك ان كل شيء يسند بحسب اصول التعبير إلى

١١٢

المؤثر الأخير فيه وعلى ضوء هذه القاعدة نعرف ان نسبة التوريث إلى شخص تدلّ على انّه المؤثر الأخير في الإرث وهو الموروث الذي أوجد التركة فالمفهوم من جملة انّ الأنبياء يورثون انّهم يحصلون على الأموال ويجعلونها تركة من بعدهم واذا نفي التوريث عنهم كان مدلول هذا النفي انّهم لا يهيؤون للارث شرطه الأخير ولا يسعون وراء الأموال ليتركوها بعد وفاتهم لورثتهم ، واذن فليس معنى الأنبياء لا يوروثون عدم التوريث التشريعي ونفي الحكم بالإرث لأنّ الحكم بالإرث ليس توريثاً حقيقياً بل التوريث الحقيقي تهيئة نفس التركة وهذا هو المنفي في الحديث.

وعلى طراز آخر من البيان انّ التوريث الذي نفاه خاتم النبيين عن الأنبياء ان كان هو التوريث التشريعي كان مفاد النفي الغاء قانون الإرث من شرائع السماء ، لانّ توريثهم التشريعي لا يختصّ بورثتهم حتى يكون المنفي توريثهم خاصة وان كان هو التوريث الحقيقي بمعنى تهيئة الجو المناسب للارث سقطت العبارة عمّا أراد لها الصديق من معنى وكان معناها ان الأنبياء لا تركة لهم لتورث.

5 ـ وفي الرواية الأولى مهد الخليفة للحديث بقوله : والله ما ورث ابوك ديناراً ولادرهماً وهذا التعبير واضح كل الوضوح في نفي التركة وعدم ترك رسول الله (ص) شيئاً من المال فإذا صحّ للخليفة ان يستعمل تلك الجملة في هذا المعنى فليصح ان تدلّ صيغة الحديث عليه ايضاً ويكون هو المقصود منها.

6 ـ واذا لاحظنا الامثلة التي ذكرت في الرواية الثانية نجد فيها ما يعزز قيمة هذا التفسير لانّ ذكر الذهب والفضة والعقار والدار ـ مع انّها من مهمات التركة ـ لا يتّفق مع تفسير الحديث بأن التركة لا تورث

١١٣

لأنّ اللازم ذكر اتفه الأشياء لبيان عموم الحكم بعدم الإرث لسائر مصاديق التركة كما انا إذا اردنا ان نوضح عدم ارث الكافر لشيء من تركة ابيه لم نقل : ان الكافر لا يرث ذهباً ولا فضة ولا داراً وانّما نقول : انّه لا يرث تمرة واحدة من تركة الميّت وبتعبير واضح انّ الاهتمام بتوضيح عموم الحكم لكلّ أقسام التركة يقتضي التصريح ببعض أقسام المال الذي قد يتوهم متوهم عدم اندراجه في التركة التي لا تورث وقولنا : الأنبياء لا يورثون أو انّ الكفار لا نصيب لهم من تركة آبائهم يدلّ أوّل ما يدلّ على عدم انتقال الدار والعقار والذهب والفضة وغيرها من نفيس التركة ومهمها فذكر هذه الأمور في الحديث يرجح انّ المقصود بنفي توريث الأنبياء بيان زهدهم وعدم اهتمامهم بالحصول على نفائس الحياة المحدودة التي يتنافس فيها المتنافسون لأنّ المناسب لهذا الغرض ذكر الأموال المهمة التي تكون حيازتها وتوريثها منافياً للزهد والمقامات الروحية العليا. وامّا الأخبار عن عدم التوريث في الشريعة فاللائق به ذكر التوافه من التركة دون اقسامها الواضحة المهمّة.

7 ـ وأمر آخر يشهد لما ذكرناه من التفسير وهو الجملة الثانية الايجابيّة في الحديث أي جملة. ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة فانّها لا تدل على تشريع وراثة هذه الأمور بل على توفرها في الأنبياء إلى حد يؤهلهم لنشرها واشاعتها بين الناس فقد نفهم حينئذ انّ المراد بالجملة الأولى التي نفت التوريث بيان انّ الأنبياء لا يسعون للحصول على الذهب والعقار ونحوهما ولا يكون لهم من ذلك شئ ليرثه آلهم.

8 ـ ولا يجوز لنا ان نقيس عبارة الحديث المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : انّ الناس لا يورثون الكافر من اقاربهم ، بل يلزمنا ان نفرق بين التعبيرين لأنّ المشرع إذا تكلّم عمن يشرع لهم

١١٤

أحكامهم كان الظاهر من كلامه انّه يلقي بذلك عليهم حكماً من الاحكام فاخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن عدم توريث الناس للكافر من اقاربهم لا يصح تفسيره بأنّه اخبار فقط بل يدلّ فوق هذا على أن الكافر لا يرث في شريعته وتختلف عن ذلك العبارة التي نقلها الخليفة لأن موضوع الحديث فيها هو الأنبياء لا جماعة ممن تشملهم تشريعات النبي (ص) وأحكامه فليس في الأمر ما يدلّ على حكم وراء الأخبار عن عدم توريثهم.

9 ـ وليس لك ان تعترض بأن الأنبياء كثيراً ما يحوزون على شيء مما ذكر في الحديث فيلزم على ما ذكرت من التفسير ان يكون الحديث كاذباً لأنك قد تتذكّر ان الذي نفي عن الأنبياء هو التوريث خاصة وهو ينطوي على معنى خاص وأعني به اسناد الإرث إلى المورث وهذا الاسناد يتوقف على أن يكون المورث قد سعى في سبيل الحصول على المال الذي تركه ميراثاً بعده كما يتوقف معنى المهذب على استعمال وسائل التهذيب فإذا استطاع شخص ان يقرأ أفكار عالم من علماء الأخلاق ويهذب نفسه على هدى تلك الأفكار لم يصح تسمية ذلك العالم مهذباً لأن ايجاد اي شيء سواء أكان تهذيباً أو توريثاً أو تعليماً أو نحو ذلك لا يستقيم اسناده إلى شخص إلا إذا كان للشخص عمل ايجابي وتأثير ملحوظ في تحقق ذلك الشيء الموجود والانبياء وان حازوا شيئاً من العقارات والدور ولكن ذلك لم يكن بسعي منهم وراء المال كما هو شأن الناس جميعاً. ونقرر علاوة على هذا ان المقصود من الكلام ليس هو بيان ان الأنبياء لا يورثون ولا يتركون مالاً بل ما يدلّ عليه ذلك من مقامهم وامتيازهم وما دامت الجملة كذلك ولم يكن الهدف الحقيقي منها بيان معناها الحرفي فلا يمنع حيازة الأنبياء لبعض تلك الأموال عن صواب التفسير الذي قدمناه كما انّ من كنى قديماً عن الكريم بأنّه كثير الرماد لم يكن كاذباً سواء أكان في بيت الكريم رماد أو لا لأنّه لم يرد

١١٥

نعته بهذا الوصف حقاً وانّما أشار به إلى كرمه لأن أظهر لوازم الكرم يومذاك كثرة المطابخ الموجبة لكثرة الرماد وعدم التوريث من أوضح آثار الزهد والورع فيجوز ان يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أشار إلى ورع الأنبياء بقوله : ان الأنبياء لا يورثون.

10 ـ ولأجل ان نتبين معنى القسم الثاني من صيغ الحديث يلزمنا ان نميز بين معان ثلاثة ـ :

الأول : ان تركة الميّت لا تورث ومعنى هذا ان ما كان يملكه إلى حين وفاته وتركه بعده لا ينتقل إلى آله بل يصبح صدقة حين موته.

الثاني : ان ما تصدق به الميّت في حياته أو اوقفه على جهات معينة لا يورث بل يبقى صدقة ووقفاً والورثة انّما يرثون غير الصدقات من الأموال التي كان يملكها الميّت إلى حين وفاته.

الثالث : انّ الشخص ليس لديه أموال مملوكة له لتورث وكل ما سوف يتركه من أموال انّما هو من الصدقات والأوقاف.

ومتى عرفنا الفارق بين هذه المعاني يظهر ان صيغة الحديث ليست واضحة كلّ الوضوح ولا غنية عن البحث والتمحيص بل في طاقتها التعبيرية امكانيات التفسير بالمعاني الانفة الذكر جميعا فان النصف الثاني من الحديث وهو ـ ما تركناه صدقة ـ يجوز ان يكون مستقلاً في كيانه المعنوي مركباً من مبتدأ وخبر يمكن ان يكون تكملة لجملة لا نورث ففي الحال الأولى يقبل الحديث التفسير بالمعنى الأول والثالث من المعاني السابقة لأن جملة ـ ما تركناه صدقة ـ قد يراد بها ان التركة لا تنتقل من ملك الميّت إلى آله وانّما تصبح صدقة بعد موته وقد يقصد بها بيان المعنى الثالث وهو ان جميع التركة صدقة ولم يكن يملك منها الميّت شيئاً ليورث كما إذا اشار الانسان إلى امواله وقال : ان هذه الاموال

١١٦

ليست ملكاً لي وانّما هي صدقات اتولاها والحديث على تقدير ان تكون له وحدة معنوية يدلّ على المعنى الثاني اي ان الصدقات التي تصدق بها الميّت في حياته لا تورث دون سائر تركته ويكون الموصول مفعولاً لا مبتدأ ويتضح من الصيغة على هذا التقدير نفس ما يفهم منها إذا انعكس الترتيب فيها وجاءت هكذا : ـ ما تركناه صدقة لا نورثه ـ فكما يؤتى بهذه الجملة لبيان ان الصدقات لا تورث لا ان كل أقسام التركة صدقة كذلك يصح ان يقصد نفس ذلك المعنى من صيغة الحديث بترتيبها المأثور. فتكون دليلاً على عدم انتقال الصدقات إلى الورثة لا على عدم تشريع الإرث اطلاقاً وقد يكون من حق سيبويه علينا ان نشير إلى ان قواعد النحو ترفع كلمة صدقة على تقدير استقلال ـ ما تركناه صدقة ـ معنوياً وتنصبها على التقدير الآخر. ومن الواضح انّ الحركات الاعرابية لا تلحظ في التكلم عادة بالنسبة إلى الحرف الأخير من حروف الجملة للوقوف عليه المجوز لتسكينه.

11 ـ واذن فقد وضعنا بين يدي الحديث عدة من المعاني في سبيل البحث عن مدلوله وليس من الاسراف في القول ان نقرّر ان تفسير الحديث بما يدلّ على انّ أموال النبي (ص) تكون صدقة بعد موته لا يرجح على المعنيين الآخرين بل قد نتبين لوناً من الرجحان للمعنى الثاني ـ وهو ان المتروك صدقة لا يورث ـ دون سائر التركة إذا تأملنا ضمير الجمع في الحديث وهو النون وهضمنا دلالته كما يجب لأن استعماله في شخصه الكريم خاصة لا يصح إلا على سبيل المجاز ثم هو بعد ذلك بعيد كل البعد عن تواضع رسول الله (ص) في قوله وفعله فالظواهر تجمع على أن النون قد استعملت في جماعة وان الحكم الذي تقرره العبارة ثابت لها وليس مختصاً بالنبي (ص) والاوفق باصول التعبير ان تكون الجماعة جماعة المسلمين لا الأنبياء لأنّ الحديث مجرد عن قرينة تعين هؤلاء ولم يسبق بعهد يدلّ عليهم وليس لك ان تعترض بأن صيغة الحديث يجوز انّها كانت مقترنة

١١٧

حال صدورها من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة أو مسبوقة بعهد يدلّ على انّ مراده من الضمير جماعة الأنبياء لانّ اللازم ان نعتبر عدم ذكر الخليفة لشيء من ذلك ـ مع أن الراوي لحديث لابد له من نقل سائر ما يتصل به مما يصلح لتفسيره ـ دليلاً على سقوط هذا الاعتراض. واضف إلى هذا ان اغفال ذلك لم يكن من صالحه واذن فليكن الواقع اللفظي للحديث هو الواقع المأثور عن الخليفة بحدوده الخاصة بلا زيادة ولا نقيصة.

والمفهوم من الضمير حينئذ جماعة المسلمين لحضورهم ذاتاً عند صدور العبارة من النبي (ص) وقد جرت عادة المتكلمين على انّهم إذا أوردوا جملة في مجتمع من الناس وادرجوا فيها ضمير المتكلم الموضوع للجماعة أن يريدوا بالضمير الجماعة الحاضرة فلو ان شخصاً من العلماء اجتمع عنده جماعة من أصدقائه وأخذ يحدثهم وهو يعبر بضمير المتكلم الموضوع للجمع بلا سبق ذكر العلماء لفهم من الضمير ان المتكلم يعني بالجماعة نفسه مع أصدقائه الحاضرين لا معشر العلماء الذين يندرج فيهم ولو أردا جماعة غير اولئك الحاضرين لم يكن مبيناً بل ملغزاً. وتعلية على هذا التقدير ماذا تراه يكون هذا الحكم الذي اثبته الحديث للمسلمين ـ الذين قد عرفنا ان الضمير يدلّ عليهم ـ هل يجوز ان يكون عبارة عن عدم توريث المسلم لتركته ؟ أو أن الأموال التي عند كل مسلم ليست ملكاً له وانّما هي من الصدقات. كلا ! فان هذا لا ينفق مع الضروري من تشريع الإسلام ، لأنّ المسلم في عرف القرآن يملك بألوان متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال متعددة من أسباب الملك عند الناس ويورث ما يتركه من أموال بعد وصية يوصي بها أو دين. وانت ترى معي الآن بوضوح ان الحكم ليس إلا ان الصدقة لا تورث فان هذا أمر عام لا يختص بصدقه دون صدقة بل يطرد في سائر صدقات المسلمين ولا غرابة في بيان الحكم بعدم توريث الصدقات في صدر زمان التشريع مع وضوحه الآن. لأنّ قواعد الشريعة واحكامها لم تكن قد تقررت

١١٨

واشتهرت بين المسلمين فكان لاحتمال انفساخ الصدقات والاوقاف بموت المالك ورجوعها إلى الورثة متسع.

ولا يضعضع قيمة هذا التفسير عدم ذكر الزهراء له واعتراضها به على الخليفة.

أما أولاً : فلأن الموقف الحرج الذي وقفته الزهراء في ساعتها الشديدة لم يكن ليتسع لمثل تلك المناقشات الدقيقة حيث انّ السلطة الحاكمة التي كانت تريد تنفيذ قراراتها بصورة حاسمة قد سيطرت على الموقف بصرامة وعزم لا يقبلان جدالاً ولذا نرى الخليفة لا يزيد في جواب استدلال خصمه بآيات ميراث الأنبياء على الدعوى الصارمة اذ يقول هكذا هو ـ كما في طبقات ابن سعد ـ فلم يكن مصير هذه المناقشات لو قدر لها أن تساهم في الثورة بنصيب إلا الرد والفشل.

وأمّا ثانياً : فلأن هذه المناقشات لم تكن تتصل بهدف الزهراء وغرضها الذي كان يتلخص في القضاء على الأساليب التي هي أقرب إلى تحقيق ذلك الغرض فتراها مثلاً في خطابها الخالد خاطبت عقول الناس وقلوبهم معاً ولكنها لم تتجاوز في احتجاجها الوجوه البديهية التي كان من القريب ان يستنكر اغضاء الخليفة عنها كل احد ، ويجر ذلك الاستنكار إلى معارضة حامية.

فقد نفت وجود سند لحكم الخليفة من الكتاب الكريم ثم ذكرت ما يخالفه من الآيات العامّة المشرعة للتوارث بين سائر المسلمين(1) والآيات الخاصة الدالة على توريث بعض الأنبياء كيحيى وداودعليهما‌السلام ، ثم عرضت المسألة على وجه آخر وهو : ان ما حكم به الخليفة لو كان حقاً للزم ان يكون أعلم من رسول الله (ص) ووصيه لأنهما لم

__________________

(1) من الواضحات العلمية اخيراً ان الخبر الواحد المعتبر يصلح لتخصيص الكتاب لأنّه حاكم أو وارد كما هو الصحيح على أصالة العموم واصالة الاطلاق وانّما احتجت الزهراء بالآيات العامّة لأنّها لم تكن تعترف بوثاقة الصديق وعدالته.

١١٩

يخبراها بالخبر مع انهما لو كانا على علم به لاخبراها به ، ومن الواضح انّ الصديق لا يمكن ان يكون اعلم بحكم التركة النبويّة من النبي (ص) أو علي الذي ثبتت وصايته لرسول الله (ص) وذلك في قولها :

يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً ! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ اذ يقول : وورث سليمان داود ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا( رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال( واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) افخصكم الله بآية اخرج منها أبي ؟ ام هل تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان ؟! أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ أم أنتم اعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟!(1) .

وكانت أبرز الناحيتين في ثورتها الناحية العاطفية وليس من العجيب ان تصرّف الزهراء أكثر جهودها في كسب معركة القلب فإنّه السلطان الأول على النفس والمهد الطبيعي الذي تترعرع فيه روح الثورة.

وقد نجحت الحوراء في تلوين صورة فنية رائعة تهزّ المشاعر وتكهرب العواطف وتهيمن على القلوب كانت هي أفضل سلاح تتسلح به امرأة في ظروف كظروف الزهراء.

ولأجل ان نستمتع بالجمال الفني في تلك الصورة الملونة بأروع الألوان لا بأس بأن نستمع إلى الصديقة حين خاطبت الأنصار بقولها :

يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي أما كان رسول الله (ص) يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان من احدثتم

__________________

(1) نقلنا هذه القطعة على وجه الاختصار.

١٢٠