فدك في التاريخ

فدك في التاريخ0%

فدك في التاريخ مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 148

فدك في التاريخ

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف:

الصفحات: 148
المشاهدات: 12407
تحميل: 11736

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 148 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12407 / تحميل: 11736
الحجم الحجم الحجم
فدك في التاريخ

فدك في التاريخ

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

وهنا تجيء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة فانّ الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوّة خطوطه بإتقان كان متفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة وينهي خلافة الصديق كما تنتهي القصّة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز على القوة والعدة.

وكان الدور الفاطمي يتخلص في أن تطالب الصديقة الصديق بما انتزعه منها من أموال وتجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الأساسية واعني بها مسألة الخلافة وافهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا فيها عن علي (ع) إلى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ وانهم بذلك أخطأوا وخالفوا كتاب ربهم ووردوا غير شربهم.

ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح اوضاع الساعة وتمسح عن الحكم الإسلامي الذي وضعت قاعدته الأولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به عن طريق إتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب.

وقد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيّآن للامام فيما لو وقف موقف قرينته.

أحديهما : انّ الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة ومكانتها من أبيها على استثارة العواطف وإيصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيامه الغراء وتجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت.

والأخرى : انّها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة التي تتطلب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة وما دام

٨١

هارون النبوّة في بيته محتفظاً بالهدنة التي اعلنها حتى تجتمع الناس عليه ومراقباً للموقف ليتدخّل فيه متى شاء متزعماً للثورة إذا بلغت حدها الأعلى أو مهدئاً للفتنة إذا لم يتهيّأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء بمقاومتها أمّا ان تحقق انتفاضاً اجماعياً على الخليفة وأمّا أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجرّ إلى فتنة وانشقاق.

وإذن فقد أراد الإمام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء ويبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للإستفادة منها والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. وأراد أيضاً أن يقدم لأمة القرآن كلّها في المقابلة الفاطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة. وقد تمّ للإمام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحق العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.

وتتلخّص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر : ـ

الأوّل : ـ إرسالها لرسول ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها وهذه هي الخطوة الأولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.

الثاني : ـ مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص وقد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغيرهما لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.

ولا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب إلى ذلك أصحابنا بل قد يغلب على ظني تقدم المطالبة بالإرث لأنّ الرواية تصرح بانّ رسول الزهراء انّما كان يطالب بالميراث والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة وأيضاً فانّ دعوى الإرث أقرب

٨٢

الطريقين إلى استخلاص الحق لثبوت التوارث في التشريع الإسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من أبيها الذي يشمل فدكاً في معتقد الخليفة لعدم اطّلاعه على النحلة وليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك اطلاقاً لأنّ المطالبة بالميراث لم تتجه إلى فدك خاصة وانّما تعلقت بتركة النبي (ص) عامة.

الثالث : ـ خطبتها في المسجد بعد عشرة أيّام من وفاة النبي (ص) كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.

الرابع : ـ حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زارها بقصد الإعتذار منها واعلانها غضبها عليهما وانهما اغضبا الله ورسوله (ص) بذلك(4) .

الخامس : ـ خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهن عندها.

السادس : ـ وصيّتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها(2) وكانت هذه الوصيّة الاعلان الأخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.

وقد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى ونجحت بمعنى آخر.

فشلت لأنّها لم تطوح بحكومة الخليفةرضي‌الله‌عنه في زحفها الأخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي (ص).

ولا نستطيع ان نتبين الأمور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة غير ان الأمر الذي لا ريب فيه ان شخصيّة الخليفة (رض) من أهم الاسباب التي أدت إلى فشلها لأنّه من أصحاب المواهب السياسية وقد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء من كلام

__________________

(1) راجع الإمامة والسياسة واعلام النساء.

(2) راجع حلية الأولياء ج 2 ص 43 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 163 واُسد الغابة ج 5 ص 524.

٨٣

وجهة إلى الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء واذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد. في أكبر الظنّ. فيقول : ما هذه الدعة إلى كل قالة انّما هو ثعالة شهيده ذنبه ـ وقد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق ـ فان هذا الانقلاب من اللين والهدوء إلى الغضب الفائر يدلّنا على مقدار ما أوتي من سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في كل حين.

ونجحت معارضة الزهراء لأنّها جهزت الحق بقوة قاهرة وأضافت إلى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلّها وفي محاورتها مع الصديق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصة إذا قالت لهما : أرأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعرفانه وتفعلان به فقالا نعم فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحبّ فاطمة فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني(1) قالا نعم سمعناه من رسول الله (ص) قالت : فانّي أشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (ص) لأشكونكما عنده(2) .

__________________

(1) صحت عن رسول الله (ص) عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح انّه قال لفاطمة ان الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك وقال : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها ـ راجع صحيح البخاري ج 5 ص 274 وصحيح مسلم ج 4 ص 261 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 154 وذخائر العقبى ص 39 والصواعق ص 105 ومسند أحمد ج 4 ص 328 وجامع الترمذي ج 2 ص 219 وابن ماجة ج 1 ص 216.

(2) تجد حديث غضب فاطمة على أبي بكر في صحيح البخاري ج 5 ص 5 وج 6 ص 196 وصحيح مسلم ج 2 ص 72 ومسند أحمد ج 1 ص 6 وتاريخ الطبري ج 3 ص 202 وكفاية الطالب ص 226 وسنن البيهقي ج 6 ص 300.

٨٤

ويصوّر لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الإعتراض على خصميها ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها والانتهاء فيها إلى رأي معين لأنّ ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث ولأنّنا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات وانّما نسجلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها ووجهة نظرها فقط فانّها كانت تعتقد انّ النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة والدين وأعني بها انّ الصديق قد استحق غضب الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله باغضابها وآذاهما بأذاها لانهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنص الحديث النبوي الصحيح فلا يجوز ان يكون خليفة ‏ ورسوله وقد قال الله تبارك وتعالى :( وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان ذلكم كان عند الله عظيماً *انّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً *والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم *يا أيّها الذين آمنوا لا تتولّوا قوماً غضب الله عليهم *ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) .

٨٥

ـ 4 ـ

قبسات من الكلام الفاطمي

يوم جاءت إلى عدي وتيم

ومن الوجد ما أطال بكاها

تعظ القوم في أتم خطاب

حكت المصطفى به وحكاها

( الأزري )

٨٦

نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراءعليها‌السلام لنعطيها حقّها من التحليل والتوضيح ونفهمها كما هي في عالم الخلود وكما هي في واقعها الرائع قالت : ـ

« ثم قبضه إليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الربّ الغفّار ومجاورة الملك الجبّار ».

انظر إلى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذوذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها وجنته الخالدة لأنّها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله وما قيمة اللذة الماديّة جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الإنسانية كما ارتفع بها ولم يبلغ بها أحد سواه أوجهاً المحمدي ( ولم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الإلهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الأخير للطواف الإنساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير وتطمئنّ إليه الروح )(1) .

فهو إذن : المربي الأكبر للروح ، والقائد الفريد الذي سجلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى الماديّة في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.

__________________

(1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا ـ العقيدة الإلهية في الإسلام ـ.

٨٧

وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو ان يكون محور ذلك العالم الروحي الجبّار وهذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي : فمحمّد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الأبرار فهو القطب أبداً في الدنيا والآخرة غير انّه في الأولى متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الإنسانية عليه على أسلوب خالد وفي الأخرى مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره فتخف به الملائكة لتقدّم بين يديه آيات الحمد والثناء.

وما دام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي ـ ان صحّ التعبير ـ واي ترف روحي أسمى من مجاورة المالك الجبّار والظفر برضوان الربّ الغفار.

وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فإذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.

وقالت :

وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا والتي ، وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتهم ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله (ص) سيد

٨٨

اولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون(1) .

ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الإسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة ـ ان صحّ التعبير ـ من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء والأرض وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الإنسانية وشخصية اكتفت من الجهاد المقدّس بالوقوف في الخط الحربي الأخير ـ العريش ـ وياليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الإسلام. في عرف التضحية ، في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الأرض.

ولا نعرف في تاريخ الإنسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الإمام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحقّ هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الإسلام وصنعت له تاريخه الجبّار.

فعليّ هو المسلم الأول في اللحظة الأولى من تاريخ النبوّة عندما لعلع الصوت الإلهي من فم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم هو بعد ذلك الغيور الأول والمدافع الأول الذي اسندت إليه السماء تصفية الحساب مع الإنسانية الكافرة.

ان فوز الإمام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من ناحيتين : ـ

( احداهما ) : انّه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم

__________________

(1) تعني بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.

٨٩

الذي لم يكن قد فصل فيه تماماً المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.

( والأخرى ) : ان جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك إليه سبيلاً وجذوة مضطرمة بحرارة الإيمان لا يجد الخمود إليها طريقاً. وهذه الجذوة المتقدة أبداً وذلك الإخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل إليه الأمة حراسة معنوياتها الغالية وحماية شرفها في التاريخ.

اقرأ حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى انّ علياً هو الذي أدهش الأرض والسماء بمواساته(1) وان الصدّيق (رض) هو الذي التجأ إلى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً

__________________

(1) أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليه ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبدا‏ الجمحي ، قال : ثم أبصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرئيل : يا رسول الله ان هذا للمواساة ، فقال رسول الله (ص) : انّه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وانا منكما ، قال : فسمعوا صوتاً :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

ولنتأمل جواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنلاحظ كيف انّه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمّد وعلي إلى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال : انّه مني وأنا منه ولم يرض بأن يفصل الإمام عن شخصه لأنهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلاً أعلى تأتم بها الإنسانية ويهتدي على ضوئها الابطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء ، وأنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمّد وبين من هو من محمّد (ص).

٩٠

بعدة من أبطال الأنصار لحمايته(1) حتى يطمئن بذلك من غوائل الحرب.

وهو الذي فر يوم أحد(2) كما فرّ الفاروق(3) ولم يبايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء وبايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك أرباب التاريخ(4) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالاً في ذلك الموقف مهما يكن لونه(5) .

واذن فلماذا وقف مع الثائبين ان كان لم يفرّ ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (ص) بعدة أصابات اضطرته إلى الصلاة جالساً.

ولعلّنا نعلم جميعاً ان شخصاً إذا كان في وسط الصراع ومعترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه إلا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصديق إذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين وقد نجا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف امام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه فهل أشفق المشركون على أبي بكر ولم يشفقوا على محمّد وعلي والزبير وأبي دجانة وسهل بن حنيف.

وليس لدي من تفسير معقول للموقف إلا ان يكون قد وقف إلى جوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكسب بذلك موقفاً هو في

__________________

(1) راجع عيون الأثر ج 1 ص 258.

(2) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.

(3) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله (ص) ـ راجع شرح النهج ج 3 ص 389 ، 390.

(4) صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج 3 ص 388. والمقريزي في الامتاع ص 132.

(5) اعترف بذلك ابن أبي الحديد ج 3 ص 389.

٩١

طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول الله (ص). وليس هذا ببعيد لأنّنا عرفنا من ذوق الصدّيق انّه كان يحب ان يكون إلى جانب رسول الله (ص) في الحرب لأن مركز النبي (ص) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الإسلامية على حراسته والذب عنه.

وخذ حياة الإمام علي (ع) وحياة الصديق وادرسهما فهل تجد في حياة الأول خموداً في الإخلاص أو ضعفاً في الاندفاع نحن التضحية أو ركوناً إلى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير. لأنّه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة وشخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه استعداد للخلود ما خلد محمّد استاذه الأكبر لأنّه نفسه (ص)(1) .

ثم حدّثني عن حياة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) أيّام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فهل تجد فيها إلا تخاذلاً وضعفاً في الحياة المبدئية والحياة العسكرية يظهر تارة في التجائه إلى العريش وأخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين(2) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالخروج تحت راية اُسامة

__________________

(1) بنص آية المباهلة.

(2) كما في السيرة الحلبية ج 3 ص 123 ، اذا. حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدلّ عليه في صحيح البخاري اذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انّه قال : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله. فان هذا يوضح انّ عمر كان بين المنهزمين.

٩٢

للغزو(1) ومرة أخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (ص) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق ( رضي الله تعال عنه ) واذا به من طراز صاحبه(2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيّام السلم التي اعتز بها الإسلام يوم اسلم كما يقولون ورجع عمر مع اصحابه يجبنهم ويجبنونه(3) فقال رسول الله (ص) انّي دافع الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له(4) ويشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز بعليه العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه ا‏لله ورسوله(5) .

يا خليفتي المسلمين ـ أو بعض المسلمين ـ رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد والمعاناة في سبيل الله ؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز عن ذلك ؟ ألم تستمعا إلى القرآن الذي اسندت اليكما حراسته والتوفر على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول : ـ

__________________

(1) فقد جاء في عدة من المصادر انّ عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج 3.

(2) راجع مسند أحمد ج 5 ص 253 ومستدرك الحاكم ج 3 ص 27 وكنز العمال ج 6 ص 394.

(3) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.

(4) صحيح البخاري ج 5 ص 18 ومسند أحمد ج 5 ص 353.

(5) واكبر الظن انّ الجيش الذي سار الإمام على رأسه لاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فر بالأمس ونفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره فان علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذي كانوا يجبنون الفاروق في الحملة السابقة أبطالاً فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس والإخلاص.

٩٣

ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق (رض) في الإسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم فلا بد انهما تأولاً ووجداً عذراً في فرارهما ونحن نعلم انّ مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفة كان واسعاً حتى انّه اعتذر عن خالد لما قتل مسلماً متعمداً بأنّه اجتهد فأخطأ(1) .

عذرتكما ان الحمام لمبغض

وانّ بقاء النـفس للنفس محبوب

ليكره طعم الموت والموت طالب

فكيف يلذ الموت والموت مطلوب

ولنعتذر إذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار وقد اضطرنا إلى ذلك الوقوف عند المقارنة الفاطمية وما تستحقه من شرح وتوضيح.

قالت : ـ

« تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار ».

هذا الخطاب موجه إلى الحزب الحاكم لأنّه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء إلى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع إلى اتمام البيعة بالخوف من الفتنة. واذن فهو إتهام صريح له بالتآمر على السلطان واتخاذ التدابير اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها وتربص الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وتجريد البيت الهاشمي منها.

وقد رأينا في الفصل السابق انّ الإتفاق السري بين الصديق والفاروق وأبي عبيدة(1) رضي الله عنهم مما تعززه الظواهر التاريخية.

__________________

(1) تاريخ ابن شحنة على هامش الكامل ج 11 ص 114.

(2) نعتذر إلى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجرداً عن اللقب ، وليس هذا ذنبي بل ذنب الأجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الأمر إليه فيمنحه الناس لقباً من الألقاب ، وأما لقب الامين فالارجح عندي انّه لم يحصل

٩٤

ولا ينبغي ان نترقب دليلاً مادياً أقوى من كلام الزهراء الذي بينا اشعاره إلى هذا المعنى بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا ريب انّها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما اخص ما يوصف به انّه اقرب إلى واقعها وأكثر اصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.

ومن حق البحث ان نسجّل انّ الزهراء هي أوّل من أعلنت ـ ان لم يكن زوجها هو المعلن الأول ـ عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة واتهمتها بالتآمر السياسي ثم تبعها على ذلك جملة من معاصريها كأمير المؤمنين صلوات الله عليه ومعاوية بن ابي سفيان ـ كما عرفنا سابقاً ـ.

ومادام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء ويشير إليه الإمام ويلمح إليه معاوية هو الذي سيطر على الحكم ومقدرات الأمة وما دامت الاسر الحاكمة بعد ذلك التي وجّهت جميع مرافق الحياة العامّة لخدمتها قد طبقت اصول تلك السياسة وعناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الإسلام فمن الطبيعي جداً ان لا نرى في التأريخ أو على الأقلّ التاريخ العام صورة واضحة الألوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد ابطاله الأوّلون في تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخالص الذي هو أبعد ما يكون عن الألوان السياسية والاتفاقات السابقة.

* * *

قالت : ـ

( فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب. والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابداراً زعمتم خوف الفتنة إلا في الفتنة سقطوا وانّ جهنم لمحيطة بالكافرين.

__________________

عليه عن طريق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عن طريق الناس وانّما لقب بالامين لمناسبات حزبية خاصة ليس من شأنها تقرير الاوسمة الرسمية.

٩٥

أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تجلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما اسّس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم )(1) .

لئن كان الصديق وصاحباه يشكلون حزباً ذا طابع خاص فمن العبث ان ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع ان يعلنوا عن الخطوط الرئيسية لمناهجهم ويبرروا بها موقفهم يوم السقيفة ومع هذا :

فلا بد من مبرر ..

ولا بد من تفسير ..

فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم إلى اتمام البيعة لأحدهم وتلهفهم على المقامات العليا تلهفاً لم يكن منتظراً بالطبع من صحابة على نمطهم لأن المفروض فيهم انّهم أناس من نوع اكمل وعقول لا تفكر إلا في صالح المبدأ ولا تعبأ إلا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي وأما اقتناص الكراسي فلا ينبغي ان يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أحسّ الحاكمون بذلك وادركوا ان موقفهم كان شاذا على أقل تقدير فأرادوا ( رضي الله عنهم ) ان يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية والخوف على الإسلام من هبوب فتنة طاغية تجهز عليه ونسوا أن الرقعة تفضح موضعها وان الخيوط المقحمة في الثوب تشي بها.

ولذا دوت الزهراء بكلمتها الخالدة : ـ

زعمتم خوف الفتنة إلا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين

__________________

(1) وردت هذه القطعة في خطابها الثاني الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار في بيتها.

٩٦

نعم انّها الفتنة ثم هي ام الفتن بلا ريب.

ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة وتتنبئين لأمة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في أفقه سحب حمراء ؟

ماذا أقول‏ ؟ بل انهار من دم تزخر بالجماجم وهي تنعى على سلفها الصالح فعلهم وتقول : إلا انّهم في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.

كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة وكانت أم الفتن.

كانت فتنة في رأي الزهراء ـ على الأقلّ ـ لأنّها خروج على الحكومة الإسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي (ص) والاولى من المسلمين بأنفهسم(1) .

ومن مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه بأنّه خاف الفتنة وهو لا يعلم ان اتنزاع الأمر ممن اراده له رسول الله (ص) باعتراف عمر(2) هو الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.

وأنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنة الذين لا مطمع لهم في السلطان إلا بمقدار ما يتصل بصالح الإسلام ان يسألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع

__________________

(1) بنص حديث الغدير الذي رواه « 111 » من الصحابة و (84) من التابعين باحسان و « 353 » مؤلف من اخواننا السنة كما يظهر بمراجعة كتاب « الغدير » للعلامة الاميني. واحب أن ألاحظ هنا ان كثيراً من القرآن لم يروه من الصحابة عدد يبلغ مبلغ الرواة لحديث الغدير منهم فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك إلى التشكيك في القرآن الكريم.

وأما دلالة الحديث على خلافة علي وامامته فهي أيضاً ترتفع عن التشكيك لوضوحها وبداهتها وتعدد القرائن عليها ولتراجع في ذلك «مراجعات» سيدنا سادن المذهب وحامي التشيع في دنيا الإسلام آية الله السيد عبدالحسين شرف الدين دام ظله العالي.

(2) راجع ج 3 شرح النهج ص 114 و 115.

٩٧

الأعلى للحكومة الإسلامية من بعده وقد طال المرض به أياماً متعددة وأعلن فيها مراراً عن قرب أجله واجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله وتفصيلات تجهيزه(1) ولم يقع في أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسألة الأساسية بل لم يخطر في بال اولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف ولا يهمل الأمة والحوا عليه في ذلك خوفاً من الفتنة(2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله (ص) فهل ترى انّهم كانوا حينذاك في غفلة عن اخطار الموقف بالرغم من انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بفتن كقطع الليل والمظلم حتى إذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلى توهجت مشاعرهم بالغيرة على الدين وملأ قلوبهم الخوف من الفتنة والانعكاسات السيئة أو تعتقد معي ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل ولذلك لم يسأله السائلون.

دع عنك هذا واختلق لهم ما شئت من المعاذير فان هؤلاء الغيارى على الإسلام لم يكتفوا بترك السؤال بل منعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب كتاباً لا يضلّ المسلمون بعده أبداً. والفتنة ضلال واذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبداً فهل كانوا يشكون في صدق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو يرون انّهم أقدر على الاحتياط للاسلام والقضاء على الشغب والهرج من نبي الإسلام ورجله الاول.

وخليق بنا ان نسأل عمّا عناه النبي (ص) بالفتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في اخريات أيامه اذ يقول : ليهنكم ما أصبحتم فيه قد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم(3) .

__________________

(1) راجع تاريخ ابن الأثير ج 2 ص 122.

(2) العقد الفريد ج 3 ص 17.

(3) راجع تاريخ الكامل ج 2 ص 222.

٩٨

ولعلّك تقول : انّها فتن المرتدين وهذا تفسير يقبل على فرض واحد وهو : انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتخوف على موتى البقيع من الارتداد فأما إذا لم يكن يخشى عليهم من ذلك كما ـ هو في الواقع ـ لأنهم على الأكثر من المسلمين الصالحين وفيهم الشهداء فلماذا يهنئهم على عدم حضور تلك الأيام ولا يستقيم في منطق صحيح أن يريد بهذه الفتن المشاغبات الأموية التي قام به عثمان ومعاوية بعد عقود ثلاثة من ذلك التاريخ تقريباً.

واذن فتلك الفتن التي عناها النبي (ص) لابد أن تكون فتنا حادثة بعده مباشرة ولابد أيضاً أن تكون أكثر اتصالاً بموتى البقيع لو قدرت لهم الحياة من فتن الردة والمتنبئين.

وهي اذن عين الفتنة التي عنتها الزهراء بقولها : إلا في الفتنة سقطوا وانّ جهنم لمحيطة بالكافرين.

وهل من غضاضة بعد أن يصطلح عليها رسول الله (ص) بالفتنة ان تمنح لقب الفتنة الأولى في دنيا الإسلام.

وقد كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة من ناحية أخرى لأنّها فرضت خلافة على أمة لم يقتنع بها إلا القليل من سوقتها الذين ليس لمثلهم الحق في تقرير مصير الحكم في عرف الإسلام ولا في لغة القوانين الدستورية جميعاً.

تلك هي خلافة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) عندما خرج من السقيفة « وعمر يهرول بين يديه وقد نبر حتى ازبد شدقاه » وجماعته تحوطه « وهم متزرون بالأزر الصنعانية لا يمرون باحد إلا خبطوه وقدموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى(1) ».

__________________

(1) راجع شرح النهج ج 1 ص 74.

٩٩

ومعنى هذا ان الحاكمين زفوا إلى المسلمين خلافة لم تباركها السماء ولا رضي بها المسلمون وان الصدّيق لم يستمد سلطانه من نص نبوي ـ بالضرورة ـ ولم ينعقد الاجماع عليه مادام سعد لم يبايع إلى أن مات الخليفة وما دام الهاشميون لم يبايعوا إلى ستة أشهر من خلافته ـ كما في صحيح البخاري.

قالوا : ان أهل الحل والعقد قد بايعوه وكفى.

ولكن إلا يحتاج هذا المفهوم إلى توضيح والى مرجع يرجع إليه في ذلك ؟ فمن هو الذي اعتبر مبايعي أبي بكر أهل الحل والعقد واعطاهم هذه الصلاحيات الواسعة ؟.

ليس هو الأمة ولا النبي الأعظم ، لأنّنا نعلم أن أبطال السقيفة لم يأخذوا أنفسهم بمناهج الانتخاب غير المباشر ولم يستفتوا المسلمين في تعيين المنتخبين الثانويين الذين اصطلح عليهم في العرف القديم بأهل الحل والعقد.

كما انّه لم يؤثر عن رسول الله (ص) اعطاء هذه الصلاحيات لجماعة مخصوصة فكيف تمنح لعدد من المسلمين ويستأمنون على مقدرات الأمة بغير رضى منها في ظلّ نظام دستوري كنظام الحكم في الإسلام كما يزعمون.

ومن العجيب في العرف السياسي ان تعين الحكومة نفسها أهل الحلّ والعقد ثم تكتسب منهم كلمتها العليا.

واعجب من ذلك اخراج علي والعباس وسائر بني هاشم وسعد بن عبادة والزبير وعمّار وسلمان وأبي ذر والمقداد وجميع أهل الحجى والرأي

١٠٠