• البداية
  • السابق
  • 197 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14723 / تحميل: 6830
الحجم الحجم الحجم
تاريخ القرآن

تاريخ القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وإلى جانب الحيطة في الاختيار ، كانت الحيطة للقراءة نفسها ، فلم يأخذوا بكل قراءة ، بل وضعوا بعض المقاييس النقدية الاحترازية لقبول القراءة أو رفضها ، مما ينصح معه مدى عناية القوم بالقراءة المختارة ، بعد أن عسر الضبط ، وظهر التخليط ، واشتبه الأمر. قال القسطلاني نقلا عن الكواشي : « فمن ثم وضع الأئمة لذلك ميزانا يرجع إليه ، ومعياراً يعول عليه ؛ وهو السند والرسم والعربية ، فكل ما صح سنده ، واستقام وجهه في العربية ، ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف ، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو شاذ »(١) .

والشاذ لا يعمل به في القراءات ولا يقاس عليه ، « وقد أجمع الأصوليون والفقهاء وغيرهم ، على أن الشاذ ليس بقرآن ، لعدم صدق حد القرآن عليه ، أو شرطه وهو التواتر »(٢) .

وكأن ابن الجزري قد أدخل جانب الاحتمال في بعض الشروط ، وصنف القراءة المعتبرة والباطلة فقال :

« كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ، ولا يحل إنكارها ..

ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو باطلة ، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف »(٣) .

وتكاد أن تتلاقى كلمات الأعلام في مقياس القراءة الصحيحة ، وتتداعى الخوطر. في صياغة ألفاظها ، فقد اشترط مكي بن أبي طالب ( ت : ٤٣٧ ه‍ ) في وجه صحتها ما يلي :

__________________

(١) القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٦٧.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ٧٢.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ١ / ٢١٠.

١٢١

« أن ينقل عن الثقات إلى النبي ٦ ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعاً ، ويكون موافقا لخط المصحف »(١) .

ومع هذا نجد الداني جدياً في مسألة القراءة ، إذ يعتبرها سنة لا تخضع لمقاييس لغوية ، وإنما تعتمد الأثر والرواية فحسب ، فلا يردها قياس ، ولا يقرّبها استعمال فيقول :

« وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة ، والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر ، والأصح في النقل وإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية ، ولا فشو لغة ، لأن القراءة سنة متبعة ، يلزم قبولها والمصير إليها »(٢) .

وما أبداه الداني لا يخلو من نظر أصيل ، إذ القراءة إذا كانت متواترة صحيحة السند ، فهي تفيد القطع ، ولا معنى لتقييد القطع بقياس أو عربية ، فالعربية إنما تصحح في ضوء القرآن ، ولا يصحح القرآن في ضوء العربية ، ومع هذا فإن الإجماع القرائي يكاد أن يكون متوافرا على اشتراط صحة السند ، ومطابقة الرسم المصحفي ، وموافقة اللغة العربية ؛ لهذا تختلف النظرة بالنسبة للقراءة في ضوء تحقق هذه الشروط أو عدمه ، وقد نتج عنه تقسيم القراءات إلى صحيحة وشاذة ، فما اجتمعت فيه من القراءات هذه الشروط فهو الصحيح ، وما نقص عنه فهو الشاذ.

وفي هذا الضوء ولد ـ في عهد ابن مجاهد ـ مقياسان آخران ، وماتا في مهدهما ، لعدم تلقي المسلمين لهما بالقبول ، ولرفضهم لهما ، وهما :

مقياس ابن شنبوذ ( ت : ٣٢٧ ه‍ ) الذي اكتفى فيه بصحة السند وموافقة العربية.

ومقياس ابن مقسم ( ت : ٣٥٤ ه‍ ) الذي اكتفى فيه بمطابقة المصحف وموافقة العربية(٣) .

وقد تحرر للسيوطي مع المقارنة فيما كتبه ابن الجزري في النشر ، أن القراءات أنواع :

__________________

(١) مكي ، الإبانة : ١٨.

(٢) السيوطي ، الاتقان : ١ / ٢١١.

(٣) ظ : الفضلي ، القراءات القرآنية : ٣٩ وانظر مصدره.

١٢٢

الأول : المتواتر ، وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم إلى منتهاه ، وغالب القراءات كذلك.

الثاني : المشهور ، وهو ما صح سنده ، ولم يبلغ درجة التواتر ، ووافق العربية والرسم واشتهر عند القراء.

الثالث : الآحاد ، وهو ما صح سنده ، وخالف الرسم أو العربية ، أو لم يشتهر بالاشتهار المذكور ، ولا يقرأ به.

الرابع : الشاذ ، وهو ما لم يصح سنده.

الخامس : الموضوع ، [ وهو ما لا أصل له ].

السادس : ما زيد في القراءات على وجه التفسير(١) .

وهذا التقسيم الذي استخرجه السيوطي مما أفاضه ابن الجزري جدير بالأهمية إذ هو جامع مانع كما يقول المناطقة.

وتبقى النظرة إلى هذه القراءات متأرجحة بين التقديس والمناقشة ، فمن يقدسها يعتبرها قرآناً ، ومن يناقشها يعتبرها علما بكيفية أداء كلمات القرآن ، وفرق بين القرآن وأداء القرآن.

فالباقلاني يذهب : « أن القراءات قرآن منزل من عند الله تعالى ، وأنها تنقل خلفا عن سلف ، وأنهم أخذوها من طريق الرواية ، لا من جهة الاجتهاد ، لأن المتواتر المشهور أن القراء السبعة إنما أخذوا القرآن رواية ، لأنهم يمتنعون من القراءة بما لم يسمعوه »(٢) .

بينما خالفه الزركشي في هذه الملحظ ، واعتبر القرآن حقيقة ، والقراءات حقيقة أخرى فقال :

« والقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن : هو الوحي المنزل على محمد للبيان والإعجاز ، والقراءات : اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما »(٣) .

__________________

(١) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ٢١٦.

(٢) الباقلاني ، نكت الانتصار لنقل القرآن : ٤١٥.

(٣) الزركشي ، البرهان : في علوم القرآن : ١ / ٣١٨.

١٢٣

والحق أن رأي الزركشي يتفق مع تعريف القراءات المتداول عند أئمة التحقيق ، فقد ذهبوا إلى أن علم القراءات : هو علم يعرف منه إتفاق الناقلين لكتاب الله واختلافهم في اللغة والأعراب ، والحذف والإثبات والتحريك والإسكان ، والفصل والإتصال ، وغير ذلك من هيئة النطق ، والإبدال من حيث السماع(١) .

والحق أن لا علاقة بين حقيقة القرآن وحقيقة القراءات ، فالقرآن هو النص الإلهي المحفوظ ، والقراءات أداء نطق ذلك النص إتفاقاً أو اختلافاً ، والقرآن ذاته لا اختلاف في حقيقته إطلاقاً.

وقد استظهر الزركشي تواتر القراءات عن القراء السبعة : « أما تواترها عن النبي ٦ ففيه نظر ، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات ، وهي نقل الواحد عن الواحد ، ولم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة ، وهذا شيء موجود في كتبهم ، وقد أشار الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه « المرشد الوجيز » إلى شيء من ذلك »(٢) .

وقد وافقه من المتأخرين السيد الخوئي وازداد عليه حيث قال : « إنها غير متواترة ، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارئ وبين ما هو منقول بخبر الواحد »(٣) .

وقد حشد لهذا الرأي جملة من الأدلة خلص منها إلى عدم تواتر القراءات ، وأنها نقلت بأخبار الآحاد(٤) .

ويكاد أن ينعقد إجماع المسلمين على حجية هذه القراءات وتواترها ـ سواء أكان تواترها عن النبي ٦ أو عن أصحابها ـ وعلى جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها.

__________________

(١) القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ١٧٠.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١ / ٣١٩.

(٣) الخوئي ، البيان : ١٢٣.

(٤) ظ : الخوئي البيان : ١٥١ وما بعدها.

١٢٤

فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق ٧ أنه قال : « إقرأوا كما علّمتم »(١) .

وقال الشيخ الطوسي ( ت : ٤٦٠ ه‍ ) وهو يتحدث عن رأي الإمامية في الموضوع :

« واعلموا أن العرف من مذهب أصحابنا ، والشائع من أخبارهم ورواياتهم أن القرآن نزل بحرف واحد ، على نبي واحد ، غير أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء ، وأن الإنسان مخير بأي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها ، بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ، ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر »(٢) .

وقد حكى الطبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) الإجماع عليه فقال :

« إعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات ، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء ، وكرهوا تجريد قراءة مفردة »(٣) .

وذهب الشهيد الأول : ( ت : ٧٨٦ ه‍ ) من الإمامية إلى أن القراءات متواترة ، ومجمع على جواز القراءة بها ، وتابعه الخوانساري في ذلك ، ونفى الخلاف في حجية السبع منهم مطلقاً ، والثلاث المكملة للعشر في الجملة ، بل اعتبر تواترها بوجوهها السبعة عن رسول الله ٦ عند قاطبة أهل الإسلام(٤) .

وقد انتهى العاملي إلى الإجماع على تواتر القراءات ونعتها به وحكاه عن المنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى ، والموجز الحاوي ، وغيرها من أمهات كتب الإمامية مما يقطع معه بتواترها حرفاً حرفاً ، وحركة حركة(٥) .

__________________

(١) الكليني ، أصول الكافي : ٢ / ٦٣١.

(٢) الطوسي ، التبيان : ١ / ٧.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ١٢.

(٤) ظ : الخوانساري ، روضات الجنات : ٢٦٣.

(٥) ظ : العاملي ، مفتاح الكرامة : ٢ / ٢٩٠.

١٢٥

وقد فصل الخوئي في القول ، فذهب إلى عدم حجية هذه القراءات ، فلا يستدل بها على الحكم الشرعي ، إذ لم يتضح عنده كون القراءات رواية ، فلعلها اجتهادات في القراءة ، ولكنه جوز بها الصلاة نظراً لتقرير المعصومين لها ، وذلك عنده يشمل كل قراءة متعارفة زمن أهل البيت : إلا الشاذة فلا يشملها التقرير(١) .

__________________

(١) ظ : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : ١٦٤ ـ ١٦٧.

١٢٦

الفصل الخامس

شكل القرآن

١٢٧

١٢٨

نريد بشكل القرآن فيما يلي ، الإطار الخارجي للنص القرآني ، وهذا الإطار عبارة عن رسمه وإعجامه ونقطه ، وما صاحب ذلك من جهد وتطوير منذ الكتبة الأولى للمصحف.

وهذا كله شيء يختلف عن القرآن نصاً متعبدا بتلاوته ، فالقرآن ألفاظه ومعانيه ، وتشريعه ومراميه ، بسوره وآياته متواترة متكاملة ، وشكله هو صورته المصحفية التي تواضع عليها الناس في الرسم والأعراب والنقط والأعجام للدلالة على ألفاظه في النطق ، وعلى هيئته وتركيبه في التلفظ ، فهو تسجيل ثانوي للوحي الأولي ، بما يؤدي إلى صورة حقيقته المثلى حينما يتلى بالألسن معادا كما أنزل.

وارتباط هذه الظاهرة الشكلية باللفظ المنزل على النبي ٦ الكريم وحياً سماوياً ، لم تأخذ طابع الصدفة أو صيغة العفوية ، وإنما كان أمراً إلهيا مقصودا إليه ، وجهداً رسالياً معنياً بالذات ، ليتضافر على حفظ القرآن الكريم ـ برا بوعده تعالى ـ عاملان :

الحفظ في الصدور ، والرسم في السطور. وهو كما يبدو من استعراض الروايات واستقراء الأحداث أمر مدنوب إليه ومرغوب فيه ، وقد كان تأسيس ذلك منذ عهد مبكر ، اقترن بأول نزول الوحي ـ كما سبقت الإشارة التفصيلية إليه ـ(١) وأوشك على الكمال عند جمع الناس على لغة

__________________

(١) ظ : فيما سبق مقالة : جمع القرآن.

١٢٩

قريش في القراءة المصحفية زمن عثمان ، وكتابة نص متكامل لهذا التوحيد ، في المصحف الأمام المتداول إلى اليوم مرسومه ، إلا أن ذلك النص ـ مضافاً إلى تسويته بالخط الكوفي القديم ـ جاء مجرداً : « من النقط والشكل ، ليحتمل ما صح نقله ، وثبتت تلاوته عن النبي ٦ إذ كان الإعتماد على الحفظ ، لا مجرد الخط »(١) .

ورسم المصحف ـ كما سنفصل القول فيه بإذن الله تعالى ـ جاء مجرداً من كل علامات الشكل والنقط والأعجام ، لأنهم كانوا يستحبون تلخيص القرآن من كل الزوائد على الخط الكوفي ، ولما أورده جملة من أهل العلم ـ من قول مشترك يحتمل عدة معان ـ أن السلف كانوا يقولون : « جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء »(٢) .

فلم تكتب مضافاً إلى إهمال النقط والأعراب ، حتى أسماء السور ، ولم يدون عدد آياتها ، ولا الإشارة إلى مكيها ومدنيها.

وقد اختلفوا فيما تبين فيه القراءة من الشكل ، وكان اختلافهم مبنياً على قناعات خاصة في أغلب الأحيان.

فقد كره إبراهيم النخعي الكوفي ( ت : ٩٦ ه‍ ) نقط المصاحف(٣) .

وكره جملة الزيادات التوضيحية في المصاحف كل من : محمد بن سيرين ( ت : ١١٠ ه‍ ) والحسن البصري ( ت : ١١٠ ه‍ )(٤) .

وكان ذلك منهم بعناية الحفاظ على الشكل الأول للمصحف ، وقد يغلب على ظنهم احتمال التحريف لو أباحوا ذلك ، وقد يكون ذلك بداعي المغالاة في تقديس الرسم الأول ، بينما أفتى النووي باستحباب نقطه وشكله صيانة له عن اللحن والتحريف(٥) .

__________________

(١) القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٦٤.

(٢) ظ : أبو عبيد ، غريب الحديث : ٤ / ٤٩ + الداني ، المحكم : ١٠ + السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

(٣) ظ : الداني ، المحكم : ١١ + السيوطي : ٤ / ١٦٠.

(٤) ظ : ابن أبي داود ، المصاحف : ١٤١.

(٥) ظ : القسطلاني ، لطائف الإشارات : ١ / ٣٣٢.

١٣٠

ومهما يكن من أمر ، فقد كان الموقف السلبي من نقط المصحف وشكله منهزماً حينما عمد المسلمون إلى إعجام القرآن ونقطه بشكل منظم ، توافرت فيه النيات الصادقة ، وتعاقبته الأيدي الأمينة ، مما أدى بالأمر الواقع إلى تيسير تلاوة القرآن ، وصيانته عن الالتباس ، ومقاربتنا إلى نقطة الأمثل.

ويبدو أن الرائد الأول لذلك هو أبو الأسود الدؤلي ( ت : ٦٩ ه‍ ) حينما وجدناه قد عالج بادئ ذي بدء مسألة ضبط العلامات الإعرابية في المصحف ، إحترازا من اللحن ، وابتعادا عن العجمة ، ورعاية لسلامة النص ، فاستعمل لذلك ما يفرق فيه بين حالات الرفع والنصب والجر بالتنوين وبدونه ، وابتكر باجتهاد فطري منه طريقته الخاصة الأولى باستعمال النقط للحركات ، بصورة مميزة ، عددا ، وموضعا ، ولونا ، كما سترى هذا من قوله لكاتبه :

« خذ المصحف ، وصنيعا يخالف لون المداد ، فإذا فتحت شفتي فأنقط واحدة فوق الحرف ، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف ، وإذا كسرتها فاجعل النقطة في اسفله ، فإن أتبعت هذه الحركات غنة ، فأنقط نقطتين. فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره »(١) .

ومن خلال هذه الرواية المستفيضة ، يتضح أن أبا الأسود قد خالف بين لون المداد المدون به المصحف وبين لونه لوضع هذه الحركات ، وقد جعل هذه الحركات على شكل نقاط في مواضعها المعينة ، وقد ظهر من ذلك ما يلي :

أ ـ نقطة فوق الحرف ، علامة للفتحة.

ب ـ نقطة تحت الحرف ، علامة للكسرة.

ج ـ نقطة في خلال أو بجانب الحرف ، علامة للضمة.

د ـ نقطتين على الحرف ، علامة للتنوين.

__________________

(١) السيرافي ، أخبار النحويين البصريين : ١٦ + ابن النديم ، الفهرست : ٤٠ + ابن الأنباري ، إيضاح الوقف والابتداء : ١ / ٣٩ + القلقشندي ، صبح الأعشى : ١ / ١٦٦.

١٣١

وكان هذا العمل من أبي الأسود متميزاً بقيمة فنية أمكن بوساطتها التمييز بين الحالات الإعرابية بنقط مختلفة المواضع بعد أن كانت هملا ، وبلون يخالف الأصل المدون به المصحف زيادة في الضبط والتفريق.

وفي دوافع أبي الأسود ، ومشجعاته على هذا العمل الضخم روايات وتوجيهات كالآتي :

١ ـ إن الإمام علي ٧ سمع قارئا يقرأ (إن الله بريء من المشركين )(١) بكسر اللام في رسوله وهو كفر ، فتقدم إلى أبي الأسود « حتى وضع للناس أصلاً ومثالاً وبابا وقياسا ، بعد أن فتق له حاشيته ، ومهّد له مهاده ، وضرب له قواعده »(٢) .

٢ ـ أن أبا الأسود نفسه قد سمع الآية المتقدمة في جزئها بكسر اللام من ( رسوله ) فقال :

لا يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به لحن هذا ، أو كلاماً هذا معناه(٣) .

٣ ـ أن زياد بن أبيه طلب إليه أن يضع للناس علامات تضبط قراءتهم ، فشكل أواخر الكلمات ، وجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحته ، والضمة نقطة إلى جانبه ، وجعل علامة الحرف المنون نقطتين(٤) .

وقيل إن زيادا أرسل إليه ثلاثين كاتبا للقيام بهذه المهمة(٥) .

٤ ـ وقيل : إن أبا الأسود إنما قام بهذا وبنقط القرآن ـ كما في رواية أخرى ـ بأمر عبد الملك بن مروان(٦) .

__________________

(١) التوبة : ٣.

(٢) أبو حيان التوحيدي ، البصائر والذخائر : ١ / ٢٦١.

(٣) البلوي ، الف با : ١ / ٢١٠.

(٤) الأنباري ، نزهة الالباب في طبقات الأدباء : ١٠ وما بعدها.

(٥) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : ٨٨.

(٦) ظ : السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

١٣٢

والملحظان الأخيران يؤكدان استجابة أبي الأسود لهذا الأمر بسبب أمر رسمي من سلاطين عصره ، وهو ما لا يتفق مع عزلة أبي الأسود السياسية ، وعزوفه عن المناخ الرسمي ، ولعل القلقشندي يدفع عنه ذلك صراحة ، ويوضحه فيقول :

« إن أول من نقط القرآن ووضع العربية أبو الأسود الدؤلي من تلقين أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه »(١) .

والغريب الذي لا يمت إلى أساس علمي أن يستبعد كل ما تقدم به أبو الأسود الدؤلي مع تظاهر الروايات على صدقه أو على شهرته على الأقل ، بعض الدارسين المعاصرين ، فمن يعد انفراد أبي الأسود في ذلك ليس منطقياً ولا معقولاً ، ولا يقوم على أساس عقلي ، وكأنه يستكثر ذلك عليه أن لم يستنكره ، بينما يعتبر أن للحجاج عملاً عظيماً لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن(٢) .

ولدى التحقيق ـ كما سترى فيما بعد ـ فليس هناك مصدر واحد يوثق به ، أو نقل ثابت ، ويؤرخ هذه التقولات.

وليت شعري ما المانع العقلي أو المنطقي الذي يراه صبحي الصالح حائلا عن قيام أبي الأسود بذلك ، وأبو الأسود عالم موسوعي في كثير من فنون الأدب واللغة والتراث ، وهو بعد تلميذ الإمام علي ٧ ولم تشغله سياسة القوم عن النهج العلمي.

ولقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده ، إثنان من تلامذته هما يحيى بن يعمر العدواني ( ت : ٩٠ ه‍ تقريباً ) ونصر بن عاصم الليثي ( ت : ٨٩ ه‍ ) حيث وضعا النقاط على الحروف أزواجاً وإفراداً ، وقد كان وضع النقاط على الحروف حقيقياً لا على سبيل الإستعمال المجازي ، وبذلك تميزت صور الحروف المتشابهة ، وصار لكل حرف صورة تغاير صورة غيره من الحروف ، طبقا لما نجده متعارفا في كتابتنا المتداولة اليوم(٣) .

__________________

(١) القلقشندي ، صبح الأعشى : ٣ / ١٥١.

(٢) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٩٤.

(٣) ظ : أبو أحمد العسكري ، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف : ١٣ + حمزة الأصبهاني ، التنبيه على حدوث التصحيف : ٢٧.

١٣٣

ثم زاد أتباع أبي الأسود علامات أخرى في الشكل ، فوضعوا ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه سواء كان همزة أم غير همزة ، ووضعوا الألف الوصل جرة في أعلاها متصلة به إن كان قبلها فتحة ، وفي أسفلها إن كان قبلها كسرة ، وفي وسطها إن كان قبلها ضمة(١) .

ويأبى التأريخ إلا أن يضيف للحجاج بن يوسف الثقفي ( ت : ٩٥ ه‍ ) أنه أصلح من الرسم العثماني في عدة مواضع حددت بأنها إحدى عشرة كلمة ، فكانت بعد إصلاحه لها أوضح قراءة(٢) .

ولا مانع من هذا تأريخيا ، وهو جهد عادي ، إذ ارتبط بإصلاح إملائي لرسم المصحف ، لا في نقطه وإعجامه كما تخيل صبحي الصالح ، الذي اعتبر عمل الحجاج عظيماً ومشكورا لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن ، وهو أمر موهوم كما رأيت.

وحينما ظهرت مشكلة اختلاط نقط الحركات التي وضعها أبو الأسود بنقط الحروف المتشابهة الرسم التي وضعها تلامذته كما أسلفنا ، استطاع الخليل بن احمد الفراهيدي ( ت : ١٧٠ ه‍ ) أن يبتدع أشكال الحركات ، فتميزت حينئذ الحركات عن الحروف ، فقد جعل الحركات حروفا صغيرة بدل النقط ، وابتكر لكل حركة ما يناسبها في الشكل من الحروف ، فالضمة واو صغيرة فوق الحرف ، والكسرة ياء مردفة تحت الحرف ، الفتحة ألف مائلة فوق الحرف.

وقد وفق الخليل مضافاً لهذا إلى ابتكار علامات الهمز والتشديد والروم والاشمام(٣) .

وحينما أباح المسلمون لأنفسهم ضبط النص المصحفي في النقط والحركات وقواعد الهمز والتشديد ، أحدثوا النقط عند آخر الآي ، ثم الفواتح والخواتم ، حتى قال يحيى بن أبي كثير : « ما كانوا يعرفون شيئاً مما

__________________

(١) ظ : الزنجاني ، تأريخ القرآن : ٨٨.

(٢) ظ : ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : ١١٧.

(٣) ظ : البلوي ، ألف با : ١ / ٧٦ + السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

١٣٤

أحدث في المصاحف إلا النقاط الثلاث على رؤوس الآي »(١) .

وكان هذا العمل إيذانا بمعرفة حدود الآية ، إذ يفصل بينها وبين الآية التي تليها بمؤشر نقطي ، تطور فيما بعد إلى شكل دائري ، يوضع داخله رقم الآية ، وبذلك تم تأشير أعداد الآيات وضبطها في السورة الواحدة.

وكان ذلك في الوقت نفسه مؤشرا إلى حركة تطويرية في شكل المصحف ، لا تتوقف عند حد من حدود التحسينات الشكلية الإيضاحية ، بل تستقطبها جميعاً فيما يحقق فائدة ، أو يزيل لبسا ، فقد عمدوا بعد ذلك الى كتابة الأخماس والأعشار ، وهو أن يدونوا بعد كل خمس آيات أو عشر آيات رقمها وعددها ، وكان قد كره ذلك جماعة من الأوائل على ما يدعى ، كابن مسعود ومجاهد والنخعي والحليمي(٢) .

ولكنه لا يتعارض مع أي أصل ديني بل هو أمر إحصائي لا غبار على عائديته في التدقيق.

وحينما أدخل ما سبق تفصيله على الرسم العثماني ، لم تقف حركة التطوير عند هذا الحد تجاه الرسم الأول بل أضيف إليه كل ما يتعلق بأحكام السجود القرآني الواجب والمندوب ، فوضعوا في الهوامش إشارات إلى مواضع السجود ، بحيث اتضح كونه شيئاً والنص القرآني شيء آخر لانفصاله عنه إلى الجوانب شأنه في ذلك شأن تعيين الأحزاب والأرباع والأجزاء ، وإشارات التجويد في مغايرة رسمها في المدار ، وإن كانت ضمن النص ، مما استحسنه البيهقي فقال :

« ولا يخلط به ما ليس منه ، كعدد الآيات والسجدات والعشرات ، والوقوف ، واختلاف القراءات ، ومعاني الآيات »(٣) .

وقد جعلوا لما تقدم بعض الضوابط ، لتمييز القرآن من القراءات ، والنص من الإضافات ، ولجأوا إلى تنويع لون المداد لكل من الرسم

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٠.

(٢) المصدر نفسه : ٤ / ١٦٠.

(٣) المصدر نفسه : ٤ / ١٦١.

١٣٥

والشكل والنقط ، كحل أولي لرفع الالتباس ، وإزالة الإيهام.

قال الداني وهو يشير إلى ما تقدم بل ويفتي به : « لا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم ، ولا استجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة ، لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم ، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة ، والهمزات بالصفرة »(١) .

وواضح في النص وغيره من النصوص الأخرى ، أن الرسم المصحفي للآيات كان يكتب بالمداد الأسود ، لهذا استحبوا أن تكون العلامات بالحمرة ، والهمزات بالصفرة ، وليكون ذلك عرفا شائعاً عند العامة والخاصة.

وهكذا جرى الضبط والتدقيق للشكل في القرآن ، فأضيف له بعد رسمه في الخط الكوفي ، النقط والحركات ، والهمز والتشديد ، والتخميس والتعشير ، والفصل بين الآيات وترقيمها ، ثم تطور الأخير إلى دوائر صغيرة ، وضع فيها رقم الآية بحسب تسلسلها من السورة ، ثم كتبت أسماء السور مع عدد آياتها في أول السورة وقبل البسملة متخذة لذلك عنوانا بالاسم ، وإحصاء بالآيات ، ثم قسم هذا النص إلى ثلاثين جزءاً ، وقسم كل جزء إلى أربعة أحزاب ، وكان ذلك بإشارات هامشية وأرقام وكتابات جانبية رسمية غير مختلطة بالنص القرآني الكريم ، وإلى جانب هذا أضيفت علامات التجويد والوقف ، ومواضع السجود وأمثال ذلك مما لم يكن معروفا في عصر النبي ٦ والأئمة : والصحابة (رض) ، وهي زيادات قصد بها الإيضاح والكشف والبيان ، ولم يخالف فيها الرسم المصحفي ، فقد بقيت صور الكلمات على هيئتها ، وحافظت على أشكالها ، كما وصفتها لنا كتب السلف في الموضوع ، وفي طليعتها كتاب : المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار ، لأبي عمرو وعثمان بن سعيد الداني ( ت : ٤٤٤ ه‍ ).

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤ / ١٦١ وما بعدها.

١٣٦

وبقي الرسم العثماني للمصحف هو الأساس في خط المصحف الكريم قديماً وحديثاً ، فحينما تطورت عملية الكتابة ، وتبلور فن الخط ، لم يفقد ذلك الأساس أهميته على الإطلاق ، إذ ظل المنار الهادي لدى أغلب خطاطي مختلف العصور ، نظراً لاكتمال الصورة الأولى للمصحف ، وإن انتقل الشكل في العموم من الخط الكوفي إلى الخط النسخي المعروف.

« وتوجد الآن في مكتبات العالم مجموعة كبيرة من المصاحف المخطوطة القديمة أو قطع منها ، بعضها مكتوب على الرق ، وبالخط الكوفي القديم ، مجردة من النقط والشكل ، ومن كثير مما ألحق بالمصاحف من أسماء السور وعدد آياتها وغير ذلك بحيث تبدو أقرب إلى الصورة التي كانت عليه المصاحف الأولى »(١) .

وقد شاهدت كثيراً من هذه الآثار المصحفية في المتحف البريطاني في لندن ، مصونة ومحافظا عليها ، بعناية أثارية فائقة ، وبحواجز زجاجية محكمة ، لا تصل إليها يد الناظر ، وقد أشير ببعضها إلى تواريخ قديمة قد يرجع قسم منها إلى القرون الأولى ، ولا نعلم مدى توثيقها.

* * *

أما الرسم المصحفي الأول للقرآن ، أعني كتابته على الكتبة الأولى ، فقد جاء دور الحديث عنه ، وأول ما نفجأ به ، هو الهالة الكبرى من التقديس لهذا الرسم مما يضفي شيئاً كثيراً من المغالاة التي لا مسوغ إليها في أغلب الأحيان ، وإنا وإن كنا لا نعارض تبجيله والاعتداد به ، ولكننا نعارض الغلو في شأنه ، ويبدو أن هذا الغلو والتقديس ، وما صاحب ذلك من هالات ، ما هو إلا تعبير عملي عن احترام جيل الصحابة الذين كتبوا المصحف عند توحيد القراءة ، وإن كانت تلك الكتابة مخالفة لأصول الإملاء ، وقواعد الخط ، إذ الكتابة تصوير لنطق اللفظ ، والعبرة بنطق ذلك اللفظ ، لا بتصويره ، والتطرف في إضفاء صفة التقديس على الكتبة الاولى ،

__________________

(١) نقل هذا النص غانم قدوري ، عن جولد تسهير وغيره ، ظ : محاضرات في علوم القرآن : ٩٣ ، وانظر مصادره.

١٣٧

لا يعضده دليل نصي على الإطلاق ، وما قيل هنا وهناك من توقيف كتابة المصحف ؛ لا يستند إلى أساس من نقل أو عقل أو كتاب ، وليس فيه ما هو مرفوع إلى الرسول الأعظم ٦ إجماعاً ، بل كان منسجما مع طبيعة ما يحسن الكتبة ، سواء أكان جنس ما يحسنون ممتازا ، أم هو ما تعارفوا عليه ، مما يؤدي إلى النطق الصحيح بالكلمات والآيات ، وهو أمر يرجع إلى مدى الجهد الذي بذله القدامى إملائياً وهجائياً في ضبط الرسم ، وما من شك أن يحصل الاختلاف بين الكتبة بقدر تفاوت الضبط فيما بينهم ، أو على نحو من اختلاف القبائل فيما تكتب ، مما طبع أثره على الاختلاف في الخطوط.

حينما جمع القرآن على لغة قريش ، ووحدت القراءات على حرف معين ، حصل جزء من هذا الاختلاف ، فقد قال الزهري : « واختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه فقال : النفر القرشيون : التابوت ، وقال زيد : التابوه ، فرفع اختلافهم إلى عثمان ، فقال : اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش »(١) .

وفي رواية مماثلة : « فإنما أنزل القرآن على لسان قريش »(٢) .

وأما ما ادعاه ابن المبارك في نقله عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال :

« ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة ، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة : بزيادة الألف ونقصانها ، لأسرار لا تهتدي إليها العقول ، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية ، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز ، وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في « مائة » دون « فئة » وإلى سر زيادة الياء في « بأييد » و« بأييكم » أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الأف في « سعوا » بالحج ، ونقصانها من « سعو » بسبأ ؟ وإلى سر زيادتها في « آمنوا » وإسقاطها من « باؤ ، جاؤ ، تبوؤ ، فاؤ » بالبقرة ؟ وإلى سر زيارتها في « يعفوا الذي » ونقصانها من « يعفو عنهم » في النساء ؟ أم كيف

__________________

(١) ابن أبي داود ، المصاحف : ١٩.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١ / ٣٧٦.

١٣٨

تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض ، كحذف الألف من « قرءنا » بيوسف والزخرف ، وإثباتها في سائر المواضع ، وإثبات الألف بعد واو « سموات » في فصلت وحذفها في غيرها ، وإثبات الألف في « الميعاد » مطلقاً ، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال ، وإثبات الألف في « سراجاً » حيثما وقع ، وحذفه من موضع الفرقان ؟ وكيف نتوصل إلى حذف بعض التاءات وربطها في بعض ؟؟

فكل ذلك لأسرار إلهية ، وأغراض نبوية ، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني ، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور ، فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة ، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أشير إليها ، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفاً بحرف »(١) .

فهو كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات وافتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه :

الأول : أن الرسم المصحفي لم يرد فيه ولا حديث واحد عن النبي ٦ فكيف يكون توقيفياً ، والنبي ٦ أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتهجى ، فكيف يتم هذا الغلو بشأنه ، بادعاء أن ما كتبوه كان بأمره ، وهو تجاوز على مقام النبي ٦ أن يأمر بما يخطأ فيه ويصاب ، هجاء وإملاء مما نعتبره دون أدنى ريب خارجا عن توجيه النبي ٦ وتوقيفه ، لأنه لا يحسن منه شيئاً ؛ وأما ما ورد بالزعم أن النبي ٦ : قال لأحد كتبة الوحي :

« الق الدواة ، وحرف القلم ، وأنصب الباء ، وفرق السين ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك »(٢) . فموضوع لا أصل له ، ويدل على وضعه ونحله كون النبي ٦ أميا ، فما أدراه بأصول الخط ؟ وما هي معرفته بالحروف ومميزات كتابتها وهو فاقد لأصل الصنعة ، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون ، وليس في ذلك انتقاص للنبي ٦ ولا غض من منزلته ، ولكن

__________________

(١) الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٣٧٦.

(٢) المصدر نفسه : ١ / ٣٧٠.

١٣٩

الحقيقة التي نطق بها القرآن في أكثر من موضع بأنه أمي ، وهذه الحقيقة صاحبت حياته كلها ، وهي ليست نقصا في شأنه ، بل اقتضتها الحكمة الإلهية ، لدرء تخرصات المشركين وارتياب المبطلين ، فهي كرامة لا منقصة ، وتشريف لا تضعيف ، وتكريم لا توهين.

لقد أوتي النبي ٦ جوامع الكلم ، وفصل الخطاب ، والنص المتقدم لا ينسجم مع بلاغة النبي ٦ القولية ، ولا يتفق مع فصاحته المتناهية ، فالصنعة بادية على النص ، والتكلف بين السمات عليه ، وعدم ارتباطه فنيا يبعده عن كلام أفصح من نطق بالضاد ، ثم ما هي علاقة الكتابة بوضع القلم على الأذن اليسرى ؟ وهل يصدق أن يكون هذا الهراء من كلام الرسول ؟ وأين هي المعاني الجامعة في هذا النص الهزيل ؟ وما هو وجه النظم بين فقراته التائهة ، وما هو المراد منها ؟

الثاني : لو كان رسم المصحف توقيفيا ، لكانت خطوط كتاب الوحي واحدة ، وليس الأمر كذلك ، فقد أشير كثيراً إلى اختلاف المرسوم منها في جملة من الروايات.

الثالث : ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى ، وأنى توصل لذلك ؟ وكيف يطلق الكلام جزافا ؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل ، أو إثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن ، والقرآن معجزة بتحديه ونظمه وحسن تأليفه ، وتفوقه باستعاراته ومجازاته وكناياته ، وارتباط كل ذلك بالكشف عن الغيب ، والتحدث عن المجهول ، واستقراء الأحداث ، واشتماله على الإعجاز التشريعي ـ مضافاً إلى الإعجاز البلاغي ـ الذي لا يناسب البيئة التي نزل بها القرآن ، وتمكنه بأسراره العلمية ونظرياته الثابتة ، القرآن معجز بصورته الفنية التي اعتبرت اللفظ حقيقة ، والمعنى حقيقة أخرى ، والعلاقة القائمة بينهما حقيقة ثالثة ، وهل يقاس هذا بالخط والإملاء ؟ وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء ؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات ، وحذفها من كلمات أخرى ، نعم السر واضح ، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية : خطأ الكاتبين ، ولا علاقة لخطئهم بالنص ، فالنص القرآني متعبد بتلاوته لا برسمه ، ولا يطالب الأوائل بأكثر من هذا الجهد في ضبط النص

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197